البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

March / 19 / 2015  |  3159إحراق "داعش" للطيار الأردني منعطف إرهابي جديد

حيدر محمد الكعبي المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية شباط 2015
إحراق "داعش" للطيار الأردني منعطف إرهابي جديد

في الثالث من شهر شباط عام 2015، صدم العالم بمشاهدة فيلم من انتاج تنظيم (داعش) نشره على شبكة الانترنت، يحتوي على مشاهد وحشية لم يعتد الناس مشاهدتها من قبل، اذ اقدم التنظيم على تصوير فيلم تسجيلي يتضمن احراق انسان وهو حي، وهو طيار أردني يدعى (معاذ صافي الكساسبة- 26 عاما) وقع أسيراً بأيدي التنظيم اثر سقوط طائرته الحربية من نوع (F-16) أثناء قيامه بمهمة عسكرية على مواقع ( داعش) في محافظة الرقة شمالي سوريا.

وقد شكل اعدام الاسير بهذه الطريقة البشعة منعطفا جديدا لم يعهد في تاريخ الحركات الارهابية منذ عقود، فعلى الرغم من أن (داعش) قد اشتهر باستخدامه لاساليب مبتكرة للترهيب منذ تأسيسه على يد (أبي مصعب الزرقاوي) في العام 2004، إذ ابتدع نشر افلام قطع الرؤوس على نطاق واسع، الا ان ابتكار تصوير الاعدام حرقا ضمن فيلم تسجيلي يتجاوز 20 دقيقة بمؤثرات سينمائية عالية، يدل على ان التنظيم قد تجاوز عتبة ترهيب لم تصل اليها أي منظمة إرهابية من قبل.

تفاصيل الفيلم الوحشي

يبدأ فيلم (داعش) بمقدمة تشبه محاكمة العاهل الاردني (عبد الله بن الحسين) لمشاركته في ما يسميه التنظيم (الحرب الصليبية على دولة الاسلام)، أي مساهمته في طيران التحالف بقيادة الولايات المتحدة الامريكية لضرب قوات التنظيم وخطوط امداده.

 ثم عرض الفيلم اعترافات الطيار الاردني الاسير (معاذ الكساسبة) يشرح فيها بالتفصيل طبيعة العمليات الجوية والخطط العسكرية والدعم الذي تقدمه الدول العربية، بما في ذلك الدعم اللوجستي لمساندة طيران التحالف، ويختتم الفلم بتصوير (مشاهد مروّعة للرجل الذي ألبس لباسا برتقاليا وقدِّم على انه الطيار، وهو محتجز في قفص كبير اسود، قبل ان يقوم رجل ملثم بلباس عسكري قدِّم على انه "امير احد القواطع التي قصفها التحالف الصليبي" بغمس مشعل في مادة سائلة هي وقود على الارجح، ويضرم النار فيها.

وتنتقل النار بسرعة نحو القفص حيث يشتعل الرجل في ثوان، يتخبط أولا ثم يسقط ارضا على ركبتيه قبل ان يهوى متفحما وسط كتلة من اللهيب.

وفي لقطات لاحقة، يمكن رؤية جرافة ضخمة ترمي كمية من الحجارة والتراب على القفص، فتنطفئ النار ويتحطم القفص...

وتم التقاط المشاهد وسط ركام انتشر بينه عدد من المسلحين الملثمين بلباس عسكري واحد. كما يتضمن الشريط صورًا للطيار معاذ الكساسبة باللباس البرتقالي اياه وهو يجول بين الركام قبل صور الحرق.

وجاء في الشريط ان "داعش" خصصت "مكافأة مالية قدرها مئة دينار ذهبي لمن يقتل طيارا صليبيا". واضاف ان "ديوان الامن العام اصدر قائمة باسماء الطيارين الاردنيين المشاركين في الحملة"، وينتهي الشريط بنشر صور واسماء يقول انها لطيارين اردنيين مع عناوين سكنهم بحسب ما يدعي، وتحديد هذه العناوين على صور عبر الاقمار الصناعية، وفوق كل صورة كتبت عبارة "مطلوب للقتل" قبل بث لائحة طويلة من الاسماء والرتب العسكرية التي لا يمكن التحقق من صحتها)[1].

شرعية الحرق وعدم شرعيته

اظهر الفيلم في آخر لحظات حرق الطيار الأردني فتوى لابن تيمية جاء فيها: "فأما إذا كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان أو زجر لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع".

وهذه العبارة التي ركز (داعش) على اظهارها في الفيلم تشبه تبريرا شرعيا اطلقه التنظيم لعملية حرق الطيار حيا، تبعته تبريرات منفصلة أخرى نشرتها مواقع إنترنت مقربة من التنظيم، منها مقالا لأحد قادته يبرر فيه إحراق الطيار الأردني في أول رد فعل على الإدانات والانتقادات الواسعة التي وُجهت للتنظيم بهذا الخصوص.

وفي هذا الصدد (قال القيادي في التنظيم أبو خطاب اليماني إن الطيار الأردني كان "يُحرِّق أطفال المسلمين ونساءَهم ورجالَهم بنيران قاذفات طائراته".

واستدل اليماني بآراء بعض الفقهاء التي تذهب إلى أنه "لا يجوز ابتداء العقوبة بالنار إلا في حالات المعاملة بالمثل والقصاص" وهو ما حدث بالنسبة لمعاذ الكساسبة على حد تعبيره.

وأضاف أن دخول الكساسبة تحت ما سماها راية الصليب، وإعانتَه على قتل المسلمين فعلٌ يُخرج صاحبه من الإسلام، وهو ما يبرر تحريقه على حد قوله)[2].

ويبدو أن تطرق التنظيم إلى الاستشهاد بفتوى ابن تيمية يأتي في سياق الرسالة الإعلامية المطلوبة من انتاج فيلمه هذا، إذ حرص على ان تكون الرسالة مسدودة الثغرات متكاملة المضمون، وهي في الوقت نفسه تطلق دوامة من المناقشات الفقهية لجهات اسلامية مؤيدة أو معارضة للتنظيم عبر وسائل الإعلام، مما يحقق انتشارا اوسع واهتماما اكبر على المستويين الاسلامي والعالمي.

وبالفعل فقد انشغلت العديد من الجهات والمراكز الاسلامية والشخصيات الدينية بمناقشة شرعية ما فعله تنظيم (داعش).

وكمثال على ذلك (يذكر بحث للشيخ عبد الله زقيل تحت عنوان "القولُ المبينُ في حكمِ التحريقِ والمُثْلةِ بالكفارِ المعتدين" أن الفقهاء كانوا على ثلاث أراء، الأول أن المُثْلةَ حرامٌ وذهب إلى ذلك الزمخشري والصنعاني والشوكاني، أما الرأي الثاني فهو لا يذهب إلى التحريم بل يقوم بـ"الكراهة" وممن ذهب إليه النووي وابن قدامة الذي قال "يُكْرَهُ نَقْل رُؤُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ."

أما القول الثالث فهو الذي ذهب إليه ابن تيمية وهو "يمثلُ بالكفارِ إذا مثلوا بالمسلمين معاملةً بالمثل" وينتقل عنه زقيل قوله في فتاويه: "فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاص" كما قال: "وَيُكْرَهُ نَقْلُ رَأْسٍ، وَرَمْيُهُ بِمَنْجَنِيقٍ بِلَا مَصْلَحَةٍ.. الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ، فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلِاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ، وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي التَّمْثِيلِ بِهِمْ زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَكُونُ نَكَالًا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ."

وتناقلت حسابات إلكترونية تابعة لجهاديين بيانا يحمل عنوان "بل لكم في الحرق سلف" استنكر كاتبه اعتراض البعض على الإحراق مضيفا أنه لا يحق لأحد أن يتكلم في الأمر أو يفتي فيه "من غير المجاهدين في الثغور" مضيفا: "من أراد أن يفتي فليأخذ رشاشه وليذهب إلى الجبهة وليرى ما فعله الكفار بالمسلمين وليرى صنيع القنابل بأشلاء أطفال المسلمين ثم يخرج لنا بفتوى".

أما المؤسسات الدينية الرسمية لدى المسلمين السنة فكان لها موقف حازم، وفي هذا الإطار استنكر أحمد الطيب شيخ الأزهر بشدَّة عملية الإحراق، واصفا إياها بـ"العمل الإرهابي الخسيس الذي أقدم عليه تنظيم (داعش) الإرهابي الشيطاني". وأعرب عن استيائه الشديد من الإقدام على هذا العمل الذي قال إنه "يستوجب العقوبة التي أوردها القرآن الكريم لهؤلاء البغاة المفسدون في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف" مذكرا بحديث النبي محمد الذي ينهى عن التمثيل بالأعداء.

أما السعودية، فقد أوردت وكالة الأنباء الرسمية فيها نقلا عن مصدر مسؤول قوله إن المملكة تابعت "بكل الأسى والحزن والغضب الجريمة الوحشية البشعة التي اقترفها التنظيم الإرهابي" واصفة القتل بأنه "عمل بربري جبان لا تقره مبادئ الإسلام الحنيفة المنصوص عليها في كتاب الله وسنة نبيه.. ولا يمكن أن يقدم على ارتكابه إلا ألد أعداء الإسلام".

غير أن بعض المغردين أعادوا الإشارة إلى أبحاث دينية صادرة من جامعات حكومية في السعودية، مثل البحث الذي يحمل عنوان "التحريق بالنار" والموجود على موقع إحدى الجامعات السعودية وجاء فيه أن العلماء اختلفوا في التحريق في فعل ذلك وفي هوية من يتعرض للإحراق، سواء من الأعداء أو المجرمين، ويذكر البحث أن أبا بكر الصديق وعلي بن ابي طالب وخالد بن الوليد، وكلاهما من صحابة النبي محمد، أجازوا تحريق الأعداء بالنار خلال المعركة، في حين كرهه صحابه مثل عمر وابن عباس.

ويورد البحث أيضا مناقشة "ابن حجر" لمعنى حديث النبي بأن التحريق لا يكون إلا من الله بالقول: "قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي أعين العرنيين بالحديد المحمي، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة ".

ويختم الباحث بحثه بالقول: "التحريق بالنار لا يجوز إلا من السلطان إذا رأى المصلحة تقتضي ذلك نكاية أو معاملة بالمثل، أو لمن فعل أمرا منكرا، والشجر كذلك، وأما الحيوان فلا يفعل به ذلك، لأنه مثلة وتعذيب بلا فائدة، إلا إذا استعمله الكفار في العدوان على المسلمين، ولم يوجد بدٌ من التحريق والله أعلم")[3].

من جانبها (فنّدت دار الإفتاء المصرية الفتوى التي استند إليها تنظيم "داعش" لتبرير إحراق الطيار الأردني (معاذ الكساسبة) معتبرةً أنها تستند إلى "دعاوى باطلة"، ناقلوها من الكذابين واللصوص، ووصفت مشهد حرق الأسير الأردني حياً بأنه "بربري يدل على سادية هؤلاء المتطرفين".

وذكرت دار الإفتاء... أن "هؤلاء الإرهابيين قد ضربوا بالتعاليم الإسلامية ومقاصدها، التي تدعو إلى الرحمة وحفظ الأنفس عرض الحائط، وخالفوا الفطرة الإنسانية السليمة، واستندوا في جريمتهم البشعة على تفسيرات خاطئة لنصوص أو أقوال ليبرروا فجاجة فعلهم."

وأوضحت أن "زعم هؤلاء بأن الصحابي الجليل أبو بكر الصديق قد أحرق الفجاءة السلمي حياً غير صحيح وساقط باطل لا سند له"، مؤكدةً أنها "رواية باطلة"، ولفتت إلى أن راويها علوان بن داود البجلي "رجل مطعون في روايته" ووصفه الإمام البخاري بأنه "منكر الحديث" بحسب ما جاء في "لسان الميزان" للحافظ بن حجر.

وأشار بيان دار الإفتاء المصرية إلى أن العقيلي روى في "الضعفاء الكبير" عن يحيى بن عثمان أنه سمع سعيد بن عفير يقول: "كان علوان بن داود زاقولي"، أي من "الزواقيل" وهم اللصوص.

وتابع: أن أهل العلم أجمعوا على أن المقدور عليه "الأسير" لا يجوز تحريقه، حتى لو كان في حال الحرب، فكيف بالأسير المكبل؟.. وذكر أن "التنظيم الإرهابي لا ينبغي أن يطلق عليه مسمى الدولة، وبالتالي فإن ما حدث هو اختطاف قسري إرهابي، تنبذه كافة الأديان والشرائع والقوانين الدولية."

كما أشارت دار الإفتاء في تفنيدها إلى أن "اتهام الصحابي خالد بن الوليد، بحرق رأس خالد بن نويرة هي رواية باطلة، في سندها (محمد بْنُ حميد الرازي) وهو كذاب.. قال عنه الإمام ابن حبان: كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات.. وقال أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة: صح عندنا أَنه يكذب".

وشددت الإفتاء المصرية على أن "التمثيل بالأسرى منهي عنه في الإسلام"، وأكدت أن النهي عن الإعدام حرقاً ورد في أكثر من موضع، منها حديث ابن مسعود قال: "كنا مع النبي.. فمررنا بقرية نمل قد أحرقت.. فغضب النبي وقال: إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله".

وأكدت أن "الطيار الأردني سقط رهينة لدى هذه الجماعة المتطرفة، أثناء تأدية واجبه في الدفاع عن الأوطان، ضد هذا الخطر المحدق بالجميع، وهو بمثابة رهينة مختطف، بل حتى وإن كان أسيراً لديهم، فإن الإسلام قد أكد على ضرورة الإحسان إلى الأسرى، وجعلها من الأخلاق الإسلامية والآداب القرآنية".

ولفت البيان إلى أن النبي "أحسن إلى أسرى بدر" كما نهى عن تعذيب الأسير ببتر أعضائه أو حرق أطرافه أو غير ذلك.. وقال لعمر بن الخطاب، حين عرض عليه أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى يندلع لسانه: "لا يا عمر، لا أمثّل به فيمثّل الله بي وإن كنت نبياً".

ولفتت دار الإفتاء المصرية إلى أن حديث النهي عن القتل بالحرق صحيح عند البخاري، ويسوق العلماء عدداً من الأحاديث النبوية في هذا الصدد، ففي "صحيح البخاري"، وهو أصح كتب السنة على الإطلاق أن الرسول قال: "لا تعذبوا بالنار، فإنه لا يعذب بالنار إلا ربها".

وأشار البيان إلى أنه في حالة إذا ما كان هناك يستحق "عقوبة القتل" كالقصاص مثلاً، فإن "الإسلام يأمرنا في هذه الحالة أن نحسن القتل بالنسبة للإنسان، بحيث لا يقتله إلا الحاكم الشرعي، وهو ما يعبر عنه بالسلطات المختصة، بعد إجراء المحاكمات العادلة، وبأقل الوسائل إيلاماً وأسرعها في الإنهاء على حياته، حتى لو كان محارباً، بل إن الحديث مصرح بأن نحسن الذبح بالنسبة للحيوان فما بالكم بالإنسان".

وقالت دار الإفتاء، في بيانها إنه "من استقراء النصوص، ورد بعضها إلى بعض، يتبين أن الأصل أنه لا يجوز قتل الأسير"، وإنما تتم معاملتهم وفق ما ورد في "سورة محمد"، إما "مناً" أي إطلاق سراحهم لوجه الله، أو "فداءً" أي مبادلتهم بأسرى غيرهم، أو الفداء بمال، أو بعمل يستفيد منه المسلمون)[4].

وعلى صعيد متصل، فقد (شنَّ خطيب الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن السديس، هجومًا على تنظيم "دولة العراق والشام" دون أن يسميه، مستشهدًا بحديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام: "لا يعذب بالنار إلا رب النار"، في خطبة صلاة الجمعة من الحرم المكي.

وقال "السديس" في خطبته إنه "في الوقت الذي تعصف فيه الانتماءات والولاءات لجهات وتنظيمات ضالة تسلك سبيل الغلو والعنف والإرهاب والتطرف والبغي والإرعاب، فإنها تسفك الدماء وتبعثر الأشلاء وتسعى للفساد في الأرض قتلًا وتحريقًا بغيًا وتفريقًا باسم الإسلام مع شديد الأسى، وبكل وحشية وبربرية تجاوزت الحدود الشرعية والأخلاقية، ولا يقرها دين ولا قيم ولا إنسانية أيًّا كان فاعلها".

وأضاف: "وقد ثبت في الصحيح أنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، فاللهم نبرأ إليك من شناعة فعل هؤلاء الخوارج البغاة وفعل الظالمين الطغاة"، متابعًا: إن "الأدهى في ذلك هو اعتمادهم على المتشابه من النصوص والاستدلال بالأحاديث الضعيفة والمنسوخة واجتزاؤهم نصوص أهل العلم والنقولات عنهم وسلبها عن سياقاتها الصحيحة".

ووجّه "السديس" رسالة إلى شباب الأمة قال فيها: "على شباب الأمة الفطناء أن لا يغتروا وينخدعوا بهذه الشناعات التي تشوه صورة الإسلام الحنيف ومبادئه السمحة ووسطيته واعتداله، وأن لا يركنوا للشائعات المغرضة")[5].

ويبدو ان الاحتجاجات الفقهية على حرق الطيار الاردني قد طالت عناصر موالية لتنظيم (داعش) نفسه، فقد (ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان... أن تنظيم «داعش» عزل أحد الشرعيين التابعين له في محافظة حلب في شمال سوريا، بسبب احتجاجه على طريقة إعدام الطيار الأردني...

وقال مدير المرصد السوري رامي عبد الرحمن لوكالة «فرانس برس» إن المسؤول الشرعي المعروف باسم أبو مصعب الجزراوي «أثار الخميس اعتراضات على الطريقة التي تم بها إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حتى الموت، وذلك خلال اجتماع بين شرعيين وقياديين في داعش يعقد أسبوعياً في مدينة الباب في منطقة حلب».

وأوضح أن الجزراوي استند خلال الاجتماع إلى حديث نبوي ليقول إن «الطريقة التي أعدم بها الكساسبة مناقضة للدين»، ورأى المرصد أن الجزراوي قد يحال إلى محكمة شرعية)[6].

اخراج على الطريقة الهوليودية[7]

لا ريب ان ابرز السمات الظاهرة على فيلم حرق الطيار الاردني هي طريقة الانتاج السينمائية المحترفة التي ظهر فيها، إذ يتضمن العديد من المؤثرات البصرية الخاصة، وصوّر بكاميرات عالية الجودة من زوايا محسوبة بدقة متناهية، وانتج باسلوب درامي مؤثر، الأمر الذي ينم عن احترافية عالية للاشخاص الذين اشرفوا على انتاجه، بحيث لم يخفِ خبراء في الصورة التلفزيونية ذهولهم من القدرات الفنية التي ظهرت لـ(داعش) في الانتاج الاعلامي.

ان مقطع الفيديو الذي بثه "داعش" أظهر قدرا كبيرا من الاحترافية، (وصفها المخرج في التلفزيون الأردني علاء عبيدات بالمدروسة، حيث ان كل لقطة فيه كانت في محلها وموّظفة لهدف في نفس من أنتج "الفيديو".

اللقطات التي بُثت في عملية حرق (الكساسبة) وقبلها من مشاهد، عملت على تأليب الرأي العام الأردني على قيادته، كما يرى العبيدات في حديث لـ"الشرق"، وحاولت إيقاع الفتنة في صفوف الشعب الأردني من خلال بث أسماء رباعية، وصور للطيارين الأردنيين، ورصد مكافآت لمن يقتلهم.

العبيدات لم يستغرب هذه القوة الإنتاجية والتوظيفية لجميع اللقطات، معتبرا ان الفيلم برمته موجّه للشعب الأردني، وكان الهدف الأبرز منه إثارة الرعب، وحتى اللباس المستخدم من قبل أعضاء التنظيم كان جديدا ومرتبا لدرجة كبيرة.

الصحفي (عماد فريج) استغرب لقطة دخول معاذ للموقع وسط جحافل "داعش"، متسائلا: "أي تنظيم هذا، الارهابيون الذين يقفون وراء معاذ بنفس القامة و الطول والبنية، حتى في أعظم فرق الكوماندوز العالمية لا نجد من هذا التنسيق الرهيب!".

المخرج السينمائي والدرامي (بسام المصري) يخالف (العبيدات) ويساند (فريج) في وجهات النظر، ليسجل ملاحظة هي ضخامة العمل وعدم قدرة الأفراد العاديين على انتاجه.

نقابة الفنانين الأردنيين... اجمعت في اجتماع لها على أن "الفيديو" حمل كل عناصر العمل الدرامي من تشويق وإثارة ومؤثرات صورية ومفاجآت والتمكن من الصورة البصرية، ما يدلل على تمكن التنظيم.

(العبيدات) عاد ليؤكد بأن النقود وإمكانات التنظيم هي من تكلمت في "الفيديو"، علاوة على أن اعضاء التنظيم الذين قدموا من اوروبا وشرق أسيا، لديهم الإمكانات الفنية اللازمة لعمل هكذا فيلم، والمعدات تتوافر بسهولة على حد قوله.

ويسجل المخرج (العبيدات) ملاحظة هامة، تتمثل في أن المشاهد بأفلام السينما يتم تصويرها بكامرتين أو ثلاث، لكن فيديو "داعش" جرى استخدام 5 أو 6 كاميرات، وأبدعوا في إخراجه، ووصف الإبداع هنا للتأكيد "سينمائي بحت".

المختص في العمل التلفزيوني (هدى المجالي) والعامل في قناة "سكاي نيوز العربية" شكك عبر "فيس بوك" بصحة الفيديو من أصله. ويعتبر (المجالي) ان كل الفيديو مشاهد تمثيلية تمت بمؤثرات "الجرافيك"، التي يمكن من خلالها انتاج هكذا فيديو وأكثر جودة، لافتا إلى ان (الكساسبة) توفي في غارة لقوات التحالف بعد ايام من أسره لدى "داعش".

استاذ التلفزيون في جامعة البترا الأردنية (أيمن مسنات) وصف الفيديو بالبروفيشنال[8] مشددا على أن من ينتج هكذا عمل بحاجة لإمكانات كبيرة. ولا يعتبر (مسنات) أن هكذا عمل بحاجة لمدة طويلة في العمل، فالقصة هي بالطاقة الانتاجية والمعدات المتوفرة فقط)[9].

هذا وقد دفع الجانب الاخراجي القوي للفيلم ووحشية الرسالة التي يتضمنها العديد من الجهات الى التشكيك بصحة حرق الطيار الاردني، واعتبروا ان مسألة الحرق عبارة عن تمثيلية لا اساس لها من الصحة، على الرغم من انه لا مبرر منطقي يدعو داعش الى الاحتفاظ بأسيره حيا في السر.

وفي هذا الصدد (قال حسام الدالي خبير الخدع في مقطع فيديو إن تنظيم “داعش” تلاعب ببرامج المونتاج والجرافيك لإخراج حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة بهذا الشكل، مؤكدًا أنهم “ضخموا أنفسهم ليظهروا بشكل قوي وخارق كما فعل التتار، كنوع من الحرب المعنوية”.

وحلل الدالي أبرز الخدع البصرية الذي استخدمها داعش في فيديو حرق الكساسبة، مستندا لتحليل فني بحت هدفه إيضاح التقنية المستخدمة من قبل التنظيم فى إنتاج الفيديو، ومرجحًا استخدام 5 كاميرات لتصوير المشهد والاستعانة بمخرج سينمائي متمكن.

بدأ الخبير بشرح المقاطع التي ظهر بها خلل وخدع بصرية واضحة، بالتصوير البطيء، مشيرًا إلى وجود شىء غير منطقي عند تغيير سرعة الفيديو لحظة إطلاق الشعلة، وظهور لهيب النار والدخان كان غير طبيعى فى حركة، وأكد أنه مصطنع، مستغربًا من أن سرعة النيران قلت عند الوصول للقفص رغم أنها مشبعة بالمواد البترولية.

وأوضح مصمم الخدع أن هناك مادة تستخدم في الأعمال السينمائية تعمل على عزل النار عن الجلد، لافتًا إلى أن النار غير حقيقتها، حيث توجد عيوب واضحة ظهرت فى كل الزوايا، مضيفًا أن انتقال حركة اليد من مكان لآخر لا يمكن أن يحدث لحظة التفحّم.

واعتبر في الفيديو الذي نقله عنه موقع “دوت مصر” أن الموجود بالقفص كانت دمية تستخدم في الأفلام السينمائية، مستدلًا على ذلك بعدم تصوير الوجه بعد حرقه حتى لا تتبين الحقيقة.

وأشار إلى صعوبة تحرك الجثة المتفحمة بتلك المرونة وهو يسقط فى اللحظات الأخيرة، وقام بعرض مشهد توضيحى مماثل للكشف عن كيفية تنفيذ مثل هذه الخدع...

الجدل الذي طرحه الدالي في الفيديو مرتبط بتابين آراء المخرجين المصريين والعرب حول الفيديو ودقة تصويره التي رأي البعض فيها استخدام واسع للجرافيك وتقنيات التصوير الحديثة ورأي اخرون أنه صور بجودة احترافية عالية.

وكان مفتي الجمهورية السابق الدكتور (علي جمعة) خلال ندوته في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الخميس الماضي، قال إن فيديو حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة “فوتشوب[10]”، متسائلًا: “كيف يعقل أن يقف إنسان يحرق ثابتًا”، مشيرًا إلى أن “داعش” يسعى لإرهاب الناس، فهم لا يختلفون عن التتار قديمًا)[11].

على أن التساؤل الذي طرحه المفتى حول وقوف الطيار ثابتا في لحظة اقتراب النار منه يمكن ان تفسره اخبار نشرها تنظيم (داعش) نفسه، إذ (كشفت عن "إعطاء الطيار الأردني كميات كبيرة من المخدر للتأكد من عدم إدراكه لما يجرى حوله، وإفقاده القدرة على التفكير أو التصرف، أو حتى القيام بأي حركة يمكن أن تفشل التصوير".

وقالت التقارير التي نقلتها صحيفة "ديلي ميل" البريطانية... إن الكساسبة كان يجهل ما يحدث له، حيث إنه تم تخديره حتى لا تشعر "المراكز الحسية" لديه بما وقع عليه... وقال المراقبون إن "الإحساس لدى الطيار استمر لثوان معدودة، لأن هذه المراكز الحسية احترقت بسرعة، نظرا لأنه كان مبللا بالبنزين سريع الاشتعال، علما بأن وهج النار كافٍ بالنسبة للشخص الطبيعي لجعله يشعر ببداية الاحتراق" حسبما أفاد المركز الصحفي السوري.

وقال المراقبون إنه "من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن معاذ بدا غير واعٍ وغير مدرك لما ينتظره، وليس كما قال البعض إنه غير خائف، لأنه إنسان بالنهاية، ومن المفروض أنه لو كان واعيا لأدرك المصير الذي ينتظره")[12].

من جانب آخر، فان العديد من خبراء الانتاج السينمائي قد أكدوا أن لا فبركة في حادثة الاحراق، وان الجريمة المروعة قد حدثت بالفعل، وقد وثقت بأعلى اسلوب التصوير والانتاج المحترف، ومن هؤلاء الخبراء (المخرج السينمائي محمد بايزيد الذي نشر على صفحته في فايسبوك ما سماه نقدًا علميًا لمقطع الفيديو، متناولًا في تحليله إخراج المقطع سينمائيًا ومونتاجه وطريقة تصويره.

قال (بايزيد): "الكثير من الناس يتحدثون أن فيديو حرق (الكساسبة) فيديو ملفّق، وأعتقد أن هذا الاعتقاد يقف وراءه سببان أساسيان، أولهما: أن الفيديو مصوّر بطريقة سينمائية بكاميرات عديدة من زوايا مختلفة، وجود لهب في مقدمة الكادر لإعطاء إحساس سينمائي مذهل، توزيع احترافي للكاميرات بحيث لا تكشف بعضها بعضًا، تمامًا مثل تصوير الاستوديو أو البرامج التلفزيونية، توزيع الجنود ضمن الكوادر بطريقة مدروسة ومنظّمة، كل إنسان - مع تحفظي على هذه الكلمة هنا - يعرف دوره جيدًا، ليس هناك تدافع، ليس هناك جمهور، بينما اعتاد الناس أن يشاهدوا مثل هذه الأعمال بتصوير كاميرا جوّال تهتز والناس تتدافع حولها بعشوائية".

وأضاف: "السبب الثاني لاعتقاد الناس أن الفيديو ملفق هو التلاعب بالزمن وتمديده عبر تبطيء الصورة في اللحظات الحرجة قرب وصول اللهب للقفص، فالتصوير تم بكاميرات High Speed والتي تقوم بتصوير عدد كبير من الكوادر في الثانية لتبطيئها لاحقًا بطريقة مبهرة، هذا الأمر أعطى إحساسًا للناس بأن الفيديو غير حقيقي".

وكشف أن ثمة لقطات أضيف إليها لهب غرافيكس (Alpha Fire) لزيادة إحساس الرهبة "لكن هذا لا يغيّر حقيقة أن بقية اللهب حقيقي".

وتابع (بايزيد): "رأيي المهني أن الفيديو حقيقي، كل ما في الأمر أنه مصنوع باحترافية لم نعتد على مشاهدتها في مثل هذه الفيديوهات، ورأيي أن ردة فعل معاذ على حرقه كانت حقيقية كذلك".

ولا يرى (بايزيد) مبررًا لتلفيق تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) مثل هذا الفيديو، "فالشهيد معاذ الكساسبة لديهم حتمًا، حيث أن مقابلاته وصورته بمنتهى الوضوح، وأن الأردن رسميًا أكد ذلك، وبالتالي ليس هناك أي فائدة أو منطق في تلفيق مثل هذا الفيديو".

وختم (بايزيد) قائلًا: "مدة الفيلم الكاملة هي 25 دقيقة تقريبًا تتضمن مونتاجاً وغرافيكس[13] متطوراً للغاية، وهو فيلم لا شك أن صناعته استغرقت فترة طويلة (ليس أقل من شهر برأيي) وهو ما يؤكد نيّة داعش لقتله على أية حال... داعيًا لعدم تداول مثل هذه الفيديوهات "فهذا يحقق غرض داعش القذر في إخافة أعدائها ونشر رسالتها الخبيثة، كما تسيء لمن يتم إعدامهم وتكسر بخاطر أهاليهم وتزيد معاناتهم".

من ناحية أخرى، نقلت تقارير صحفية عن المخرج (عمرو عرفة) تأكيده أن كل المشاهد في الفيديو حقيقية ليس بها أي خدع، "ومن قام بإخراج الفيديو نفذه بشكل محترف.

أضاف (عرفة): "من قام بإخراج هذا الفيديو شخص محترف استخدم تقنية إخراجية عالية من خلال تثبيت عدة كاميرات بأحجام مختلفة في عدة أماكن، وكان اعتماده على المونتاج أكثر من الإخراج".

وتابع (عرفة) قائلًا: "استعانوا بمونتير محترف لإخراج هذه الصورة بهذا الشكل، وتم عمل المونتاج بإيقاع سريع لجذب نظر المشاهد".

بالمقابل، وصف المخرج المصري (أحمد عبد الحميد) الفيديو بـ"المفبرك"، ودعا المواطنين إلى الاستمتاع بمشاهدة مشهد سينمائي صنعه أصحابه بشكل سيء.

وقال في حديث صحفي: "تنظيم داعش صوّر الفيديو باستخدام خمس كاميرات، ومن ظهر فيه باعتباره (معاذ الكساسبة) ليس سوى ممثل فشل في لعب دوره، باعتبار أدائه المفتعل داخل القفص، وداعش استخدم في الفيديو القناع الذي يحمي الممثل من الحرق".

وكذلك قال (شاكر الجوهري) رئيس جمعية الصحافة الإلكترونية بالأردن لإحدى القنوات المصرية: "الفيديو مفبرك، والدليل على ذلك وجود زاوية في القفص لا تصلها النيران، ومع ذلك لم يتحرّك إليها الشخص، فضلًا عن غياب ملامح الفزع على وجهه، والغرض من هذا الفيديو المرّكب إثارة فزع الأردنيين")[14].

وفي هذا المجال، من المفيد ان نقرأ ما كتبه مخرج ومنتج الافلام الوثائقية (مازن الخيرات) في تحليله لفيلم حرق الكساسبة قائلا: (يقوم اخراج الفيلم الداعشي على استخدام جميع تقنيات إخراج المشهد الروائي السينمائي لكن بفارق جوهري أن السلاح حقيقي وذخيرته حقيقية والهدف ضحية أجبرت على التمثيل، فعندما يضغط الرامي على الزناد تسقط الضحية مصروعة حقيقةً ولا تمثيلاً. وهذا بالضبط ما حصل في فيديو معاذ الكساسبة...

عناصر "داعش" في الحقيقة أشعلوا النار واحترق الممثل (الضحية) ثم خضع مشهد الحرق نفسه إلى عمليات تحوير ومونتاج عديدة ليظهر بمظهر أكثر درامية وارهاباً للمشاهد، وهذه العمليات هي التي يرتكز عليها المشككون بصحة الفيديو. وسأوضح أكثر هذه النقطة بسرد بعض الأمثلة:

- قد تحدث أمور في الواقع بخلاف ما خطط له المخرج، مثل عدم تحرك النار في مسار الاحراق بشكل سريع ولم تكن شعلة كبيرة تراها الكاميرا، فيقوم بتقليص الوقت في المونتاج وإضافة مؤثرات بصرية على النار لتظهرها بشكل مخيف أكثر.

- الضحية لم تنتظر النار باستسلام لكن تصرفت بشكل دفاعي وحاولت الهروب وتسلق القفص، فأفسدت المشهد وفي هذه الحالة هناك عدة خيارات من الممكن للمخرج أن يكون قام فيها لتلافي اظهار ذلك يطول شرحها، اذاً معاذ قد يكون حاول الهرب لكن حذفت اللقطات حتى انه قد يكون اقترب أشخاص منه مراراً لاحراقه داخل القفص ولتغذية النار بالوقود، وهذه أمور لا نراها بفعل المونتاج.

- يعلم مخرج أفلام "داعش" جيداً مبدأ اخراج أفلام الرعب، وهو ان كل ما لا تراه يخيفك أكثر، بمعنى ان خيال الشبح وهو يحمل منجلاً يخيف أكثر من شكله، وحين ترى أنياب القرش متجهة نحو الضحية في أقل من ثانية تخيفك أكثر من مشاهدة القرش بكامل جسده مطولاً، أي بمعنى أن يجعل المخرج عقلك ينتج الصور الخاصة التي تخيفك. ذلك ان في مشاهد قطع الرؤوس كان القاتل يبدأ بحز الرقبة، ثم نرى الرأس على ظهر الضحية، وكذلك في مشاهد حرق معاذ تمر مشاهد سريعة مأخوذة من فترة احراقه الطويلة، وكذلك المشاهد من عملية ردمه.

- تعوّد المشاهدون على اللقطات الحقيقية الفظيعة والمخيفة لدرجة التبلّد خصوصاً بعد توفرها بشكل كبير على مواقع التوصل الاجتماعي في سنوات "الربيع" العربية العجاف لدرجة أنها أصبحت جميعها متشابهة ولا تعني المشاهد بشيء، ومن هنا على ما يبدو جاءت فكرة انتاج فيديو فظيع بشكل مختلف.

في النهاية، لا يستطيع أحد التشكيك في صحة الفيديو، وكل ما يحكى عن الخدع البصرية في الفيديو نظريات لا ترقى لأن تكون حقيقة)[15].  

تجدر الاشارة الى ان انباء اشارت الى ان تفوق داعش في الانتاج السينمائي يعود الى التحاق عدد من الشباب الغربيين الذين يحترفون مهنة التصوير والانتاج الفني بصفوف (داعش)، وقد استثمر التنظيم قدراتهم افضل استثمار لصالحه، لمعرفته بقوة التأثير الاعلامي في دعم جهده الايدلوجي والعسكري.

وفي هذا الصدد أجرت صحيفة "الصاندي تايمز" البريطانية تحقيقاً يكشف هوية أحد الشبان الخمسة الذين يقومون بإدارة أفلام قطع الرؤوس في (داعش) وجميعهم برتغاليو الأصل هاجروا إلى بريطانيا، إذ (يترأس الفريق - حسب الصحيفة - شاب يدعى (نيرو سرايفا) وهو أب لأربعة أطفال عمره 28 عاماً، هاجر إلى لندن وعاش هناك لسنوات إلى أن سافر إلى سوريا عام 2012 ليحارب إلى جانب داعش.

وتتابع الصحيفة أن (سرايفا) سكن مع أربعة شبان آخرين شرق لندن وكانوا، لفترة طويلة تحت أنظار المخابرات البريطانية، التي تدعي أن لهؤلاء الخمسة دور أساسي بأفلام قطع الرؤوس.

أما علاقة (سرايفا) بتصوير الأفلام - حسب التحقيق الصحفي- فتكاد تكون أكيدة بعد تغريدته على تويتر في شهر تموز/يوليو الأخير، قبل 39 يوماً من إعدام الأمريكي (جيمس فولي) حيث كتب في رسالة وجهها للولايات المتحدة، أن التنظيم سيصور فيلماً جديداً، وشكر الممثلين فيه.

 الشبان الخمسة وفقًا للصحيفة، من هواة كرة القدم، حتى إن أحدهم يدعى (فابيو بوكاس) وعمره 22 عاماً انتقل من لشبونة إلى لندن عام 2012 رغبة منه بأن يُصبح لاعب كرة قدم مُحترفًا. وتقول الصحيفة إنه ترعرع في أكاديمية النادي البرتغالي العريق، سبورتينغ لشبونة.

ويُعرف (فابيو) باسم (عبد الرحمن الأندلس) وكتب على حسابه في فيسبوك أن ما وصفها بالحرب المقدسة هي الحل الوحيد للإنسانية.

 كما أن هناك أخوين هما (ادغار) و(سالسو رودريغز دا كوستا) من هواة كرة القدم أيضًا، يبلغا من العمر 31 و28 عامًا، وقد التحقا بجامعة شرق لندن في (ستراتفورد) لكنهما طردا بعد تخلفهما عن حضور الدروس.

العنصر الخامس من المجموعة يدعى (ساندرو) ويبلغ من العمر 36 عامًا، وهو الأخير من بين المجموعة الذي ذهب الى سوريا للقتال)[16].

وأخيرا، يمكن القول ان الجانب الانتاجي المحترف لفيلم احراق الطيار الاردني يمثل حلقة اساسية في سلسلة استثمار (داعش) للجانب الاعلامي بافضل الطرق، مما يدل على ان التنظيم يحرص على استثمار منظومة متكاملة من الكوادر المهنية لدعم تحركه وفق طرق مدروسة.

صفقة مثيرة لتبادل السجناء

بعد اعلان (داعش) عن اسره للطيار الاردني(معاذ الكساسبة) بتاريخ 24/12/2014 والياباني (كينجي غوتو) الذي اسره في اواخر شهر تشرين الاول من العام 2014، افصح التنظيم عن رغبته بعقد صفقة تبادل اسرى مع حكومة الاردن، فقد بث يوم 27/1/2015 تسجيلا صوتيا (هدد فيه بقتل معاذ الكساسبة ورهينة ياباني إذا لم يتم إطلاق سراح ساجدة الريشاوي، وهي عراقية مسجونة في الأردن ومتهمة بتنفيذ تفجيرات في عمّان عام 2005.

وظهرت في التسجيل صورة الصحفي غوتو وهو يحمل صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة ويقول في رسالة صوتية إن "أي تأخير من قبل الحكومة الأردنية يعني أنها ستكون مسؤولة عن مقتل الطيار الأردني ثم مقتلي")[17].

و(ساجدة الريشاوي) هي ارهابية عراقية يحتجزها النظام الاردني منذ العام 2005 اثر حادثة تفجير انتحاري في عمان، اذ اقدم زوجها على تفجير نفسه في حين لم تنجح هي بذلك، فالقت للسلطات الاردنية القبض عليها وبقيت قابعة في السجن الى أن أثار (داعش) قضيتها اثر أسره للطيار الاردني.

ويبدو ان القضية التي اثارها (داعش) حول صفقة تبادل الاسرى تتضمن العديد من الفوائد التي يحاول التنظيم جنيها من هذه العملية، فمع قليل من التأمل لا يبدو ان اطلاق سراح (ساجدة الريشاوي) أمر أكثر اهمية من اعدام الطيار الاردني الذي شارك فعلا بضرب مواقع التنظيم، على الاقل من الناحية الاعلامية، ولكن اثارة مسألة المفاوضات مع حكومة ذات سيادة تعطي للتنظيم حجما اكبر أمام العالم، ويجسده على انه دولة ذات قوة تمكنها من خوض مثل هذه الصفقات، وبخاصة أن اليابان قد دخلت في قضية المفاوضات لانقاذ الاسير الياباني لدى (داعش).

ومن الجدير ذكره، ان صورة (معاذ الكساسبة) التي كان يحملها الاسير الياباني وهو يدعو الى انقاذ حياته وحياة (الكساسبة) بتاريخ 27/1/2015 تدعو الى الشك في ان (معاذ) كان قد احرق فعلا، لان بيئة صورة (معاذ) تطابق تماما البيئة التي كان قد احرق فيها بالفعل، مع وجود لحية على وجهه من الواضح انها غير حقيقية، وانما تم اضافتها بوساطة برنامج حاسوب للتمويه، لذا فان شكوك الحكومة الاردنية حول اعدام (داعش) لطيارها قبل شهر كانت في محلها[18].

وعليه يبدو واضحا ان (داعش) كانت تريد ان توقع النظام الاردني في مأزق مع شعبه، اذ يحاول اظهار الحكومة الاردنية على أنها قد فشلت في انقاذ طيارها بعد صفقة تبادل الاسرى التي عرضها التنظيم.

وبالفعل فقد (أثار فشل عملية تحرير الطيار الأردني "معاذ الكساسبة" تساؤلات كثيرة حول مدى الجدية التي انتهجتها الحكومة الأردنية وحلفاؤها في السعي لتحرير "الكساسبة"، في الوقت الذي نجحت فيه تركيا في تحرير دبلوماسييها المعتقلين لدى تنظيم "دولة العراق والشام" في سبتمبر الماضي.

فقد ذكر مصدر صحافي ياباني مطلع على سير المفاوضات بين تنظيم "الدولة" والحكومتين الأردنية واليابانية في حينه، أن الجانب الياباني حمَّل الأردنَ مسؤولية فشل المفاوضات، بسبب ما أسماه تلكؤ الجانب الأردني في الاستجابة لشروط التنظيم.

وكانت تركيا قد استعادت رهائنها الدبلوماسيين الذين أسرهم تنظيم "الدولة" البالغ عددهم 49 شخصًا، وعلى رأسهم القنصل التركي في الموصل، وأعلنت الحكومة التركية في حينه أن عملية تحريرهم تمت بأساليب استخبارية وبعد عملية تعقب حساسة وبسرية، دون إبداء مزيد من التفاصيل.

ويرى مراقبون أن هناك فرقًا بين حالة "الكساسبة" والرهائن الأتراك، فالرهائن الأتراك لم يقاتلوا التنظيم ساعة اعتقالهم، بل كانوا عزلًا ومتحصنين في القنصلية التركية، ولم يبدوا أي مقاومة ساعة اعتقالهم، على عكس الكساسبة الذي كان يقوم بغارة ضد أهداف تنظيم "الدولة" وتم اعتقاله عقب سقوط طائراته[19].

وبيّن الباحث الإسلامي (علي رجب) أن ما أسماها "أدبيات التنظيم" تتردد في إهدار دم من اعتقلوا من غير المقاتلين، ويكون هناك فسحة في النقاش والحديث حول مسألة قتلهم أو إطلاق سراحهم ضمن صفقة.

وأضاف لصحيفة "الخليج أونلاين": "الكساسبة كان مقاتلًا، وحتى لو كان هناك من يريد مبادلته داخل التنظيم، فإن من يسمون بشرعيي وفقهاء الدولة كانوا سيمانعون في تسليمه للأردن مهما كلفهم الثمن، لأن ذلك سيُعدّ خروجًا على محرمات التنظيم، وهو ما يُفسر تلكؤ الأردن في السعي لإطلاق الكساسبة والمطالبة بتقديم دليل على أنه على قيد الحياة لإتمام الصفقة، فقد كان يشعر بأنه فعلًا قُتل، وأن التنظيم يُناور لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما أثبته الجيش الأردني عندما أعلن عن مقتله قبل شهر من بث شريط إعدامه"...

وقال الدكتور (أحمد عطا الله) أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بيروت العربية: إن "تركيا اعتمدت على المفاوضات ذات النفس الطويل مع تنظيم الدولة لضمان عودة رهائنها، كما قدمت ضمانات وتعهدات لأجل ذلك".

وأضاف: إن "الحكومة التركية تعهدت للتنظيم وفق العديد من المصادر داخل الحكومة بعدم المشاركة في التحالف، وبعدم تخفيض مياه نهر الفرات التي تتحكم بها تركيا عبر سد أتاتورك"...

لم يكن الأردن واثقًا بجدية تنظيم "الدولة" بالتفاوض على مصير الكساسبة، بسبب اختفاء الرجل وعدم إظهاره سوى مرة واحدة كصورة جامدة، حتى إن الحكومة الأردنية طالبت مرارًا بتقديم دليل على أن "الكساسبة" لا يزال على قيد الحياة.

وخلال المفاوضات التي كانت تجري في "معبر تل أبيض" على الحدود التركية - السورية، لاحظ الوفد الياباني الذي كان يرافق الوفد الأردني، تلكؤاً أردنيًّا واضحًا في التعاطي مع المفاوضات، وفق ما قاله موفد وكالة الأنباء اليابانية الصحافي الياباني "كورو ساكي" الذي أكد... أن "الأردن هو من أفشل المفاوضات مع تنظيم "الدولة"، وأن الجانب الياباني حمّل الأردن مسؤولية قتل الرهينتين اليابانيين".

لكن الدكتور أحمد "عطا الله" فسّر تصرف الجانب الأردني بذلك لأنه "كان متأكدًا من أن "الكساسبة" قُتل في وقت سابق بفضل عملائه على الأرض، ولعلمه أن التنظيم لا يمكن أن يُفاوض على إطلاق سراح مقاتل يعتبره (عدوًّا) بالنسبة له، كما أن الحكومة الأردنية تريد أن تظهر أمام شعبها أنها كافحت حتى النهاية في عملية التفاوض لإنقاذ حياة الأسير معاذ الكساسبة")[20].

وعلى صعيد متصل فقد اتهم سياسيون أردنيون النظام الأردني بالمسؤولية عما جرى للكساسبة، واصفين الحكومة الأردنية بأنها تجاهلت القضية وحاولت إغلاق الملف، (وكانت النائب بالبرلمان الأردني هند الفايز قد وجّهت اتهامات للموقف الأردني بأن هناك توظيفا سياسيا لقضية الكساسبة، وأبدت خشيتها من سعي البعض إلى توريط الأردن في الحرب السورية عبر إرسال جنود لمقاتلة التنظيم، وقالت: "هذه الحرب ليست حربنا" وعبّرت عن أسفها إذ ضحى التنظيم المتشدد بالطيار الأردني، وهو ما استدعى البرلمان للرد في بيان انتقد فيه تصريحات (الفايز) واصفا إياها بأنها "تثير الشكوك في الموقف الرسمي للدولة الاردنية الذي نقدره ونحترمه ونثق به، مثلما تنمي الفتنة لدى البعض وتخدم أهداف ومرامي الإرهاب والمتربصين بالوطن الذين يحاولون بائسين إثارة البلبلة والفتنة في الصف الأردني الموحد".

 واتهم النائب البرلماني الأردني السابق (علي الضلاعين) وهو من مسقط رأس الطيار الكساسبة، النظام الأردني بالمسؤولية عن قتل الكساسبة نتيجة التراخي في التعاطي مع قضية اختطافه التي طالت حتى 43 يوما دون حل. مؤكدا في تصريحات له بأن الناس سيتساءلون عن سبب إرسال (الكساسبة) إلى تلك الحرب ولن يلوم أحد الدولة الاسلامية إذا أعدمته، ولن يؤدي إلا لزيادة الدعم لهم بحسب رأيه.  

 وكان (الضلاعين) مع عدد من المعارضين لانضمام الأردن إلى التحالف الدولي ضد (داعش) قد نظموا مظاهرة يوم الجمعة الماضية تدعو لإنهاء المشاركة العسكرية متهمين الحكومة بعدم التفاوض بجدية مع الدولة الإسلامية للحفاظ على حياة (الكساسبة).  

 وكان والد (الكساسبة) قد وجه رسالة للملك عبد الله... منذ عدة أيام قائلا: "رسالة موجهة لجلالة الملك.. من أرسل ابني ليقاتل خارج حدود الأردن هو النظام وهو التحالف.. التحالف ليس لنا شغل فيه.. دورنا فقط حماية حدود الأردن أما نقاتل في مناطق أخرى فهي حرب ليس لنا دخل فيها.. لذلك الي أرسل ابني ليقاتل في مناطق أخرى عليه أن يعيده بأي شكل من الأشكال.. ما عندنا إلا طلب واحد هو عودة (معاذ) سالما إلى أرض الوطن")[21].

من جانب آخر، يثير الكاتب (حازم الامين) تفسيرا جديرا بالاهتمام حول طلب (داعش) مبادلة الحكومة الاردنية بالسجناء اذ يقول: (في الماضي القريب - سبعينات القرن الفائت- لاحظ باحثون أن الانتحار حرقاً هو خيار المنتحرات، واعتبر انتحاراً بدائياً غيرياً وهو نادر وتشهده الأرياف والبيئات غير المدينية. أما إحراق الغير فينطوي على رغبة تطهيرية، يُطهر خلالها الحارق نفسه من شعور بالعار والخذلان.

لطالما ارتبط فعل الحرق في وعي الحارق برغبة في انتهاك ما هو أكثر من جوهر سياسي في جسد المحروق. القتل هنا أكثر من سياسي، وأكثر من انتقامي. هو رغبة في انتهاك أكثر من إنسانية الإنسان. انتهاك جوهره ومعناه. ولطالما أيضاً لاحت امرأة وراء فعل الحرق، ذاك أن المرأة في وعي الحارق هي ما يجب أن يُنتقم له أو منه. وفي هذه الحال يستحيل الحرق فعلاً نفسياً، ويستحيل أيضاً استجابة هذيانية لشعور بأننا نحرق في ضحيتنا عارنا. نفنيه ولا نُبقي على أثر منه.

والحال أن الاستغراق في تفسير فعلة «داعش» حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة بغير ذلك قد يبدو منطقياً، إلا أنه يوقعنا بفخ التفسير «المنطقي» لهذه الجماعة.

ماذا أرادت من وراء تصوير فعلتها؟ هذا السؤال الذي طُرح ملايين المرات في الأيام القليلة الفائتة، لا يجيب عن سؤال أهم هو: لماذا أحرقته ولم تذبحه على ما دأبت على فعله بغيره من أسراها طوال السنة المنصرمة؟

يجب أن لا نبتعد كثيراً في تفسير الفعلة، فلدينا عدة التفسير البدهية. ثمة امرأة وراء هذه الفعلة (ساجدة الريشاوي) وقبل أن يتبادر إلى ذهن أحد أن ذلك يعني أن لهذه المرأة السجينة دوراً وإرادة في قرار إحراق الطيار الكساسبة، يجب المسارعة إلى القول أن ساجدة كقضية وارتدادها كسجينة بصفتها عاراً على عشيرتها وعائلتها، هي ما يجب أن تدور شبهات التفسير حوله.

فالريشاوي أُرسلت في مهمة مع زوجها الذي «عقدت عليه» قبل أيام من تنفيذها المهمة. هو فجّر نفسه وهي «لم تنجح»، ويقول الباحثون في الانتحار أن معظم محاولات الانتحار الفاشلة يُقدم عليها أشخاص لا يرغبون في الانتحار. ويُعزّز هذا الاعتقاد في حالة ساجدة أنها امرأة، وغالباً ما لا يرتبط انتحار المرأة بفعل قتل الغير. لكن، يبقى ذلك من باب التوقع والاستشراف طبعاً.

لكن الأكيد أن عائلة ساجدة المباشرة، هي من أرسلها لكي تقتل نفسها وتقتل آخرين. هي من عائلة «قاعدية زرقاوية» شقيقها كان أمير الأنبار في «القاعدة»، وأشقاؤها الآخرون ناشطين في التنظيم. وتملك الريشاوي سيرة شخصية مضطربة تجعل من قرار عائلتها التخلص منها أمراً محموداً في الوعي العشائري، لا سيما أن موتها سيُستثمر في فعل «جهادي».

لا شك في أن فشل الريشاوي بتفجير نفسها خلف مرارة وبعض العار في وجدانات أشقائها أبناء الفرع «القاعدي» في عشيرة أبو ريشة الأنبارية. لقد فشلت شقيقتهم في المهمة التي أرسلوها من أجلها. لا بل إن الزرقاوي الذي استعجل نعيها «شهيدة» قبل أن يعرف بهربها من الفندق بعد أن فجّر شريكها و«زوجها» نفسه، أصيب أيضاً بخيبة، فكيف لأمير التنظيم الذي يشغل العالم أن ينعى «شهيدة» لم تبلغ الشهادة.

العار مضاعف هنا، أُرسلت الشقيقة لكي تموت ولكي تدفن معها قصص اضطرابها النفسي، ولكي تكون «شهيدة» ولم تُقدم على الموت. لا بل إنها تحولت سجينة في قبضة رجال المخابرات الأردنية، وهم رجال. أي عار هذا؟

من رأى وجه ساجدة في المحكمة أثناء محاكمتها في عمان عاين مقداراً كبيراً من هذه الصور، لا شك في أن أشقاءها كانوا يتقافزون في وعيها وفي نظراتها أثناء المحاكمة. الصمت والعبارات القليلة غير الحاسمة التي نطقتها في قاعة المحكمة توحي بأن مأساة وقعت خلف مأساتها الخاصة المتمثلة في عدم ضغطها على صاعق التفجير، خوف مما يجري خارج قاعة المحكمة، هناك في الصحراء الممتدة من الرطبة إلى الرمادي.

أحرق الكساسبة بمقدار كبير من الرغبة الانتقامية، وهي رغبة لا يُمكن فصلها عن وعي عشائري باجتثاث العار وبمحوه، ومن غير المستبعد أن تكون وراء فعل الإحراق أيضاً رغبة في قتل ساجدة. قتل عقابي أيضاً، فالأشقاء الذين فجعوا بامتناع شقيقتهم عن الموت وبقبولها أن تبقى حية في أيدي رجال غرباء، يرونهم «رجال عشائر أخرى»، من المنطقي أن يُرتبوا مشهد حرق الكساسبة. وقائع كثيرة تُساعد على هذا الاعتقاد. «داعش» أطلق على ساجدة في بداية المفاوضات على مصير الكساسبة اسم «أم المسلمين»، وهذا على سبيل تسمين الطريدة، وهو فاجأ العالم بإحراق من كان سيعيد إليه «أمه»، أيضاً بهدف التعجيل بقرار إعدام هذه الأم غير الحقيقية. فالقتل غير «الأوديبي» للأم يؤشر إلى أن ساجدة لم تكن يوماً «أماً»، إنما كانت مجرد شقيقة مضطربة أُرسلت للموت ولم تُقدم عليه.

المسرح الذي أعد لعملية إحراق الكساسبة وتقنيات التصوير المتقدمة تبقى مسألة أكسسوارات. الدافع للفعلة يتقدم في أهميته على وقائع تظهيرها. «داعش» في هذه اللحظة هو الفرع «الزرقاوي» من عشيرة الريشاوي، ولهذه ثأر قديم مع الأردن. المملكة كان لها دور في قتل الزرقاوي، والأخير هو «أب» العائلة وأب «داعش». ليس «حزب البعث» الذي في وجدان «داعش» هو من فعلها على ما حاول «سلفيون جهاديون» قوله في محاولة لنسبة همجية الفعلة إلى غير «شرعيي داعش»، وليس البعد «الهوليودي» الذي دأب التنظيم على تظهيره من خلال أفلام أعدها وبثها عبر «يوتيوب»، هو من فعلها أيضاً. ربما تكون قد أوكلت لهؤلاء مهمة ترتيب المسرح. فالإحراق فعلة تتصل بثأر غير جماعي، يتولى فيها الحارق غسل عار يُغلف النفس المريضة أصلاً، ويسعى من خلاله إلى اجتثاث أثره عبر «إفناء» جثة ضحيته، وهذا الطقس لا يكتمل من دون رماد)[22].

من الذي اسقط طائرة (معاذ)؟

أثيرت تساؤلات عديدة عن السبب الحقيقي وراء سقوط طائرة الطيار الاردني(معاذ الكساسبة)، لأن الطائرة التي كان يقودها وهي من طراز (F-16) تعد من الجيل المتطور من سلاح الطيران الامريكي الذي لا يهزم بسهولة، وقد قدمت قناة العربية تقريرا يتحدث عن قدرات هذه الطائرة جاء فيه: (تتميز طائرة F-16 بتعدد الأدوار والمهام وبقدرات قتالية عالية خلال ظروف جوية مختلفة... ومزودة باسلحة ونظام حماية الكتروني قادران على حماية الطائرة من أنظمة التشويش والصواريخ الموجهة والحرارية.

لكي تسقط هذه الطائرة لا بد من توافر مجموعة عوامل، أبرزها وجود رادارات لدى المتطرفين قادرة على اكتشافها أولا، ومنظومة أخرى للتشويش على انظمة الطائرة الالكترونية والدفاعية، بالاضافة الى صاروخ متطور مضاد للطائرات يستطيع التغلب على سرعة الطائرة وأنظمتها الدفاعية.

وبرأي خبراء عسكريين، هذه العوامل جميعها غير متوفر لدى المتطرفين رغم سيطرتهم على بعض الأسلحة المضادة للطائرات من مواقع الجيش العراقي وقوات الأسد، وان ثبت فعلا أن المتطرفين اسقطوا فعلا الطائرة الأردنية بصاروخ فهذا يعني حصولهم على صواريخ متطورة وكذلك على أنظمة تشويش، هذه المنظومة قد تكون قريبة من صواريخ (S-300) التي تضاربت المعلومات في الآونة الأخيرة حول رغبة موسكو بارسالها الى نظام الاسد، وهذا كله قد يؤدي الى خلط الاوراق مجددا ورفع وتيرة التوتر لدى التحالف الدولي بشأن الموقف والتكتيكات العسكرية الملائمة في سوريا ضد داعش)[23].

وإذا كان الأمر كما تقوله قناة (العربية) فهل يعقل أن يتمكن المتطرفون من إسقاط طائرة متطورة كهذه بمجرد صاروخ حراري بسيط كما هو المعلن؟

أما الشكوك التي تحاول العربية اثارتها من احتمالية استيلاء (داعش) على صواريخ (S-300) الروسية فائقة التطور فهو احتمال ضعيف جدا، لأنه لم يقم دليل لحد الآن على امتلاك بشار الاسد لمثل هذه الأسلحة، وهو أمر لم يكن ليخفيه النظام السوري لأنه يظهره بموقف القوي أمام أعدائه الغربيين.  

ومما يزيد الأمر غموضا حول الاسباب الحقيقة لسقوط طائرة (معاذ)، هو ظهور والد الطيار الأردني (صافي الكساسبة) على شاشة التلفزيون في تسجيل تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي، صرح فيه بأن ابنه قد تعرض لخيانة، وان طائرته أسقطت من بنيران الطيارة الإماراتية المشاركة في طيران التحالف (مريم المنصوري) [24]، التي أظهرها الإعلام الإماراتي بصورة البطلة التي تمثل دولة الامارات في حربها ضد تنظيم (داعش).

ان تصريح والد الطيار الاردني هذا قد جاء اثر اعلان الامارات عن ايقافها لعمليات الطيران الحربي الذي تنخرط به في صفوف التحالف الدولي لضرب (داعش)، وطبيعة الطرح المفاجئ الذي تقدم به والد الطيار ينبئ عن ان هنالك ايادٍ خفية دفعته الى مثل هذا التصريح، وإلا فمن أين لوالد الطيار دلائل تشير الى ان طيران الامارات هو من قام بعملية الخيانة؟ ولماذا انتخب (مريم المنصوري) بالذات من بين كل الطيارين الاماراتيين؟!

ان هذا التصريح يحمل من المعاني الدرامية اكثر من الواقعية الشيء الكثير، فربما اقدمت الدولة الاردنية على دفع والد الطيار – الذي يلاقي تعاطفا شعبيا لمصيبته بولده- لاتهام الامارات بهذه الخيانة، الامر الذي يشكل ورقة ضغط على الامارات لتعدل عن موقفها وتعود الى صفوف التحالف الدولي لتبعد الشبهات عنها في دعوى الخيانة.

وبالفعل، فقد عادت الامارات الى استئناف طيرانها الحربي بعد تعليقه لفترة وجيزة، إذ (اكدت دولة الامارات المتحدة... ان طيرانها الحربي استأنف من جديد غاراته ضد مواقع تنظيم داعش. وقال متحدث باسم قيادة القوات المسلحة الإماراتية الثلاثاء ان "سرب من طائرات F-16 الموجودة في الأردن بدأت غارات على مواقع لتنظيم داعش وأصابت أهدافه، ثم عادت سالمة إلى قاعدتها")[25].

ان تعليق الإمارات لطيرانها الحربي يشكل إحراجا كبيرا للأردن، إذ ينذر بخطر انفراط عقد التحالف العربي مع الولايات المتحدة في ضرب مواقع (داعش) الامر الذي يبقي الاردن وحيدة ضمن هذا التحالف، فيضعها في موقف عسير تجاه التزامها بالانتقام من (داعش) والاستمرار بالتزامها بالعمل تحت قيادة الولايات المتحدة الامريكية.

وان من حق الاردن ان يؤرقها ايقاف الامارات لطيرانها، فقد تواردت انباء تدل على ان هنالك دولا عربية اخرى تفكر فعلا في تعليق طيرانها على نهج الامارات، فقد (انتشرت أنباء عن توقيف المغرب مشاركته في ضربات التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“، وذلك بعد مقتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي عمل التنظيم على حرقه بطريقة بشعة. ولم يتم الإعلان عن هذا بشكل رسمي، مثلما لم يتم الإعلان من قبل عن مشاركة الرباط في ضربات التحالف.

وأفاد موقع “اليوم 24″ المغربي نقلًا عن مصادر لم يسمها أن قرار المغرب قد يكون اتخذ بتنسيق مع الإمارات التي سربت صحافتها في وقت سابق خبر مشاركة المغرب في الضربات ضد “داعش“، وهو ما أكده الطيار الأردني معاذ الكساسبة بعد أسره من قبل “داعش“، حيث ذكر خبر المشاركة الفعلية لطائرات F16 المغربية، في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”)[26].

تجدر الاشارة الى ان السبب المعلن حول تعليق الامارات لطيارنها يتعلق بخشيتها على سلامة طياريها بعد أسر داعش للطيار الأردني وحرقه حيا، وقد (اعترف مسؤول أمريكي لموقع “سي إن إن” أنّ الإمارات العربية المتحدة علّقت بالفعل مشاركتها في غارات التحالف على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” منذ ديسمبر الماضي بسبب “مخاوف تتعلق بخطط إنقاذ الطيارين في حال الحاجة لذلك“.

وأضافت “نيويورك تايمز”، نقلا عن هؤلاء المسؤولين الأمريكان الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم،  أن الإمارات طالبت وزارة الدفاع الأمريكية بتحسين عمليات البحث والإنقاذ في شمال العراق، بالقرب من أرض المعركة، في حال سقوط طيارين آخرين.

وبحسب المسؤولين الأمريكان في التقرير الذي نشرته الصحيفة بعنوان: (الإمارات حليف أمريكا الرئيس في مكافحة داعش علقت مشاركتها الجوية منذ ديسمبر): “قالت الإمارات إن طياريها لن ينضموا مجددًا للعمليات ضد داعش ما لم يتم استخدام طائرة “في 22 أوسبري” التي تعد أول طائرة تعمل بتقنية المراوح القابلة لتغيير الاتجاه، إذ تجمع بين القدرة على الهبوط العمودي مثل طائرات الهليكوبتر، وسرعة التحليق العالية، اللذين يميزان الطائرات ثابتة الجناح، بهدف سرعة إنقاذ أي طيار يسقط بطائرته“.

وبحسب التسريبات، ناقش مسؤولون إماراتيون نظراءهم الأمريكيين حول ما إذا كانت فرق الإنقاذ كانت ستكون قادرة على الوصول للكساسبة إذا كان هناك متسع من الوقت لذلك، ولكنّ مسؤولًا عسكريًا أمريكيًا برر للإمارات سرعة سقوط الكساسبة في أيدي داعش بقوله: “إن مسلحي داعش أسروا الكساسبة بعد دقائق وجيزة من سقوط طائرته، ولم يكن أمامنا أي وقت للتدخل“.

وفي تبادل صريح للاتهامات بين وزير الخارجية الشيخ «عبد الله بن زايد» والسفيرة الأمريكية الجديدة في الإمارات «باربرا  لييف» سأل «بن زايد» السفيرة عن أسباب عدم نشر الولايات المتحدة إمكانيات مناسبة في شمال العراق من أجل إنقاذ الطيارين الذين تسقط طائراتهم؛ بحسب مسؤول بارز في الإدارة الأمريكية.

وقالوا إن الإمارات “أخطرت القيادة المركزية الأمريكية بعد ذلك بتعليق غاراتها الجوية، بعد أسر الكساسبة، عندما سقطت طائرته بالقرب من الرقة بسوريا“....

وكانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة تنضم إلى التحالف في سبتمبر، وحتى من قبل أن تقوم واشنطن بتجنيد أعضاء دول الناتو في قمة ويلز العام الماضي. وأصدر سفير الإمارات في واشنطن «يوسف العتيبة» بيانًا أعلن فيه استعداد بلاده الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب على «داعش».

وأصر الرئيس «باراك أوباما» على أن الولايات المتحدة لن تحارب «الدولة الإسلامية» دون دعم من الدول السنّية، ويحرص المتحدث باسم البيت الأبيض دائمًا على تقديم التحالف على أنه يضم دولًا عربية وإسلامية معتدلة.

ومن غير الواضح فعلًا السبب الذي منع الولايات المتحدة من وضع فرق بحث وتفتيش في شمال العراق، ولكن بعد بث تنظيم «الدولة الإسلامية» لشريط فيديو يظهر إعدام الطيار الأردني بحرقه حيًا، طلب الرئيس الأمريكي من وكالات الأمن القومي والاستخبارات تكريس الجهود والمصادر من أجل تحديد وإنقاذ بقية الرهائن الذين يُعتقد أن الدولة لا تزال تحتجزهم لديها)[27].

من جانب آخر، تشير اصابع الاتهام الى ان اسقاط طائرة معاذ واحراقه قد تم بمؤامرة صاغها ملك الاردن نفسه لاهداف خاصة، وثقها الكاتب محمود عبد اللطيف في مقال له جاء فيه:

(إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً أشغل العالم العربي في منهجية الحدث، ومن ثم طريقة التعاطي الأردني مع عملية الإعدام، والتي بدأها الأردن بجملة من القرارات التي كان من ضمنها تعيين والد الطيار الكساسبة رئيس لمجلس العشائر في الكرك، والتي من أولوياتها الطلعات الجوية الأردنية لضرب داعش في سوريا و العراق، على إن الغاية لم تكن ضرب التنظيم و الثأر لمعاذ الكساسبة، و إنما كانت لتبرير استمرارية الملك وانصياعه لرغبة الولايات المتحدة الأمريكية بعدم المفاوضة على حياة الطيار والاستجابة لمطالب داعش، والغاية كانت هي الوصول إلى إعدام الكساسبة ولم تكن الطريقة المعدم بها الضحية الأردني إلا لإشعال نيران الحقد والثأر لدى الأردنيين لتأييد ملكهم في محاربة التنظيم ضمن قوام قوات التحالف الأمريكي.

الملك الأردني راح نحو تصوير نفسه على إنه بطل للأردنيين، وأعلن إنه سيشارك بذاته في الطلعات الجوية، ومن ثم يأتي الإعلان عن قتل نحو (3000) عنصر من داعش بعد عملية إعدام الكساسبة بطلعات جوية أردنية، و من بعد ذلك يعلن سلاح الجو الأردني أن الهدف القادم له هو "أبو بكر البغدادي"، إضافة إلى اتهام الطيارة الإماراتية "مريم المنصوري" بتعمد إسقاط طائرة الكساسبة، وهي ذات التهمة التي وجهت إلى الطيار الأردني "صدام مارديني"، ومن بعد ذلك تقرأ الأخبار الواردة من سوريا بشكل فعلي، ففي اليوم الأول لغارات الأردن بعد إعدام طياره، استهدفت مقاتلات الأردن منطقة الشدادي وقصفت منطقة حقول النفط فيها مما تسبب بمقل 9 مدنيين، ومن بين قتلى تلك الغارات أيضاً رهينة أمريكية الجنسية، ولم تعلق واشنطن فالملك يمهد لما هو أخطر، وهو الإعلان عن الاشتراك بعملية برية مع القوات الأمريكية في العراق ضد التنظيم، ولربما سيكون قوام هذه القوات كلها من الجيش العراقي وبعض المقاتلين الأردنيين، ليكون للأمريكيين القيادة والفخر بالنصر الذي تنوي قوات التحالف سرقته من قوات الحشد الشعبي في العراق، والتي يقود عملياتها - كما تقول وسائل الإعلام الأمريكية - العميد قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، بما إن الملك الأردني رفع سقف طموحاته بتحويل نفسه من شخصية كرتونية تقود دولة عربية إلى ملك حقيقي لمملكة أهلها يمتازون بالطيبة وهي ذات الطيبة التي ما زالت تحافظ على ملك الهاشميين في الأردن.

فالملك الذي ما زال لسانه العربي ثقيلاً برغم سنوات الحكم الطويلة التي أعادته من بريطانيا إلى الأردن بعد وفاة أبيه، ما زال يحافظ على العلاقة الحميمية مع الكيان الإسرائيلي، وقد يقال إن الكيان الإسرائيلي خارج صورة محاربة تنظيم داعش، لكن الحقيقة التي أثبتتها الوثائق التي سربها العميل السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكي إدوارد سنودن، تثبت أن تنظيم داعش هو من نتاج تلاقي جهود المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية، كما إن القوات الإسرائيلية تشارك وبشكل علني ومباشر بدعم التنظيمات الإرهابية في منطقة الجنوب السوري وتتمثل هذه التنظيمات بجبهة النصرة المشكلة أساساً من قوام معظمه من الأردنيين في منطقة الجولان السوري المحتل، وهذا ما يعد تصدير مباشر من الحكومة الأردنية بالتعاون مع إسرائيل للإرهاب إلى سوريا، فكيف للملك أن يدعي محاربة الإرهاب؟

من باب أولى بـ "جلالة الملك المعظم" أن يتجه إلى إغلاق غرف العمليات ومعسكرات التدريب في شمال الأردن ويعمل بشكل جدي على قطع طرق الإمداد الرابطة بين جنوب سوريا والأراضي الأردنية، وهذا الامر لا يحتاج إلا إلى قرار وطني أردني يحمل الجدية بأن يكون الملك ملكاً، لا ألعوبة بيد الامريكيين في محاولاتهم لإسقاط محور المقاومة من خلال تقسيم سوريا والعراق بحجة محاربة تنظيم داعش، وبدلاً من تصدير الأعمال البطولية للشعب فليقم الملك الجواد بإخراج المساعدات التي قدمت للمملكة الأردنية مقابل مواقفها السياسية من خزينة البنك المركزي الأردني وليعمل على التنمية ومحاربة البطالة، وبدلاً من استقدام الإرهاب وتدريبه قبل إرساله إلى سوريا، فليعمل بشكل جدي على قمع هذه الظاهرة وسيكون بعدها أحد أبطال القومية العربية بحق، لكن السؤال الذي يجيب على كل هذا التباطؤ الأردني في التوجه الحقيقة نحو العروبة يأتي من استمرارية وجود الأسرة الهاشمية في الحكم وبعيداً عن الربيع العربي وحاله في ذلك حال الكيانات الخليجية.

في المحصلة إن قتل البغدادي على يد التحالف الأمريكي أم لم يقتل، هل ستبرد جراحات قلوب كل الأمهات اللواتي قتل التنظيم أبنائهن، وهل سيكتفي الملك الأردني وسواه من الكيانات الخليجية من الدم العربي قرابيناً لبقاء حكمهم، وهل سيطول الحال بـ "العرب" في حالة تشرذم يغذيها الملك و أمثاله؟. أسئلة لا يجاب عليها لأن المواطن العربي في كل الدول العربية تعب من علاقة التبعية التي تربط معظم الدول العربية بأمريكا و إسرائيل)[28].

وأخيرا، يبقى سبب سقوط طائرة (معاذ) لغزا محيراً، ينبئ عن أن حياكة المؤامرات أمر وارد جدا في ظروف الفوضى التي خلقتها سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وبخاصة في دعمها القوي لما يسمى بالمعارضة السورية لاسقاط نظام بشار الأسد، التي انتشر شرها على مساحة واسعة في المنطقة خلال وقت قياسي مذهل.

 أزمة (داعش) واستقطاب الشباب

على خلاف ما أظهره فيلم حرق (الكساسبة) من قوة وهيبة لداعش، يمكن اعتبار ان الوحشية التي اظهرها التنظيم في الفيلم مؤشر قوي على اصابته بأزمة حقيقية، تتمثل بتراجعه الميداني في العديد من المحاور التي كان يحكم قبضته عليها، لذا فان من (الواضح أنّ اختيار القتل حرقاً جاء سعياً إلى إحداث صدمة نفسيّة تعيدُ له بعض «الهيبة» الضائعة. ومع الأخذ في الاعتبار تأكيدات المصادر الأردنيّة الرسميّة، وبعض المصادر «الجهاديّة» أنّ إعدام الكساسبة حصل قبل نحو شهر من الآن، غيرَ أن تأخير بث الشريط «حتى اللحظة المناسبة» يُقدم إثباتاً جديداً على أن «الاستراتيجيات الداعشيّة» تتجاوز المعهودَ عن التنظيمات «الجهاديّة» التي خرج من رحمها.

ومن المُسلّم به أن توقيت بث الشريط الذي سُمي «شفاء الصدور» بالتزامن مع الانكفاءات المتتالية للتنظيم في سوريا والعراق يعكس استشعار «داعش» خللاً كبيراً في «توازن الرعب»، الذي كان له أثرٌ وازنٌ في بعض معارك التنظيم، كما في اجتذاب المزيد من المقاتلين)[29].

(ويضيف الخبير العراقي (جاسم محمد) أن الخسائر التي حققها التنظيم في الآونة الأخيرة وأصبح يبدو معها متراجعا على الأرض، تعتبر أيضا من بين الأسباب التي جعلت (داعش) يصور قتل الكساسبة بهذه البشاعة في إطار فني متقن يشبه الطرق الهوليودية: "جغرافيا خسر التنظيم كثيرا مؤخرا وخصوصا في العراق حوض حمرين ومناطق في الأنبار وأطراف الموصل ثم كوباني... كما أن قدرته على التنقل والحركة تقيدت، وميدانيا يخسر أيضا، فقد انشق كثيرون من صفوفه ونفذ إعدامات ببعض من حاولوا الهروب. كل هذا يدفع داعش إلى زيادة الوحشية لإظهار أن التنظيم مازال قويا"... كما يرى (محمد) أن التنظيم يعي أنه كلما ازداد وحشية كلما استقطب الشباب، لأنه يروج عبر ذلك إلى أنه يتحدى الغرب ومازال قويا وهذه سابقة")[30]

وقد اكد ذلك (الخبير في التواصل والارهاب آريجي انتينوري، فإن استخدام الافلام هي “للتأثير بعمق وتحفيز الشباب المهمش او الذي همش نفسه من الغربيين، تم استخدام افلام الفيديو. انها تدفع بهم للتصرف من خلال الحديث عن عالم من الفتوحات وفرسان مع سيوف ومحاربين مثل الأسود”)[31].

وفي هذا الصدد تؤكد الكاتبة (سارة مطر): (فوجئت حينما تصفَّحت «هاشتاقاً» خاصاً بحرق الكساسبة على «تويتر»، رأيت أن هناك عدداً لا يمكن لنا إغفاله أو الاستهانة به من الشباب السعودي الذين يباركون هذا المجد وهذا الانتصار، ولو كنت في مكان الحكومة السعودية، لأمرت وعلى الفور بتتبع مثل هذه الحسابات؛ لأنها تنبئ عن خطر محتمل. هذه العقول ما هي إلا قنابل موقوتة قابلة للانفجار، ويجب على الحكومة سرعة إبطالها، وهنا لمست حقيقة ما كان يتطلع إليه الملك عبد الله بن عبدالعزيز -رحمه الله- حينما قرر فتح الابتعاث الدراسي على مصراعيه إلى الخارج، حتى تُعطى مثل هذه العقول الشابة فرصة كبيرة لرؤية أكثر وضوحاً نحو العالم الآخر وعبر منظور مختلف، فمعظم المتعاطفين مع ما قام به «داعش» وما سيقوم به لاحقاً، هم -غالباً-، كما شاهدت من حساباتهم، يعيشون بيننا وفي وسط أحياء وضواحي الوطن، إذاً الخطر يكمن في كل مكان.

والعقول التي بدأت تؤمن بأن الحرق والنحر الوسيلة الأفضل لأخذ الحق والثأر لحقوق المسلمين المضطهدين -من وجهة نظرهم- بالطبع، لو تتبعت سيرة أحدهم لربما -وهذا أمر وارد- تجد أن معظمهم بعيد جداً، عن الضوابط والتشريعات التي فرضها الإسلام على الفرد، لكنه يتفق بإرادته مع الأسلوب الوحشي للأعمال الإجرامية لتنظيم داعش.

ويتضح من تفاعل الشباب وتعاطفهم مع هذا التنظيم، أنهم يملكون فكراً فيه الكثير من اللبس في المعتقدات والقيم، الذي يجعل بعضهم يشعر بأن ما يقوم به «داعش» هو انتصار، وبأنه قادر على أن يخيف أميركا، فهم -للأسف- لا يزالون يحملون فكر «صدام حسين» الأثري، والذي أعتقد بأنه بعنجهيته أقوى من كل الدول الكبرى، وجر وطنه بتفكيره الأرعن نحو خيبات متتالية، لم يجنِ العراق منها سوى الفقر والدمار)[32].

خلاصة.. الاسباب والنتائج للحادثة:

بعد هذه الجولة السريعة في ذكر حادثة إحراق الطيار الاردني وتداعياتها، يمكن ان نلخص الأسباب التي تقف وراء إقدام (داعش) التي شكلت صدمة كبيرة للرأي العام العالمي بالنقاط الآتية:

1-   محاولة (داعش) كف طيران التحالف عن مواصلة قصفه، مما يدل على أن التنظيم قد تضرر منه بدرجة كبيرة، وان كان قصف الطيران لا يمثل في السبب الرئيس لتراجعه على الارض، لأن الجهد العسكري البري هو ما يحسم النتائج على الارض، وذلك بشهادة العديد من الخبراء العسكريين، ومنهم القادة الغربيين.

2-   محاولة تنظيم (داعش) ابقاء نفسه في صورة القوي الذي لا يقهر، وهو يستغل الاعلام اساسا لتحقيق هذه الغاية، من خلال انتاج مشاهد مروعة ضمن انتاج اعلامي فائق الجودة سريع الانتشار.

3-   من خلال صفقة تبادل الاسرى الفاشلة التي اثارها (داعش)، حاول التنظيم اثارة الشعب الاردني ضد نظامه الحاكم بتحميله أسباب فشل الصفقة، وفي الوقت نفسه دفع النظام الاردني الى التخلص السريع من (ساجدة الريشاوي) التي خذلت (داعش) في عملية تفجير عمان عام 2005 حينما كان (الزرقاوي) يقود التنظيم، هذا فضلا عن أن (داعش) قد سجل لنفسه نقطة قوة حينما اظهر نفسه كدولة تتفاوض مع دولتين كبيرتين هما (اليابان والاردن).

4-   رفع وتيرة الترهيب الجماعي بطريقة جديدة بعد ان صبح قطع الرؤوس مألوفا، وهو امر يتميز التنظيم باتباعه منذ ايام (الزرقاوي)، لذا لا ريب ان التنظيم قد يبتدع اساليب جديدة في القتل في المراحل المقبلة، حفاظا على متابعته من قبل الرأي العام وعدم دخوله في خط النمطية واندثار الذكر.

5-   لا ريب ان قوة الانتاج السينمائي لتنظيم (داعش) سيكون له تأثير واسع النطاق في جذب المزيد من المتطوعين الشباب الى صفوفه من الذين تستهويهم حياة المغامرة والسلوك غير المنضبط وممارسة العنف أو التطرف في الاعتقاد الديني.

وعلى صعيد آخر يمكن الاشارة الى نقاط مهمة تتعلق بمجابهة مثل هذه الانشطة الاعلامية المعادية التي يقوم بها (داعش) مستقبلا، ومنها:

1-   عدم تداول هذه الافلام - ولو لغرض ذم الجهات المتطرفة - لكي لا تتحقق الغايات التي يريدها المتطرفون من انتاج هذه الافلام، فضلا عن توعية الرأي العام بضرورة عدم توسيع نطاق بث هذه المقاطع لغرض تحجيم نشرها.

2-   المساهمة الواعية في فضح الغايات المغرضة التي تقف وراء صناعة (داعش) لهذه الافلام، والتركيز على كشف نقاط الضعف التي دعت هذا التنظيم الى اللجوء لمثل هذه الانتاجات الاعلامية.

3-   ضرورة الحفاظ على نمط التسخيف الاعلامي (الكوميديا) في تناول انتاجات (داعش) الاعلامية وغيرها، فان الاستهزاء من اكثر الاسلحة الاعلامية فتكا وتفت في عضد الجهات المعادية وتقلل من اهمية انجازاتها، فضلا عن سرعة انتشار الكوميديا بين الجماهير.

4-   الاهتمام بدعم الجهد الاعلامي المضاد لداعش بأقوى الامكانيات والموارد المالية والبشرية، لأن الحرب مع (داعش) قد تحولت اليوم الى حرب اعلامية بالدرجة الاساس، وفيلم احراق (معاذ الكساسبة) من اقوى الادلة على ذلك.

---------------------------------------------------

[1] (صحيفة الرياض) تحت عنوان (العاهل الأردني قطع زيارته للولايات المتحدة.. إدانة دولية للجريمة النكراء.. حكم الإعدام لساجدة) نشر بتاريخ 4/2/2015

[2] الجزيرة نت تحت عنوان (قيادي بتنظيم الدولة يبرر إحراق الكساسبة) نشر بتاريخ 6/2/2015

[3] CNN بالعربية تحت عنوان(جدل فقهي بعد استعانة داعش بفتوى لابن تيمية لتبرير إحراق الكساسبة...) نشر بتاريخ 4/2/2015

[4] CNN بالعربية تحت عنوان (رد دار الإفتاء المصرية على فتوى "داعش" لتبرير إحراق الكساسبة) نشر بتاريخ 4/2/215

[5] موقع الدرر الشامية تحت عنوان (ردّ خطيب الحرم المكيّ على إحراق "الكساسبة") نشر بتاريخ 15/2/2015

[6] صحيفة المصري اليوم تحت عنوان(داعش يعزل أحد مسؤوليه الشرعيين لاحتجاجه على حرق «الكساسبة») نشر بتاريخ 7/2/2015.

[7] (هوليود) هي مدينة لانتاج الافلام السينمائية الاشهر في العالم، ومقرها في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الامريكية

[8] (بروفيشنال) تعني: في اعلى معايير الجودة من حيث الانتاج

[9] صحيفة الشرق تحت عنوان (خبراء مذهولين من تقنيات "فيديو" حرق الكساسبة) نشر بتاريخ 4/2/2015

[10] فوتوشوب: برنامج حاسوبي لتعديل الصور أو التلاعب بها.

[11] موقع اعلام تحت عنوان (مفتي ومونتير يدعمان سيناريو “فبركة” حرق الكساسبة) نشر بتاريخ 4/2/2015

[12] موقع فيتو تحت عنوان («داعش» يفجر مفاجأة جديدة في حرق «الكساسبة») نشر بتاريخ 10/2/2015

[13] الغرافيكس: مؤثرات بصرية غير موجودة في اصل الصورة التي تلتقطها الكاميرا، وانما تضاف بوساطة البرامج الحاسوبية لاحداث المزيد من الاثارة والدهشة ولفت الانتباه.

[14] موقع ايلاف تحت عنوان (فيلم إحراق الكساسبة غير ملفّق) نشر بتاريخ 5/2/2015

[15] صحيفة النهار الالكترونية تحت عنوان (حقيقة "الخدع" الاخراجية في فيديو حرق معاذ الكساسبة) نشر بتاريخ 7/2/2015

[16] وكالة نيوز تحت عنوان (من هو «سرايفا».. مخرج أفلام داعش الهوليودية ؟) نشر بتاريخ 4/2/2015

[17] الجزيرة نت بعنوان (ترقب ياباني أردني لمصير الرهينتين لدى تنظيم الدولة) نشر بتاريخ 28/1/2015

[18] بعد اعلان داعش رسميا عن احراق الطيار الاردني بتاريخ 3/2/2015، صرحت الحكومة الاردنية ان داعش قد اقدمت على احراقه قبل شهر في الحقيقة، أي بتاريخ 3/1/2015  

[19] يبدو ان هذا الادعاء غير تام، اذ ان تنظيم داعش لا يمتنع عن ذبح رهائنه غير المقاتلين، واحدث شاهد على ذلك ذبحه لواحد وعشرين مدنيا من الاقباط المصريين العزّل، والحقيقة هي ان نجاح عملية انقاذ الرهائن الاتراك يعتمد بالدرجة الاساس على كون تركيا جهة داعمة للتنظيم منذ نشوئه ولحد الآن، الى درجة انها لا تزال تمتنع عن الانخراط في التحالف الدولي لقصف داعش على الرغم من انها عضو مهم من اعضاء حلف شمالي الاطلسي(الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.

[20] موقع الدرر الشامية بعنوان(لماذا فشل الأردن في مفاوضات "الكساسبة" ونجح "أردوغان" في إطلاق مُختَطَفِيه؟) نشر بتاريخ 13/2/2015

[21] موقع رصد تحت عنوان (سياسيون أردنيون يحملون حكومتهم المسئولية عن حرق "الكساسبة") نشر بتاريخ 3/2/2015

[22] صحيفة الحياة اللندنية تحت عنوان( من احرق معاذ الكساسبة؟) نشر بتاريخ 8/2/2015

[23] تقرير اخباري مصور لقناة العربية من اعداد مصطفى الخطيب بثته بتاريخ 3/2/2015 

[24] تسجيل فيديوي نشره موقع (اتفرج) تحت عنوان (والد معاذ الكساسبة يكشف هوية من أسقط طائرة ابنه في قبضة "داعش") نشر بتاريخ 6/2/2015

[25] موقع NRT تحت عنوان (الامارات تستأنف غاراتها ضد تنظيم داعش) نشر بتاريخ 21/2/2015

[26] موقع التقرير تحت عنوان(هل حققت داعش هدفها من حرق الكساسبة؟) نشر بتاريخ 6/2/2015

[27] موقع التقرير تحت عنوان (بعد انسحاب طائرات الإمارات من التحالف.. هل حققت داعش هدفها من حرق الكساسبة؟) نشر بتاريخ 6/2/2015

[28] موقع عربي برس تحت عنوان (بعد إحراق الكساسبة.. هل صدق الملك الأردني إنه ملكا؟) نشر بتاريخ 9/2/2015

[29] موقع الاخبار تحت عنوان(«داعش» يسعى إلى إنقاذ «توازن الرعب») نشر بتاريخ 4/2/2015

[30] موقع DW  تحت عنوان (حرق الكساسبة: وحشية "داعش" تتصاعد- فما الرسالة؟) نشر بتاريخ 4/2/2015

[31] قناة يورونيوز الاوربية بعنوان(جريمة حرق الطيار الكساسبة، خلفياتها وماذا اراد منها “تنظيم الدولة الاسلامية”) نشر بتاريخ 6/2/2015

[32] صحيفة الحياة اللندنية بعنوان (لماذا بارك بعضهم حرق الكساسبة) نشر بتاريخ 10/2/2015

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف