أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ما بعديات الغرب معضلة إنتاج المفاهيم في الحضارة الغربية المعاصرة

ما بعديات الغرب معضلة إنتاج المفاهيم في الحضارة الغربية المعاصرة

تأليف : 

مجموعة باحثين 

تقديم وتحرير : 

د. محمود حيدر 

 

فهرس المحتويات 

ما بعد الحداثة؛ الغرب في تشظّيه وعدميّته المفتوحة  /  محمود حيدر

ما بعد العلمويّة؛ نقد مزاعم العلم الكبرى وبيان تهافتها / بهاء درويش

ما بعد البنيويّة؛ مقاربة تحليليّة نقديّة للمفهوم والمسار / غيضان السيِّد علي 

ما بعد البنيويّة؛ البحث عن المعنى الضائع في الحضارة الغربيّة الحديثة / ليزا سعيد أبو زيد

ما بعد الكانطيّة الجديدة؛ دراسة توثيقيّة لمعالمها وخصائصها / حميد لشهب 

ما بعد الأخلاق ... ما بعد الفضيلة؛ الغرب في عدميّته ونفعيّته وأنانيّته المفرطة / نورة بوحناش

ما بعد العلمانيّة؛ تحليل تاريخيّة المفهوم ونقده / محمود حيدر

ما بعد أميركا؛ نقد الأطروحة الأميركيّة من خلال كتاب فريد زكريا / حسين پور أحمدى ميبدي/ أمير عباسي خوشكار

ما بعد الاستعمار؛ مفهوم مستحدث بخدمة علم الاستغراب / جميل حمداوي

ما بعد الغرب؛ تداعيات الديمقراطيّة الرأسماليّة وتهافتها في العالم الغربي / أوليفر ستونكل

ما بعد الإيديولوجيا / مايكل فريدن

مجتمعات ما بعد الإيديولوجيا؛ ديناميات النزاع والسيطرة / جون شوارزمانتل

 

 

مقدِّمة المركز

يبدو أنَّ القارىء المتفحّص في تاريخ الغرب وبنيان حضارته وأسسه الفكريّة والفلسفيّة لن يجد ذلك الفرق الجوهري والكبير بين العصر القديم وبين العُصُور الوسطى (القُرُونُ الوسطى)، أو بينه وبين العصر الحديث في تاريخ الغرب، فكلّها تقسيمات تقليديّة للتاريخ الغربي، تجمعها قواسم مشتركة تتمظهر في حالة الاضطراب المستمرة؛ فكريًّا وقيميًّا وإنسانيًّا واجتماعيًّا...، منذ القدم وحتى ما يسمّى بعصر النهضة.

ويعيد الكثير من الباحثين والمفكّرين السبب في ذلك إلى الغرب ذاته الذي أضحى عدوّ نفسه، بمعنى أنّه يتآكل من الداخل، ويتدهور تدريجيًّا ليهوي إلى مراحل الاحتضار الأخير للحضارة الغربيّة، وذلك حسب تعبير المفكّر الأمريكي باتريك بوكانان في كتابه: «موت الغرب»، حيث حذّر الحضارة الغربيّة من رعب كبير يزحف إلى بيوتهم وأوطانهم وقلوبهم بكلّ قسوة وضراوة، وليس بوسع أمم الغرب فعل أيّ شيء لوقف الاحتضار الأخير للحضارة الغربيّة، التي أصبحت تواجه الانقراض والفناء لصالح أمم أخرى؛ فالقرن الأمريكي الثاني يبشّر بحالة من الكآبة والخوف على المصير وضياع الهوية، وتحوّل المواطن الغربي بمرور الزمن إلى أقلية هشّة في مجتمعه الذي شهد موطئ قدم أجداده ومعاركهم وبطولاتهم.

وممّا يؤسف له -أمام هذا المشهد-! أنّنا عندما ننظر إلى الكثير من المفكّرين العرب والمسلمين، فإنّنا لا نجد وضوحًا في الرؤية والموقف، بل نجد تفاوتًا في النظرة والمنطلقات الفكريّة تجاه الفكر الغربي، فطائفة منهم تنظر نظرة إعجاب تصل أحيانًا إلى حدّ الانبهار، بل ونسبة الفضل لجهودهم العلميّة في كلّ مجالات المعرفة؛ وطائفة رافضة رفضًا مطلقًا كل ما يأتي من الغربيّين، وإن اصطبغ بالصبغة العلميّة، ويوجد طائفة ثالثة سلكت خطّ الوسط، فتعاملت بموضوعيّة مع نتاجاتهم العلميّة والتقنيّة، ووقفت موقف المتأمّل، فلم تنبهر ولم ترفض، وأخضعت نتائج هذا المفهوم لأحكام علميّة خالصة فرفضت وقبلت.

وعلى أيّ حال، نحن معنيّون بدراسة الغرب؛ مفهومًا، وتاريخًا، وأهدافًا، ومدارس، ومناهج، واتّجاهات...، وتقديم معالجات علميّة معرفيّة ونقديّة لأطروحاتهم في كلّ المجالات المعرفيّة والمنهجيّة التي طرقها الغربيّون بالبحث والنقد وإثارة الشبهات والإشكاليّات...، ليس من باب ردّة الفعل على نتاج معرفي غربي، بل من باب تصويب الأمور وتقديم تراثنا إلى الآخر كما نقرأه ونفهمه نحن، لا كما يؤوله ويراه غيرنا من المستشرقين وغيرهم، وهذا من الحقوق الطبيعيّة لأهل التراث أنفسهم. وهو ما يتطلّب إجراء عمليّة بحثيّة مركّزة في فحص المباني والنظريّات والمناهج...، وبيان مواطن ضعفها وعثراتها وثغراتها، وتسليط الضوء على تناقضاتها الداخليّة وتهافتها وعدم تماسكها، وضعف انسجام أفكارها، وإبراز النتائج غير المنسجمة مع المقدِّمات فيها، ولوازمها الفاسدة، والآثار السلبيّة التي تترتّب عليها. وبيان سلبيّات أفعالهم المتعارضة مع القيم والأخلاق الإنسانيّة، خصوصًا في الأبحاث التاريخيّة وتلك المرتبطة بتاريخ الحروب؛ وذلك بهدف كشف همجيّة الغرب وتوحّشه وماديّته.

يتناول هذا الكتاب الذي شارك فيه جمعٌ من الباحثين والمفكِّرين بالعرض والتحليل والنقد طائفة من المفاهيم الأساسيّة ذات الصلة بالمابعديّات التي شغلت تفكير الغرب ولمّا تزل على امتداد قرن مضى.

ولقد اخترنا لهذه الغاية اثني عشر مفهومًا جاءت بحسب ترتيب الكتاب على الوجه التالي: ما بعد الحداثة - ما بعد العلمويّة - ما بعد البنيويّة - ما بعد التقنيّة - ما بعد الكانطيّة الجديدة - ما بعد الأخلاق أو ما بعد الفضيلة - ما بعد العلمانيّة - ما بعد أميركا - ما بعد الاستعمار - ما بعد الغرب - ما بعد الإيديولوجيا ومجتمعات ما بعد الإيديولوجيا. ولا يسعنا إلّا أن نوجّه الشكر والتقدير لجميع الباحثين المشاركين في هذا العمل، ولا سيّما من أعدّه وحرّره الدكتور محمود حيدر.

 

 

مقدمة التحرير

المابعديّات؛ من الانسداد المعرفي إلى دوَّامة المفاهيم

شهدت الثقافة الغربيّة على مدى قرون من أحقاب الحداثة سيلًا هائلًا من المصطلحات والمفاهيم عكستها الحقول المختلفة من العلوم الإنسانيّة. ومن الواضح أنّ معظم المفاهيم، بل ربّما كلها، جرى اختبارها وإخضاعها للنقد والتجاوز في التجربة التاريخيّة للحضارة الغربيّة الحديثة؛ لهذا سنلاحظ كيف نشأت مصطلحات ومفاهيم مستحدَثة من أبْيَنْ سماتها أنّها جاءت مسبوقة بكلمة «ما بعد» للدلالة على مجاوزاتها هذا المفهوم أو ذاك.

لقد أوشكت كلمة «ما بعد» أن تصير لازمةً مفهوميّةً تُمسك بناصية التفكير الغربي، ولا تترك له فسحة من راحة العقل. لكأنّما استحالت حضارة الغرب المعاصر، حين يجري الكلام على المابعد، ظاهرة زمانيّة، أكثر منها حقيقة واقعيّة راسخة. وإلَّا كيف نفسِّر ظاهرة الانْهِمَام المَرَضِيَّ لنُخب الغرب، وهم لا ينفكُّون عن العيش في كنف حداثتهم المتمادية باليوم التالي؟!.

لسنا نرى من إجابة محتملة على هذا التساؤل سوى ما يختزنه العقل الغربي من استعداد ذاتي لتجاوز حاضره، ولو كان نحو المجهول؛ نقول هذا لأن مُدَّعى التنظير لـ«المابعد» هو ككلّ المُدَّعيات السابقة عليه، وهو يأتي محاطًا بسيلٍ عَرِمٍ من التعريفات الرماديّة والاصطلاحات المشرعة على التأويل. واللاَّفت أن جلَّ «الما بعديّات» التي يُعكَفُ عليها نظير: ما بعد الحداثة - ما بعد الليبراليّة - ما بعد الميتافيزيقا - ما بعد الأخلاق - ما بعد العقلانيّة - ما بعد البنيويّة - ما بعد العلمانيّة - ما بعد الاستعمار- إلخ... نزلت إلى حقل التداول، وكانت أقرب إلى «تجاوزات معرفيّة» أعربت في مجملها عن الإحساس بعدم اليقين؛ وأمّا حقيقة الأمر، فقد بدا ممّا هو حاصل أنّه يتعدَّى كونه لعبة لفظيّة تفترضها غريزة الأنس بتوليد المفاهيم، بل هو تعبيرٌ عن وقائع ومعطيات كامنة في الَّلاوعي الغربي ويجري استظهارها من مجمل بنيته المفاهيميّة الحديثة.

كل ما سبق للتفكير الغربي أنْ أنتجه في حقل «المابعديّات» عَمِلَ على إحاطته بمبرِّرات منهجيّة قصد تجديد حيويته، ومنعًا لاستيطانه في الخواء. مع ذلك ظلّ هذا الحقل يشكّل لدى نخب واسعة مصدر قلق لا نفاد له، بل هو لم ينفكَّ برهة عن دفع الغرب باتجاه إعادة النظر بأصل وجوده، محمولًا على السؤال الأشد هولًا حول مآلاته الغامضة.

* * *

شكّلت مقولات «المابعد»، وبسبب جاذبيّتها الاستثنائيّة، منفسَحًا خصبًا للتنظير والتنظير المضاد بين نخب الغرب؛ وهذا راجع، في المقام الأوّل، إلى تعثُّر ظهورها كمفاهيم مكتملة الأركان. والمشكلة هنا ليست في إخفاق الفكر الغربي، أو عزوفه عن تصنيع المفاهيم والمصطلحات، فذلك ممّا يُشهدُ له في إنجازه، سواء في حقل الفلسفة والاجتماع والعلوم البحتة، فضلًا عن سائر العلوم الإنسانيّة. وأصل القضيّة واقعٌ في مورد آخر، فعبارة «المابعد» في التكوين الثقافي الغربي تقترب من كونها قضية كلِّية متصلة بالبنية الحضاريّة الغربيّة وتاريخها الأشمل... وما سَرَيانُها الآن على أرض المداولات إلّا شهودٌ على وصول هذه البنية إلى منزلة توشك أن توضع فيها الأختام النهائيّة على سجلّها الطويل...

ربمّا لهذا الداعي لا تنأى المداولات التي يشهدها النقاش حول «المابعديّات»، عن الاستفهام حول ماهيَّة الغرب نفسه، وبالتالي حول دوره ومكانته في الحضارة العالميّة. هنا يغدو السؤال بمثابة استقصاء عمّا يخفى ممّا هي عليه حقيقة الغرب، لا مجرّد استفهام عارضٍ عن ظاهرةٍ عارضة؛ ذلك لأن الغاية من أي استفهام في هذا المجال هي التعرُّف على ظاهرة حضاريّة مفارقة: أي أنّ الظاهرة الحضاريّة الغربيّة هي حضارة تتموضع في التاريخ والجغرافيا، وتتعالى فوقهما في الآن عينه.

وبسبب هذه الخاصِّيَّة الماهويَّة سينشأ «نزوعٌ أعراقيٌّ» دفع الوعي النخبوي الغربي نحو تمجيد ذاته الحضارية ورفعها إلى رتبة الحضارة المُنْجِية.

حريٌّ القول أن رؤية الغرب كما هو في الواقع التاريخي، كثيرًا ما دفعت النظَّار إلى متاخمته كمنفسَح لملحمة شبه أسطورية. من هذا النحو صار السؤال عن «ما هو الغرب»، أكثر شَبَهًا بسؤال «ما هي اليونان» قبل عشرات القرون. ومع أن لكلّ من السؤالين سِمَتُهُ الخاصّة، إلّا أنّهما يشتركان ويتقاطعان على دعوى التأسيس لتاريخ البشريّة؛ من أجل ذلك بدا الاستفهام عن ماهية الغرب ودوره الرسالي بمثابة استئناف للسؤال البَدئي والمؤسّس عن ماهية اليونان. وسيكون لهذه المعادلة الاستفهاميّة الأثر البيِّن في وصل الفلسفة الأوروبيّة الحديثة بالغذاء المعرفي الآتي من الحقل اليوناني الأوّل. هذا ما نلقاه ساريًا في أعماق ما أنجزه الروَّاد المؤسِّسون للحداثة من ديكارت إلى كانط، مرورًا بهيغل وماركس وهايدغر، وصولًا إلى سائر المتأخِّرين من فلاسفة ما بعد الحداثة. أولئك الذين عكفوا على تظهير الدلالة الأنطولوجيّة للذات الغريبة، ليؤسِّسوا على هذه الذات معيارًا للتفكير الجوهري في ماهية البشريّة المعاصرة. وهكذا سنرى كيف ترتقي الأطروحة الغربيّة إلى مصاف كونها مقوِّمًا من مقوِّمات جغرافيّة الروح على حدّ تعبير هيغل، والتي صارت تتحكّم اليوم بمصائر الإنسانيّة كلّها.

الكلّ أخذ بالحجّة نفسها، فلاسفةٌ ومفكرون وعلماء اجتماع أخذوا بثابتة لا جدال فيها، هي أنّ الغرب قام على تكوين حضاري وميتافيزيقي، أفضى إلى تفوُّق الإنسان الأوروبي على الإنسان الهندي والأفريقي، فضلًا عن سائر الأعراق... التمثيل الأعلى لمثل هذا الاعتقاد سيجد تعبيره الصارخ في اكتشاف المهاجرين الإنكليز والإسبان أميركا وتحويلها إلى أيقونةٍ يحكمون بواسطتها العالم كلَّه. غير أن ما هو مفارق في التجربة الأميركيّة أنّها قامت أساسًا على الانسلاخ عن أصلها الأوروبي والبَدءِ بأصل جديد. هذا هو السبب الذي جعل التأسيس الميتافيزيقي لأميركا مدفوعًا بعقدة الاستبراء من مصدرها الأوروبي. وهذا ما أولاه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عناية مخصوصة لمّا رأى أنّ العالم الإنكلوساكسوني للأمركة قرَّر تدمير أوروبا باعتبارها البَدْءِ الخاص للعنصر الغربي.

مع النشأة الأميركيّة الخارجة من أصلها الأوروبي والخارجة عليه في الآن عينه، تشكَّلت أوّل «ما بَعدية» كبرى في التاريخ الحديث، وهذا يعني أنّ أميركا هي «ما بعد أوروبا» بكل ما تدلُّ عليه العبارة من أبعاد تاريخيّة وثقافيّة ولاهوتيّة، غير أنّ المفارقة في هذا المنعطف من تاريخ القارّة الأوروبيّة هي أنّ «الما بعد الأميركي» الذي انفصل عن أصله ما لبث أن عاد إلى هذا الأصل من أجل أن يحتويه ويضمَّه تحت جناحيه في إطار غرب حضاري تامِّ القوام. استنادًا إلى هذه الصيرورة، أمكن لنا أن نعرف السبب الذي يجعل كل تنظير حول راهنِ الغرب ومُقبلِهِ محكومًا بالجمع اللَّاواعي بين أوروبا وأميركا بوصفهما كتلة حضارية واحدة. ومن أجل ذلك، يصير بديهيًا أن يُنظر إلى أطروحة ما بعد الغرب بوصفها قاعدة كلِّية لدراسة مآلات القارتين الأوروبيّة والأميركيّة معًا.

* * *

تبعًا لما سبق، غدا كل تنظيرٍ لاحق يتناول «ما بعديّات» التفكير الغربي محكومًا بمنهج تتآلف فيه ثلاث دوائر: زمانيّة ومعرفيّة وحضاريّة:

أوّلًا: مقتضى الدائرة الزمانيّة، يشير إلى التعامل مع تاريخ الحضارة الغربيّة الحديثة بوصفه مجموعة من الأحقاب الزمنيّة المتعاقبة، فكلّما انتهت حقبة تولد من بعدها، أو على أنقاضها، حقبة تالية، وهكذا دواليك...

ثانيًا: مقتضى الدائرة المفاهيميّة، ويتّصل بالتحوُّلات العميقة في عالم الأفكار. الأمر الذي يجد تمثُّلاته على وجه الخصوص في ما حفلت به حقبة ما بعد الحداثة من نموٍّ هائل للمفاهيم المابعديَّة التي تشير إلى عمق الإحساس بعدم اليقين حيال قِيَم الغرب الحديثة.

ثالثًا: الدائرة الحضاريّة، وهي أبرز الدوائر التي استظهرها الحراك الفكري الغربي، لا سيّما لجهة استشعاراته وتنبُّؤاته بنهاية الحضارة الغربيّة الحديثة وتبدُّدِها. لنا أن نستحضر على سبيل المثال كتاب «سقوط الغرب» للمفكّر الألماني أوسوالد شبينغلر الذي يتوقّع فيه انهيار الحضارة الغربيّة، ويصفها بـ«الحضارة الفاوستية» (نسبة إلى يوهان فاوست 1480-1540م) التي باعت روحها للشيطان مقابل المكاسب المادّيّة والنعيم الاستهلاكي. خلاصة هذا العمل، أنّ الحضارة الغربيّة حقّقت سيادتها العالميّة استنادًا إلى قوّتها المادية، وأن القرنين التاسع عشر والعشرين يشكِّلان سقف الحضارة الغربيّة، وأنّ نهاية القرن العشرين هي حافَّة هذا السقف وبداية الانهيار. غير أنّ شبينغلر، وهو سليل موطنه الغربي في بعده العنصري سيواجه مشقَّة الاعتراف بأن ثمّة أممًا غير أوروبيّة مؤهّلة للنهوض بأعباء الحضارة العالميّة. ورأى أنّ العلوم المادّيّة الحديثة هي خاصِّية تكوينيّة يمتاز بها العقل الغربي الفاوستي تحديدًا وحصرًا. يضيف: وبما أنّ الأمم الشرقيّة روحانيّة، فإنّها غير مؤهّلة عقليًا حسب زعمه لاستيعاب العلوم المادّيّة. على هذا الأساس، تنبّأ شبينغلر بأنّ ما سوف يترتّب على انهيار الحضارة الغربيّة هو الفراغ والفوضى والحروب، حيث سيواصل «الفاوستيون» فرض سيادتهم العالميّة عن طريق القوّة الجائرة وحروب الإبادة.

* * *

لقد تعدَّدت الوجهات التنظيرية التي تناولت الأفق المابعدي للغرب الحديث. ولنا هنا أن نستخلص أهمّ ما توصّلت إليه تلك الوجهات عبر الإشارة إلى أربعة مداخل:

1- مدخل الإستراتيجيّة السياسيّة

وهذا ما تعكسه بيئة من المفكِّرين الغربيِّين تسعى إلى رسم نهاية حتميَّة لمستقبل السلطة السياسيَّة والاجتماعيَّة للغرب. وينقسم العاملون في هذا المدخل إلى ثلاثة مذاهب:

المذهب الأوّل: يعمل على تحليل أفول الهيمنة الغربيّة بعيدًا عن مسقط رأسها الشرقي أو الغربي. وعلى الرغم من صدقها في بيان آفات الغرب ومشكلاته، إلَّا أنّ غايتها من وراء ذلك هي الدفاع عنه وضمان قوَّته وهيمنته.

المذهب الثاني: يعاين الغرب ويختبره من الداخل، ثمّ يتوصّل إلى استنتاج مؤدَّاه الانهيار التام للمنظومة الغربيّة، ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع الأميركي أمانوئيل واليرشتاين، والمفكّر الأميركي بول كينيدي في كتابه المعروف «صعود وسقوط القوى العظمى».

المذهب الثالث: يتشكَّل من المحلِّلين الذين ينتمون إلى مناشئ شرقيّة، وقدّموا أدلّة تشير إلى انهيار الهيمنة السياسيّة للغرب المعاصر، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر عالم الجيوبوليتيك الروسي ألكساندر دوغين، إلى جانب عدد من الباحثين والمفكّرين الأفارقة والآسيويّين، وتحديدًا أولئك الذين أنجزوا دراساتهم حول فكر «ما بعد الاستعمار».

2- المدخل الاقتصادي

تكاد معظم الدراسات المعمَّقة التي تدور مدار مستقبل العالم الغربي تُجْمِع على ترجيح نهاية أحادية الاقتصاد الأميركي، وتنظِّر لتعدُّديّة قطبيّة تتشكَّل من الصين وروسيا والهند إلى عدد من البلدان الآسيوية الأخرى. في حين أنّنا نجد بلدانًا مثل: بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، أو بكلمة واحدة أوروبا، تعاني من مستقبل غامض ومبهم.

3- المدخل اللاَّهوتي والأيديولوجي

نشوء تيارات وازنة تنظر إلى عالم ما بعد الغرب بوصفه عالمًا يميل نحو الإلحاد. وعلى الرغم من ندرة الأدلّة المنطقية والعملية الكافية لتأصيل هذا المدّعى، إلّا أنه يُنظر إليه من جانب الأوساط الَّلاهوتية، فضلًا عن التيارات الناقدة للعلمنة، باعتباره منافسًا خطيرًا للإيمان المسيحي.

وثمّة مفكِّرون وعلماء اجتماع ذووا شأن قاربوا البعد الأيديولوجي واللَّاهوتي لحقبة ما بعد الغرب بصورة معاكسة، فقد أعادوا طرح سؤال الدين والإيمان الديني باعتباره سؤالًا له حضورُه البيِّن في المجتمع المعرفي الغربي. نذكر من بين هؤلاء: الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، والفرنسي بول ريكور، والأميركي من أصل إسباني خوسيه كازانوفا وسواهم. ومن المعاصرين من يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؛ حيث يرى أن أمواج الإسلام في البلدان الغربيّة باتت من الكثرة بحيث بدأ الغربي يستشعر الخطر وينتهج شتّى الأساليب لمحاربتها. وهذه المحاربة تظهر أشدَّ ضراوة من تلك التي ينتهجها في مواجهة الإلحاد وسائر التيارات الأخرى. ينتمي إلى هذه الشريحة عدد من المفكِّرين الغربيّين أبرزهم الأميركي صاموئيل هنتنغتون الذي يرى أن مستقبل الغرب يميل إلى مصلحة الإسلام؛ وتوصَّل في تحليلاته الإحصائيَّة الخاصَّة إلى التنبُّؤ بأنّ عام 2050م سيشهد غلبة الإسلام، وأنّ المسيحيّة في بلدان مثل إنكلترا سوف تتحوّل إلى أقليَّة دينيَّة.

4- المدخل الفلسفي والمعرفي

لا تتوقف رحلة الكلام عند حدود ما سبق المرور عليه. فما هو أهم يتعلَّق بالعوامل والمؤثِّرات الفلسفية والمعرفية في التأسيس لـ«الما بعديّات» جميعًا. ومن البيِّن أن التنظيرات الأولى لحقبة ما بعد الحداثة لم تكن سوى تأسيس مستأنَف للمسار «المابعدي» في أفقه الفلسفي. وما كنّا لنخلع على هذه الحقبة صفة «الما بعدية»، إلَّا لأنها انعطفت بالحضارة الغربيّة نحو مآلات انقلابية عميقة في أنساقها القيمية طاولت ثوابتها الكبرى. ولو أجرينا مراجعة تحليلية مجملة لتلك الحقبة، لوجدنا أن الحضارة الحديثة شهدت انتقالات جذرية لم تقتصر على التغيير في السياسة والثقافة وعلاقات الإنتاج، وإنما امتدت إلى منهج التفكير وفلسفة عمل العقل. ولنا في ذلك شاهد مبين تمثَّل بثورة العلم على الفلسفة.

لمَّا اختصر إيمانويل كانط مشروعه الفلسفي رائيًا أنّ مهمّته العظمى تكمن في تحويل الفلسفة إلى علم نظير بقيّة العلوم الإنسانيّة، فقد كان يمارس فعلًا مؤسِّسًا لـ«ما بعد الفلسفة» بنسختها الكلاسيكية. ربما غَفِل كانط عن أن سحر العلم سيحجب قسطًا وفيرًا من جاذبية الفلسفة، إلَّا أن شغفه من بعد ذلك أوصل التفكير الفلسفي نحو مآلٍ لا قِبَل له به. فبدل أن تُحفظ الفلسفةُ بوصفها بحثًا دؤوبًا عن حقائق الأشياء من خلال السؤال، جرى تحويلها إلى علم تسري عليه المناهج الحاكمة على سائر العلوم الإنسانيّة، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والتربية والفن وما سوى ذلك. مع كانط، ومن قبله ديكارت، لم تعد ماهيَّة الفلسفة وهويَّتها على سابق عهدها.

يبدو جليًّا أن الحداثة الغربيّة بعد المنعطف الكانطي ستوظِّف أطروحة الإنسان كمركز للكون، لكنها ستمضي نحو إخضاعه لأوثان التقنيّة، وهنا ستبدأ إرهاصات «ما بعدية» مستحدَثة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي سعى بدأبٍ كبير إلى استخلاص الميتافيزيقا من معضلتها الكبرى من خلال إعادتها إلى مهمَّتها الأصلية بما هي بحث عما يحتجب من أسرار الوجود. التقنية التي أدَّت إلى «نسيان الكينونة» لم تعد حسب هايدغر تشكِّل تهديدًا للمصير الإنساني، وإنّما أيضًا، تبديدًا لأسس الميتافيزيقا التي انبنى عليها عصر التنوير. ها هنا سيظهر غرب فلسفي آخر غير الذي عهدناه في التأسيسات الكبرى لعصر النهضة مع ما سمِّي «أزمة الأنسنة»، أي مشكلة حضور الكائن الإنساني في عصور الحداثة المتداعية. لقد كشفت تقنية ما بعد الغرب الكلاسيكي عن مسار عام يسير نحو نزع الإنسانيّة (Disumanzzazione)، وانحطاط قِيَمِها وتهافُت معاييرها. لو نظرنا إلى حقيقة هذا التحول من زاوية فلسفة التاريخ، لألفيناه تأسيسًا لغربٍ من طراز غير مألوف. وهذا التأسيس لم يكن سوى افتتاح العقل الغربي لبَدءٍ جديد يطوي سجلًا كاملًا من العمر الميتافيزيقي للحضارة الغربيّة المعاصرة.

هذا المستوى من النقاش، وإن كان لا يزال منحصرًا في بيئات محدَّدة، يكشف عن وعود بانعطافات كبرى في بنية العقل الغربي حيال العلاقة بين الإيمان الديني والثورات العلميّة المعاصرة، ولعلَّ ما يضاعف من تحقُّق هذه الوعود ما نشهده من مراجعات فكرية طاولت مساحة وازنة من ثوابت النظام المعرفيِّ الذي قامت عليه الحداثة. ويشكِّل النقاش المستحدَث حول دخول العالم الغربي في ما سُمِّي بـ«حقبة ما بعد العلمانيّة»، وعودة أسئلة الدين لتحتلّ حيِّزًا وازنًا من حلقات التفكير، أحد أبرز العلامات الدالَّة على عمق الفراغ المعرفي الثاوي في قلب الحداثة المعاصرة.

من أكثر المفاهيم التي لا تزال موضع نقاش واسع بين النخب الغربيّة هو مفهوم الغرب
(The west) ومشكلة تحديد معناه: هل هو جهة جغرافية من جهات الأرض الأربع، أم أنّه كيان حضاري له مزاياه وهويته الخاصّة؟

يقرِّر باحثون في علم تشكُّل الحضارات أن الغرب بناء أسطوري حديث بكل ما للكلمة من معنى. وكانت الاستعمالات الأقدم لهذا المصطلح أو نظائره في اللغات الأخرى تشير إلى اتّجاه أو منطقة على خارطة سياسيّة معيّنة، مثل تقسيم الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى غرب - شرق في أواسط القرن الثالث، وانقسام الكنيسة المسيحيّة إلى غربيّة وشرقيّة بدءًا من القرن الحادي عشر (Williams, R., 1983: 333)، و«العالم الجديد» للأميركيّتين منظورًا إليهما من أوروبا، أو المحيطات التي تقع إلى الغرب البعيد عن «المملكة الوسطى» (في الصين). على أنّ التعبير الذي اكتسب طابعًا عالميًّا لم يطغَ في الاستعمال العام إلّا عبر القرنين المنصرمين بوصفه التكوين الرئيس في أوروبا الغربيّة التي صار يُنظر إليها باعتبارها كلّية الحضور في السيطرة الاستعماريّة على عموم أرجاء العالم. والمفترض أن «الغرب» يوحِّد جماعة من الناس يُدعَون «الغربيّين» من حيث جغرافيّة إقامتهم، وتقاليدهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وحضارتهم المشتركة؛ ويبدو أنّه أصبح اسم علم، وصار يُكتب بالحرف الكبير، كما هو الحال في هذا الكتاب. على أن هذا المصطلح اشتهر بالمراوغة، ويبدو أن الوحدة التي يؤكّدها صارت تتعرّض للتحديّات باستمرار في العقود الأخيرة.

لم يُظهر «الغرب» تماسكًا كبيرًا كمؤشّر جغرافي. أكثريّة أبناء الشعوب الذين يعيشون في أوروبا الغربيّة يعتقدون أنّهم غربيّون، ولكن في الوقت نفسه يصرُّ كثير من الناس البيض في جنوب أفريقيا وأستراليا على أنّهم غربيّون أيضًا. وعلى خلاف هذا، فإن الناس الملونين في أميركا الشماليّة لا يعترفون بالضرورة بأنّهم غربيّون، حتّى وإن زعم أكثر المقيمين في أميركا الشماليّة، لا سيّما منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، بأنّهم موجودون في الغرب أيضًا. وهكذا، قد يبدو أن الغرب هو في الدرجة الأولى مؤشّر عرقي أكثر مما هو مؤشّر خرائطي؛ فهو يقترن اقترانًا وثيقًا بأخيلة البياض العرقيّة. لكن هذا التقدير يتناقض مع الواقعة التاريخيّة التي مفادها أن أوروبا الشرقيّة قد تم استبعادها عمومًا من الغرب، ليس أثناء الحرب الباردة فقط، بل طوال القرن العشرين. فضلًا عن ذلك، فإن فكرة البياض العرقيّة مهلهلة بما يكفي للسماح بأن يتم استبعاد بعض الجماعات من البياض في بعض أرجاء العالم -مثل الشعوب في الشرق الأوسط- وأن يُعترَف بأنّها بيضاء في شرق آسيا أو شمال أميركا. وحين ينتقل الناس من مكان إلى آخر، فقد تتغيّر هويّتهم العرقيّة أيضًا. ومثل مفهوم العرق بشكل عام، فإن البياض كمقولة اجتماعيّة هو اعتباطي تاريخيًّا، بحيث يصعب أن يكون مؤشّرًا على هويّة ثابتة.

فوق ذلك كلّه، يشهد الغرب المعاصر تنافسًا محمومًا بين الإيمان والإلحاد. وعلى الرغم من غلبة الإيمان في الوقت الراهن سواء على المستوى الكمي أم المستوى الكيفي، فإن هناك تيارات مرموقة تنظر إلى عالم ما بعد الغرب بوصفه عنصرًا يميل نحو ترجيح كفة الإلحاد. وهذا الادّعاء يفتقر إلى الأدلّة الكافية، إلا أنّه يعتبر رأيًا جادًا بوصفه منافسًا خطيرًا للمسيحيّة.

ممّا لا ريب فيه أنّ أمواج الإسلام في البلدان الغربيّة من الكثرة بحيث بدأ العالم الغربي يستشعر الخطر، وينتهج شتّى الأساليب لمحاربتها. وهذه المحاربة أشد ضراوة من تلك التي ينتهجها في مواجهة الإلحاد وسائر التيارات الأخرى. يرى أشخاص من أمثال صاموئيل هنتنغتون أنّ مستقبل الغرب لمصلحة الإسلام؛ بحيث إنّه توصل في تحليلاته الإحصائيّة الخاصّة إلى التنبؤ بأن عام 2050م سيشهد غلبة الإسلام، وأن المسيحيّة في بلدان مثل إنكلترا سوف تتحوّل إلى أقليّة دينيّة.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف