البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : المحاضرة (2)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : January / 10 / 2022

عدد زيارات المقطع : 481

حجم الملف الصوتي : 12.316 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 316

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
وقبل الإجابة على السؤال المتقدّم في المحاضرة السابقة يحسن أن نقدّم مقدّمة موجزة عن موقف الإلحاد المعاصر إزاء فكرة وجود الله تعالى هل هي فكرة ممكنة أو مستحيلة؟ فنقول:

إنّ الملاحدة المعاصرين يلتزمون معرفياً بـ(المصدر الحسي) فقط ويعتمدون في إثبات أفكارهم في جميع المجالات الأيديولوجية أو الطبيعية أو الإنسانية على ما تلاحظه الحواس وتثبته التجارب، هذا جانب، ومن جانب آخر يعتقدون أنّ الملاحظة والتجربة إما أن ترجّح - وفق حساب الاحتمالات - وجود شيء أو ترجّح عدم وجوده، وليس من صلاحيات المنهج العلمي القائم على الملاحظة الحسية والمعطيات التجريبية إثبات أنّ الشيء الفلاني مستحيل وممتنع الوجود، لأن عدم رؤية الشيء أو عدم سماع صوته أو عدم شمّ رائحته وهكذا، لا يعني بحال أنّه مستحيل الوجود، بل قد يكون هذا الشيء موجوداً إلا أنني لم ألحظه بواحدة من هذه الحواس الخمس مثلاً، ومن هذين الجانبين نعرف: أنّ وجود الله تعالى ممكن لا استحالة فيه حتى عند الملاحدة، غاية ما في الأمر أنّ هذا الشيء الممكن لا يعتقدون بوجوده، بل يعتقدون بعدم وجوده. هذه هي المقدمة.

وأما الجواب على السؤال فهو أنّ الطرق العقلية والعقلائية والعلمية في باب الدعاوى والإنكارات إزاء وجود الأشياء تنصّ على وجود قاعدتين:

القاعدة الأولى: إنّ كلّ ادّعاء لا يثبت إلّا إذا كان مشفوعاً بالدليل، وقد تقدّم الحديث عنها في المحاضرة السابقة.

القاعدة الثانية: يلزم لإسقاط الدعاوى المبرهن عليها بالدليل الواحد أو الأدلة المتعدّدة إبطال جميع أدلّتها، ولا يكتفى بإبطال الواحد أو المعظم، فإن كانت الدعوى مشفوعة بدليلين مثلاً فيلزم لإسقاطها مناقشة كلا الدليلين، أو مشفوعة بثلاثة أدلة فمناقشة الأدلة الثلاثة وهكذا.

مثال ذلك: إذا شاهد مجموعة من الأشخاص ولنفرض أنّهم ثلاثة أنّ زيداً موجود في البيت ولم تكن بين هؤلاء الأشخاص أي علاقة، فهنا سوف أمتلك - كمتلقّي - أدلّة ثلاثة([1]) على وجود زيد ويمثّل كلّ واحد منها دليلاً مستقلاً، فإذا ثبت بعد ذلك سقوط الدليل الأول ولو بالعلم بأن الشخص كان كاذباً فإنّ هذا لا يعني سقوط الدليلين الآخرين، وهكذا لو علمنا بكذب الثاني فإنّه ليس موجباً لسقوط الدليل الثالث. نعم، لو أسقطنا جميع هذه الأدلة فسوف تسقط دعوى وجود زيد في البيت.

وإذا أردنا أن نطبّق القاعدة الثانية على مسألتنا فتكون بهذا الشكل:

إنّ الإلهي إذا أقام أدلّة متعدّدة على إثبات وجود الله سبحانه وكان كلّ دليل مستقلاً عن الأدلّة الأخرى بمعنى أنّ خطأ أي واحد من هذه الأدلّة لا يلزم منه خطأ الأدلّة الأخرى فيتوجّب على الملحد وكذا اللاأدري أن يناقش جميع هذه الأدلّة ويبرز نقاط الضعف فيها، وليس من المنطق أن يتمّ التركيز على دليل واحد أو دليلين ومن ثم يُعطى الحكم العام بإسقاط الدعوى لا سيّما إذا كانت الدعوى من المسائل المهمّة والخطيرة التي تطال حياة الإنسان بجميع مقدّراتها ولها التأثير على تغيير نظرته حول العالم الذي حواليه فإنه في مثل ذلك يتوجب التحوّط في البحث وبذل الجهد و استقصاء ما ورد -وما يمكن أن يرد- من إثباتات، ومن ثم بعد ذلك إن لم تصحّ عنده جميع الأدلّة والبراهين المسوقة على إثبات وجود الإله فإنّه ليس من الحق ان يلتزم بالإلحاد بل ينبغي أن يقف موقف (اللاأدري)، وبعد ذلك إنْ تسنى له إقامة أدلّة على إثبات عدم وجود الله تعالى فحين ذاك يصل إلى مرحلة الإلحاد.

إذن، لكي يصل الشخص إلى مرحلة الإلحاد فإنّه يحتاج إلى مسير طويل من المناقشات وتجاوز العقبات واستقصاء كل ما يطرح أو يمكن أن يطرح في إثبات وجود الله سبحانه ومناقشة جميعها مناقشة موضوعية، ويحتاج إلى ان يكتب له النجاح في هذه المناقشات بحيث تنتهي بصالحه، وإلى الآن لم يصل مرحلة الإلحاد وإنّما وصل إلى اللاأدرية، وهذا يعني أنّه بحاجة إلى إبراز أدلّة من نوع الأدلّة العلمية القائمة على الملاحظات الحسيّة والمعطيات التجريبية لكي يثبت من خلالها عدم وجود الإله!!.

ونستنتج مما ذكرناه أعلاه: إنّ الملحد - كما المؤمن - يقع عليه عبء الإثبات لدعواه، وأيضاً يقع على الملحد ثقل إثباتي أكبر وذلك بدفع جميع مبرهنات الإلهيّين التي هي -في الحقيقة- ممّا تسود الذهنية البشرية بشكل عام.

وقد يُقال: إنّ عبء الإثبات والثقل الإثباتي كما يقع على عاتق الملحد كذلك يقع على عاتق المؤمن، لأنّه يتوجّب عليه أن يُسقط جميع أدلّة الملاحدة، ومن ثم أن يقيم الأدلّة على إثبات دعوى وجود الله تعالى.

هذا الكلام صحيح تماماً لو كان فعلاً أنّ الملاحدة يمتلكون أدلّة متنوّعة على إثبات دعواهم، ولكنّ الواقع ومن سوء حظ طالعهم أنّهم لا يمتلكون إلّا دليلاً واحداً أو دليلين، ولنفرض أنّهم يمتلكون أكثر من ذلك إلّا أنّ هذه الأدلّة على تقدير صحّتها -مع أنّها مجموعة من المغالطات- لا تصلح إلّا لنفي التدخّل الإلهي لا لنفي أصل وجود الله تعالى، وهي أدلّة تتناسب مع موقف اللاأدرية.

وتوضيحاً لما أريد قوله: (إلى أن يأتي الكلام حوله): إنّ ما يطرح في أروقة الإلحاد هو محاولة تفسير النشوء الكوني عبر القوانين الطبيعية، وهذا لا يعني أنّ الله تعالى غير موجود، بل يعني أنّه لا يحتاج إلى وجوده في تفسير نشوء الكون وعدم الاحتياج إلى وجوده لا ينفي وجوده، وهذا الموقف هو ذاته موقف اللاأدرية.

أضف إلى ذلك -وسيأتي بيانه- إنّ فرضية ( تفسيرنشوء الكون وحصول بداية الانفجار العظيم من خلال القوانين الطبيعية) فرضية أقرب للخيال منها إلى الحقيقة، وهي مبنية على مزاعم غير مفهومة حتى عند أصحابها، وعلى مغالطات لا تصدر من أشخاص عاديّين فضلاً عن بعض ممن يدعي انتهاج المنهج العلمي من قبيل (لورانس كراوس).

الأدلّة على وجود الله تعالى:

 أشرنا قبلاً إلى أهمية البحث عن وجود الله تعالى، وهو موضع اهتمام الإنسان في طول مسيرته الوجودية في الحياة منذ أن أدرك وتساءل وفكّر، سواء كان فيلسوفاً أو مفكّراً أو عالماً أو مثقفاً أو كان من الناس العاديين، وأخذت هذه الفكرة جزءاً من اهتمام الإنسان، وقد عبّر عنها في كتب الفلسفة وعلم الكلام بـ(مقصد المقاصد) و(غاية الغايات) وهو حقيق بهذا الوصف، ذلك أنّ فكرة وجود الله سبحانه يمثل - حسب رأي المعتقدين به تعالى - أملاً عظيماً للبشرية عموماً وللطبقات المحرومة على وجه الخصوص، إذ من خلالها يطمح الإنسان لتحقيق العدالة بجميع تفاصيلها في هذا العالم بقدر الإمكان، وفي العالم الثاني بصورة تامة وحازمة حيث لا قيمة لأي إنسان - مهما كان - إلّا بعمله فهو ميزان التقدير والاحترام، وميزان القرب من الأنبياء والصالحين، وميزان الجزاء في النعيم، وسوف تقصى هناك الوجاهات الاجتماعية والدنيوية والرتب الجوفاء، وبعبارة جامعة: يتحقّق إعطاء كل ذي حق حقه و زيادة، إلّا أن هذا يكون جميعه مرهوناً بالالتزام والطاعة للقانون الإلهي.

وفي قبال هذا الاتجاه، وهم من لم يثبت عندهم وجود الله تعالى فسوف يكونون في راحة من الالتزام بقانون الله إلّا أنّهم في خيبة أمل إزاء ما يسمى بالعدل، إذ لا اله ولا قانون ولا قيامة ولا حساب ولا اي شيء من هذا القبيل.

والخلاصة: إنّ أهمية هذه المسألة ثابتة عند الطرفين: الإلهي والإلحادي، بل وغيرهم، مما يعني أنّه ليس بوسع الانسان أن يتجاوزها ويتجاهلها، فإنّ المسألة ليست مسألة اختيارية، للإنسان أن يبحث عنها، وله أن لا يبحث، بل يتوجب عليه لخطر المسألة أن يبحث عنها ويطلب القناعة المبنية على أسس صحيحة، وسط اختلاف بشري ناجم من اختلافات على المستوى الإدراكي (القدرات العقلية) ومستوى الميولات النفسية والإنحيازات الفكرية، وأنّ لهذين السببين أثراً واضحاً في تباين المواقف بشكل عام، وقد يؤثّر هذا في انتهاج الأسلوب الموضوع تارة، والأسلوب الذاتي النفسي تارة أخرى.

والفارق بينهما، أنّ الأسلوب الموضوعي هو أسلوب الباحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة، أما الأسلوب الذاتي فهو أسلوب الجدل الذي ينازع أفكار الآخرين من أجل الجدل والغلبة لا طلباً للحقيقة. والأسلوب الموضوعي يبتعد بقدر الإمكان عن الانحيازات النفسية والتربوية والفكرية، بخلاف الأسلوب الذاتي فهو أسلوب المنحاز نفسياً وأيدلوجياً وأيضاً يعتمد الأسلوب الموضوع على الحجج والبراهين العلمية والعقلية، بينما الأسلوب الذاتي يعتمد على جملة من المغالطات والمؤثّرات في نفوس الجمهور وبسطاء الناس.

ونحن في هذه الأبحاث نريد أن نركّز على الأسلوب الموضوعي ونرصد مواضع الخلل عند الخصم لا سيما إذا كانت منتهجة ذلك الأسلوب الذاتي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول:

إنّ الأدلّة التي ذُكرت لإثبات وجود الله سبحانه بالغة الكثرة ويمكن تصنيفها حسب المنهج إلى ما يأتي:

1. الطريق الفطري:

ويفيد هذا الطريق أنّ الله سبحانه قد سجّل وجوده في تركيبة الإنسان الوجودية، بحيث إنّ كلّ إنسان يجد من نفسه إدراكاً لوجود قوّة ماورائية هي المسؤولة عن خلقه، ولكنّ هذا النوع من الإدراك -أعني الإدراك الفطري- غالباً ما يتأثّر بالتربية المنحرفة أو الأجواء الملوّثة عقائدياً، إلّا أنّ الإنسان سرعان ما يلتفت إليه بعد التخلّي عن تلك المؤثرات.

وقد أُشير إلى هذا الطريق في القرآن الكريم والروايات فجعل القرآن من فكرة (الوجود الإلهي الواحد) أمراً فطرياً، قال تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه) (الإسراء /٦٧) وغيرها من الآيات.

ولا أريد تصحيح هذا الطريق من خلال ذكره في القرآن الكريم، وإنّما أريد أن أقول: إنّ هذا الطريق هو محلّ قبول الكتاب العزيز.

وقد اعتقد بهذا الطريق بعض الفلاسفة منهم: (رينيه ديكارت) حيث طرحها في جملة من كتبه منها كتاب (التأمّلات).

وأيضا طُرحت فكرة فطرية وجود الله سبحانه في بعض الأبحاث البيولوجية الحديثة، وقد فسرت الفطرية بمعنى آخر، وهو أنّ في الإنسان جيناً مسؤولاً عن دفع الإنسان للاعتقاد بوجوده سبحانه وتعالى، وأوّل من طرح هذه الفكرة عالم الوراثة الأمريكي (دين هامر) وهو من المعاصرين، ولكنها على ما يبدو مجرد فرضية لاقت قبولاً من قبل بعض ورفضاً من قبل الآخرين.

وأياً كان فطريق الفطرة تارة يلحظ بمعنى أن في النفس البشرية حقيقة تجعل الإنسان ينزع نحو الغيب ونحو الله تعالى، وأخرى تلحظ بمعنى أنّ في التكوين البيولوجي للإنسان وجوداً جينياً هو المسؤول عن الاعتقاد المذكور وهذا الطريق كما قلنا قد طرح في القرآن الكريم وفي الفلسفة الحديثة وفي العلم الحديث، وتبقى مناقشته واستعراضه مفصلاً موكول إلى دراسة أعمق.

-------------------------------------

([1]) هذا إذا افترضنا أنّ كلّ أخبار من هؤلاء الثلاثة يمثل دليلاً.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف