البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإسلام وقوانين البيئة

الباحث :  د. محمد طي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  12
السنة :  السنة الثالثة شتاء 1419 هجـ 1999 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 24 / 2015
عدد زيارات البحث :  1276
الإسلام وقوانين البيئة

د. محمد طي ‏ ‏ (*)

مدخل
لم تكن المشاكل البيئية مطروحة، في يوم من الأيام، بالشكل الذي تطرح فيه اليوم؛ والسبب هو أن هناك تهديداً شاملاً لوجود الإنسان على وجه الأرض، ناجم عن التدمير واسع النطاق الذي يطال الكرة الأرضية، بجمادها ونباتها وحيوانها، وفي برها وبحرها وجوها.
وقد أصبح هذا التدمير ممكناً بسبب ما وفّرته الثورة الصناعية أولاً، ثم الثورة التكنولوجية ثانياً، من إمكانات هائلة للإنسان ضاعفت طاقاته آلاف المرات بل وملايينها، ومكَّنته، في استغلاله للطبيعة، من أن يضاعف تدميرها بالقدر نفسه. فبعد أن كان نشاطه يطال كميات من الثروات المنجمية، ويؤدي إلى إنتاج كميات من النفايات تستطيع الطبيعة استيعابها بسهولة، أخذ اليوم، ومنذ عقود عديدة، يستنفد موارد الأرض بوتائر عالية جداً، الأمر الذي يهدّد هذه الموارد، كما أخذ يبدّد موارد الفضاء من الأوكسجين بشكل خاص، وينفث فيها ملايين الأطنان من الغازات التي أدت إلى تشويه في الغلاف الجوي، وخرق للحجاب الحامي للحياة على الأرض، وبخاصَّة غلاف الأوزون، الذي تتزايد مساحة الفجوة التي حصلت فيه بوتائر سريعة بلغت العام الماضي 31،6% زيادة عمّا كانت عليه قبلاً؛ إذ زادت من 19 مليون كم‏‏2 إلى 26 مليون كم‏‏2، ناهيك عمّا يصيبها من ترقق في أماكن كثيرة، الأمر الذي كان لا يبلغه الخيال في القرون الخالية.
من هنا بدأت المجتمعات الإنسانية وضع تشريعات لحماية ما تبقَّى من المحيط الذي يعيش الإنسان في كنفه، قبل أن تعم الكارثة.
________________________________________
(*)أستاذ في الجامعة اللبنانية.

[الصفحة - 126]


ولما كانت حضارتنا الإسلامية تواجه، أحياناً كثيرة، بالممانعة، الفكر الغربي وتفريعاته ومبتكراته وفي مقدمها الحقوق الوضعية، لذلك فإننا نحاول في هذا البحث أن نستقرى مصادر الشريعة الإسلامية لنرى هل تهتم بهذه المسألة الحاسمة بالنسبة إلى وجود الإنسان على وجه الأرض، أم لا.
وكانت خطتنا، في هذا البحث، أن نستقصي فصول القوانين البيئية العصرية محاولين معرفة موقف الشريعة السمحة من كل منها. على أن ما لا بدّ من التشديد عليه هو أن هناك قاعدتين كلّيتين في الشريعة، يمكن أن تشكلا الأساس للموقف البيئي، أولاهما قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» (1) التي تمنع إلحاق الأضرار عامة بالآخرين، وثانيتهما قاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» (2) التي تحرّم على الإنسان أن يسعى إلى منفعة نفسه بالإضرار بغيره.
ولما كانت القوانين البيئية تركّز على نقاء الهواء والمياه: البحرية والعذبة، والأرض، ظاهرها وما تحت السطح، وتتصدى لكل من يضربها (3) ، فإننا سوف نعالج هذه العناوين محاولين التفصيل ما أمكن.
الهواء
يمثل الهواء العامل الرئيس لاستمرار الأحياء، لأن التغذية لا تقوم من دونه، فالأوكسجين عنصر أساسي في تغذية الحيوان والإنسان، وبمركباته هو عنصر أساسي في تغذية النبات، والآزوت لا يقل أهمية في ما يخص النبات كما هو معروف.
وإذا كان تركيب الهواء يقوم على الآزوت والأوكسجين أساساً، وعلى آثار من غازات أخرى أهمها ثاني أوكسيد الفحم، فإن أي خلل مهم في هذا التركيب يؤدي إلى نتائج خطيرة، فإذا نقص الأوكسجين من حوالى 21% إلى 16% تصبح الحياة الإنسانية والحيوانية صعبة، وهو إن هبط إلى 6% فما دون تصبح مستحيلة، كما أن نقص الآزوت يؤدي إلى نتائج مدمرة.
أما زيادة نسبة «أوكسيدات» الفحم فهي تؤدي إلى اختناق الإنسان والحيوان، من هنا ضرورة بقاء التوازن. وهذا التوازن كان مؤمناً في السابق، إذ أن الأشجار
________________________________________
(1)راجع م‏19 من مجلة الأحكام العدلية العثمانية التي اعتمدت قانوناً مدنياً في آخر أيام السلطنة.
(2)راجع: المصدر نفسه، م‏30.
(3)راجع: مشروع قانون البيئة اللبناني ومواضيع مؤتمر الأرض الذي عقد في ريودي جانيرو سنة 1992.

[الصفحة - 127]


والنباتات عموماً كانت قادرة على تفكيك ثاني أوكسيد الفحم وإعادة إطلاق الأوكسجين.
أما اليوم، فقد أصبح تركيب الهواء مصاباً بالخلل إلى حد كبير، فوقود المصانع ونشاطها يدفعان إلى الفضاء كميات هائلة من «أوكسيدات» الفحم والكبريت وغيرها، إلى الحد الذي أدّى كما أشرنا إلى تمزيق الغلاف الأوزوني حول الأرض، وأخذ يعرضها للأشعة ما وراء البنفسجية الضارة، التي تسببت بتغييرات مناخية قد تكون خطيرة في مدى غير بعيد.
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فقد أخذت آثار الأسلحة والأشعة النووية، وكذلك الأسلحة البيولوجية والكيماوية، تهدد بالانتشار في الهواء وبإلحاق أفدح الأضرار بالحياة على الأرض.
لهذه الأسباب، ودرءاً لما يهدّد الإنسان، فقد سُنَّت التشريعات الوطنية لمنع تلوث الهواء، سواء بالجزئيات الصلبة أم بالغازات، ولمنع انتشار الروائح الكريهة في الجو، وهذا ما يشدّد عليه مشروع قانون البيئة اللبناني في الباب الخامس (م 35 - 39) الذي يمنع أن تطلق في الجو مواد ملوثة أو مضرة بالصحة أو بالممتلكات الخاصة والعامة والبيئة، كما يمنع نشر الروائح المزعجة ويلزم أصحاب المشاريع والمؤسسات والمركبات بمراعاة المعايير البيئية التي يقضي بتحديدها.
أما على الصعيد الدولي فقد راحت الإنسانية، مستشعرة الأخطار النووية والبيولوجية والكيماوية، تتخذ المواقف للحد من هذا الخطر، فأبرمت اتفاقيات متعددة لمنع تلويث الهواء بهذه المواد لمنع تغيير المناخ أيضاً.
فوقّعت في فيينا سنة 1985 اتفاقية لحماية طبقة الأوزون، كما وقّع في مونريال سنة 1987 بروتوكول يمنع إنتاج المواد المسبّبة لاستنفاد طبقة الأوزون وتغيير المناخ، وبخاصَّة مادة الـ (Chlorafluorocarbure) C F C التي تهدِّد بتغيير في المناخ، ثم وقعت سنة 1992 الإتفاقية الدولية الخاصة بتغيير المناخ.
وكانت الدول الأوروبية قد وقّعت في جنيف، سنة 1979، اتفاقية إقليمية لمنع تلويث الهواء من بُعد.
________________________________________

[الصفحة - 128]


وفي هذا المجال نجد موقفين للنظام الإسلامي: الأول يرد في صلاحيات المحتسب‏ (4) ، والثاني سنة شريفة.
فمن بين صلاحيات المحتسب أن يحول دون أن «ينصب المالك تنوراً في داره (يؤذي) الجار بدخانه». فإذا كان إرسال الدخان المزعج للجيران ممنوعاً، فالأولى أن تكون الغازات الضارَّة والإشعاعات النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى ممنوعة وبشكل حازم.
أما السنة الشريفة فهي ما ورد من أن الرسول (صلي الله عليه و آله) كان يمنع أن يلقى السم (حتى) في بلاد العدو (5) . والسم، إذا كان أيام الرسول (صلي الله عليه و آله) يقر في الأرض فهو اليوم ينتشر في الهواء أيضاً، وهو أشد فتكاً. فالهواء هو الذي يحمل اليوم، إضافةً إلى ما ذكرناه، الإشعاعات التي تؤدي في أضعف الحالات إلى التشويه الخلقي للإنسان، بحيث تعرضه للأورام السرطانية، وتؤدي إلى تشويه ذريته، وهي في الحالات الأخرى تقضي على الحياة وتشوه معالم الأرض والأجرام القريبة.
من هنا فإن الإسلام، وعلى أساس السنة النبوية المشار إليها، لا بدّ من أن يكون مع تدمير كل أصناف الأسلحة النووية، وكذلك الكيماوية والبكتريولوجية، لأنها أشد تدميراً وأذى بما لا يقاس من السم المحرّم لإيذائه.
المياه‏
جاء في القرآن الكريم أن الماء هو المادة التي منها كانت الكائنات الحية، { وجعلنا من الماء كل شي‏ء حي }{الأنبياء/30}. فلولا الماء لما كان هناك أحياء، فالماء يدخل في تركيب الخلايا الحية، وتصل نسبته أحياناً إلى ما فوق ال 90% من تركيب الأجسام، ثم إن الماء هو المكان الطبيعي لحياة أصناف حيوانية بدءاً من وحيدات الخلية وصولاً إلى الأحياء الكبرى من نبات وحيوان، كما أنه يدخل في غذاء الأحياء بنسبة كبيرة أيضاً.
وسنعالج، في ما يلي، مسألة حماية الماء بصنفيه: مياه البحار، المكان الطبيعي لعيش معظم الكائنات الحية، والمياه العذبة التي تمثِّل مصدر الغذاء الرئيسي لسائر الكائنات في البرية.
________________________________________
(4)راجع: المارودي، الأحكام السلطانية، مكتب الاعلام الإسلامي، ط2، 1406، ص 255. وأبا يعلى، المصدر نفسه، ص 302.
(5)الكليني، فروع الكافي، ج‏5، كتاب الجهاد، ص 28، دار الأضواء، 1985.

[الصفحة - 129]


البحار
تغطي البحار حوالى 71% من مساحة الكرة الأرضية، وتحوي العدد الأكبر من الكائنات الحية نباتية وحيوانية، إضافة إلى الأحجار الكريمة، كما تشكل الشواطى‏ء أماكن للتسلية والسباحة وإقامة المنشآت السياحية.
في السابق لم يكن الإنسان قادراً على تلويث البحر وشواطئه إلاّ في حدود ضيّقة جداً، وبالشكل الذي لا يؤدي إلى التدمير، لأن الطبيعة البحرية كانت كفيلة بتفكيك الملوثات واستيعابها والقضاء على آثارها، فالمراكب كانت لا تفرز إلاّ الفضلات الإنسانية، وروّاد الشواطى‏ء كانوا قلّة بسبب قلَّة السكان. وإذا أنشئت المجارير قبل قرون لحمل مياه الصرف الصحي، فهي لم تكن تشكّل تهديداً لقلة النفايات النسبية ولضآلة السكان كذلك.
أما اليوم، وبعد بدء استخدام النَّفط مصدراً للطاقة، فقد أخذت السفن تضاعف عمليات التلويث لما يتسرب منها إلى البحر إضافة إلى ما تنفثه في الهواء. وقد أخذنا نعايش جنوح ناقلات النفط العملاقة وتدفق حمولاتها إلى البحار، ما يؤدِّي إلى خسائر جسيمة في الثروة الأحيائية وبصلاحية المياه للسباحة ولغيرها من طرائق التسلية والسياحة.
ثم ازداد الأمر خطورة عندما أخذت تقام المنشآت الصناعية والسياحية الملوثة على الشواطى‏ء لترمي نفاياتها الصلبة والسائلة في البحر. ثم عمدت بعض الدول والمؤسسات إلى إلقاء نفايات سامة أو شديدة الضرر في أعالي البحار، أو بالقرب من سواحل الدول الضعيفة مسببة كوارث على الصعيد البيئي.
إلا أن الأمر الأكثر خطورة هو تلويث البحر بالأشعة النووية، نتيجة للتجارب التي تجري فيه، أو لتخزين الأسلحة أو رمي النفايات النووية والمشعّة على نحو عام.
وقد سارعت البشرية محاولة وضع التشريعات لمنع استخدام البحر بالشكل الذي يؤدي إلى تلويثه. فمنذ عام 1926، دعت الولايات المتحدة الأميركية إلى عقد مؤتمر دولي لمعالجة مشكلة التلوّث. وفي سنة 1973، وقعت اتفاقية الأمم المتحدة حول التلوث البحري Maritime pollution convention . كما وقّعت
________________________________________

[الصفحة - 130]


اتفاقات للحفاظ على الحياة البحرية )SOLAS ) في سنوات 1966 و1974 و1978. وفي سنة 1982، أبرمت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تحرّم إلقاء المواد السامّة أو الضارّة في البيئة البحرية. هذا بالإضافة إلى الاتفاقية الخاصة بحماية الطبيعة في القسم الجنوبي من المحيط الهادي وغيرها من الاتفاقات.
وفي سنة 1992 شرّع مؤتمر البيئة والتنمية (قمة الأرض) في ريودي جانيرو مسألة حماية المحيطات والمناطق الساحلية وترشيد استخدام مواردها الحية وتنميتها.
أما لجهة درء المخاطر النووية، فقد وقّعت سنة 1971 معاهدة دولية لحظر تخزين الأسلحة النووية وسائر أسلحة الدمار الشامل في قاع المحيطات والبحار وباطن الأرض.
أما على الصعيد الوطني، فقد عالج مشروع قانون البيئة اللبناني موضوع حماية الساحل والمياه البحرية في المواد 40 44، وكان تناولها قرار سنة 1921 الذي منع إلقاء المياه المبتذلة في البحر مباشرة من دون معالجة، كما حرّم المرسوم رقم 2761، بتاريخ 19 كانون الأول سنة 1933، في مواده 5 و6 تفريغ مياه الجور الصحية في حرم البحر. كما أعاد المرسوم 8735 بتاريخ 23 آب 1974 (م‏3) تأكيد الأمر نفسه.
أما في الإسلام، ولما كانت المسألة غير مطروحة، بسبب من ضآلة تأثير الإنسان على البحر في السابق، فإنه يمكننا العودة إلى القواعد الكلية، وفي مقدمها قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار» وقاعدة: «دفع المضرة أولى من جلب المنفعة» اللتين أشرنا إليهما سابقاً، إضافة إلى قواعد متعلِّقة بحلِّية أكل السمك الذي يسبح في المياه الملوّثة.
المياه العذبة
وهي مياه الشرب والري، وهذه المياه شغلت حيزاً واسعاً في القرآن الكريم، الذي يشير إلى صبها من السماء والذي يؤدي إلى تفريخ النبات ونموه: { ألم تر أن اللَّه أنزل من السماءماء فتصبح الأرض مخضرة }{الحج/63}، { واللَّه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } {النحل/65}، { إنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا }
________________________________________

[الصفحة - 131]


{ الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا متاعاً لكم ولأنعامكم } {عبس/25 - 32}.
هذه المياه كانت تؤخذ للشرب من ينابيعها مباشرة، أو هي تجر على وجه الأرض في أقنية مكشوفة، ولم يكن التلوث يؤثر فيها في السابق، لأن النفايات القليلة التي يمكن أن تصل إليها كانت تتلاشى بواسطة الترسب أو الإلقاء في البحر، أو بفعل التنقية التي يوفرها النبات النامي فيها وحولها.
أما في العصور الحديثة، فإن التلوّث طال معظمها بشكل مباشر، حتى أصبحت الأنهار مصبات لمياه الصرف الصحي، التي تضاعفت كمياتها بسبب زيادة سكان الكرة الأرضية والزيادة النسبية في نفاياتهم الناجمة عن أسلوب الحياة العصرية القائمة على الاستهلاك الآني السريع وما يحمله من بقايا وعوادم.
أما القسم الآخر من المياه فيلوّث بطريقة غير مباشرة، وذلك من طريق تسرّب النفايات السائلة أو المذابة إلى باطن الأرض حيث تصل إلى المياه الجوفية، أو هي تُحمل بكل بساطة بواسطة السيول لتلقى في مجاري المياه.
ومن أنواع التلوّث التي تصيب المياه العذبة اليوم، التلوث العضوي من الفضلات الإنسانية والحيوانية والنباتية، والتلوث الكيماوي الناجم أيضاً عن بعض تلك الفضلات، إضافة إلى ما تلقيه المصانع في المياه الجارية، وما يتسرب إليها من الكيماويات المستخدمة في الزراعة سماداً أو مبيدات. إضافة إلى التلوث الميكروبي المهدد بتفشِّي الأمراض.
لهذه الأسباب راحت الدول والمنظمات الدولية تعمل جاهدة لإبعاد التلوّث عن الماء ما أمكن، وقد احتلت ضرورة إبعاد هذا التلوث حيّزاً في الاتفاقات العامة ضد التلوث، كاتفاقية 1969 التي تسمح بالتدخل الدولي لمكافحة حالات التلوث الخطيرة، واتفاقية 1972 حول استخدام الأسلحة البيولوجية أو السامة وتخزينها ومعاهدة سنة 1971 التي تحظر تخزين أسلحة الدمار الشامل في المحيطات وفي باطن الأرض وقد نالت نظافة المياه قسطها في «مؤتمر الأرض» الذي عقد في البرازيل سنة 1992، حيث كان أحد مواضيعه «حماية موارد المياه العذبة».
________________________________________

[الصفحة - 132]


إلاّ أن التشريعات الداخلية كانت هي الأوسع نطاقاً في مجال الحفاظ على الماء العذب، لما له من صلة مباشرة بالصحة الإنسانية والحيوانية، وقد حوى مشروع قانون البيئة في لبنان سبعة مواد لهذا الغرض (45 - 51). وكانت عالجت الموضوع تشريعات أخرى لا سيما سنة 1933؛ حيث منع إفراغ مياه الصرف الصحي في حرم المياه والآبار، وأكّد على الأمر المرسوم 8735 لسنة 1974، كما فرض هذا المرسوم على المؤسسات الصناعية أن تكرر مياهها قبل صرفها إلى الخارج.
أما الإسلام فقد أولى نظافة المياه عناية خاصة. فقد منع استخدام الماء متغير الطعم في الشرب وفي غيره من الحاجات. إذ ورد عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمد الصادق قوله: «إذا تغيّر الماء، وتغيّر الطعم فلا تتوضأ ولا تشرب» (6) . كما ورد منع إلقاء الأقذار الإنسانية قريباً من مجاري المياه‏ (7) ، وهكذا فإذا كان يُمنع إلقاء الأقذار، ويحتاط بمنع شرب المياه المتغيرة ومتغيرة الطعم، يمسي على الحاكم أن يمنع من حصول كلا الأمرين، وإذا كانت الوسائل البدائية لا تسمح بكشف تغير الماء، فإن الوسائل الحديثة تسمح بذلك، فيجب اللجوء إليها لإجراء هذا الكشف.
التربة وجوف الأرض‏
لم تكن التربة، في السابق، تتعرض لأذى يذكر بفعل نشاط الإنسان، لضعف وسائله من جهة ولقلة عدد سكان الأرض من جهة أخرى.
فالوسائل التي كانت تُستخدم في الزراعة كانت لا تسمح بالاستغلال الكثيف للأرض، كما أن الأسمدة الكيماوية لم تكن ضرورية نتيجة لراحة الأرض بعد كل زراعة.
وكان الإنسان يتقدم على طريق زيادة الأرض المزروعة من دون أن يستنفد الأراضي الصالحة لذلك، فكان يشق الترع ويغزو المناطق غير المزروعة في حركة مضادّة لعملية التصحّر التي تحصل حالياً.
ومن جهة ثانية، فقد كانت وسائل التعامل مع جوف الأرض بدائية لا تسمح بالاستغلال المكثف سواء على صعيد المناجم أو استخراج النفط، أم على صعيد المقالع.
________________________________________
(6)المصدر نفسه، ج‏3، ص 4.
(7) المصدر نفسه، ج‏2، ص 15.

[الصفحة - 133]


أما النفايات البشرية فكانت محدودة الكمية، ومن نوعيات أقل ضرراً مما هو حاصل اليوم. فتعداد سكان كوكبنا الأرضي تضاعف مئات المرات منذ ما قبل الميلاد حتى اليوم، كما يبدو من الجدول التالي:
التاريخ‏العدد بالملايين‏التاريخ‏العدد بالملايين‏ 6000 ق.م‏519502500 1000 ب.م‏25017754000 1650ب.م‏50020006000 1800ب.م‏1100202512000 1930ب.م‏2000
وهكذا يمكننا تصوّر نسبة الزيادة في الفضلات والنفايات، ولكن الصورة لن تكون صحيحة ما لم تأخذ بعين الاعتبار أنماط الاستهلاك، التي كانت تعتمد غالباً على الشراء اليومي وما يصاحبه من عبوات تتحول إلى نفايات وعوادم وبقايا يشكل التخلص منها عبئاً ثقيلاً.
ثم إن الفضيلات الإنسانية التي كانت محدودة ويجرى التخلص منها في الأماكن المكشوفة غالباً، ما يعرض جزءاً أساسياً منها للتبخر، فإنها اليوم إما أن تلقى في الجور الصحية أو في شبكات الصرف الصحي التي تلقيها. إما في البحر أو في الأراضي التي يشكل قسم منها أراضي زراعية، حيث يتسرّب القسم الأكبر منها إلى المياه الجوفية.
أما في موضوع الزراعة، فإن الأرض أخذت تتعرّض للاستغلال الكثيف الذي يتسبب في إفقارها، ويجعلها تعتمد على الأسمدة الكيماوية والعضوية.
وقد أصبح معروفاً أن استخدام الأسمدة الكيماوية يضرّ بنوعية الإنتاج الزراعي، حتى ولو استخدم بالشكل الصحيح، أما إذا استخدم بالشكل العشوائي
________________________________________

[الصفحة - 134]


الخاضع لجشع شركات الإنتاج ولرغبة المزارع في مضاعفة إنتاجه، فإنّ فوائض من الأسمدة لا بد من أن تعود فتتسرّب إلى مياه الري أو إلى المياه الجوفية، فتلوثها كيميائياً، كما تلوثها مياه الصرف الصحي عضوياً وميكروبياً.
وإضافةً إلى الأسمدة، تستخدم في الزراعة مبيدات للحشرات وللنباتات الضارة، وهذه تؤدي إلى قتل أصناف حيوانية ونباتية إلى جانب ما هو مستهدف بها، وهذه الأصناف لا بد من أنها مفيدة ويجب الإبقاء عليها.
وهناك مشكلة خطيرة أخرى تتمثل بالتصحر، وهي ناجمة عن هجر الأرض بعد فقدان المياه اللازمة لريها، إما بسبب نقص طبيعي، أو بسبب سوء التوزيع والاستخدام، فنرى التبذير والإسراف في جانب، ونرى الشح في جانب آخر. هذا إضافةً إلى القضاء على الغطاء الأخضر للأرض، الذي تشكله الغابات وسائر النباتات الخضراء، بسبب القطع والرعي والبناء وإقامة المقالع والكسارات. وهذا مما يؤدي، على المدى الطويل، إلى تغير في المناخ، وبالتالي إلى شح الأمطار، كما يترك الأرض جرداء قاحلة.
أمَّا أخطر التهديدات الموجهة إلى البيئة والأرض خصوصاً فهي الأسلحة النووية والإشعاعات الناجمة عنها، وكذلك سائر أسلحة الدمار الشامل.
لهذه الأسباب أخذت الإنسانية تعمل لوضع حد لتهديد البيئة البرية، فوقَّعت عدداً من الاتفاقيات منها:
ـ معاهدة حظر الأسلحة النووية وسائر أسلحة الدمار الشامل، ومنع تخزينها في قاع المحيطات والبحار وباطن الأرض (1971).
ـ اتفاقية حظر استعمال الأسلحة الحربية التي تؤثر على البيئة الطبيعية (1977).
ـ الاتفاق حول الحماية الطبيعية في 3 آذار 1980 والذي أصبح ساري المفعول في كانون الثاني 1987.
ـ اتفاقية بال المتعلقة بمراقبة حركة النفايات الخطرة عبر الحدود وتصريفها (1989).
________________________________________

[الصفحة - 135]


وقد شغلت البيئة الأرضية حيّزاً هاماً، في مؤتمر الأرض الذي عُقد في ريودي جانيرو سنة 1992، الذي ركّز على حماية موارد الأرض والإدارة السليمة بيئياً للتكنولوجيا الحيوية والنفايات الخطرة، ومنع الاتجار غير المشروع بالمنتجات والنفايات السامة، وتحسين نوعية الحياة وصحة البشر، وهذه المواضيع تشكل نصف جدول أعمال المؤتمر المذكور.
أما على الصعيد الوطني، فقد أفرد مشروع قانون البيئة اللبناني فصلاً خاصاً بحماية الأرض، هو الفصل الرابع من الباب الخامس الذي شدّد على وضع حد لتدهور حالة التربة ولتهديد ثروات جوف الأرض كما ولمكافحة التصحّر، وسوء استخدام الأسمدة والمبيدات في الزراعة، وعلى تصنيف الأراضي إلى زراعية ومرجية ومراع وإلى أراض تخصص للإنشاءات الصناعية وإلى الأبحاث.
كما اهتمت نصوص مختلفة بمسألة تلوّث الأرض (المرسوم 8735 بتاريخ 23 آب 1974 في مادته الثالثة) بمسألة الحفاظ على المناظر الطبيعية (قانون سنة 1939 وقانون سنة 1943) وبالأحراج (قانون سنة 1949)، وبإقامة المحميات الوطنية (قانون سنة 1992).
وإذا حاولنا تحرّي مصادر التشريع الإسلامي، في هذا الخصوص، فإنَّنا نجد اهتماماً أساسياً بالنظافة، «النظافة من الإيمان» وهناك عدد من النصوص التي تحض على إزالة أي نوع من العوائق من الطرقات: «إماطة الأذى عن الطريق صدقة» (8) ، كما أن المحتسب كان يمنع من البناء بالشكل الذي يضايق الناس، كأن يضيق الطريق فيأمر بالهدم حتى لو كان البناء مسجداً.
كما أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أمر قوماً تعدّوا على الطريق ووجهوا صوبه مصبات أقذارهم، بأن يزيلوا أسباب الضرر بين ذهابه في جولته التفتيشية وأيابه. «على أن أرجع وقد هدمتم هذه المجالس، وسددتم كلّ كوّة، وقلعتم كل ميزاب، وطممتم كل بالوعة على الطريق. فإن هذا في طريق المسلمين وفيه أذى لهم» (9) ، كما أن من بين مهمات المحتسب منع مجاري المياه الخاصة والجور الصحية من أن تتسرب أقذارها إلى الطرقات العامة.
________________________________________
(8)راجع: صحيح البخاري، كتاب المظالم، ج‏3، ص 145. ومسند أحمد بن حنبل، 2/329.
(9)مستدرك وسائل الشيعة، 27/119.

[الصفحة - 136]


وإلى هذا يمنع الإسلام إلقاء الأقذار في العديد من الأماكن الخاصة والعامة. فقد روي عن علي بن الحسين (صلي الله عليه و آله) أنه يمنع التغوّط على «شطوط الأنهار، والطرق النافذة، وتحت الأشجار المثمرة، وقرب أبواب الدور» (10) .
أما في موضوع مواجهة أخطار الأسلحة الكيماوية فإنه يمكن إثارة سنة الرسول (صلي الله عليه و آله) الذي كان يمنع، كما رأينا سابقاً، من إلقاء السم في بلاد العدو. وقياساً على السم، لا يمنع استخدام الأسلحة الكيماوية فحسب، بل والبيولوجية والنووية، بسبب الغاية المشتركة للمنع، وهي درء الدمار الشامل.
أما في مجال مكافحة التصحّر تحديداً، فإن للإسلام موقفاً مشهوداً، فالقرآن الكريم يلفت نظر الإنسان إلى الأرض المخضرّة على أنها نعمة من اللَّه تعالى: { ألم تر أن اللَّه أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة }{الحج/63}، { إنَّا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلبا وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم } {عبس/25 - 32} كما أن القرآن حين يصور فظاظة إنسان ووحشيته يصفه أحياناً بأنه ممن يتلفون النبات والحيوان: { وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل }{البقرة/205}.
هذا، إضافة إلى الكثير من الآيات التي تذكّر بأنعام اللَّه تعالى في رزق الإنسان الجنائن والسواقي، ويكفي أن تكون الجنة، وهي حديقة عظيمة، ثواباً للطاعة في الآخرة.
لهذا كان الإسلام يحضّ على الاستقرار واستنبات الأرض، حيث كان استثمار الأراضي زراعياً يسمح بحيازتها، بناء على قول رسول اللَّه (صلي الله عليه و آله) «من غرس شجراً أو حفر وادياً، بدءاً لم يسبقه إليه أحد، وأحيا أرضاً ميتة، فهي له قضاء من اللَّه ورسوله» (11) .
أما في مجال تدهور الوضع البيئي والاقتصادي في باطن الأرض، فإنه يمكن العودة إلى قاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» لنطبقها في مجال الجماعة، التي إن استفادت اليوم بقدر معين من الإسراف في استخراج ثروات الأرض، فإن خسارتها غداً لا تعوض.
________________________________________
(10)الكليني، م.س.، راجع كذلك: صحيح مسلم، م‏1، كتاب الطهارة، 70.
(11)المصدر نفسه، ج‏5، كتاب المعيشة، ص 280. راجع كذلك: البخاري، أدب/27. حرث/1، ومسلم، بيوع/10.

[الصفحة - 137]


المؤسسات البشرية
تطلق هذه التسمية خطأ على أشياء أقامها الإنسان في الطبيعة، على مر العصور، من أبنية وإنشاءات وقلاع وقصور وملاعب وغيرها، مما اهتمت به الأجيال المتعاقبة على وجه الأرض، وهي ذات قيمة تاريخية أو فنية، تساهم في معرفة التاريخ على نحو عام، كما تبيّن تطور الأعمال الهندسية والفنون بشكل خاص. وهي تحوّل اليوم إلى أملاك عامة، حتى ولو كانت في الملك الخاص أو ملكاً خاصاً من طريق تعويض أصحابها ووضع يد الدولة عليها.
وقد أقيمت، لدى الأمم المتحدة، منظمة الأونيسكو للاهتمام بالعلم والثقافة والتربية، فكان هذا الأمر من الصلاحيات المنوطة بها، فراحت تعمل مع الدول المختلفة من أجل الحفاظ على المواقع الأثرية على مختلف أنواعها، كما تعمل من أجل الحفاظ على الثروة الثقافية في مختلف أشكالها.
وقد انضم معظم بلدان العالم، إن لم يكن جميعها، إلى جميع الاتفاقات التي سنتها هذه المنظمة الدولية. كما انضم لبنان إليها، وذلك بالقانون 21 بتاريخ 30/10/1990، كما كان أصدر عدداً كبيراً من النصوص التي ترعى الآثار القديمة، وتصنّف بعض الأبنية والمواقع على أنها تراثية وأثرية، ومنها القرار رقم 221 بتاريخ 9 أيار سنة 1919، حول الآثار القديمة بشكل عام والقرار رقم 387 بالتاريخ نفسه المتعلق بمعاملة الآثار القديمة.
والمرسوم الاشتراعي رقم 22 بتاريخ 14 نيسان سنة 1943، المتعلّق بالأبنية والمواقع الأثرية. والقرار رقم 14 بتاريخ 8 آذار سنة 1988، الصادر عن وزارة السياحة والمتعلّق بتنظيم الاتجار بالآثار.
أما في الإسلام، فإن الحفاظ على الثروة العامة العائدة لجميع المسلمين، والموروثة تاريخياً، لا بدّ من أن يكون أمراً ملزماً، وبالتالي يصبح تدمير هذه الثروة أو سرقتها أمراً محرّماً.
وينطبق هذا الرأي على أنواع الأبنية والإنشاءات العمرانية، من قلاع وقصور ومشاريع، كما ينطبق على التراث العلمي وما إليه.
________________________________________

[الصفحة - 138]


أما الآثار التاريخية التي تفيد علم التاريخ، فلا بد من الحفاظ عليها للأغراض العلمية من جهة وللعبرة من جهة أخرى، كما ولقيمتها المادية والمعنوية من جهة ثالثة.
ولعلّ الإشكال يحوم حول الموروثات الفنية، وهذه يمكن أن تكون ذات طابع هندسي، فلا إشكال في المحافظة عليها، ويمكن أن تكون من المنحوتات التي تصوّر الأشخاص والحيوانات، وقد منعت هذه الأعمال مع نشوء الإسلام نظراً لحداثة عهد المسلمين الأوائل بالجاهلية وبعبادة الأوثان، إلاّ أن الأمر تغير بعد أن استقر الإسلام ولم تعد العودة إلى عبادة الأوثان محتملة. هذا مع العلم أن المنع طاول المنحوتات التي كان يتعبد لها المشركون عند انتشار الدعوة الإسلامية. أما آثار الأمم البائدة فلم يدمرها الإسلام، بل كان يحث على التأمل في أحوالها والاستدلال على قوة الأمم السابقة بالنسبة إلى قوة عرب زمن الرسالة، وكيف انتقم اللَّه منها لعصيانها. ففي مجال آثار الأمم السابقة يقول تعالى: { أفلم يهدِ لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات لأولي النهى } {طه/128} { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين } {القصص/58} { أولم يهدِ لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنَّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون } {السجدة/26} { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شي‏ء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم كذلك نجزِي القوم المجرمين } {الأحقاف/24 و25}{ وعاد أو ثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين }{العنكبوت/38}. { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال }{ابراهيم/45}.
أما في مجال التشديد على قوة الأمم السالفة، قياساً على قوة العرب إبان نزول القرآن، فيقول تعالى: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وإثاراً في الأرض فأخذهم اللَّه بذنوبهم وما كان لهم من اللَّه من واق } {غافر/21}. { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان}
________________________________________

[الصفحة - 139]


{ عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وإثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } {غافر/82}.
وهذه المساكن هي عبارة عن بيوت، وهي كذلك عبارة عن معابد تحتوي التماثيل والنقوش وما إليها. وما زال كل هذا ماثلاً للعيان في ما تبقى منها حتى اليوم.
من هنا فإن الحفاظ على هذه الأعمال والمنشآت، لا يمكن أن يتعارض مع مبادى الإسلام، بل الأولى أن يكون موقف الإسلام هو الإبقاء عليها لسبب ديني متعلق بالتأمل والعبرة، ولسبب علمي، وهو الذي يحثّ على معرفة أخبار الأمم الماضية للاتعاظ بها، وكم كان خلفاء الإسلام يستمعون إلى أخبار الأمم ويشرحون الدروس المستفادة منها. وأخيراً لسبب اقتصادي، إذ أن هذه الآثار تدرّ للمسلمين أموالاً طائلة يدفعها السياح والعلماء والباحثون الذين يفدون إلى زيارة هذه الآثار.
النِّفايات‏
أشرنا سابقاً إلى تضاعف حجم النفايات نتيجة للتزايد السكاني ولأساليب المعيشة والاستهلاك على وجه الخصوص، وعالجنا تأثيراتها السيئة على الهواء وعلى مياه البحار والمياه العذبة والأرض. وفي هذا المقطع سنسلّط الضوء على النفايات نفسها وما اتخذ بشأنها وموقف الإسلام بصددها.
لقد كانت النفايات، بأشكالها العادية، والخطرة، وشديدة الخطورة، موضوعاً لمعاهدات واتفاقيات متعددة، ولعل جميع الاتفاقيات البيئية تعالج موضوع النفايات، إلا أننا سنقتصر على بعضها المهتم بالنفايات تحديداً، ومن أهمها:
اتفاقية سنة 1968 التي تخوِّل الدول التدخل خارج حدودها في حالات التهديد الخطير بالتلوّث.
اتفاقية بال لسنة 1989 حول مراقبة حركة النفايات الخطرة عبر الحدود وتصريفها.
أما القانون اللبناني، فإلى جانب منع تفريغ مياه الحفر الصحية، فإن المرسوم 7835 تاريخ 23 آب سنة 1974، عاقب على ترك المياه المبتذلة تتسرب من الحفر، أو ترك هذه الحفر مكشوفة.
________________________________________

[الصفحة - 140]


ثم إن مشروع قانون البيئة يخصص لهذا الأمر فصلاً كاملاً، هو الفصل السادس من الباب الخامس، وهو يحتوي على 9 مواد، تتناول مسائل التخلص من النفايات بواسطة المعالجة المتكاملة بعد الجمع والنقل والتصنيع، أو الفرز والتخزين والتغليف والتلصيق والطمر، أو التسويق. كما تعالج إقامة المكبّات والمطامر، وتتشدّد في مسائل الطمر العشوائي غير المرخص به، وتطالب كل مواطن بأن يبلّغ عن وجود أية نفايات مهملة. ثم تطالب المواد المشار إليها (م 59) بتصنيف النفايات إلى شديدة الخطورة والخطرة والمضرة، وتتشدد في منع الخطرة وتخضعها عند الضرورة لترخيص خاص في إنتاجها أو استيرادها.
كما وتلزم المشاريع الصناعية والتجارية والزراعية، وكذلك مربّي المواشي وأصحاب المستشفيات بمعالجة نفاياتها بالطرق العلمية الصحيحة.
أمّا الإسلام فقد اهتم بالموضوع، وقد مرّ بنا كيف منع إلقاء الفضلات الإنسانية حيث يمكن أن تشكل أذى، وكيف حث على النظافة على أساس «أن اللَّه طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة» (12) ، كما مرّ بنا حديث علي بن أبي طالب إلى ثقيف التي كانت تعتدي على الطريق قرب الفرات.
وإذا كان هذا لا يدل على ضرورة جمع القمامة من البيوت، فإن السبب ربما يعود إلى أنها لم تكن تشكّل خطراً حينذاك، وقد كنا نرى الناس في القرى يستخدمون القمامة سماداً تستفيد منه الأرض، فلم تكن مشكلة، ولم تصبح كذلك إلاّ بعد أن سادت أساليب الاستهلاك الحديثة.
أما مسألة النفايات السامة والخطرة فيمكن أن تطبق عليها سنّة الرسول القاضية بمنع «إلقاء السم في بلاد العدو» فكيف بها في بلاد الملقي؟
وفي النهاية، فإن النشاطات المنتجة للنفايات من أي صنف كانت، فإن قاعدة «الغرم بالغنم» (13) تقضي بأن يتحمل أصحاب هذه النشاطات تكاليف معالجة نفاياتها.
ويبقى المتحكم في المسألة، في نهاية المطاف، قاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المنافع».
________________________________________
(12)سنن الترمذي، ج‏5، كتاب الأدب، ص 104.
(13)مجلة الأحكام العدلية العثمانية، م‏87.

[الصفحة - 141]


المنشآت المصنَّفة
وهي المنشآت المضرّة بالصحة، أو السلامة، أو المزعجة، الخاضعة لنظام الضابطة الإدارية، وهذه الضَّابطة مهمتها تدارك الضرر قبل وقوعه من طريق قمع مسبباته. وقد اهتمت كافة التشريعات الوطنية بهذه المنشآت فوضعت الضوابط المانعة من تفشي أضرارها، حتى أن أي حكومة في أي بلد تستطيع أن تتخذ من المراسيم في هذا المجال ما تراه ضرورياً حتى ولو لم تكن هذه المراسيم تطبيقاً للقانون‏ (14) .
وفي لبنان، تناول المرسوم الاشتراعي 21 ل تاريخ 22 تموز سنة 1932 المنشآت المصنّفة، وأخضع ترخيصها لشروط تحول دون انتشار أضرارها في المحال السكنية.
ثم تناولها مشروع قانون البيئة، في الفصل السابع من الباب الخامس (المواد 66 - 68)، وأكّد على الشروط المطلوبة، ثم أضاف شروطاً أكثر تشدّداً حيالها حماية للبيئة.
أما في الإسلام فإننا نجد موقفاً متشدّداً مع الأشكال الأولى لهذه المؤسسات، كما يمكننا الاستناد إلى المواقف العامة.
ففي ما يخص الأعمال (وهي الأشكال التي سبقت المنشآت) المضرّة بالصحة، أُعطي المحتسب صلاحية منع إقامة الإنسان تنّوراً في داره يؤذي بدخانه جاره‏ (15) .
وفي ما يخص الإزعاج، منع الإسلام أيضاً أعمال الحدادة وما شابهها إذا أثّرت على راحة الناس‏ (16) .
أما المواقف العامة، التي يمكن الاستناد إليها في الإسلام فهي مسألة إلقاء السم أولاً، وقاعدة «الغرم بالغنم» ثانياً، ذلك أن المستفيد من منشأة مهدّدة للصحة والسلامة أو مزعجة، عليه أن يتحمل هو تكاليف منع أذاها.
________________________________________
(14)ذلك أن التضييق على الحريات الفردية، ومن ضمنها حرية العمل (وبالتالي إقامة المنشآت المضرة بالصحة والسلامة والمزعجة) هو من مجال القانون الذي يسنه البرلمان، إلا أن الحكومة إذا لم تجد القانون المساعد في هذه الحالة، لا بد لها من أن تتصرف.
(15)راجع: الماوردي م. س.، ص 255. وأبا يعلي، م.س.، ص 302.
(16)راجع: الماوردي م. س.، ص 255. وأبا يعلي، م.س.، ص 302.

[الصفحة - 142]


المواد الكيماوية الضارّة أو الخطرة
لقد تنبَّهت الإنسانية، في منظماتها الدولية، لخطورة المواد الكيماوية سواء أكانت على شكل أسلحة أم على شكل مواد مدنية، ووقَّعت بشأنها معاهدات، منها ما أشرنا إليه، وهو يتناول أسلحة الدمار الشامل عامة أو الأسلحة الكيماوية تحديداً كاتفاقية سنة 1915 ومعاهدة سنة 1971 وسنة 1993، إضافة إلى قمة الأرض في الريودي جانيرو سنة 1992.
أما في لبنان فقد منعت وزارة الزراعة، بالقرار 21/1، بتاريخ 2 آذار سنة 1990، إنتاج 127 نوعاً من الأدوية الزراعية واستخدامها. ثم خصص مشروع قانون البيئة الفصل الثامن من الباب الخامس (المواد 69 - 71) لهذا الغرض، إضافة إلى نصوص أخرى كقانون الجزاء والقانون 64/88 بتاريخ 12 آب سنة 1988. وقد أخضع مشروع القانون إنتاج أو استيراد المواد الكيماوية الضارة بطبيعتها أو بتركيبها، ونتيجة لفعلها المباشر أو الإشعاعي، إلى ترخيص مسبق، وقضى بالمعاقبة المشدّدة على المخالفة.
أما في الإسلام فيمكن الاستناد إلى موضوع إلقاء السم، كما إلى قاعدة «الغرم بالغنم» لتنظيم مثل هذه النشاطات.
الأذيَّة الصَّوتية أو الضَّجيج‏
هذا الأمر محصور داخل حدود كل بلد، لذلك اهتمَّت التشريعات الوطنية به، ولعل الضابطة قامت، في ما قامت به من أجله، لوضع حد لإزعاج الناس بالأصوات الصاخبة، سواء أكانت أصوات آليات أو أدوات موسيقية أو أصواتاً بشرية. وما إخضاع المنشآت المصنفة: الخطرة والمضرة بالصحة والمزعجة، إلى الترخيص إلاّ وسيلة لمنع أذاها وضررها وإزعاجها عن الناس.
وقد عالج هذا الأمر المرسوم الاشتراعي 21 ل تاريخ 22 تموز سنة 1932، ثم عاد مشروع قانون البيئة ليفرد له فصلاً هو الفصل التاسع من الباب الخامس.
________________________________________

[الصفحة - 143]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف