البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صِدام الحضارات أم حوارها

الباحث :  زكي الميلاد
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  11
السنة :  السنة الثالثة خريف 1419 هجـ 1998 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  1595

صِدام الحضارات أم حوارها

الأستاذ زكي الميلاد (*)

نظرية نهاية التَّاريخ‏
يعود الصّعود السَّريع الذي عرفته نظريَّة «نهاية التاريخ»، مع بداية عقد التسعينيات من هذا القرن، في أمريكا وأوروبا، إلى أول مقالة نشرها صاحب هذه النظرية «فرانسيس فوكوياما» الياباني الأصل، الخبير في مركز الأبحاث والتخطيط التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، في مجلة «ناشيونال انترست» في صيف 1989م، إذ سرعان ما احتلت هذه المقالة العناوين الرئيسية في المجلات الأميركية مثل «التايم» و «النيوزويك» وغيرها. وتحوَّلت الأنباء عن نهاية التاريخ، في آونة قياسية، كما يقول «ألن ريان»، الكاتب الأمريكي المختص بمسائل الثقافة السياسية في الغرب الأوروبي، إلى رعشة في العالم كلِّه. وقد أثارت هذه الأنباء الكثير من عدم التصديق، حتى بالنِّسبة إلى أولئك الذين سرَّهم إعلان «فوكوياما» أن الديمقراطية لم تعد تواجه خطراً من أعدائها، وهذا لم يكن كافياً للإقناع بأن التاريخ قد توقَّف، وقد أصاب هذا الطرح الكثير من القراء بالذُّهول.
إستند «فوكوياما»، في تأسيس نظريَّته، على فلسفة «هيغل» في سيرورة التاريخ وصراع الأفكار، من زاوية التحليل النظري والفلسفي، وعلى التحولات والانهيارات التي حصلت في الاتحاد السُّوفييتي والمنظومة الشرقية وسقوط الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية، من زاوية التحليل الموضوعي.
ومن أهمّ ما يؤخذ على هذه النظرية أنّها جاءت لتعلن نهاية التاريخ في الوقت الذي كان التاريخ يتحرك وبسرعة كبيرة في مساحات واسعة من العالم.
________________________________________
(*)باحث وکاتب من المملکة السعودية، رئيس تحرير مجلة الکلمة.

[الصفحة - 117]


ولم يلبث فوكوياما أن طوَّر نظريته من مقالة إلى كتاب صدر بعنوان «نهاية التاريخ... والإنسان الأخير» فأثار المزيد من النقاش.
نظريَّة صدام الحضارات‏
وما إن هدأت عاصفة هذه النظرية، بجميع ما أثارته من حوارات وجدال على نطاق عالمي، حتى حلَّت مكانها نظرية جديدة، ومناقضة لها، وهي نظرية «صدام الحضارات» التي طرحها أستاذ الدِّراسات الاستراتيجية وعلوم الدولة في جامعة هارفرد، «صاموئيل هانتيغتون»، في المقالة التي نشرها في دورية «الشؤون الخارجية» في صيف 1993م. واستقبلتها الأوساط العالمية بنقد وتشاؤم، وفتحت حوارات بين مختلف قارات العالم، وما زالت تستقطب الاهتمام لأهميتها وخطورتها..
تفسير الانشغال الواسع بهاتين النظريتين‏
وما يفسر لنا الانشغال الواسع بهاتين النظريتين تقديم كل منهما تفسيراً شمولياً في تحليل المتغيِّرات العالمية وتقييمها وربط أجزائها على قاعدة نسق مفهومي شامل، مع تحديد اتجاهات السياسات العالمية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة ومستقبليات العالم مع القرن الجديد القادم. وهذا ما كان يشغل العالم بجميع مؤسَّساته ومراكزه وخبرائه، إذ إنه كان ينتقل إلى أوضاع جديدة في أغلب جوانبه وأبعاده واتجاهاته.
بالإضافة إلى خصوصيَّات كل نظرية، فنهاية التاريخ استعادت إحياء فلسفة «هيغل» التي تُعدّ فلسفة استيعابية لكثير من الفلسفات التي سبقتها، ولهذا فهي تمثل فلسفة مرجعية لكلا المنظومتين الشرقية والغربية.
أمّا نظرية «صدام الحضارات» فقد استثارت العالم الذي خرج لتوِّه من حرب باردة دامت أكثر من أربعة عقود من الزمان دفعت بالقوى الكبرى إلى التسابق على امتلاك أضخم ترسانات الأسلحة، وأكثرها فتكاً وتدميراً في العالم. ولهذا فإن بعض الباحثين رأى في هذه النظرية إحياءً للحرب الباردة وتوجُّهها وجهة جديدة، من
________________________________________

[الصفحة - 118]


حرب باردة بين الشرق والغرب إلى حرب بين الشمال والجنوب، ومن حرب بين الرأسمالية والماركسية، إلى حرب بين الغرب والإسلام.
قرن صدام الحضارات‏
وفي هذه المقالة يذهب «هانتيغتون» إلى أنَّ العالم، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، سوف يتعرَّض لانقسامات تختلف عن الانقسامات السابقة التي كانت تقوم على أسس اقتصادية أو سياسية أو جغرافية، فالانقسامات هذه المرة ستكون ثقافية وحضارية، بين الحضارات العالمية التي يحدِّدها بسبع حضارات هي: الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية، ويضيف إليها الأفريقية على تردد.
والفروق بين هذه الحضارات، كما يصفها «هانتيغتون»، ليست فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية. فكل حضارة فيها تتمايز من الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد، والدين، وهذا هو الأهم. وللناس في الحضارات المختلفة آراء متباينة عن العلاقات بين اللَّه والإنسان، الفرد والمجموعة، المواطن والدولة، الآباء والأبناء، الزوج والزوجة. وآراء مختلفة عن مسائل الحقوق والمسؤوليات والحرية والسلطة والمساواة. وهذه الفروق، كما يضيف «هانتيغتون»، نتاج قرون ولن تختفي سريعاً. إنها فروق أساسية بدرجة كبيرة من الاختلافات بين الأيديولوجيات السياسية والنظم السياسية، أو بين المصالح الاقتصادية والنظم الاقتصادية.
فالحضارة التي تشمل الدين والثقافة والنظم والعادات والتاريخ تشكل أقوى الهويات، وهي بذلك تشكل قاعدة الاختلاف الجوهرية بين البشر في النظر إلى الأشياء والحكم عليها.
من هنا يتوقّع «هانتيغتون» أن الصراعات القادمة، في العالم، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، سوف تكون أشدّ ضراوة وخطورة من السابق. وهو بهذا الكلام يوجه خطابه إلى الغرب وصنَّاع القرار هناك ويحثُّهم على الالتفات إلى هذه القضية وأخذ التدابير اللازمة والاحتياطات الوقائية، وبالذات من الصدام الحضاري بين
________________________________________

[الصفحة - 119]


الغرب والإسلام، وبتخوف أكبر إذا حصل تحالف وتقارب بين الدول الإسلامية والكونفوشيوسية. حيث يعتقد «هانتيغتون» أن البؤرة المركزية للنزاع في المستقبل ستكون بين الغرب ودول إسلامية، ويضيف إليها الكونفوشيوسية بحذر شديد. ولمواجهة صدام الحضارات يقترح «هانتيغتون» على الغرب تطوير تعاون أكبر وحدة في داخل الحضارة المسيحية، ومن ذلك إدخال دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية ومجتمعاتها داخل المجتمعات الغربية، هذا إلى جانب إبقاء العلاقات التعاونية مع روسيا واليابان وتطويرها.
ويرى هانتيغتون أن هذا النسق من التفكير والتخطيط يستدعي منع تطوُّر الصدام داخل الحضارة الغربية.
أمَّا عن الإجراءات التي يجب على الغرب اتخاذها في صدامه مع الحضارات غير الغربية، فكثيرة نذكر منها: منع ازدياد القوة العسكرية في الدول الكونفوشيوسية والدول الإسلامية وتقدمها، إضافة إلى المحافظة على التفوق العسكري الغربي في شرق آسيا وجنوبها.
يضاف إلى ذلك إذكاء الخلافات واستغلال الجوانب الخلافية، والعمل على حدوث الصدام بين الدول الكونفوشيوسية والدول الإسلامية.
كما أن على الغرب، إتباعاً لهذا النسق، أن يساند المجموعات الموالية للغرب في الحضارات الأخرى، بدعم التواصل معها، وتشجيعها حتى تقوى ويكون لها شأن داخل حضاراتها فتشكِّل بذلك وجوداً صديقاً للغرب.
أما، على المدى البعيد، فإن على الغرب أن يحاول من جانبه، وبصورة متزايدة، استيعاب تلك الحضارات التي تقترب قدراتها في القوة من قوة الضرب.
والخلاصة أنّ القرن المقبل، كما يعتقد «هانتيغتون»، سيكون قرن صدام الحضارات وليس قرن الصدام حول نظريات اقتصادية، أو سياسية، كما هو الحال بالنسبة إلى القرن الحالي. من هنا يتنبَّأ «هانتيغتون» بالصدام الحضاري بين الغرب والإسلام مستقبلاً (1) .
________________________________________
(1)انظر: كتاب «صدام الحضارات» لمجموعة من الباحثين، بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1995م.

[الصفحة - 120]


قراءة نقديَّة في نظريَّة صدام الحضارات‏
هذا النَّوع من التَّحاليل والأفكار بحاجة إلى قراءة نقدية تكشف الحقائق، وفي ما يأتي بعض ما تبيَّنته هذه القراءة من حقائق:
أولاً ـ إن الغرب، بمؤسَّساته ومراكزه ومعاهده وجامعاته، الدراسيَّة والبحثية والتخطيطية والاستراتيجية، منشغل، في هذه الحقبة، ببلورة نظريات مستقبلية تستكشف له اتجاهات السياسات العالمية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة وآفاق القرن الجديد القادم، وما يحمله من تحديات ومخاطر، إضافة إلى صوغ أنماط العلاقات بالمجتمعات والحضارات المتعددة ثقافياً ودينياً وعرقياً ولغوياً. وما هذه الأفكار والتَّحاليل وما رافقها من جدال ساخن وحوارات متواصلة إلا لغرض الوصول إلى نظريات جديدة ترسم للغرب سياساته وخططه وعلاقاته ليبقى محافظاً في المستقبل على تفوُّقه وتقدُّمه وهيمنته على العالم.
ولن يتوقَّف الغرب عند هذه النظريات فحسب، بل سوف نشهد أفكاراً أخرى، تتوافق مع هذه النظريات والتحاليل أو تتباين عنها. أمَّا نحن، في دول العالم العربي والإسلامي، فما زلنا منفعلين بهذه الأفكار ولم نغد مبدعين.
ثانياً ـ منذ الأزمنة القديمة، وإلى هذا اليوم، والغرب يؤسس نظريَّاته وأفكاره في علاقاته مع الثَّقافات والحضارات الأخرى غير الغربية على قاعدة الصدام والصراع، وليس على قاعدة الحوار والتعايش. وحتى لو ارتضى لنفسه التعايش مع الحضارات الأخرى، بوصفها أمراً واقعاً، فلن يقبل أن يتمَّ ذلك إلاَّ على قاعدة التعالي والهيمنة وتقسيم العالم إلى دول متقدمة من الدرجة الأولى، ودول نامية من الدرجتين الثانية والثالثة.
فمنذ القديم والغرب يصوغ علاقاته وفق أفكار الاستعمار ونظرياته، ومنها تعالي الجنس الأبيض وسمو العقل الأوروبي، وغير ذلك. وحينما تغيَّر العالم مع هذه المتغيِّرات والتحولات أخذ يبشِّر بنظريات مثل: نهاية التاريخ، البحث عن عدو جديد، صدام الحضارات وغيرها.
________________________________________

[الصفحة - 121]


ولعلَّ الجذر الفكري والثقافي لمثل هذه النظريات والأفكار يكمن في بعض الفلسفات الأوروبية التي تذهب إلى أن التناقض والصراع هما أساس التطور والتقدُّم، كما في فلسفة «النشوء والارتقاء والبقاء للأقوى» عند «دارون»، وفلسفة «القوة» عند «نيتشه» وفلسفة «التناقض» عند «هيغل»، وفلسفة «الصراع الطبقي» عند «ماركس» الخ...
وبعد التقارب بين المعسكرين الشرقي والغربي وتفكك الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، جرت حوارات موسعة ومكثفة في مراكز الدراسات الاستراتيجية في أمريكا تركَّزت حول السؤال التَّالي: ماذا بعد زوال الاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل عامل التحدِّي لأمريكا، هذا العامل الذي كان يستثير حوافز الفاعلية والنمو والتقدم في أمريكا وأوروبا؟ فكان الرأي الأقوى، في هذه الحوارات، الرأي القائل إن على أمريكا، لكي تحافظ على وحدتها وتماسكها وفعاليتها في التنافس على النمو، لا بد لها من البحث عن عدوّ جديد يحل مكان الاتحاد السوفييتي ويمثل موقع التحدي. والرأي الآخر الذي تراجع عن هذه الحوارات هو الذي كان يعتقد أنه، مع نهاية الحرب الباردة، على أمريكا أن تنصرف عن الشؤون الخارجية للعالم وتعمل على تقديم العون والمساعدات له وتتجه إلى الشؤون الداخلية فلا ترهق نفسها في نزاعات العالم وصراعاته.
وقبل هذه الحوارات بسنوات، وقبل هذه التحولات، وفي ظل ظروف الحرب الباردة، أعدّت أمريكا دراسات للإجابة عن السؤالين الآتيين: هل تكسب أمريكا من العالم في ظروف السلم؟ وأين هي مصالحها؟
وإذا عرفنا ما تكسبه أمريكا من مبيعات الأسلحة، وما يعود إليها من عائدات مالية طائلة عرفنا أن مصالحها تتحقَّق في ظروف الحرب وليس في حالة السلم.
بهذه الطريقة يفكر العقل الاستراتيجي في أمريكا والغرب في علاقاته بالحضارات الأخرى.
ثالثاً ـ من أخطر الإشكاليات القديمة والحديثة التي تحكم العقل الغربي، في علاقاته بالأمم والشعوب، انطلاقته من فلسفة «التمركز الأوروبي» ومحوريته في
________________________________________

[الصفحة - 122]


حضارة العالم. فمن الغرب يبدأ التاريخ ومنه ينتهي، ومن عنده تبدأ الحضارة وإليه تعود، عقله وعرقه يختلفان عن عقول الآخرين وأعراقهم، فالعلوم والفلسفة والآداب والفنون هي من إبداعه وتأسيسه، إلى غير ذلك من مزايا.
ويقول الدكتور «عبد الوهَّاب المسيري»، في نقده لهذه الإشكالية: «لقد دعم الإنسان الغربي دعوى المركزية لنفسه بمجموعة من النظريات الخاصة بعالم الأخلاق والهوية والحضارة، تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، وتؤكد تفوُّقه، هذه النظريات هي ما يطلق عليه النظرية «العنصرية» التي شكلت إطاراً شاملاً لرؤية الذات والحضارة والسلوك» (2) .
ويضيف «روجيه غارودي»: «إن الغرب اعتقد أنه مباح له تحديد مكانة الآخرين والحكم عليهم لصالح تاريخه وغاياته وقيمه» (3) .
وما لم يتخلَّ الغرب عن عقدة التمركز والمسوّغات التي يخوِّلها لنفسه فلن يتمكَّن من تأسيس علاقات ترضى عنها الأمم وتتفاعل معها.
رابعاً ـ يقول المستشرق الإنجليزي «مونتغمري دات»، في كتابه «فضل الإسلام على الحضارة الغربية» الذي نقله إلى العربية الأستاذ «حسين أحمد أمين»، سنة 1983م: «كان يمكن للتواجد الإسلامي أو العربي في إسبانيا وصقلية، إعتباراً من القرن الثامن الميلادي، وللتواجد الأوروبي في شرق البحر الأبيض المتوسط، خلال فترة الحروب الصليبية، أن يكونا كافيين وحدهما لخلق قدر من التفاعل الحضاري» (4) .
ومنذ ذلك التاريخ، وإلى هذا الوقت، والعلاقات بين الغرب والإسلام يحكمها الصِّراع والصِّدام، من غير الوصول إلى نظرية حضارية إيجابية تكون في مصلحة الإنسانية والحضارة في هذا العالم.
والعقبة الرئيسية، كما يذهب إلى ذلك «روجيه غارودي»، تتمثل في إخفاق هذه العلاقات وبقاء التَّوتُّر مستمرَّاً، هي النظرة التي حملها الغرب منذ آلاف السنين عن الإسلام‏ (5) . ومع كل التطور الفلسفي والعلمي والمعرفي في الغرب، وبالذات في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والحفر المعرفي لتاريخ الإنسان
________________________________________
(2)الحياة (لندن) العدد 11508، الأحد، 21 آب (أغسطس)، 1994م.
(3)الإسلام دين المستقبل، روجيه غارودي، ترجمة: عبد المجيد بارودي، بيروت: دار الإيمان، 1983م، ص 175.
(4)فضل الإسلام على الحضارة الغربية، مونتغمري وات، ترجمة حسين أحمد أمين، بيروت: دار الشروق، 1983م، ص 26.
(5)الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق، ص 173.

[الصفحة - 123]


والحضارات، إلا أنه لم يتوصل، أو لا يريد أن يتوصل، إلى نظرية تقول بإقامة علاقات حضارية إيجابية مع الإسلام. ولعل المشكلة تتمثل في أن الغرب ما زال يعتقد، إما عن قناعة أو عن توجُّس، أن الإسلام هو عدوَّه الحضاري والتاريخي في الماضي والحاضر والمستقبل.. وهذا الاعتقاد المضلِّل هو الذي يقف دون وصول الغرب إلى نظرية حضارية جديدة. وليس من مصلحته ومصلحة الإنسانية وحضارتها الجمود على هذه الرؤية.
خامساً ـ إن الغرب، كما يقول «عبد الحليم هربرت»، الفرنسي المسلم، قام على أساس منطق نفي الحضارات الأخرى وتدميرها. وكان قيام أسبانيا، وهي أول قوة غربية معاصرة تقوم في أوروبا، حصيلة حرب دامت أكثر من أربعة قرون، وأسفرت في عام 1492م عن تدمير الأندلس بوصفها من أهم مراكز الإشعاع الحضاري.
وفي العام نفسه قامت أسبانيا بغزو القارة الأمريكية، وخلال قرن واحد فقط لم يبق من مجموع مئة مليون نسمة، وهم السكان الأصليون للقارة عند وصول الأوروبيين، سوى عشرة ملايين نسمة. فالغزو أهلك تسعة أعشار السكَّان.
وقامت أسبانيا وفرنسا وانكلترا وهولندا، بعد ذلك، بتنظيم تجارة العبيد للتعويض عن نقص القوى البشرية في القارة الأمريكية، بعد المجازر التي ارتكبها الأوروبيون في سكان القارة الأصليين من الهنود، فتم شراء عشرة ملايين أفريقي من القارة السَّوداء ونقلهم إلى القارَّة الجديدة. وقد قامت هذه القوى نفسها، إضافة للولايات المتَّحدة الأمريكية، في نهاية القرن التاسع عشر، باستخدام الصِّينيين لبناء قناة بنما. وفي الوقت نفسه قامت فرنسا، في بدايات القرن العشرين، باستيراد العمال من البلاد الإسلامية في شمال أفريقيا للعمل في مناجم فحمها، وترافق الاستعباد الهائل لعموم القارات مع تصميم لتدمير بقية الحضارات‏ (6) .
وما زال الغرب يتعامل بمنطق النفي مع الحضارات الأخرى. ويتمثل أكبر ضرر قام به الغرب في أنه لم يؤسس حضارته على استنهاض الحضارات الأخرى، بل على نفيها وعدم الاعتراف بها. وإلى هذا الوقت والشعوب الأصلية من الهنود،
________________________________________
(6)انظر: الحركة الإسلامية ومعالم المنهج الحضاري، زكي الميلاد، بيروت: دار البيان العربي، 1991م، ص 131.

[الصفحة - 124]


في الأمريكيتين، الشمالية والجنوبية، تطالب بالاعتراف التاريخي بحضاراتها. ولديها اعتراض شديد على استعمال مصطلح «اكتشاف» القارَّة الجديدة، وعلى الاحتفالات التي تقام بهذه المناسبة. وفي اعتقاد هؤلاء أن الذي حصل، مع وصول «كولومبس» سنة 1492م، ليس اكتشافاً بل تدمير مروِّع لأمّة وحضارة. ويساندهم في هذا الموقف العديد من الأدباء والمفكرين في تلك الدول.
حوار الحضارات‏
من هذه الحقائق نتوصَّل إلى أن البشرية ومستقبلها المشترك بحاجة إلى أطروحة بديلة عن أفكار «نهاية التاريخ» أو «صدام الحضارات»، وغيرها من النسق نفسه.
والأطروحة البديلة، حضارياً، والتي تخدم مصلحة الإنسانية، هي أطروحة «حوار الحضارات» وهي ليست من الأطروحات الجديدة، لكنها الأطروحة التي تحتاج إلى عقد توافق عام حولها وتعزيزها وترسيخها أخلاقياً ومعرفياً لأنها تمثل خيار الإنسانية الأمثل لبناء مستقبل جديد تشارك جميع الحضارات في صنعه. وهذه هي قاعدة السلام العالمي، والتنمية الشاملة، والبناء الحضاري، ونهاية الحروب والدمار والفقر وتحسين نوعية الحياة لكل البشر.
مرتكزات نظرية «حوار الحضارات» ومنطلقاتها
أولاً ـ إن الحضارة هي للناس جميعهم بغض النَّظر عن اللون والعرق واللغة والقوميّة والتاريخ والتراث.. والحضارة لا تلغي هذا التنوع، بل تجعل منه مصدر إثراء وتفاعل وتراكم، على قاعدة تعايش مشترك فعَّال قوامه العدل والحرية. فالحضارة ليست لذاتها، وليست للعلم، وليست للأشياء، بل هي للإنسان أولاً وأخيراً.
ثانياً ـ إن تاريخ الحضارات، في الاجتماع الإنساني، هو تاريخ تفاعل وتراكم وتجدد وبناء مشترك.. فليس هناك حضارة عرفها التاريخ البشري من غير تراكم الحضارات التي سبقتها وتفاعلها معها وإثرائها.
________________________________________

[الصفحة - 125]


وهذه هي فلسفة التطور وقانون التقدم في الحياة. فلو كان كل مجتمع يبدأ من ذاته ويقف عند هذا الحد ولا يتواصل، أو يتفاعل مع المجتمعات الأخرى، لما كانت هناك حضارة للإنسان في هذه الحياة.
والحضارة المعاصرة ليست استثناء على القاعدة، وليست حالة خاصة متفرِّدة، بل هي نتاج جميع الحضارات السابقة عليها، وتراكم التراث الحضاري لكلّ البشرية وتفاعله. وهذا ما حاول «روجيه غارودي» إثباته في كتابه «حوار الحضارات».
ثالثاً ـ لا بدَّ من أن يسود اعتقاد مفاده أن الحفاظ على الحضارة المعاصرة واستمرارها وتقدمها ونجاحها يتمثل في انتقال الحضارة إلى جميع المجتمعات البشرية، لا أن تكون محصورة في جزء محدَّد من العالم.
وعلى الغرب ألاّ يتخوَّف من انبعاث حضارات جديدة في أي بقعة من العالم. بل عليه أن يساعد المجتمعات على نهوضها الحضاري، لا أن يكون عقبة أمام هذه الأمم في بنائها الحضاري. وهذا أفضل دور يمكن أن يؤدِّيه الغرب لحضارته ولمستقبل الإنسان والحضارة في العالم.
ومن جانبنا فمهما اختلفنا مع الحضارة المعاصرة، ومهما كانت ملاحظاتنا عليها، إلا أنها مكسب حضاري كبير لكل الإنسانية، وليس من مصلحة الإنسانية انهيار هذه الحضارة أو دمارها، بل المصلحة في ترشيدها وتزكيتها.
وهذا لا يعني بالتأكيد تغريب العالم وفرض النموذج الغربي على المجتمعات الإنسانية.
رابعاً ـ إن نظرة علميَّة، موضوعية، أخلاقية، لأوضاع العالم الشاملة تؤكِّد لنا حقيقة من الصَّعب أن نختلف حولها، وهي أن هذه الأوضاع العالمية لا ترضي أحداً، وهي بحاجة إلى تغيير وإصلاح، وبكيفية جديدة، لتحقيق وضع عالمي جديد يعيش فيه الإنسان بكل إنسانيته.
وهذا يعني أن العالم بحاجة إلى نهضة حضارية جديدة تخرجه من أزماته الخانقة ومشكلاته المتراكمة والمستعصية وفي الجوانب كافة. وهذا لن يتحقق من غير نظرة جديدة لحوار الحضارات.
________________________________________

[الصفحة - 126]


وكما يعتقد «غارودي».. فإن المشكلات أصبحت تطرح منذ الآن على المستوى العالمي ولا يمكن أن تحل إلاَّ على هذا المستوى العالمي. وذلك بالانخراط في حوار حضارات حقيقي مع الثقافات غير الغربية.. إن المشكلة الأساسية في الثقافة الحاضرة هي أن نقضي على التصوُّر التسلُّطي في الثقافة الغربية. وضرورة بسط التاريخ كله على ضوء نظرة لم تعد تشوِّهها الأحكام المسبقة الاستعمارية عن الغرب، بل لم تعد تعدّ أوروبا مركز العالم‏ (7) .
خامساً ـ إن حوار الحضارات بحاجة إلى عقلية ومنهجية من نوع مختلف. فليس هو حوار بين السياسيين، ولا بين الاقتصاديين، ولا حتى بين المستشرقين، بل هو حوار بين العلماء والمفكِّرين والمؤرِّخين للثقافات والحضارات وللتراث والتاريخ. وهو بحاجة إلى مؤسسة عالمية تأخذ على عاتقها تطوير هذا الحوار بين الحضارات والتشجيع عليه والارتفاع به إلى مستوى إمكانياته وتهيئة المقدمات الأساسية لإنجاحه ورعايته باستمرار وتأكيده بوصفه مطلباً أساسياً لمستقبل الإنسان وحضارته.
سادساً ـ إن تقدم حوار الحضارات ونجاحه يتوقَّف على تحوُّل عقبة أساسية، وهي الغرب في نظرته إلى ذاته وإلى الآخر الحضاري، فمن غير تغيير هذه النظرة في زاوية الذات والآخر فإن حوار الحضارات يكون صعباً. لأن الغرب يمكن أن يقوم بدور كبير وأساسي في هذا الجانب إن هو أراد ذلك.
في تقديمه لكتاب «حوار الحضارات»، يقول الأستاذ «محمد المزالي»، وهو يوجه كلامه إلى الغرب: «نسألهم اليوم ببذل مجهود كبير من التواضع الفكري، والتسليم بأن مستقبل البشرية تساهم كل الأمم في نحته وتحمُّل تبعاته، لا فضل لأمّة على أخرى إلا بعطائها وطرافة مساهمتها، ونسألهم بكل لطف التخلِّي عن الاعتقاد بأنهم هم كل شي‏ء وأنهم مصدر المعرفة والقوة والسعادة، وأن من سواهم من البشرية مضطرون إلى الأخذ عنهم والاقتداء بهم واستهلاك بضاعتهم، ونسألهم باسم الموضوعية والعلمية التي يحملون لواءها، أن يعيدوا قراءة التاريخ من دون غفلة عن بعض جوانبه وأن يقدموا على بعث مستقبل زاهر للإنسانية عماده مشاركة كل القارات، وأساسه تعاون كل الثقافات والحوار بين الحضارات من دون استثناء» (8) .
________________________________________
(7)من أجل حوار بين الحضارات. روجيه غارودي، ترجمة د. ذوقان قرقوط، بيروت: دار النفائس، 1990م، ص 91.
(8)حوار الحضارات، روجيه غارودي، ترجمة د. عادل العوا، بيروت فباريس: منشورات عويدات، 1978م، ص 285.

[الصفحة - 127]


ويضيف الأستاذ مزالي، فيقول: «وإن ابتكار مستقبل حقيقي يقتضي العثور مجدداً على جميع أبعاد الإنسان التي نمت في الحضارات وفي الثقافات اللاغربية. وبهذا الحوار بين الحضارات وحده يمكن أن يولد مشروع كوني يتسق مع اختراع المستقبل. وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع.. وأن نرسم منذ اليوم الخطوط الأولى لهذا المشروع الكوني في القرن الحادي والعشرين، مشروع الأمل. ذلك أن مشروع الأمل يستلزم، كيما يخلق، نسيجاً اجتماعياً جديداً، وكيما يخترع، مفهوماً سياسياً جديداً، أن نمنحه بعداً جديداً، وألا نتكلم عن منظور فردي المنزع، بل عن منظور جمعي، منظور المشاركة» (9) .
ونحن، في العالم الإسلامي، إذا أردنا أن ندخل في حوار الحضارات بجدّ، فلا بدَّ من أن نبلور المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر وملامحه المستقبلية ومعالمة في العدل والحرية والمساواة وحقوق الإنسان والبناء الحضاري.
فحوار الحضارات هو لمستقبل أفضل للإنسان ولحضارته في هذا العالم.
________________________________________
(9)المصدر نفسه، ص 9.

[الصفحة - 128]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف