البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الحريات الشخصية في المنظور الاسلامي

الباحث :  آية اللَّه الشيخ محمد مهدي شمس الدين , وآية اللَّه الشيخ محمد علي التّسخيري. والأستاذ الدكتور أسعد السحمراني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  11
السنة :  السنة الثالثة خريف 1419 هجـ 1998 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 21 / 2015
عدد زيارات البحث :  2272
الحرِّيات الشخصيَّة في المنظور الإسلامي
آية اللَّه العلاَّمة الفاضل الشيخ محمد مهدي شمس الدين , رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
وآية اللَّه العلامة الفاضل الشيخ محمد علي التَّسخيري.
والأستاذ الدكتور أسعد السحمراني، أستاذ العقائد والفرق في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية ـ بيروت.
وفي ما يأتي الأسئلة المطروحة وأجوبة العلماء الباحثين عنها:
السُّؤال الأوَّل: هل لكم أن تحدِّثونا عن الحرية، بوصفها خاصَّة إنسانيَّة، وركيزة من ركائز التكريم الإلهي للإنسان تقتضيها ذاته وطبيعته ودوره ومركزه في هذا العالم؟
العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين: نلاحظ أن نزوع الإنسان نحو الحرية ورفض القيود أمر ثابت وظاهر في تكوين البشر وفطرتهم، ويدلُّنا هذا على أن فطرة الحرية هي الملائمة لمقاصد اللَّه سبحانه وتعالى في الإنسان والكون.
كما نلاحظ ذلك في مجال التَّشريع.
فالأصل الأوَّلي في عمل الإنسان بشأن نفسه؛ حيث أن للإنسان ولاية على نفسه، فمن هذه الناحية الأصل في وضعية الإنسان مع نفسه في الكون هي الحرية.
والأصل الأوَّلي في علاقة الإنسان بالطَّبيعة، هو أيضاً الحريَّة، كما أن الأصل الأوَّلي في علاقة الإنسان بالإنسان الآخر هو الحريَّة. وهذا يعني أن الإنسان لا يتقيد بإنسان آخر، فإذا قلنا إن الأصل في ولاية الإنسان على غيره هو عدم الولاية، تكون النتيجة أن كل إنسان هو حر بالنسبة إلى الإنسان الآخر، وليس لأي إنسان أن يقيد إنساناً آخر في حريته.
إذن البعد المتعلِّق بولاية الإنسان على نفسه الأصل فيه الحرية، والبعد المتعلِّق بعلاقة الإنسان بالطبيعة الأصل فيه الحرية، والبعد المتعلِّق بالإنسان
________________________________________

[الصفحة - 257]


الآخر الأصل فيه الحرية، وكما قلنا من جهة أنه لا ولاية لأحد على أحد فلا تحد سلطة إنسان من حرية إنسان آخر وسلطته.
إذن مقتضى الفطرة البشرية هو ثبوت الحريات الفردية إلاّ في موردين:
الأوَّل: أن تكون ضارة في الفرد نفسه فوالتخصيص هنا تخصيص عقلي ـ فبحسب المبدأ الأوَّلي يمكن أن يقال إن الحرية تشمل ولاية الإنسان حتى على الإضرار بنفسه، إلا أنه حيث قد ثبت بإدراك العقل أن الشرائع الإلهية هي للإرفاق بالبشر ومنفعتهم، فإنَّنا نرى أن إدراك العقل لعدم جواز الإضرار بالنفس يكشف عن حكم الشرع بعدم جواز الإضرار بالنفس.
الثَّاني: تتقيَّد حرية الإنسان ـ بحسب حكم العقل ـ بعدم الإضرار بالآخر أو عدم الإضرار بالمجتمع، إن ممارسة الإنسان لحريته يجب أن لا تكون ضارة لإنسان آخر ولا تكون ضارة بالمجتمع.
وقد قلنا في بعض أبحاثنا: «الأصل العام في الشريعة هو عدم ولاية أحد على أحد، وعدم إلزام فعل أو قول أحد لأحد إلا ما خرج بالدَّليل المعتبر شرعاً».
إنَّ مبدأ حرية الإنسان ينسجم مع مبدأ التكريم الإلهي للإنسان { ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } }الإسراء/70{ كما أننا نلاحظ أنَّ الآية 157 من سورة الأعراف حيث تعلن أنَّ هدف التشريع هو التحرير في قوله تعالى: { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } .
إن هذه الآية واردة في شأن رسالة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) (الإسلام)، والإستشهاد بها هنا من حيث أنها تبيِّن مبدأً عاماً في الرِّسالات السماوية، وهو أن كل رسالة جديدة تنقل الإنسانية إلى مرحلة متقدمة من الحياة، وترفع عن الإنسان جملة من الآصار والأغلال التشريعية الناشئة من طبيعة المرحلة السابقة وظروفها الثقافية والإجتماعية في المجتمعات التي ظهرت فيها، كما ترفع عنه الآصار والأغلال التي كبَّلته نتيجة تسلط حكّام الجور، أو نتيجة الجهل وشيوع عقلية السحر والخرافة.
________________________________________

[الصفحة - 258]


إذن الأصل في وجود الإنسان في العالم هو الحرية، لأن مبدأ الحرية مبدأ ثابت في تكوين البشر وفي التشريع الإلهي.
وفي هذا السِّياق، فإن هذا الأصل الأوَّلي يتقيَّد بأحكام العقل، وهو ما أشرنا إليه، ويتقيد كذلك بأحكام الشرع.
فإذا لاحظنا الشَّرع نجد أن الحريَّة الإنسانية المطلقة مقيَّدة بولاية اللَّه ورسوله ومن ثبتت له الولاية في المجال السياسي. حيث أن هذه الحرية المطلقة، وغير الخاضعة لأي قيد من القيود، تتقيَّد في مجال التشريع بالشرع الإلهي، وتتقيَّد في مجال التطبيق بولاية أولي الأمر، وهم المعصومون الرسل والأوصياء. وتتقيَّد خارج إطار الولاية المعصومة بما يقيَّد به الإنسان من ولايات أو للأشخاص أو الهيئات التي يخضع لها الإنتظام الإنساني.
ونلاحظ، في هذا الصدد، أن الحرية هي ممارسة إرادية لولاية الإنسان على نفسه وعلى محيطه، فلا يمكن أن نقول عن الحيوان إنه حر، لأن الحيوان يتصرف في نفسه وتجاه غيره من الحيوانات، وفي الطبيعة، بغريزته وليس بإرادته، لأن الحيوان ليست له إرادة بل له غريزة، والتصرُّف الغريزي لا يعكس الحرية، بل يعكس الضرورة والضرورة، ليست حرية بطبيعة الحال.
الكائن البشري، من بين مخلوقات اللَّه سبحانه وتعالى، في العالم المنظور (عالم الشهادة)، هو وحده الذي لا يتصرَّف بغريزته فقط، بل يتصرف بإرادته، وغريزته محكومة لإرادته، فهو الحر وحده دون سائر الحيوانات، وهذا يكشف عن أن الحرية هي خصيصة إنسانية، ولعل من جملة المعنى المراد في قوله تعالى: { وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } هو هذا الجانب بالنسبة إلى خواص الإنسان التي تميِّزه عن غيره من الحيوانات العجماء.
هذه خلاصة وافية للجواب عن السُّؤال الأوَّل من أسئلتكم.
العلاَّمة الشَّيخ محمَّد علي التَّسخيري: الحرية ـ كما قلتم ـ خاصة إنسانية وركيزة من ركائز التَّكريم الإلهي للإنسان وهي تعني:
________________________________________

[الصفحة - 259]


حرية إرادة الإنسان في تقرير نوع السّلوك، وهي بالطبع محدودة بالقوانين التكوينية الثابتة، فلا تؤثِّر إلا في المجالات المفتوحة للإرادة.
وحرية الإنسان هذه تستلزم أن لا تحدها القوانين التشريعية إلاَّ أن هذه القوانين إذا انطلقت من مفهوم «العدالة» كان لها أن تُقنِّن مسألة أعمال الإرادة بالشَّكل الذي يضمن هذه «العدالة» ولا يخرقها.
والذي يسوِّغ هذه العلاقة بين «الحرية» و «العدالة» هو الوجدان الإنساني، فإنه يقضي بكل وضوح بأنَّ العدالة أمر حسن على الإطلاق في حين أن «الحرية» أمر يقتضي الحسن إن لم يكن هناك مانع، فهي إذن قيمة مقيدة في مقابل الإطلاق في العدالة.
وهذه «العدالة المطلقة» تارة يكشف عنها الوجدان نفسه وأخرى يكشف عنها «الدين»، باعتباره صيغة مطروحة من قبل اللَّه (الخالق العالم اللطيف الخبير)، وهي تتناول الأطروحة التفصيلية العادلة لحياة الإنسان. ومن الواضح أن الوجدان لا يستطيع أن يكتشف جميع العلاقات الكونية ليعلم بالتفصيل أسلوب تحقيق العدالة في إشباع الحاجات الإنسانية، وحينئذ فهو يوكل الأمر إلى خالق الكون (هذا الخالق الذي تم التوصُّل إليه عبر مكونات وسبل وجدانية فطرية).
أ.د. أسعد السحمراني: الإنسان خليفة اللَّه في الأرض، وقد أعطاه اللَّه سبحانه التكريم لآدميته، وهذا التكريم جاء في قوله تعالى: { ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيبات وفضَّلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلا } .
ولقد سخَّر اللَّه تعالى للإنسان ما في البر والبحر وأعطاه الصورة الأرقى بين المخلوقات، وفي هذا كان قول اللَّه تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ في أَحْسَن تَقْويم } .
الإنسان الذي أعطي هذه المكانة مُنح نعمة العقل، وكان مكلفاً «انطلاقاً» من عاملين لا بد من توافرهما:
1 - العقل: وهو مناط التكليف، وإذا فقده الإنسان سقط عنه التكليف، وفي هذا كانت القاعدة المأثورة: «إذا أخذ ما وهب سقط ما أوجب».
________________________________________

[الصفحة - 260]


2 - البلاغ السماوي: وهو أن تبليغ الإنسان بدين اللَّه من خلال الرسل صلوات اللَّه عليهم، هو مناط التكليف الثاني بقوله تعالى: { وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولا } .
بعد أن يتوافر هذان العاملان يكون الإنسان مكلَّفاً بعبادة اللَّه والتزام شرعه، مع هذا فقد تُرك للإنسان القرار، وأعطي الحرية في أن يؤمن أو يكفر، وفي أن يطيع أو يعصي، وبذلك يكون أمر الثواب والعقاب مبنيَّاً على قاعدة الحرية في الاختيار.
ومن النصوص القرآنية التي تبيّن ذلك قول اللَّه تعالى: { إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً } ، وقول اللَّه تعالى: { وقل الحقِّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } .
والإنسان الذي أعطي الحرية إلى هذا الحدِّ يحاسَب يوم الدين عن أفعاله في هذه الدُّنيا، ولكن يُتْرك له في ذلك الموقف، بين يدي اللَّه، أن يدافع عن نفسه وأن يبين ما يريد تبيانه. قال اللَّه تعالى: { يوم تأتي كلُّ نفس تجادل عن نفسها وتوفَّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } .
لهذا نجد أن الإنسان، بطبيعته، ينشد الحرية ويدفع دونها أغلى التضحيات، ويناضل من أجل الحصول عليها. والإنسان بطبعه وفطرته يأبى الظلم ويطمئن في مناخ العدل. والظلم كما نعلم محرّم، والظالم يعاقب على فعله أشدّ العقاب، ويقول اللَّه تعالى: { وما للظالمين من أنصار } ، وفي الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا».
فالأصل أن حياة الإنسان متلازمة مع الحرية، والإنسان لا يبدع ولا يبتكر ولا تظهر مواهبه إلا في مناخ الحرِّيَّة وفي ظل العدل. أما إذا ساد الاستبداد وعمّ الظلم، فإن الإنسان في مثل هذه الحالة تفسد أخلاقه ويعتمد الأساليب الملتوية، أو يثور ويغضب ويعتمد العنف منهجاً لدفع الظلم ولينال حقوقه.
والعدل فرضه الإسلام كي يُلغى به الظلم وتحقق الحرية، لأن العدل يحقق للإنسان عزّته وكرامته، والعبودية تكون للَّه رب العالمين لا لسواه، وقد رغّب الإسلام بالعدل
________________________________________

[الصفحة - 261]


وحضَّ عليه، ووعد العادل بالأجر، كما توعّد الظالم بالعقاب، وفي الحديث النبوي الشريف: «ثلاثة لا تُردّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها اللَّه فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: «وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين» .
نخلص للقول بأن فطرة الإنسان تهوى الحرية وتعشق العدل، وبالمقابل تنكر الاستبداد والظلم وترفضهما.
السُّؤال الثَّاني: بعد انتشار قيم الليبرالية وثقافة الديمقراطية، أصبح عالمنا المعاصر يتغنّى بالحرية أكثر من أي وقت مضى ويجعلها في طليعة آماله ومقدَّساته، ويميل إلى تحريكها في فضاءات لا محدودة وإلغاء جميع القيود والتحفظات التي تحدُّ منها. كيف ترون إلى هذه الظاهرة من زاوية إسلامية؟
العلاَّمة الشَّيخ محمَّد مهدي شمس الدِّين: نحن ننظر إلى هذه الظاهرة نظرة إيجابية بطبيعة الحال. ونلاحظ أن شعار الحرية، في العالم المعاصر، رفع باعتباره هدفاً ومطلباً في مجالين:
المجال الأول: في ما يتعلَّق بالاجتماع السياسي لمواجهة سلطة الدولة والحاكم ولرفض مصادرته لحريات الآخرين بمعنى التحكم بهم، وذلك بفرض الضرائب عليهم، ومصادرة أموالهم وتقييد تنقلاتهم والسيطرة على ملكياتهم، وسوقهم إلى حروب لا تعنيهم، والزج بهم في السجون لتهم لا تقتضي السجن والعقوبة، إلى غير ذلك من ألوان الاستبداد التي يمارسها الحكم الطغياني.
المجال الثاني الذي رُفع فيه شعار الحرية واعتبر قيمة من القيم السياسية فالأخلاقية هو في مقابل سلطان الكنيسة، وكان سلطاناً يتراوح بين التسلُّط السياسي وبين التسلُّط الاقتصادي، والتسلُّط الذي يعود إلى ممارسة حقوق خارج إطار الإيمان الديني والشعائر الدينية، وهذا كان ناشئاً من التحالف بين الكنيسة وبين السُّلطان السياسي.
في هذين المجالين نحن نقول: من الطبيعي أن يتحرك الناس باتجاه تحرير أنفسهم من الهيمنة غير المشروعة التي تصادر الحقوق الطبيعية
________________________________________

[الصفحة - 262]


للإنسان على نفسه وحفظ كرامته وحفظ مصالحه والتمتع بنعم اللَّه عليه وبعائلته، وما إلى ذلك.
هناك مجال ثالث من مجالات رفع شعار الحرية، وهو ما يتعلق بممارسة الحرية في الجانب التشريعي والأخلاقي، في مجال الإيمان الديني والشعائر الدينية والضوابط الأخلاقية. وكذلك الحرية في مجال الاقتصاد، ونذكر أنه طرح شعار الحرية في مجال العمل الاقتصادي في مقابل الأنظمة الإقتصادية التي تحد من حرية رأس المال، وهذا يلحق بالمجالين الأوَّلين.
في هذا المجال الثالث تكتَّلت القوى لوضع القوانين التي تجيز أو توجب ممارسة الحرية في المجال الاجتماعي، وفي مجال القيم الثقافية، وفي مجال العلاقات، في مجال المرأة فوضعية المرأة في المجتمع، وفي مجال العلاقات الإنسانية داخل الأسرة وداخل المجتمع، وفي مجال ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، وفي مجال الاختلاط، وسائر المجالات التي تتعلق بالعلاقات الإنسانية غير السياسية وغير الدِّينية.
من وجهة نظر إسلامية لا بد من أن نميِّز هنا بين مستويين:
لا معنى للكلام عن الحرية في كل ما يدخل في إطار التشريع والمبادى العامة والفلسفة العامة لقيم الأخلاق كما صوَّرها الإيمان الديني، لأن الحرية تكون في هذه الحالة ضد الذات وضد الآخر وضد المجتمع، أما في المجال الخارج عن هذا الإطار فلا بد من الاعتراف بشرعية العمل للتحرر، كما في كثير مما يتعلق بالقيود العائدة إلى وضعية المرأة في المجتمع وإلى الحقوق الطبيعية للفرد في الأسرة أو في المجتمع، ولهذا تفاصيل سنتعرض لها إنشاء اللَّه.
وهذا الموقف يخضع للمبدأ العام الذي سنبيِّنه في الجواب على السؤال التالي، وهو: مبدأ الحرية الطبيعي الفطري هل هو مطلق؟ أو أنه يلحظ في إطار التشريع الديني والأخلاقي والقيمي لكل مجتمع من المجتمعات، بحيث يكون مجال الحرية في إطار مجال التشريع، ولا مجال للحرية خارج تشريعات المجتمعات، حيث أن مفهوم الحرية في الإجتماع الإنساني لا يتحقق إلا في
________________________________________

[الصفحة - 263]


إطار نظام للعلاقات، وإذن فلا بد من أن يوضع إطار تشريعي للحرية، ولكن هذا الإطار التشريعي يستحيل أن يكون واحداً في كل العالم بالنسبة إلى كل الشعوب وكل الحضارات وكل الدول، بل نلاحظ أن كل مناخ حضاري، كل عالم حضاري، كل عالم ثقافي له قيمه الضابطة والوازعة التي تتأطر الحرية في داخلها.
في هذا الإطار نقول: إنَّ موقف الإسلام من هذه الظاهرة، ظاهرة رفع شعار الحرية والعمل لأجلها، هو موقف إيجابي.
هذه خلاصة للجواب عن السؤال الثاني.
العلاَّمة الشَّيخ محمَّد علي التَّسخيري: إسلامياً لا نستطيع أن نعطي الحرية إطلاقها المطروح في النَّظم الليبرالية، لأننا لا نؤمن بالأسس التي تقوم عليها الليبرالية، وهي على الأقل تنفي استنتاج المعرفة العملية الاجتماعية من المعرفة الدينية أو استنتاج القيم من النظرة الكونية، وهذا ما نرفضه تماماً، بل نعتقد أنه يقود البشريَّة للانحطاط والجشع والدَّمار.
ولقد ظنَّ الاشتراكيون أن نقطة الضعف في الرأسمالية تتمثَّل في إيمانها بالملكية الخاصة، فعملوا على رفض هذا المبدأ وإقامة نظام اشتراكي يحد من الحرية الشخصية بل يحاول القضاء عليها إلا أنهم اكتشفوا بقاء تلك المصائب والجشع الإنساني بشكل أكثر حدة وأبشع آثاراً، والسرُّ في ذلك أنهم أبقوا العلَّة الأصيلة ولاحظوا أحد آثارها ليقضوا عليهم، وهذه العلَّة الأساسية هي مسألة قطع الصِّلة بين حياة الإنسان وعالم الغيب والمعنويَّات.
أ. د. أسعد السحمراني: عرف العالم الأوروبي، في هذا القرن العشرين للميلاد، انقساماً حادَّاً بين معسكرين:
1 -المعسكر الغربي الذي يعتمد الليبرالية التي يطرحها تحت عنوان: الديمقراطية، وفي طياتها كان يطرح مباهياً حرية المعتقد وحرية التعبير والرأي وغيرهما...
2 -المعسكر الشيوعي الشرقي الذي كان يركِّز على الجانب الاجتماعي، ويباهي بأنه يعمل لتأمين الفرص المتساوية للناس
________________________________________

[الصفحة - 264]


ويمنع الاستغلال الاقتصادي. وبعد سقوط المعسكر الشيوعي، عملت أمريكا ومعها الغرب من أجل إشاعة مناخ فكري ثقافي يقوم على مقولة أن الليبرالية الغربية هي التي يجب أن تنتصر من أجل إسعاد الشعوب، ويتباهون بما يقوم في مجتمعاتهم في ميدان تداول السلطة في باب الحريات العامة، والشخصية منها بشكل خاص.
لقد جنّدت أمريكا والغرب أقلاماً ومؤسسات لتسويق فكرة انتصار الليبرالية الغربية وأن العقبات التي يجب أن يزيلوها بعد سقوط الشيوعية هي الإسلام وحضارات شرقي آسيا في الصين وسواها، بذلك يتحقق الانتصار للبيرالية الغربية، ويكون ذلك النهاية للصراع بين الحضارات، ومِنَ الذين تجنّدوا لتسويق هذه المقولات، الأمريكي صامويل هنتنغتون في كتابه: «صدام الحضارات»، والأمريكي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما في كتابه: «نهاية التاريخ».
وإذا كانت الحرية مطلباً وملازمة للفطرة الإنسانية إلا أن الحرية، وفق الثوابت الإسلامية، لها ضوابط وقواعد، وليست الحرية تحللاً أو تهتكاً وسعياً مسعوراً وراء الشهوة كما هي الحال في عالم الغرب وملحقاته.
إن مجتمعنا العربي وعالمنا الإسلامي، وفي دول الجنوب الفقيرة عموماً، ينتشر فيه عدد من المنبهرين بثقافة الغرب الذين يظنون أنَّ الإصلاح يمكن أن يتمّ من خلال وصفة جاهزة تنقل في محفظة من بلد لآخر، وهذا أمر يخالف الواقع ويجانب الصواب لأن الإصلاح ينطلق مشروعه من رحم الأمة ومن شخصيتها الحضارية وقيمها، ولا يمكن أن يعتمد المشروع المستورد، هذا مع العلم أن الليبرالية الغربية تُطلق العنان للأنا وللقيم المادية، وهذا لايناسب مشروعاً إصلاحياً لأمتنا العربية والإسلامية التي تؤكِّد قيمها على التوارث بين الفرد والمجتمع، وبين المادي والروحي.
وإذا كان من المفيد أن نأخذ ببعض ما يناسبنا من التجربة الغربية إلا أنه لا يصح النقل الحرفي والتقليد الأعمى كما يفعل بعض المأخوذين بمدنيَّة الغرب والذين باتوا وقفاً للفكر الغربي، ما أخرجهم من دائرة المشروع الحضاري للأمة الذي ينطلق
________________________________________

[الصفحة - 265]


مجراه من حلقة مركزية هي شرع اللَّه تعالى.
الحرِّية والديمقراطية عندنا تتمثَّلان في ما يحقِّق مقاصد الشريعة، ويوفِّر الفرص لتكريم الإنسان المستخلف في الأرض، ولا يمكننا أن نقبل حرية أشبه ما تكون بحالة فوضى لا أوامر فيها ولا نواهي.
السُّؤال الثَّالث: خصَّ الإعلان العالمي لمبادى حقوق الإنسان، وكذلك المواثيق الدولية للحقوق التي تلته، الحرِّيات الشخصية للإنسان بكثير من البنود، فدعا ذلك الإعلان وتلك المواثيق إلى احترام حرية الرأي والتعبير، وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وحرية العمل السياسي والاجتماعي في الإطار السلمي، وحرية العمل والكسب، وحرية تكوين العائلة، وحرية الإنتساب المواطني... الخ.
فكيف ترون إلى هذه الحريات من زاوية الإسلام.. هل يوافق عليها، على إطلاقها، أو أن له عليها بعض القيود؟
العلاَّمة الشَّيخ محمَّد مهدي شمس الدين: أولاً فيوافق الإسلام على هذه الحرِّيات من حيث المبدأ على إطلاقها، وليست له عليها أية قيود. هناك تحفُّظ بالنسبة إلى ما يسمَّى حرية الاعتقاد وسنتكلم عنه، ولكن علينا أن نلاحظ المبدأ التالي في شأن الحرية بوجه عام: الحريات الشخصية والحريات العامة.
الحرية لا تمارس في الفراغ، سواء في ذلك حرية الشخص بالنسبة إلى ذاته أم حريته بالنِّسبة إلى غيره أو مع الطبيعة.
إن الحريات العامة لا تمارس من قبل الشخص أو الجماعة في الفراغ، وإنما تمارس ضمن مجتمع، ولهذا المجتمع مرتكزات يقوم عليها، فهو ينتمي إلى حضارة، وإلى نظام قيم ومفاهيم تفرضها ثقافة معيَّنة ينتمي إليها أيضاً، كما ينتمي إلى نظام مصالح ينتظمها وضع تنظيمي سياسي واجتماعي.
إذن كل إنسان يمارس حرياته ضمن هذا المناخ، وهذه الحريات محكومة بهذا المناخ، مفهوم الحرية العام مفهوم مجرد، ولكن تطبيقات الحرية وتفسيراتها تتلوَّن وتتكيَّف باللون والكيف الحضاري والثقافي والقيمي لكل مجتمع ولكل أمة من الأمم.
________________________________________

[الصفحة - 266]


فمثلاً يمكن أن نقرّ أن المرأة حرة، ولكن لا نستطيع أن نقول إن مفردات حرية المرأة واحدة في جميع المجتمعات، لأن هذه المفردات، هذه التطبيقات للحرية تخضع لقيم ومعايير معيَّنة، وإذا ادَّعى بعضهم أن المرأة يجب أن تكون حرة من كل قيد على الإطلاق، فإن هذه الدعوى تنتمي إلى فكرة التفلُّت من كل القيم، ولا تكون دعوة إلى الحرية، لأن الحرية الفردية ـ في المجتمع المتحضِّر ـ مستحيلة الحصول؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك شي‏ء حراً على الإطلاق.
لا بد من أن ينسجم نظام الحريات، في كل مجتمع، مع شريعة ذلك المجتمع وعقيدته وأخلاقياته المنبثقة عنهما.
ولا يمكن لنظام أن يتهم نظاماً آخر بأنه متهتك وفوضوي وإباحي، مثلاً، إلا بمقدار ما ينتهك قيمه الخاصة، لا يمكن أن يتهم النظام الآخر بأنه منغلق واستبدادي ورجعي وما إلى ذلك إلا بمقدار ما ينتهك قيمه الخاصة، ما دام هناك معايير متنوعة للقيم وللأخلاق، فالحرية تتلون بهذا اللون.
فمن هنا نقول إن حرية الرأي والتعبير محترمة في الإسلام ضمن معاييرها، وكذلك حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وحرية العمل السياسي والاجتماعي من قبيل حرية العمل والكسب، ولكن لا بدَّ من مراعاة المعايير، فثمة معايير للقيم التي تحكم الاقتصاد، فكما أن الكسب عن طريق الغصب وعن طريق السرقة يعتبر على مستوى البشر جميعاً كسباً غير مشروع، فإن الإسلام يعتبر الكسب، عن طريق الربا أو طريق الغش أو عن طريق الكذب والتشويه والتزوير والتدليس، أيضاً، كسباًغير مشروع.
حرية تكوين العائلة، مثلاً، ثابتة في التشريع الإسلامي وتخضع لنظام قيم يضع بعض القيود بالنسبة إلى هذه القضية، فلا بد من أن يخضع المسلم لهذه القيود.
حرية الانتساب المواطني كذلك.
جميع هذه الأمور يقرُّها الإسلام، ولكن من ضمن مفاهيمه وقيمه الخاصة.
والقضية المثيرة للدهشة هي أن الإسلام لا يحاكم في قضية الحريات
________________________________________

[الصفحة - 267]


في عصرنا وفقاً لقيمه الخاصة، بل وفقاً لقيم حضارة أخرى، وعقلية قانونية أخرى، وعقلية تشريعية أخرى، وقيم أخرى. وفي هذه الحالة، ليس الإسلام بأولى بالمحاكمة من الحضارة أو من التشريع أو من الفكرة الثقافية أو من المجتمع الذي يحاكمه، فإن الإسلام أيضاً يمكن أن يحاكم المجتمعات الأخرى وفقاً لقيمه.
قلنا: هذه المسألة تخضع لنظام القيم في كل حضارة وفي كل مجتمع، فكما أنه لا يجوز أن يُحاكَم الإسلام وفقاً لمعايير خارجة عنه، فإن الإسلام لا يعطي نفسه حق محاكمة الزواج من الأرحام عند المجوس مثلاً، لأنه يعتبر ذلك شريعتهم وثقافتهم وأخلاقياتهم فإنه لا يقبل أن يُحاكَم ويدان بالتخلف حينما يقول إنه لا يشرِّع زواج المسلمة من غير المسلم مثلاً.
العلاَّمة الشَّيخ محمَّد علي التَّسخيري: طبيعي أن يكون الإعلان العالمي قد أقيم على أسس ليبرالية تتغاضى عن معتقد الإنسان ومقتضياته، ولذلك جاء هذا الإطلاق في الحريات الممنوحة فيه، في حين أننا نعتقد أن هناك فرضين تختلف الحقوق على أساسهما، وهما فرض الإيمان باللَّه والدين المنظم للحياة، وفرض عدم الإيمان بذلك، وتختلف الحقوق والواجبات من هذا الفرض إلى ذلك، ففرق بين مجتمعين أحدهما يؤمن باللَّه وبالآخرة وبالدين الذي ينظم الحياة كلها والآخر الذي لا يؤمن بذلك، وحينئذ فكيف نتصور إيماناً مشتركاً كاملاً بالحقوق بين هذين المجتمعين. إنَّ هذا التصور نفسه يعني رفض الإيمان أو عدم تأثيره في حياة الإنسان، وهذه حقيقة مرفوضة وجدانياً.
وبتعبير آخر لا يمكننا أن نسمح للإنسان أن يتدين بدين ينظم الحياة كلها، ثم نسمح له أن يرفض كل ما يتطلبه ذلك الإيمان من مقتضيات سلوكية فردية واجتماعية ليعيش في حياة ليبرالية متحررة من كل شي‏ء. إن هذا يعني التلاعب بالقيم والاستقرار الإنساني عموماً، ويعني التناقض بشتى صوره.
أ.د. أسعد السحمراني: يطرح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي مضى عليه نصف قرن من الزمن، ومعه مواثيق دولية ودساتير شعوب
________________________________________

[الصفحة - 268]


كثيرة، حقوق الإنسان ويعدّد أبوابها. وهو بذلك لم يأت بجديد أو بما هو بعيد عن الإسلام وحضارته، فالحريات العامة التي تحدَّث عنها لخّصها الخليفة الراشدي الثاني، عمر بن الخطاب، رضي اللَّه عنه، في قوله المأثور: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
وإذا كانوا يتحدثون عن حرية الاعتقاد، فالإسلام ضمن هذا الحق لجميع الناس، والقاعدة هي: { لا إكراه في الدين } وإذا كانوا يتحدثون عن حرمة النفس، وصيانة حياة الإنسان، فالإسلام أكَّد على ذلك، وقد جاء في القرآن الكريم: { أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} ، وفي الحديث الشريف: «الإنسان بنيان اللَّه ملعونٌ من هدمه».
وإذا كانوا يتحدثون عن حرية كسب الرزق والعمل، فإن الإسلام قد أعطى هذا الحق للناس جميع الناس؛ حيث جاء في سورة الملك قول اللَّه تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } .
وإذا كانوا يتحدثون عن حرمة المنزل فإن الإسلام قد ضمن هذا الحق لكل الناس ومنع من دخول أي بيتٍ من دون استئذان أهله مهما كانت الدواعي. قال اللَّه تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتدخلوا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم واللَّه بما تعملون عليم } .
وإذا كانوا يتحدثون عن حق الملكية والدفاع عن المال وكل ما يخصّ الإنسان فإن الإسلام قد ضمن هذا الحق وصنّف من مات مدافعاً عن حقوقه شهيداً. ففي السُّنَّة النبوية أن رجلاً جاء إلى الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) يسأله: «يا رسول اللَّه، أرأيت إذا أراد رجل أن يأخذ مالي؟
فقال الرسول: لا تعطه.
قال: إذا قاتلني؟
قال: قاتله؟
قال: أرأيت إذا قتلني؟
قال: فأنت شهيد.
قال: أرأيت إذا قتلته؟
________________________________________

[الصفحة - 269]


قال: فهو في النار».
وإذا كانوا يتحدَّثون عن الرفق بالحيوان ويؤسِّسون لذلك الجمعيات، فإن الإسلام سبقهم إلى ذلك؛ حيث طالب الإنسان بأن لا يحمّل دابته أكثر مما تطيق، ومن الصور البارزة في هذا الباب حكاية المرأة التي عُذّبت بهرتها والتي وردت في الحديث النبوي الشريف، ونصُّه: «عُذِّبت امرأة في هرَّةٍ سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض».
والعرب، عندما خرجوا بالإسلام فاتحين، لم يعرف العالم أرحم منهم، كما قال الفرنسي غوستاف لوبون، بينما نرى اليوم المنادين بشرعة حقوق الإنسان، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأمريكية، يمارسون العدوان والظلم والاستعمار ضد الشعوب والأمم ويكيلون بأكثر من مكيال ويبيحون لأنفسهم استخدام القوة ضد غيرهم، كما أنهم ينهبون ثروات الشعوب ويعتدون على حرماتها، وما ذلك إلا لأن ديمقراطيتهم لا تلتزم وازعاً دينياً أو قيماً دينية فاضلة، بينما بالنسبة لنا الحريات متلازمة مع الضمير الديني، وتنطلق من ثوابت الشريعة وتتحرك باتجاه مقاصدها، وعلى رأسها حفظ الإنسان وصيانة كرامته وتحقيق سعادته.
السُّؤال الرَّابع: يتَّهم بعض المدافعين عن حقوق الإنسان الإسلام بأنه، وإن كان لا يصادر حرية غير المسلم في اعتقاده وممارسة شعائره الدينية (لا إكراه في الدين)، ولكنه يقهر المسلم فيفرض عليه عدم تغيير عقيدته إذا هو أراد، وإلا وقع تحت طائلة أحكام «الردَّة»، ومنها القتل والحرمان من الإرث والتَّفريق بينه وبين زوجته. كيف تردّون على هذه التهمة؟
العلاَّمة الشَّيخ محمَّد مهدي شمس الدين: نمهِّد للجواب بأن مبدأ عدم الإكراه في الدين من المبادى الأسس في التَّشريع الإسلامي السياسي والثقافي والإجتماعي، فإن آية { لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغي.. } }البقرة/256 - مدنيَّة بلا خلاف‏{ صريحة في ذلك، أو ظاهرة ظهوراً بيِّناً على الأقل، ونذكر في ما يلي ما وردني في سبب نزولها وما تدل عليه..
________________________________________

[الصفحة - 270]


إن الرِّواية الواردة في سبب نزول هذه الآية صريحة في أنها نزلت في حالة ارتداد ولدَي الحصين (أحد الصحابة) عن الإسلام إلى المسيحية، حيث طلب الحصين من رسول اللَّه (صلي الله عليه و آله و سلم) إجبار ولديه على الرجوع إلى الإسلام فنزلت الآية.
ونصَّ الآية إمّا قضية خبرية حاكية عن تكوين العقل الإنساني والروح الإنسانية، وفي هذه الحالة تكون نتيجتها حكماً دينياً شرعياً ينفي شرعية الإكراه على اعتناق الدين. وإمّا قضية إنشائية فيكون مضمونها حكماً شرعياً بعدم مشروعية الإكراه على اعتناق الدين. والظاهر هو الثاني بقرينة الجملة التعليلية { قد تبين الرُّشد من الغي } ، وهذا الحكم الشرعي قائم على حقيقة تكوينية، وهي أن الإكراه إنما يؤثِّر في الأفعال المادية لا في الأمور الاعتقادية وقضايا الضمير.
وهذه الآية غير منسوخة قطعاً، لأن التعليل بقوله تعالى: { قد تبيَّن الرُّشد من الغي.. } ينفي إمكانية وقوع النسخ، إذ نسخ الحكم المعلل إنما يكون بنسخ علته ورفعها، ولا ريب في أن علة الحكم المذكور خالدة إلى الأبد ولا يعقل نسخها ورفعها.
ومضمون الآية ينسجم ويتَّفق مع كل ما ورد في القرآن الكريم من عدم تشريع فرض الإسلام والإيمان بالنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بالقوَّة.
والسرُّ في ذلك أن هذه قضية عقلية يقينية، فالعقائد أمور وجدانية عقلية تتبع وعي الإنسان وفهمه وإدراكه، وهي مساحة لا يمكن ممارسة القهر والإرغام فيها، بل هي مجال لحرية الإنسان.
نعم يمكن الإرغام على التظاهر بالأقوال والأفعال المطابقة للاعتقاد المراد فرضه من غير قناعة ومن غير إيمان، ولكن هذا لا يكون ديناً.
رُوي في الدر المنثور أن الآية نزلت في شأن أبناء الأنصار الذين هوَّدتهم أمهاتهم، فلمَّا أجلي بنو النضير كان هؤلاء الأبناء فيهم، فقال آباؤهم: (لا ندع أبناءنا، فأنزل اللَّه...).
وروي أن هؤلاء الأبناء رضعوا من بني النضير، فلمَّا أمر النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: «لنذهبن معهم ولندين دينهم»، فمنعهم
________________________________________

[الصفحة - 271]


أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، فنزلت فيهم...
وروي أن الآية نزلت في رجل من الأنصار، من بني سالم بن عوف، يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيَّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم): «ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية» فأنزل اللَّه فيه ذلك.
والرِّوايات غير متنافية بل متطابقة، والظاهر منها وجود حالات متعدِّدة من هذا القبيل.
بعد هذا التمهيد، نقول:
إن مسألة العقيدة، مسألة الإنتماء الديني في الإسلام، ليست مسألة فكرية وعقلية محضة، بل تتصل بالإجتماع السياسي من جهة وتتصل بالاجتماع المدني من جهة أخرى.
إنتماء المسلم إلى الإسلام يشكِّله ضمن أمَّة، ويشكِّله ضمن اجتماع سياسي.
يشكِّله ضمن أمَّة بما لهذا المفهوم من مضمون سياسي وقيمي أخلاقي واجتماعي وثقافي، ويشكله ضمن مجتمع سياسي بمعنى الكلمة، مجتمع ينظِّم المصالح السياسية ويرعاها، وتتفرع حقوق خاصة للمسلم ضمن هذا الاجتماع السياسي، إن الإعتقاد الديني في الإسلام ليس رؤية ثقافية محضة، وليس رؤية علمية محضة، هو أمر يتعدى هذين الاعتبارين.
من هذا المنطلق نلاحظ:
إذا تغلَّبت على عقل المسلم ووعيه شبهة أساسية، فإن الإسلام يطلب منه أن لا يستسلم لهذه الشُّبهة التي أدَّت به إلى التشكيك بالإسلام، وأن يتعمق في البحث ويسأل أهل العلم في شأن شبهته، فإذا ترسخت في عقله ونفسه فإن الإسلام يطالب المرتد مطلقاً (الفطري والملّي) أن يحتفظ بشبهته لنفسه وأن لا يحوِّلها إلى مادة للدعاية، فلو فرضنا أنه أراد تحويل شبهته أو قناعته إلى ثقافة عامة، فله ذلك، ولكن فليخرج عن دائرة الأمة وعن دائرة الاجتماع السياسي الإسلامي، وذلك لما قلناه قبل قليل من أن الانتماء الديني في الإسلام ليس مجرد انتماء ثقافي بل هو انتماء مؤسساتي يجعل للمنتمي حقوقاً على المؤسسة، مؤسسة الأمة ومؤسسة المجتمع.
________________________________________

[الصفحة - 272]


إن المسلم يتمتَّع بحقوق الزواج، ويتمتَّع بصفة الكفاءة للمسلم الآخر والمسلمة الأخرى، ويتمتع بحقوق مالية على المجتمع والجماعة التي ينتمي إليها من الأخماس والزكوات وغيرها (الآن لا نتكلم عن أن هذه الحقوق مطبقة أو غير مطبقة) وعليه واجبات للجماعة والمجتمع منها أن يتجند ويجاهد للدفاع عن المجتمع الإسلامي باعتباره مسلماً، وأن يدافع عن عقيدته الإسلامية.
إن ارتداد المسلم عن الإسلام يسقط حقوقه الناشئة من انتمائه إلى المجتمع الإسلامي باعتباره مسلماً.
قد يقال: فليعلن عدم إسلامه ولْيتخلَّ عن هذه الحقوق ولتسقط سلطة المجتمع حقوقه.
نقول: هذا لا يكفي، لأنه حينما يعلن عدم إسلامه يعلن خروجه على نظام المجتمع، وليس على ثقافة المجتمع، ففي هذه الحالة يمكنه أحد أمرين:
إما أنه يعتبر أن هذا الشك، أو هذا الرأي، هو شأن خاص به كما هو كذلك ـ فعليه أن يحتفظ به لنفسه، ولا يحاول تعميمه على المجتمع لئلاّ يخل بنظام الاجتماع العام في المجتمع.
وإمَّا أن يعتبره شأناً عاماً ـ وهذا خطأ منه ـ فعليه في هذه الحالة أن يخرج عن المجتمع وأن ينفصل عنه مادياً، ويخاطبه من خارج.
أمَّا أنه إذا شكَّ في بعض الأمور الاعتقادية، أو عدل عن الإسلام، جعل من شكوكه وشبهاته مادة للدعاية وللترويج وللتبشير ضد الإسلام بين المسلمين داخل المجتمع، ومن داخل الإسلام نفسه، فهذا أمر لا يوافق عليه الإسلام ولا يقتضيه مبدأ الحرية.
إن هذا المرتدّ، في هذه الحالة، لا يقوم بنشاط ثقافي، بل يقوم بعمل يقوِّض البناء الاجتماعي للإسلام، لأن الارتداد عن الإسلام ليس مجرد تلوين وتغيير في مذهب ثقافي كما لو انشق على مدرسة من مدارس الرسم أو مدارس التلحين الموسيقي أو مدارس المعمار مثلاً، واخترع طريقة جديدة في التلحين الموسيقي أو مذهباً في الرسم أو المعمار مثلاً، إنه ليس كذلك، بل هو يُدْخل تغييراً عميقاً في شبكة علاقات واسعة النطاق داخل المجتمع، وهو يدعو بعمله هذا إلى
________________________________________

[الصفحة - 273]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف