البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المعرفة الفقهية، المكوّنات وعوامل التأثير

الباحث :  الشيخ إبراهيم بدوي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  58
السنة :  السنة الخامسة عشر صيف 1431هجـ 2010 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 10 / 2015
عدد زيارات البحث :  1667
المعرفة الفقهية،
المكوّنات وعوامل التأثير

الشيخ إبراهيم بدوي (*)


تمهيد
انطلاقاً من كون الإسلام ديناً خالداً، يُفترض فيه أن يماشي كافّة التطوّرات الحضاريّة في مختلف المراحل الزمنيّة التي تمرُّ بها البشريَّة وصولاً إلى نهاية الحياة على وجه هذه الأرض.
وممَّا لا ريب فيه أنَّ مسيرة البشر في عالم التقدّم الفكريّ والحضاريّ وعلى مستوى العلاقات الاجتماعيّة وتشعّباتها، وعلى مستوى المتطلَّبات الاقتصاديّة المستجدّة وتفريعاتها، هي مسيرة تقفز في عالم التطوّر بطريقةٍ مذهلةٍ ينبغي لأيّ تشريعٍ لكي يواكبها أن يكون حاملاً لإمكانيَّة التغيّر في ذاته، فلا يكون جامداً عصياً على التكيّف، كي لا يتخلَّف عن ركب التقدّم البشريّ تاركاً بني الإنسان وحدهم يُعالجون أمورهم كلٌ على طريقته دون إضاءة شمعة هداية تنير لهم الطريق، فالشريعة الإسلاميَّة لا يُمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التطوّر، بل لا ريب أنَّها مهيَّأة من داخلها لمسايرته وضبطه بما يتناسب مع مقاصدها العامّة.
إنّ المستقرئ للشريعة الإسلاميّة يجد فيها من عوامل السعَة والمرونة ما يسمح لها بمواكبة العصر بكلِّ تغيّراته حسبما تفرضه الوقائع المستجدَّة على ساحة
________________________________________
(*) كاتب وباحث من الحوزة العلمية، من لبنان.المقالات الثلاث الأولى في هذا المنتدى قدّمت في ندوة أقامتها مجلة المنهاج بالتعاون مع معهد الرسول الأكرم(صلى

[الصفحة - 224]


الحياة بملاحظة اختلاف الزمان والمكان دون أن يَعني ذلك تغييراً في التشريع، بل ما وقع من تطوّر فهو في فهم الفقيه للنصّ الديني على وفق المتغيّرات الثقافيّة والاجتماعيّة العامّة تماشياً مع المصادر الاجتماعيّة المساعدة على استنباط الفتوى كالعرف والعقلاء وأهل الخبرة كما سيأتي.
ولا يخفى أنَّ موضوع الثابت والمتغيِّر في الأحكام الفقهيّة قد تمَّ بحثه والفراغ منه، وليس هنا موضع تفصيله.
ـ علم اجتماع المعرفة
هو علم يُعنى بدراسة العلاقة القائمة بين المجتمع والمعرفة ومدى التأثير المتبادل بينهما. وقد عرّفه عالم الاجتماع الفرنسيّ جورج غورفيتش (1894 ـ 1967) بأنَّه: دراسةُ الترابطات التي يُمكن قيامُها بين الأنواع المختلفة للمعرفة من جهة، والأطُر الاجتماعيّة من جهةٍ ثانية (1).
فعالِم الاجتماع مهتمٌ بتفسير المعرفة كظاهرةٍ طبيعيّة تتولّد في مجتمع ذي خصائص طبيعيّة، وغير مهتمّ بفحواها ومضمونها.
وما يهمّنا نحن في هذا البحث المختصر هو محاولة الإضاءة على جانبٍ محدَّد من جواب علم اجتماع المعرفة، وهو مدى تأثير المجتمعات المختلفة بما تشتمل عليه من تنوّعٍ دينيّ ومن عادات وتقاليد وموروثات ثقافيَّة، على المعرفة الفقهيّة تحديداً، لنعرف ما إذا كان لها تأثير على عمليّة استنباط الحكم الشرعي.
وقد تعرّض القانوني الشهير مونتسكيو (1689ـ 1755) إلى التأثير المتبادل بين المجتمع والقوانين التشريعيّة الوضعيّة كما سيأتي، وعمل على إيجاد ربط بينهما ولو بحدود معيّنة. ويقول إميل دوركهايم (1858 ـ 1917): إنَّ الغالبيّة الكبرى من آرائنا وميولنا ليست من صنعنا، وإنَّما تأتينا من الخارج (2).
________________________________________
(1) - غورفيتش ، جورج ، الأطر الاجتماعيّة للمعرفة، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ، 1981 ، ص23 .
(2) - دوركهايم ، إميل ، قواعد المنهج في علم الإجتماع ، القاهرة 1961، ص54 .

[الصفحة - 225]


ـ العوامل الاجتماعيَّة المؤثِّرة في المعرفة الفقهيَّة
هناك مجموعة عوامل اجتماعيّة من شأنها أن تؤثِّر في نظرة الفقيه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ العامل الدينيّ
المقصود منه هنا هو التنوّع الدينيّ الحاصل في مجتمعٍ واحد، فإنَّ تعايش المكلَّفين مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى قد يفرض رؤية خاصّة على الفقيه تتعلّق بالأحكام التي يقدِّمها لمقلِّديه، وتحديداً تلك المرتبطة بالتعامل الاجتماعيّ مع الآخرين. فمِّما لا شكَّ فيه أنَّ مثل هذا المجتمع ستتقاطع فيه الثقافات المختلفة، وستفرض العلاقات الاجتماعيَّة المتبادلة بين أبنائه واقعاً لا يُمكن للفقيه القفز فوقه، وهو ما يؤثِّر على نظرته للأدلَّة الشرعيَّة عند استنباط الحكم، وفهمه للنصوص، وطريقة محاكمتها حين وقوع التعارض بينها، فيجد نفسه، ولو بشكلٍ لا شعوريّ، منسَاقاً إلى ترجيح الجانب المتناسب مع الواقع المعاش، ربما حذراً من التضييق، وخوفاً من إيقاع المكلَّفين في الحرج غير المحتَمَل، أو عزلهم عن مجتمعهم، ما دام هناك مجال للتوسعة عليهم وفقاً للخطِّ العام الذي سارت عليه الشريعة، وهو اليسر. قال تعالى: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } (البقرة، 185)، وقال النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): (إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمّة اليسر، وكره لها العسر) (3). وقال: (إنَّ الله يحب أن يؤخَذ برخصه، كما يُحب أن يؤخَذ بعزائمه، إنَّ الله بعثني بالحنيفيّة السمحة دين إبراهيم (4). وقال أيضاً: (إنَّ الدين يسر، ولن يغالبَ الدينَ أحدٌ إلا غلبه)(5).
ومن هذا الباب الحكم بطهارة الكتابيّ، ومؤاكلة الكفَّار، وبعض المعاملات الماليّة وبعض قضايا الأحوال الشخصيّة.
وقـد ألمح الأئمّة (عليهم ‏السلام) إلى هذه الحقيقة في بعض مـا روي عنهم، ففي المحاسن عن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قومٍ
________________________________________
(3) - الهندي ، المتقي ، كنز العمال ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1989 ، ج 3 - ص 33 ، حديث رقم 5331 .
(4) - المصدر السابق ، ح رقم 5341 .
(5) - السيوطي ، جلال الدين ، الدر المنثور ، دار المعرفة ، بيروت ، ج 1 ، ص 192.

[الصفحة - 226]


مسلمين حضرهم رجل مجوسي يدعونه إلى طعامهم؟ قال : أما أنا فلا أؤاكل المجوسي، وأكره أن أحرم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم) (6).
إنَّ تعايش السائل مع المجوس دعا الإمام (عليه السلام) إلى عدم تحريم مؤاكلته .
ومن هذا الباب تجنّب الفقيه الإكثار من الاحتياطات في مثل هذا المجتمع، وذلك لأنَّها تسوق الناس إلى الوقوع في العسر والصعوبة والتضييق.
إنَّ كثرة الاحتياطات الحاصلة اليوم في الفقه الشيعيّ عموماً، وإن كانت نابعةً من حرص الفقيه على آخرة المكلّفين، لكنّها تتناسب مع مجتمع متديّن يغلب عليه الدين الإسلاميّ، وتترسّخ فيه ثقافة التدين، هذا فضلاً عن أنَّ كثرة الاحتياطات لا تتناسب مع حركيّة الحياة.
2 ـ العامل الاقتصاديّ
يلعب الوضع الاقتصاديّ السائد في المجتمع دوراً مهماً في تشكيل ثقافة أبنائه، فللمجتمع الفقير عاداته وأحكامه، وللمجتمع الغنيّ أعرافه ومراسمه، ما يؤدِّي إلى تشكّل معرفة متناسبة مع ذلك الواقع قد تطال النِّظام السياسي والإداريّ فضلاً عن المالي.
ويُنقل عن الزعيم الروسي خروتشيف أنَّه قال أثناء قيامه بزيارة لبلاد السويد المتاخمة لروسيا: لو كنت أحد مواطني بلادكم لما كنت شيوعيَّاً.
وقيل يومها: إنَّ تصريحه هذا كان من ضمن الأسباب التي أدّت إلى تنحيته عن الحكم والحزب(7).
فمن المعروف أنَّ السويد ليست بلداً اشتراكياً بالمعنى المفهوم للاشتراكية في البلدان الشيوعيّة، كما أنّها ليست بلداً رأسمالياً بالمعنى المفهوم للرأسماليّة في البلدان الرأسماليّة، ولكنَّها عرفت كيف توجِّه اقتصادها وحريّاتها السياسيّة بالنظر لظروفها المكانيّة وما تتمتّع به من خيرات وثروات عرفت كيف تستغلها، فمع
________________________________________
(6) - البرقي ، أحمد بن محمد بن خالد ، المحاسن ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، 1370 هـ .ج 2 ، ص 452.
(7) - ناجي ، محسن ، العوامل الاقتصادية والاجتماعية وأثرها في الفقه والتشريع :
72http://www.iraqja.iq/ifm.php?recordID=

[الصفحة - 227]


مجتمع ذي قوانين اقتصاديّة متوازنة مثل المجتمع السويدي تنعدم الحاجة للتفكير بنظام شيوعيّ لانتفاء أسبابها.
أمَّا تأثير الوضع الاقتصاديّ على فتوى الفقيه فمن ناحية تحديد الأمور التي يُرجع فيها إلى العرف، حيث سيكون الوضع الاقتصاديّ السائد هو الحاكم في ذلك التحديد، ويختلف الحكم باختلاف موضوعه، فمثلاً: الإسراف حرام، ولكن تحديد معنى الإسراف مرتبط بما هو متعارف في كلِّ مجتمعٍ بحسب غناه وفقره، فقد يكون من المألوف جداً وجود عدَّة أنواع من الطعام على مائدةٍ واحدةٍ في بعض المجتمعات الغنيَّة، بينما يُعدّ ذلك خروجاً عن المألوف يصل إلى حدِّ الإسراف في مجتمعات أُخرى فقيرة. ومن هذا القبيل ما ورد عن رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من أنَّه قضى بين أهل البادية أنّه لا يُمنع فضل ماء ليُمنع به فضل كلاء (8).
فإنَّ مقتضى الجمود على النصّ تحريم منع فضل الماء، وهذا يتناسب مع البلدان ذات الحاجة الخاصّة إلى الماء، أمّا في الدول الغنيّة بالماء فمن غير المعروف الحكم بالحرمة، بل كثيراً من الفقهاء أفتوا بعدم التحريم، مع أنّ كلمة قضى ظاهرة بالحرمة.
3ـ العامل السياسي
كثيراً ما تتحكَّم الأوضاع السياسيّة بفتوى المجتهد، فيتحوّل ما كان عنده مباحاً بالأمس إلى حرام اليوم، أو بالعكس. ولو أتيح له ظرف سياسي مختلف لاختلفت فتواه يقيناً.
فليس من المعقول أن يَقبل الإمام الحسن(عليه السلام) بالصلح مع معاوية لو كانت الظروف السياسيَّة العامة في الأمّة الإسلامية أفضل ممّا كانت عليه.
ولم يكن للإمام علي (عليه السلام) أن يعتمد خيار الحرب لو وجد ظرفاً سياسياً ملائماً للسلام.
ومن الواضح أنَّ القضية هنا مرتبطة بمبدأ التزاحم، وتقدير الأمر في ذلك
________________________________________
(8) - الكليني ، محمد بن يعقوب ، الكافي ، ج 5 ، ص 294.

[الصفحة - 228]


متروك للفقيه في زمن الغيبة، وبناء على رؤيته تخرج الفتوى.
ومن هذا القبيل بروز إشكالات معيّنة في المجتمع كتدخل دولةٍ استعماريّة في شؤون المسلمين، فإنَّه يَخلق نوعاً من التفاعل في المجتمع يؤدِّي إلى تدخّل الفقيه، فيقدِّم رؤية مناسبة لذلك المجتمع في تلك المرحلة، قد تكون في نفسها غير ملائمة لذلك المجتمع عينه في فترةٍ مختلفةٍ، من قبيل فتوى الإمام الشيرازيّ بحرمة التنباك رداً على الاستعمار البريطاني لإيران، على الرغم من أنَّ فتوى الفقهاء بإباحته على وجه العموم.
4ـ عامل البيئة المناخيّة
فللمناخ دور في تكوّن نمطٍ خاص من التفكير يختلف عنه في مناخٍ آخر، إنْ على مستوى الفقه نفسه أو على مستوى الحكم . وقد أشار إلى هذه الملاحظة عدد من العلماء المهتمِّين بهذا الجانب. قال المؤرخ المسعودي (ت 346 هـ.): «فإنَّ العقول والآراء تتولَّد من حيث تولّد الهواء، وطبع الهواء الفضاء» (9).
ثمَّ جاء ابن خلدون (ت 808 هـ.) ليفصِّل في مقدِّمته الشهيرة، تبعاً للمسعوديّ، طبائع البشر بحسب طبيعة الأقاليم التي يسكنون فيها ، فقال: «وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسّطة أهل الاعتدال في خَلقهم وخُلقهم وسيَرهم وكافّة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرئاسات والملك فكانت فيهم النبوءات والملك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة» (10).
وعلَّل هذه النتيجة بما تقرّر في موضعه من الحكمة من أنّ طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيوانيّ وتفشيه وطبيعة الحزن بالعكس، وهو انقباضه وتكاثفه ... وضرب لذلك مثلاً، أهل مصر، كيف غلب الفرح عليهم، والخفّة، والغفلة عن العواقب في مقابل أهل المغرب الذين أفرطوا في نظر العواقب» (11).
________________________________________
(9) - المسعودي ،علي بن الحسين ، مروج الذهب ، منشورات دار الهجرة ، قم ، 1984 ، ج2 ، ص97 .
(10) - ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ، ط. 5 ، دار القلم ، بيروت ، 1984 ، ص 85 .
(11) - المصدر السابق ، ص 86 .بتصرف .

[الصفحة - 229]


ولمَّا وصل الأمر إلى مونتسكيو قرَّر الحقيقة التالية: «إنَّ نُظم الحكم والقوانين تختلف من مجتمعٍ إلى آخر باختلاف المناخ، وأنّ اختلاف المناخ هو الذي يتسبَّب باختلاف العادات والتقاليد والنُظم الاقتصاديَّة والأديان، بل ومفهوم الحرية» (12).
ولا يخفى أنَّ تأثير المناخ على وضع القوانين يعني بالضرورة تأثيره على استنباط الأحكام الفقهيّة التي هي قانون شرعيّ في مقابل القانون الوضعيّ.
وعلى سبيل المثال نتحدَّث عن سنِّ البلوغ فالمشهور أنَّ بلوغ الفتاة يكون في إكمال تسع سنوات هجريّة، وهو سنٌ معقول بالنسبة إلى سكان المناطق الحارّة مثل الجزيرة العربية والعراق وإفريقيا والبرازيل، ولكن في البلدان الباردة كأوروبا وروسيا وسكان الجبال نجد أنَّ الفتاة لا تبلغ قبل الثالثة عشرة أو أكثر، ألا يدل هذا على أنَّ الفقيه سيصبح أكثر اقتناعاً بأنَّ التحديد الذي ورد في الروايات ليس له إطلاق أحوالي (مكاني تحديداً) يشمل كلَّ سكان أقاليم الأرض، وإنَّما يتحدَّث عن الواقع المعاش في منطقة محدَّدة هي مورد ابتلاء السائل؟
ويشهد لذلك التعليل الوارد في رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك أنّها تحيض لتسع سنين» (13).
ومثال آخر أكثر وضوحاً، وهو استحباب بدء الطعام وختمه بالملح، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى بن عمران (عليه السلام) أن مرَّ قومك يفتتحون بالملح، ويختمون به، وإلا فلا يلوموا الا أنفسهم» (14).
وفي روايةٍ أخرى عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي لعلي أنَّه قال : «يا علي افتتح بالملح واختتم بالملح فإنَّ فيه شفاءا من اثنين وسبعين داء» (15).
فهذا الحكم معقول جداً في المناطق الحارة حيث يكثر التعرّق فيخرج من الجسم الملح الضروريّ لصلاح البدن، فيكون البدْء بالملح والختم به يعوّض ما فات الجسم منه، فهو ضروريّ إلى حدٍّ بعيد، ولكن في المناطق الباردة حيث يقلّ
________________________________________
(12) - الحفني، عبد المنعم ، موسوعة الفلسفة والفلاسفة ، ط. 2 ، مكتبة مدبولي ، مصر ، 1999 ، ج2 ، ص 1395.
(13) - الكافي ، مصدر سابق ، ج7 ، ص 69 .
(14) - العاملي ، الحر ، وسائل الشيعة ، ط. مؤسسة آل البيت ، قم ، 1414 هـ . ج24 ، ص 404
(15) - المصدر السابق ، ص 405 .

[الصفحة - 230]


التعرّق أو ينعدم سيكون الإكثار من الملح مضرّة للجسم. فستتغيّر الفتوى وينعدم استحباب الملح فيها؛ لأنَّنا وبناء على تبعيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد سنكتشف أنَّ الحكم بالاستحباب كان يُراعي سكان المنطقة التي بين فيها الحكم، كبني إسرائيل وسيرهم في صحراء سينا، أو العرب وهم في الجزيرة العربيّة والعراق.
5ـ العامل الثقافي
والمقصود منه أمران:
أـ ثقافة المجتمع بما تشتمل عليه من عادات ولغة وتاريخ وأحداث متعاقبة. فالإنسان ابن مجتمعه، وسرعان ما تراه ينصهر في الأجواء المحيطة به، ونادراً ما يكون لدى الفرد قدرة المقاومة بحيث يخالف بيئته تمام المخالفة, ويتحرّر منها، فيأخذ المواقف التي يريدها دون تأثّر بها.
أليس عجيباً أنَّ رجلاً عظيماً مثل المهاتما غاندي محرِّر الهند من الاستعمار البريطاني كان يقدِّس البقر؟ ما الذي دفعه إلى ذلك سوى تأثّره بما كان سائداً في مجتمعه؟
وكلَّما ترسَّخت العادات في نفوس أبناء المجتمع الواحد صار من الصعب على الفقيه مخالفتها، فتراه ينحو في اجتهاده منحىً يتلاءم معها، ولو بشكل لا شعوريّ.
ولعلَّ حرمة التطبير تشكِّل مثالاً حياً لهذه الفكرة، فعلماء العراق وإيران مثلاً ـ وبشكل عام ـ يُفتون بجوازه بينما علماء لبنان مثلاً يغلب عليهم الإفتاء بحرمته.
بـ ـ الثقافة الفرديّة، وهي المعرفة التي تلقّاها من معلِّميه والتجربة التي اكتسبها من خلال معايشته الأحداث ومرافقته الأتراب والزملاء. فعن رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، أنّه قال: « ... والمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل » (16) .
وأوضح مصاديق هذا التأثّر من الناحية الفقهيّة تأثّر الطالب بأستاذه، لذلك
________________________________________
(16) - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ، مصدر سابق ، ج7 ، ص 258 .

[الصفحة - 231]


ترى أنّ الأستاذ الناجح يترك بصماته على البُنى الفكريّة الأساسيّة لدى طلابه، بحيث يُعدُّ الكثيرُ منهم استكمالاً له، وفكرهم امتداداً لفكره، من هنا نشأ مصطلح (المدرسة)، للإشارة إلى التناغم والتكامل الحاصل بين الطالب وأستاذه، فقيل: مدرسة الشيخ الطوسي، أو مدرسة المحقّق النائيني.
إنَّنا وبنظرةٍ بسيطة إلى كتب الفتاوى الصادرة عن المراجع المعاصرين الذين درسوا في النجف الأشرف على أيدي مراجع محدَّدين نجد أنَّ فتواهم تكاد لا تختلف عن بعضها سوى في فروع بسيطة وبعض الاحتياطات، بينما إذا قارناها بمثيلتها من كتب فتاوى علماء قم مثلاً نجد بينها اختلافات أساسيّة، ولا تفسير لذلك إلا تأثّر كلا الطرفين بالمدرسة الفقهية التي نشأ عليها، وبأفكار أساتذته التي غالباً ما يراها صائبة، ويرى غيرها مخطئة.
ـ المصادر الاجتماعيَّة للمعرفة الفقهيّة
هنـاك مصادر يُلزَم الفقيه بالرجوع إليهـا لتحديد بعض الموضوعـات واستكشاف بعض الأحكام، وعليه فستتغيّر فتواه بتغيرها وفقاً لما يطرأ عليها من تغيّرات ثقافيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، وهي أمور مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه الفقيه أو المكلَّف.
ومن هذه المصادر:
1ـ العرف
وهو الحال المتعارف عليها بين الناس، وهو كثير التغيّر، ويتبدَّل من فترةٍ إلى أخرى بحسب التبدّل الثقافيّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ الذي يعيشه أبناء هذا المجتمع. فكم من موردٍ يُرجِعُ فيها الفقيه مقلِّديه إلى العرف السائد لتحديد حكم قضيةٍ ما.
ففي تحديد معنى الإسراف ولباس الشهرة ومقدار النفقة والفقر والغنى، والشروط
________________________________________

[الصفحة - 232]


الضمنيّة في العقود، وتفسير نصوص العقود، وثبوت الحرج الشرعي أو الضرر أو الاضطرار، وتحديد الوطن العرفيّ، بل بعض أحكام الإجارة وغيرها لا بدَّ من الرجوع إلى العرف، وليس ذلك سوى ابتناء الأحكام على وفق السائد المتعارف بين الناس، فما يُعدُّ إسرافاً في مجتمعٍ فقيرٍ لا يكون كذلك في مجتمعٍ غنيّ. وما يكون لباس شهرة في مجتمعٍ محافظ يُعدُّ لباساً عادياً في مجتمعٍ منفتحٍ، وما يُعدُّ شرطاً ضمنياً في العقد عند شريحة من الناس قد لا يكون كذلك عند شريحةٍ أخرى ...
2ـ العقلاء
وهم خصوص الأشخاص الأسوياء الطبيعيِّون، أي المعروفون بأنَّهم ذوو تفكيرٍ سويّ، لا يُبالغون في تقدير الأشياء، ولا يَنتقصون من قيمتها الحقيقيّة.
إنَّ هؤلاء يحتاج إليهم الفقيه في تقدير الكثير من الأمور الشرعيّة خصوصاً تلك التي لها علاقة بالأحكام الثانوية كالحرج والمرض والاضطرار وما شاكل ذلك، فإنَّ شهادة العقلاء تجعل تصرَّف المكلّف على وفق الموازين الطبيعية غير المبالَغ فيها، من هنا يقوم الفقيه غالباً بتقييد بعض الأحكام بتأييد العقلاء لها، فيقول مثلاً: لا يجوز الفعل الفلاني (كحلق اللحية أو السلام باليد على الأجنبية أو مساعدة الظالم أو الإفطار في شهر رمضان) إلا إذا أدى تركه إلى ضرر معتدٍّ به لدى العقلاء، والعقلاء موجودون في كلِّ مجتمعٍ، يتأثَّرون بثقافته وعاداته وبيئته، ويُجيدون تقدير التغيّرات الحاصلة فيه، فإذا تطابقت كلمتهم على تقدير أمرٍ ما كان ذلك حقيقةً لا بدَّ من مراعاتها لدى المكلّف والفقيه على حدٍّ سواء.
3 ـ أهل الخبرة
وهم الأفراد الذين لهم اختصاص معيّن في ناحيةٍ معيَّنة من نواحي الحياة العمليَّة أو النظريّة، بحيث يُعدَّون علماء في هذا المجال بالقياس إلى غيرهم.
وبما أنَّ الأمور الحياتيَّة تتبدَّل باستمرار في حركة تطوّرٍ هائلةٍ، فإنَّ أهل
________________________________________

[الصفحة - 233]


الخبرة يولدون في صميم هذا التغيّر، ويواكبون كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ فيه سواء أكان على الصعيد المهنيّ والتقنيّ أم كان على الصعيد المعرفيّ والعلميّ.
إنَّ الرجوع إلى أهل الخبرة هو من رجوع الجاهل إلى العالم، ودليل شرعيّتها السيرة العقلائية المستمرة منذ النبيّ والأئمّة (عليهم ‏السلام) إلى يومنا هذا، فضلاً عن بعض النصوص التي يُمكن استفادة ذلك منها، والفقيه يَحتاج إلى أهل الخبرة في تشخيص الموضوعات المستنبطة، والموضوعات المستجدّة، لترتيب أحكامها عليها، كما يَحتاج إليهم في تحديد حصول وعدم حصول شروط الأحكام، وتشخيص وجود أو عدم وجود العيوب الموجبة لفسخ العقود، فمثلاً لا يتمكَّن الفقيه من الجزم بأنَّ هذه الموسيقى لهويّة أم لا، إلا بعد تقديم أهل الخبرة شهادتهم في هذا المجال، ولا يستطيع الفقيه الاطمئنان إلى الحكم الذي سيقدِّمه في مجال الاستنساخ أو التلقيح الاصطناعي أو وهب الأعضاء وزرعها إلا بعد تقديم علماء الطبِّ آخر ما توصَّل إليه علم الطب، وإبداء آرائهم الواضحة والمعللة.
ويمكنك أن تقيس على ذلك أمور السياسة والإدارة والمال والاقتصاد والتأمين، بل كلُّ ناحية من النواحي الحياتيّة دون استثناء.
إنَّ ركون الفقيه إلى الاستفادة من أهل الخبرة قبل النظر في الأدلّة الفقهيّة لاستنباط الحكم الشرعي يجعله على دراية تامَّةٍ بآخر مستجدّات الحياة، كما يجعله محيطاً بشكل جيد بالتغيّرات الاجتماعيّة التي قد يكون لها تأثيرٌ مباشر على حركته الفقهيّة، وبالتالي على مستوى النضج الذي يتمتّع به رأيه الفقهيّ.
بل إنَّ الرجوع إلى أهل الخبرة في كلِّ صغيرة وكبيرة من شأنه أن يَخلق فقيهاً متجدِّداً، ويشكِّل ضمانةً من الوقوع في التحجّر في الرأي والتضييق على العباد، ومن التقوقع بين أوراق الكتب القديمة وآراء العلماء السابقين.
ولا يكاد يزول تعجّبي من إنكار البعض دوران الأرض، وتشكيكه في هبوط
________________________________________

[الصفحة - 234]


الإنسان على سطح القمر (17)، استناداً إلى آراء المفسِّرين والعلمـاء السابقين. لقد ذكّرني بغاليلو ورجال الكنيسة في القرن السابع عشر.
ـ كلمة أخيرة
على الرغم من أنَّ علم اجتماع المعرفة لا يزال فتياً، لم تتبلور ملامحه، ولم يأخذ شكله النهائي بعد، وعلى الرغم من غموضه الذي اعترف به روَّاده إلا أنَّ المقدار الذي يحتاج إليه البحث الفقهيّ ليس بذلك الغموض.
نعم ، مع تقدّم هذا العلم، وترسيخ قواعده قد نجد أنفسنا أقدر على التعامل مع المجتمع من الناحية الفقهيّة بحيث تبرز مرونة التشريع أكثر فأكثر مع مرور الوقت، ويتمكَّن الفقه الإسلاميّ من فرض نفسه على ساحة الواقع بقوّة، فيُخرج لنا فقهاء مجدِّدين قادرين على المحافظة على الثوابت الإسلاميّة ومواكبة حركة المجتمعات في الوقت عينه.
________________________________________
(17) - 8640http://www.binbaz.org.sa/mat/

[الصفحة - 235]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف