البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الحكومة الإسلامية بين الشرعيّة الإلهيّة والشرعيّة الإلهيّة الشعبيّة

الباحث :  الشيخ لبنان الزين
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  54
السنة :  السنة الرابعة عشر صيف 1430هجـ 2009 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 8 / 2015
عدد زيارات البحث :  4858

الحكومة الإسلامية بين الشرعيّة الإلهيّة
والشرعيّة الإلهيّة الشعبيّة

الشيخ لبنان الزين (*)

تمهيد
يُعدّ الفقه السياسيّ دعامةً أساسيّة من دعائم الفقه الإسلاميّ، حيث يحتلّ مكانةً بارزةً في الفكر الإسلاميّ، ويشكّل محوراً مهمّاً للبحث الفقهيّ منذ بداية عصر الغيبة الكبرى وحتَّى عصرنا الراهن؛ وذلك في تطوّر مستمرّ، وإن اعترضه بعض المعوّقات الراجعة إلى ظروفٍ موضوعيّة، وأُخرى سياسيّة واجتماعيّة، فبرزت نتاجات مهمّة على صعيديّ الإدارة والحكم في الإسلام، أثْرَت الفقه وواكبت تطوّرات المجتمع الإنسانيّ؛ ملبّيةً حاجيّاته على أبرز الصُعد والقضايا الحياتيّة والمصيريّة، التي تكفل سعادة المجتمع ورقيّه، وهي قضيّة الإدارة والحكم.
ولأنّ الإسلام دينٌ خاتمٌ وشامل، فيه كمال البشريّة وما يتطلّبه هذا الكمال من ظروف موضوعيّة تُعدُّ الإنسان والمجتمع للوصول إليه وضمان تحقيقه؛ برزت توجّهات ونظريّات إسلاميّة في الإدارة والحكم، منطلقة من أهداف وغايات مختلفة عقديّة وسياسيّة وغيرهما.
ومع اشتداد الحاجة إلى نظام إدارة وحكم إسلاميّ اندفع علماء الإماميّة إلى استخراج نظريّة فقهيّة سياسيّة في الحكم والإدارة نابعةٍ من العقل والشرع،
________________________________________
(*)باحث إسلامي من الحوزة العلمية، من لبنان.

[الصفحة - 39]


مسلِّطين الضوء على جوانب متعدّدة في أمر الحاكميّة في الإسلام، ومن أبرز تلك الجوانب: أساس مشروعيّة الحكومة الإسلاميّة ومصدرها، وقد اختلفت تنظيراتهم في هذا الصدد، ويُمكن حصرها إجمالاً ضمن إطارين: المشروعيّة الإلهيّة المباشرة القائمة على حصر حقّ إعطاء المشروعيّة للحكومة الإسلاميّة بالشارع المقدَّس فقط، والمشروعيّة الإلهيّة - الشعبيّة القائمة على أساس منح الشعب نصيباً من المشروعيّة إلى جانب الشارع الذي أعطى الشعب هذا الحقّ.
وقد جاء هذا المقال مركِّزاً على هذا الجانب؛ بدافع تنقيح مناط مشروعيّة الحكومة الإسلاميّة والكشف عن مصدرها.
ويتضمّن هذا المقال تمهيدا في: مفهوم الحكومة الإسلاميّة، ونشأة الفكر السياسيّ لدى الإماميّة ومراحل تطوّره، وإشكاليّة مصدر الشرعيّة المُعطاة للحاكم الإسلاميّ وحكومته، ثمّ يَعرض لمشروعيّة الحكم على أساس الشرعيّة الإلهيّة المباشرة ومعالمها العامّة وأدلّتها، وبعض الإشكاليّات النقديّة عليها. على أنْ يتمّ في مقالٍ لاحقٍ استكمال البحث في مشروعيّة الحكم على أساس الشرعيّة الإلهيّة ـ الشعبيّة ومعالمها العامّة وأدلّتها، وبعض الإشكاليّات النقديّة عليها. ليصار في الختام إلى تقويم النظريتين، وما تمّ التوصّل إليه من نتائج في هذا الصدد.
مفهوم الحكومة الإسلامية
لا بدّ لتحديد مفهوم الحكومة الإسلاميّة من الرجوع إلى أقوال المنظّرين من علماء الشيعة، حيث اختلفت أقوالهم فيه؛ وذلك بفعل انطلاقهم في تعيينه من خلفية ما يرونه من مصدر للشرعيّة للحكومة الإسلاميّة، على ضوء فهمهم للولاية والحاكميّة.
ولذلك نجد تفاوتاً في تحديداتهم له؛ تبعاً للتفاوت العام في تحديد مفهوم الولاية، لغةً (1)، واصطلاحاً (2)، إلا أنَّه يمكننا تحديد المدلول اللغوي له؛ استناداً للقرآن الكريم، الذي يعدُّ بمثابة المرجع في تحديد المدلول الحقيقيّ لبعض
________________________________________
(1)عرَّفه الطُرَيْحي: "[ الولاية] بالفتح المحبَّة وبالكسر التولية والسلطان ومثله "الولاء" بالكسر... والولي: الوالي، وكل من ولي أمر أحد فهو وليه، والولي هو الذي له النصرة والمعونة، والولي الذي يدير الأمر". الطُرَيْحيّ، فخر الدين: مجمع البحرين، ط2، مؤسّسة الوفاء، بيروت، 1403هـ.ق/ 1983م، ص455.وذكر الراغب الأصفهانيّ بأنّ: "الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويُستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والولاية النصرة والولاية: تولي الأمر، وقيل: الوِلاية والوَلاية نحو: الدلالة، وحقيقة: تولي الأمر، والولي والمولى يُستعملان في ذلك". الأصفهانيّ، الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، ط1، دار القلم، دمشق؛ الدار الشاميّة، بيروت، 1416هـ.ق/ 1996م، ص885. أمّا ابن منظور فقد ذكر بأنّ: "الولي هو الناصر وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها... وقيل الولاية بالكسر السلطان والولاية والوِلاية النصرة، يقال هم عليَّ ولاية أي مجتمعون في النصرة". الأنصاريّ، محمد بن مكارم(ابن منظور): لسان العرب، لا.ط، دار صادر، بيروت، لا.ت، ج15، ص406-407. وقال الجوهريّ في الصحاح: "الولي: القرب والدنو، يُقال تباعد بعدَ وَلَيٍ... الولاية بالكسر السلطان، والوَلاية والوِلاية: النصرة... وفلان أولى بكذا أي أحرى به وأجدر". الجوهريّ، إسماعيل بن حمّاد: الصحاح، ط4، دار العلم للملايين، بيروت، 1407هـ.ق/ 1987م، ص2528-2531.
(2)قال الإمام الخميني قدّس سرّه بأنّ: "الله جعل الرسول(ص) ولياً للمؤمنين جميعاً... ومن بعده كان الإمام(ع) ولياً، ومعنى ولايتهما أنّ أوامرهما الشرعيّة نافذة في الجميع، وإليهما يرجع تعيين القضاة والولاة ومراقبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر. نفس هذه الولاية والحاكميّة موجودة لدى الفقيه بفارق واحد هو أنَّ ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم؛ لأنّ الفقهاء متساوون من ناحية الأهليّة". الخمينيّ، روح الله: الحكومة الإسلاميّة، ط2، مركز بقية الله الأعظم، بيروت، 1999م، ص92-93. وقال قدّس سرّه في مورد آخر بأنّ: " للفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمّة(ع) ممّا يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يُعقل الفرق؛ لأنّ الوالي أي شخص كان هو المُجري لأحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهيّة والآخذ للخراج وسائر الضرائب والمتصرّف فيها.... بما هو صلاح المسلمين". الخمينيّ، روح الله: كتاب البيع، ط1، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ(قده)، قم، 1379هـ.ش/ 1421هـ.ق، ج2، ص226. في حين أنّ المنتظري ذكر بأنّ: "الولاية... تُفيد التصدي لشأن من شؤون الغير. وفي قبالهم العداوة وهي التجاوز والتعدي على الغير. فالتصرّف بمصلحة الغير ولاية وبضرورة عداوة. وكلاهما من مقولة الفعل، وربّما تستعمل الولاية في التصرّف في شؤون الغير مطلقاً... فحيث ما ذكر لفظ الولاية بعده سنخ الفعل والتصرّف الناشئ منها من الأمر والنهي والعمل المناسب لها". يُراجع: منتظريّ، حسين: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلاميّة، ط2، الدار الإسلاميّة، بيروت، 1409هـ.ق/ 1988م، ج1، ص55-56.

[الصفحة - 40]


الألفاظ العربيّة، التي تشعّبت معانيها وتشابكت؛ بفعل عواملَ عديدة طرأت على اللغة العربيّة، منها: كثرة استعمال معنى ما في لفظ غير موضوع له؛ لوجود جهة مشابهة أو غير ذلك، وعلى هذا الأساس يكون مورد استعمال القرآن الكريم للفظ "الولاية" هو بمثابة المدلول اللغويّ الحقيقيّ الموضوع له اللفظ، وهذا ما أفاده صاحب الميزان، حيث قال: «والولاية وإن ذكروا لها معاني كثيرة لكنّ الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين، بحيث لا يكون بينهما ما ليس منها، ثمَّ استعيرت لقرب الشيء من الشيء بوجهٍ من وجوه القرب، كالقرب نسباً أو مكاناً» (3).
ويُستفاد ذلك من قوله تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } (1)، أي إنّ الله تعالى يلي أمر عبده المؤمن ويدّبر شؤونه، من خلال هدايته وأمره ونهيه ونصرته، وذلك لا يتحقّق إلا بعد زوال الواسطة بين العبد وربَّه وارتفاعها.
هذا استناداً للقرآن الكريم، وكذلك يمكننا تحديد المدلول اللغويّ للفظ «الولاية» استناداً إلى الجامع المشترك بين المعاني المختلفة للفظ، وعلى أساس القدر المتيقّن بينها، وهو أنّ الولاية تعني الحاكميّة والتصدّي لأمر الحُكم والسلطة.
والأمر نفسه يجري بالنسبة للمدلول الاصطلاحيّ لمفهوم الولاية، حيث يمكن أن نعيّن القاسم المشترك بين التحديدات الاصطلاحيّة المختلفة، وهو أنّ الولاية عبارة عن سلطنة جعليّة تشريعيّة مُعطاة للحاكم من قِبَل الله أو من قِبَل الله والشعب؛ يكون الحاكم بموجبها متصدّياً لإدارة شؤون الأمّة، وتنفيذ أحكام الشريعة وحفظها، وحماية المجتمع الإسلاميّ، على اختلاف في سعة صلاحيّاته وضيقها.
وبفعل ما ذُكِرَ في تحديد مفهوم الولاية، فقد اختلفت تحديدات المنظّرين للحكومة، بحيث تأثّر بعضهم بما أورده السياسيّون الغربيّون من تعريفات لها، فعرّفها بعضهم بأنّها: «مؤسّسة رسميّة لها رقابة على التصرّفات الاجتماعيّة للأفراد، وتسعى إلى إعطاء وجهة محدّدة للتصرّفات الاجتماعيّة للناس؛ إذا قَبِل الناس
________________________________________
(3)يُراجع: الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ط1، منشورات مؤسسة دار المجتبى، قم، 1425هـ.ق/ 2004م، ج10، ص84..
(1)سورة البقرة، الآية257.

[الصفحة - 41]


بتوجيهات الحكومة بنحو سلمي، فسوف يحصل المطلوب، وإلاَّ فإنّ الحكومة سوف تحقّق أهدافها بواسطة القوّة القهريّة... وهذا التعريف يشمل الحكومات المشروعة وغير المشروعة...[و]المشروعيّة: هو أنّ أشخاصاً لهم حقّ الحاكميّة واستلام السلطة والحكومة، ووظيفة الناس في المقابل إطاعتهم» (2).
وعرَّفها آخرون بأنَّ: «الدولة بحسب التعريف الأوسع ]غالباً ما يُطلق مصطلح دولة على الحكومة في الفقه الشيعيّ[ هي السلطة الحاكمة على أرض معيّنة وشعب معيّن بصورة متّصلة، والمكلّفة داخليّاً بحفظ النظام، وخارجاً بصيانة وحدة الأراضي والسيادة ومصالح الشعب ومواطنيها فرداً فرداً، والتي تمارس مهامها، وتؤدّي واجباتها من خلال مؤسّسات ومنظّمات إداريّة وسياسيّة وقضائيّة وعسكريّة» (3).
وعلى هذا يمكن تعريف الحكومة الإسلاميّة بأنّها: السلطة الشرعيّة الحائزة على صفة الشرعيّة الإلهيّة أو الإلهيّة الشعبيّة، والمتكفّلة بحفظ النظام، وصيانة أحكام الشريعة، وحماية الشعب والحدود، والحفاظ على حقوق أفراد المجتمع وحريّاتهم، وضبط تصرّفاتهم، تحت سقف قانون عام يُلزَم الجميع باحترامه وعدم تخطّيه.
وبعبارة أخرى فإنّ الحكومة الإسلاميّة هي: السلطة الشرعيّة التي تستمدّ شرعيّتها من الله تعالى على نحو مباشر أو غير مباشر(من خلال الشعب)، بحيث يُلقى على عاتقها مسؤوليّة تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وحفظ الشريعة وتطبيقها، والتصدّي لكافّة الشؤون العامّة للمجتمع.
نشأة الفكر السياسي عند علماء الإماميّة ومراحل تطوّره
منذ بداية عصر الغيبة انصبّ اهتمام فقهاء الإماميّة في التنظير للسلطة الشرعيّة، وبيان مواصفاتها، وأسس مشروعيّتها وصلاحيّتها، من خلال ما ورد في الشريعة من تحديدات، بحيث يُحتكم إليها لحفظ النظام العام للمجتمع الإسلاميّ، وضمان تطبيق أحكام الشريعة، ومنع التعدّي على الحقوق. وقد تضاربت الآراء
________________________________________
(2)اليزدي، محمد تقي مصباح: حوارات حول ولاية الفقيه، ط1، دار الهادي، بيروت، 1424هـ.ق/2003م، ص9.
(3)يُراجع: آشوري، داريوش: المعرفة السياسية، مرواريدر سهروردي، طهران، 1366هـ.ش، ص162 163. نقلاً عن: كديور، محسن: نظريات الحكم في الفقه الشيعي، ترجمة ونشر دار الجديد، ط1، بيروت، 2000م، ص3637.

[الصفحة - 42]


في جذور نظريّة ولاية الفقيه، فذهب جماعة إلى أنّها لم تُطرح بشكل واضح وجلي إلاّ بعد المحقّق النراقيّ(قدس‏ سره) (...- 1245هـ.ق)، الذي يُعدُّ بمثابة الممهّد لغيره من الفقهاء في طرح مسألة ولاية الفقيه بشكل جدّي، وضمن بحث مستقل (4).
واعتبر آخرون أنَّها بُحثت منذ بداية عصر الغيبة، وعدم ظهورها ـ قبل المحقّق النراقيّ ـ في بحث مستقلّ وواضح، عائد للاضطهاد الذي مارسه السلاطين على الفقهاء الشيعة آنذاك، وعدم تهيّؤ الأرضيّة اللازمة للتطبيق العمليّ للنظريّة (5).
وأمام هذين الاتّجاهين، لابدّ من تتبّع كلمات الفقهاء منذ بداية عصر الغيبة الكبرى وحتّى عصرنا الراهن؛ ليظهر بذلك أنّ مسألة الولاية العامّة للفقيه، على ضيق دائرتها أو سعتها كانت مطروحة منذ بداية عصر الغيبة الكبرى، وذلك في تطوّر مستمر؛ لشعور الفقهاء بنوعٍ من الفراغ في الحكم والإدارة العامّة لشؤون المسلمين، وعدم وجود بحوث فقهيّة مستقلّة في هذه المسألة آنذاك لا يرجع بالدرجة الأولى إلى عدم نضج البحث الفقهيّ فيها، بل لعلَّ السبب الأبرز يعود إلى ظلم السلاطين وطغيانهم وممارساتهم التعسُّفيّة والقمعيّة بحقّ علماء الشيعة، ولا سيّما فيما لو شعروا بأنّها تهدّد سلطانهم، ولوجود حاجة ضروريّة لدى علماء الشيعة في تثبيت الأصول العقديّة لدى المسلمين، في حقَبة كثرت فيها الشبهات؛ بفعل الفتوحات الإسلاميّة.
ولذلك كان نضوج البحث الفقهيّ السياسيّ بطيئاً وضعيفاً؛ لعدم تعرُّض آراء الفقهاء السياسيّة للتنقيح والتمحيص الواسع؛ خوفاً من أذى السلطان وبطشه، ولعدم توفّر الأرضيّة الملائمة للتطبيق؛ حتّى تتفاعل النظريّة السياسيّة وتتطوّر وتنضج. وعلى هذا يمكن تقسيم تطوّر البحث الفقهيّ إلى مراحل ثلاثة، وهي:
المرحلة الأولى
وتمتدُّ من بداية عصر الغيبة الكبرى وحتّى بداية العصر الصفويّ في القرن العاشر الهجريّ، وقد تميّزت هذه المرحلة بتطوّر البحث النظريّ الفقهيّ السياسيّ
________________________________________
(4)يُراجع: كديور، م.س، ص19-36.
(5)يُراجع: وهبي، مالك: "ولاية الفقيه- تاريخ بحثها-"، مجلة بقيّة الله، ثقافيّة إسلاميّة شهريّة، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، بيروت، 2003م، عدد145، ص2023.

[الصفحة - 43]


بعد عدم وجود حاجة عمليّة له في عصر الأئمّة (عليهم ‏السلام)، وكذلك في عصر الغيبة الصغرى؛ لوجود النوابّ الخواصّ للإمام المعصوم (عليه ‏السلام)، الذين كانوا صلة الوصل بين الناس والإمام(عليه ‏السلام).
ومع بداية الغيبة الكبرى وجد علماء الشيعة أنفسهم أمام مشكلةٍ كبيرةٍ، وهي: إلى من يرجع المسلمون في الغيبة الكبرى في أمور دنياهم ومعاشهم؟.. فبدأ البحث النظريّ الفقهيّ السياسيّ يتبلور شيئاً فشيئاً في هذه المرحلة، حيث قام علماء الشيعة وفقهاؤها بإدراج مسألة الولاية في كتبهم ضمن أبوابٍ فقهيّةٍ، ولكنّهم لم يُعالجوا هذه المسألة بشكلٍ مستقلّ وبارز؛ نظراً للظروف القاسية والمأساويّة التي كانوا يعيشونها، جرّاء ظلم حكومات الجور وبطشها، فطرحوا مسألة الولاية ضمن أبواب الحدود والديات والقصاص والقضاء وغيرها من الأبواب، التي يُستفاد منها كون الولاية التي ينظّرون لها هي ولاية عامّة للفقيه، ويستشفّ ذلك من أقوال فقهائنا، ومنهم:
الشيخ المفيد (قدس‏ سره)(336هـ.ق - 413هـ.ق) :حيث أفاد: «فأمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام، المنصوب من قبل الله تعالى وهم أئمّة الهدى من آل محمد(عليهم ‏السلام)، ومن نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان، وهذا فرض متعيّن على من نصّبه المتغلّب لذلك، على ظاهر خلافته له، أو الإمارة من قبله على قوم من رعيّته، فيلزمه إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفّار، ومن يستحقّ ذلك من الفجّار، ويجب على إخوانه من المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما لم يتجاوز حدّاً من حدود الإيمان» (6).
ابن إدريس الحلّيّ (قدس‏ سره)(543هـ.ق - 598هـ.ق) :حيث أفاد بأنّ: «تنفيذ الأحكام الشرعيّة والحكم بمقتضى التعبُّد فيها من فروض الأئمّة (عليهم ‏السلام) المختصّة بهم دون من عداهم ممّن يؤهّلوا لذلك، فإن تعذّر تنفيذها بهم (عليهم ‏السلام) بالمأهول لها
________________________________________
(6)المفيد، محمد بن النعمان: المقنعة، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلاميّ، ط4، قم، 1417هـ.ق، ص810812.

[الصفحة - 44]


من قبلهم، لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم المنصوبين لذلك من قِبَلهم (عليهم ‏السلام) تولّي ذلك، ولا التحاكم إليه، ولا التوصُّل بحكمه إلى الحقّ ولا تقليد الحكم مع الاختيار، ولا لمن يتكامل له شروط النائب عن الإمام (عليه ‏السلام) في الحكم من شيعته، وهي العلم بالحقّ المردود إليه، والتمكُّن من إمضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي والحزم والتحصيل وسعة الحلم والبصيرة بالوضع والتواتر بالفتْيَة، والقيام بها، وظهور العدالة والتديّن بالحكم، والقوّة على القيام به ووضعه مواضعه... فمتى تكاملت هذه الشروط فقد أُذن له في تقلّد الحكم، وإن كان مقلّده ظالماً متغلّباً. وعليه متى عرض لذلك أن يتولاه؛ لكون هذه الولاية أمراً بمعروفٍ ونهياً عن منكر تعيّن عرضهما بالتعريض للولاية عليه، وهو إن كان في الظاهر من قبل المتغلّب فهو في الحقيقة نائب عن ولي الأمر (عليه ‏السلام) في الحكم، ومأهول له؛ لثبوت الإذن منه ومن آبائه (عليهم ‏السلام) لمن كان بصفته في ذلك ولا يحلّ له العود عنه، وإن لم يقلّد من هذه الحالة النظر بين الناس فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة الأمر (عليهم ‏السلام)، وإخوانه في الدّين مأمورون بالتحاكم، وحمل حقوق الأموال إليه، والتمكّن من أنفسهم لحدّ أو تأديب، تعيّن عليهم ولا يحلّ لهم الرغبة عنه ولا الخروج عن حكمه، وأهل الباطل محجوبون بوجود من هذه صفته، ومكلّفون الرجوع إليه وإن جهلوا حقّه... وقد تناصرت الروايات من الصادقين(عليهم ‏السلام) بمعاني ما ذكرناه» (7).
الطوسيّ (قدس‏ سره)(385هـ .ق - 460هـ .ق) والحلّيّ (قدس‏ سره)(602هـ .ق- 676هـ .ق) :»فأما الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلاّ لسلطان الزمان المنصوب من قِبَل الله تعالى، أو من نصّبه الإمام (عليه ‏السلام) لإقامتها... وقد رخّص في حال قصور أيدي أئمّة الحقّ وتغلّب الظالمين أن يُقيم الإنسان الحدّ على ولده وأهله ومماليكه... ومن استخلفه سلطانٌ ظالمٌ على قومٍ، وجعل إليه إقامة الحدود، جاز له أن يُقيمها عليهم على الكمال، وتعتقد أنّه إنّما يفعل ذلك بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك، ما لم يتعدّ الحقّ في ذلك، وما هو مشروع في الشريعة» (8).
________________________________________
(7)الحلّيّ، ابن إدريس: كتاب السرائر، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلاميّ، ط4، قم، 1417هـ.ق، ج3، ص537-539.
(8)الطوسيّ، محمد بن الحسن؛ الحلّيّ، جعفر بن الحسن: النهاية ونكتها، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلاميّ، ط1، قم، 1412هـ.ق، ج2، ص16-19.

[الصفحة - 45]


المحقّق الحلّيّ (قدس‏ سره):»وقيل: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام (عليه ‏السلام)، كما لهم الحكم بين الناس... ولا يجوز أن يتعرّض لإقامة الحدود، ولا للحكم بين الناس، إلاّ عارف بالأحكام مطّلع على مآخذها، عارف بكيفيّة إيقاعها على الوجوه الشرعيّة» (9).
الشهيد الثاني (قدس‏ سره)(911هـ.ق - 966هـ.ق) :» (ويجوز للفقهاء حال الغيبة إقامة الحدود مع الأمن من الضرر) على أنفسهم وغيرهم من المؤمنين (و) كذا يجوز لهم (الحكم بين الناس) وإثبات الحقوق بالبينة واليمين وغيرهما...» (10).
وبذلك يتّضح أنّ طرح مسألة الولاية بلحاظ مصدر الشرعيّة المُعطاة للحاكم، وسعة صلاحيّاته وضيقها، ومواصفاته، هي أمور قد حَفِلَت بها كتب الفقهاء في هذه المرحلة، ونالت نصيباً وافراً من اهتماماتهم، إلاَّ أنَّ هذه الأبحاث لم تكن تجد الأرضيّة الخصبة التي تساعد على تبلورها ووضوحها الكامل؛ بسبب الظروف السياسيّة المأساويّة التي عاشها الشيعة في هذه المرحلة.
وعلى هذا الأساس لا يُمكننا أن نقول بأنَّ فقهاء هذه المرحلة لم يكونوا متعرّضين لأهمِّ تفاصيل مسألة الولاية، ولا نستطيع أن نقول بأنّهم أيضاً قد عالجوها بدقّة تامّة وكاملة، ولكن يُمكننا القول بأنَّ هذه المرحلة على الصعيد النظريّ قد قطعت شوطاً كبيراً، ممهِّدة بذلك للطرح المتكامل والشامل لمسألة الولاية والحاكميّة في المراحل اللاحقة.
المرحلة الثانية
وتمتدّ من بداية العصر الصفويّ في القرن العاشر الهجريّ إلى قيام الثورة الإسلاميّة في إيران، وانتصارها عام 1979م. وقد تميّزت هذه المرحلة بغنىً في النتاج السياسيّ الفقهيّ؛ نتيجةً للجوّ الملائم الذي عايشه الفقهاء الشيعة آنذاك، حيث طرحوا نظريّاتهم في الحكم من دون أن يتعرّضوا لأذى السلاطين وحكام الجور، فقام المحقّق النراقيّ وغيره من الفقهاء بإدراج بحوث مستقلّة في كتبهم
________________________________________
(9)الحلّيّ، جعفر بن الحسن: شرائع الإسلام، تحقيق وتعليق عبد الحسين محمد علي، ط2، دار الأضواء، بيروت، 1403هـ.ق، ج1، ص344.
(10)العامليّ، زين الدين: الروضة البهيّة، لا.ط، مركز النشر الإسلاميّ، قم، لا.ت، ج1، ص225.

[الصفحة - 46]


الفقهيّة في موضوع ولاية الفقيه، متعرّضين بنوع من التفصيل للأدلّة عليها، وصلاحيّات الفقيه ومواصفاته.
إلاَّ أنَّ هذه المرحلة وعلى الرغم من كونها غنيّة بالطروحات النظريّة للمسألة، لكنّها لم تستطع أن تفرض نفسها في ميدان التطبيق العمليّ؛ لقيام الحكّام الشيعة في إيران في العصرين الصفويّ والقاجاريّ بالتضييق على الفقهاء الشيعة؛ بعدما أحسّوا بتهديدها لهم وخطرها على سلطانهم.
المرحلة الثالثة
وتمتدّ من بداية انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م، وحتّى عصرنا الراهن. وتمتاز هذه المرحلة بأنَّها كانت بداية أوّل تطبيق عمليّ للنظريّة السياسيّة الفقهيّة منذ بداية الغيبة الكبرى، وكانت هذه المرحلة بأرضيّتها الملائمة والمناسبة مداداً خصباً لطرح نظريّات متعدّدة في الإدارة والحكم في الإسلام.
وبعد استعراض كلمات الفقهاء في جميع هذه المراحل يَظهر بوضوح أنّ طرح مسألة الولاية لم يكن غائباً عن أيّ مرحلة من هذه المراحل، وإن كان في بعضها أغنى وأغزر وأشمل ممّا هو عليه في مرحلة أخرى، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ مسألتي مصدر مشروعيّة الحاكم وسعة دائرة ولايته أو ضيقها كانتا وما زالتا مدار بحث الفقهاء منذ عصر الغيبة الكبرى وحتّى عصرنا الراهن.
إشكاليّة مصدر الشرعية المُعطاة للحاكم الإسلاميّ وحكومته
على ضوء ما تقدّم من اختلاف في تحديد مفهوم الحكومة؛ والذي يعود بالدرجة الأولى للاختلاف في مصدر شرعيّة الحاكم وحكومته، وفي سعة صلاحيّات الحاكم وضيقها، ولذلك فقد تركَّزت جهود الفقهاء الشيعة عند معالجتهم لمسألة الولاية والحكومة الإسلاميّة على تحديد أصل مشروعيّة حكم الحاكم الإسلاميّ، ومن أين يستمدّ صلاحيّته ومشروعيّته في الحكم؟ وتمخّض عن ذلك رأيين اثنين:
________________________________________

[الصفحة - 47]


الأول : إنّ مصدر الشرعيّة للحاكم الإسلاميّ وحكومته هو الشرعيّة الإلهيّة المباشرة، أي إنّ الذي يُعطي المشروعيّة للحاكم هو الله تعالى فقط، ولا مدخليّة للشعب في إضفاء هذه المشروعيّة عليه؛ لأنَّ الحاكم بفعل استحواذه على الشروط والمواصفات المحدّدة من قِبَل الله تعالى، يكون قد أصبح منصّباً من قِبَل الله على نحو النوع للتصدّي لأمر الحاكميّة.
الثاني : إنَّ مصدر الشرعيّة هو الشرعيّة الإلهيّة ـ الشعبيّة، أي إنّ الله تعالى أعطى المشروعيّة للحاكم من خلال اختيار الشعب للحاكم الجامع للصفات والشروط الملائمة للحكم، فمتى ما اختاره الشعب يكون بذلك له المشروعيّة في الحكم من قِبل الله تعالى، ومتى لم يقبله الشعب لا تثبت ولايته ومشروعيّته لأمر الحاكميّة.
معالم الشرعيّة الإلهيّة المباشرة
للتعرّف على معالم الشرعيّة الإلهيّة المباشرة لا بدّ من تناول بعض النقاط التي تكشف عن المقصود من هذه الشرعيّة، وما هو المراد منها:
معنى الشرعيّة الإلهيّة المباشرة
لكي نحدّد معنى هذه الشرعيّة، علينا أن نتناول بعض كلمات الفقهاء والمنظّرين لهذه النظريّات السياسيّة القائمة على أساس التعيين الإلهيّ دون الانتخاب الشعبيّ؛ ليتَّضح بعد ذلك المعنى العام للشرعيّة الإلهيّة المباشرة.
فقد ورد عن المحقّق النراقيّ قدّس سرّه: «]بـ[أنّ الولاية من جانب الله سبحانه على عباده ثابتة، كرسوله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وأوصيائه المعصومين (عليهم ‏السلام) وهم سلاطين الأنام، وهم الملوك والولاة والحكّام، وبيدهم أزمّة الأمور وسائر الناس ورعاياهم، والمولّى عليهم، وأما غير الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وأوصيائه فلا شك أنّ الأصل عدم ثبوت ولاية أحد على أحد إلاّ من ولاّه الله سبحانه أو رسوله أو أحد من أوصيائه على أحدٍ من أمره، وحينئذ فيكون هو وليّاً على من ولاّه فيما ولاَّه فيه. والأولياء كثيرون
________________________________________

[الصفحة - 48]


كالفقهاء العدول، والآباء... والمقصود لنا هنا بيان ولاية الفقهاء الذين هم الحكّام في زمان الغيبة والنوّاب من الأئمّة عليهم السلام» (11).
وأفاد الإمام الخمينيّ (قدس‏ سره) (1320هـ.ق - 1409هـ.ق) بأنّ: «دولة الإسلام هي دولة القانون وفي هذا النمط من الدول تكون السيادة فيها للقانون وحده، والسيادة فيها لله تعالى وللقانون، فالأوامر والأحكام إلهيّة، وشريعة الإسلام وأوامر الخالق هي التي تسود وتسري بالتمام والكمال على جميع الأفراد وعلى كيان الدولة. جميع الأفراد بدءاً من الرسول (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ومروراً بالخلفاء، وانتهاءً بسائر الناس تابعون جميعاً وأبداً للقانون، القانون الذي نزل من الله سبحانه وتعالى، وتمَّ تبيانه في القرآن وعلى لسان النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم). فإذا حكـم الرسول الكريم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان حكمـه بأمــر من الله سبحانه، وهو الــذي نصَّب النبـي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) حاكماً على المسلمين» (12).
وقال السيد البروجرديّ (قدس‏ سره) (1292هـ.ق - 1380هـ.ق) بأنّ: « كون الفقيه العادل منصوباً من قبل الأئمّة عليهم السلام لمثل تلك الأمور العامّة المهمّة التي يُبتلى بها العامّة، ممّا لا إشكال فيه إجمالاً...» (13).
وعلى هذا يمكن القول بأنَّ المقصود من الشرعيّة الإلهيّة المباشرة هو: أنّ الحكم ثابت لله تعالى ولا حكم إلاّ له تعالى، وقد فوَّض الله عزّ وجل أمر الولاية الإلهيّة في تنظيم المجتمع، وإدارة شؤونه العامّة باختلاف نواحيها للنبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ومن بعده إلى الهداة المهديّين من آله(عليهم ‏السلام).
وأمّا في عصر الغيبة الكبرى للإمام المهديّ (عجل الله تعالي فرجة الشريف)، فقد تعيَّن على الفقهاء الجامعين لشرائط الحاكميّة القيام بمهام الإمام الغائب (عجل الله تعالي فرجة الشريف) نيابةً عنه، من خلال تنصيب الفقهاء على نحو التعيين النوعيّ لا الشخصيّ؛ بأن بيّن الشارع الشرائط والمواصفات العامّة لمن يتعيّن عليه التصدّي للأمور العامّة، وذلك بالتعيين المباشر دون دخالة لرأي الشعب في إعطاء المشروعيّة لحكم الفقيه وإضفائها عليه.
إلاّ أنَّ ذلك لا يعني فعليّة ولاية الفقيه الحاكم، بل فقط يعني قابليّة الفقيه
________________________________________
(11)النراقيّ، أحمد بن مهدي: عوائد الأيام، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، ط1، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلاميّ، قم، 1417هـ.ق/ 1375هـ.ش، ص186.
(12)الخمينيّ، الحكومة الإسلاميّة، م.س، ص83.
(13)البروجرديّ، محمد حسين: البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، تقرير حسين منتظريّ، ط1، مركز النشر الإسلاميّ، قم، 1362هـ.ش، ص79.

[الصفحة - 49]


للتصدّي لأمر الحاكميّة وحقّه فيه؛ لأنَّ فعليّة ولاية الوليّ الفقيه تتحقّق بعد إعطائه السيادة على الأمّة الإسلاميّة، وإعطاء هذه السيادة لحكومة الفقيه الجامع للشرائط متوقّفة على إلتفاف الأمّة الإسلاميّة حوله، وتأييدها له. وسوف يتّضح مفهوم السيادة فيما يأتي، في طيّات هذه الدراسة.
نوع الحكومة وطبيعتها
صرَّح الإمام الخميني (قدس‏ سره) بنوع الحكومة وخصائصها في الإسلام، حيث قال بأنّ: «الدولة الإسلاميّة لا هي من النوع الاستبداديّ ولا هي مطلقة وإنّما هي دستوريّة. وليست دستوريّة كذلك بالمعنى المتعارف في عصرنا الحالي أي أن يستند القانون فيها إلى تصويت الأكثريّة، وإنّما تعني أنَّ من يقومون بتولّي مهام الدولة مقيّدون بمجموعة شروط ودساتير تمَّ تحديدها في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة؛ مجموعة شروط هي أحكام الإسلام وتعاليمه التي يجب أن تلتزم بها الدولة. من هذه الزاوية فإنَّ الدولة الإسلاميّة هي دولة القانون الإلهيّ التي تجري أحكامها على الشعب. ]فـ[ التمايز الرئيسيّ بين الدولة الإسلاميّة والدولة الدستوريّة سواء المَلَكِيّة أو الجمهوريّة في هذه النقطة بالذات، أي أنَّ نوّاب الشعب أو نوّاب الملك هم الذين يشرّعون القوانين للدولة فيما أنّ سلطة التشريع وخيار التشريع في الإسلام هو بيد الله سبحانه لا بيد غيره. والشارع المقدّس هو المشرّع الوحيد للقوانين فلا يحقّ لأحد أن يقوم بهذا المقام، ولا يُسمح لأيّ قانون غير القانون الشرعيّ أن يدخل حيّز التنفيذ» (14).
وعلى ذلك يُمكننا القول بأنَّ حكومة الإسلام هي حكومة تتمتّع برضا الله تعالى من جهة، وبرضا الناس من جهة أُخرى، فتكون بذلك قد حازت على شرعيّتها في الحكم من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وعلى سيادتها بفعل إقبال الناس عليها ودعمهم لها والتفافهم حولها، وهذا ما لا نجده في الحكومات الأخرى التي هي في أحسن حالاتها حائزة على رضا الناس الذين أقبلوا عليها وأعطوها السيادة
________________________________________
(14)الخميني، الحكومة الإسلامية، م.س، ص81-83.

[الصفحة - 50]


لا أكثر، في حين أنَّ شرعيّتها غير متوافرة وغير متحقّقة، كما هو الحال في الحكومات على مفهوم الديمقراطية الغربية. وسيأتي توضيح هذا الإشكال وتحقيقه في طيّات هذه الدراسة.
شكل الحكومة والحكم
قال الإمام الخمينيّ(رحمه‏ الله): «حكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده والمشرّع وحده لا سواه، وحكم الله نافذ في جميع الناس وفي الدولة نفسها... فالحكومة في الإسلام تعني اتّباع القانون، وتحكيمه. والسلطات الموجودة عند النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وولاة الأمر الشرعيّين من بعده إنّما هي مستمدّة من الله. وقد أمر الله باتّباع النبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وأولي الأمر عليهم السلام من بعده: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } . فلا مجال للآراء والأهواء في حكومة الإسلام وإنّما النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، والأئمّة(عليهم ‏السلام)، والناس يتّبعون إرادة الله وشريعته وحكومة الإسلام ليست مَلَكِيّة ولا شاهنشاهيّة، ولا إمبراطوريّة؛ لأنّ الإسلام منزّه عن التفريط والاستهانة بأرواح الناس وأموالهم بغير حقّ» (15).
ولذلك فقد ترك الإسلام للمجتمع هامش اختيار شكل الحكم والحكومة، شرط أن يكون مؤدّياً لتحقيق الأهداف الإسلاميّة السامية؛ ذلك أنّه بدون أدنى شكّ، ومن المسلَّم أنَّ إقامة الحكومة ليست غايةً بحدّ ذاتها، وإنمّا هي وسيلة لتطبيق الشريعة الحقّة وتهيئة المناخ المناسب للمجتمع والفرد؛ كي يسيرا على هدي الشريعة إلى كمالهما المنشود.
وبالجملة فإنّ تحديد شكل الحكم والحكومة له علاقة بطبيعة المجتمع والزمان المُعاش من جهة، وبمدى صلاحيّته ومرونته وتهيئته الأرضيّة الملائمة لتطبيق الشريعة من جهة أُخرى.
وعلى سبيل المثال فقد وُجِدَ في عصرنا الراهن في النظام الجمهوريّ الإسلاميّ تحقيقاً لهاتين الجهتين، حيث ورد في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة ما
________________________________________
(15)يُراجع: الخميني، الحكومة الإسلامية، م.س، ص83-84.

[الصفحة - 51]


يلي: «نظام الحكم في إيران هو الجمهوريّة الإسلاميّة التي صوّت عليها الشعب الإيرانيّ بالإيجاب بأكثرية 98.2% ممّن كان لهم حقَّ التصويت... [و]يقوم نظام الجمهوريّة الإسلاميّة على أساس:
الإيمان بالله الأحد(لا إله إلا الله)، وتفرّده بالحاكميّة والتشريع ولزوم التسليم لأمره.
الإيمان بالوحي ودوره الأساس في بيان القوانين...
الإيمان بالمعاد...
الإيمان بعدل الله في الخلق والتشريع...
الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرّة...
الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة...
[و]من أجل الوصول إلى الأهداف المذكورة في المادة الثانية تلتزم حكومة جمهوريّة إيران الإسلاميّة بأن توظّف جميع إمكانيّاتها لتحقيق ما يلي:
خلق المناخ الملائم لتنمية مكارم الأخلاق.
رفع مستوى الوعي العام.
توفير التربية والتعليم.
تقوية روح التحقيق والبحث والإبداع.
[وأما بالنسبة إلى شكل الحكومة فإنّ] السلطات الحاكمة في جمهوريّة إيران الإسلاميّة هي السلطة التشريعيّة، والسلطة التنفيذيّة، والسلطة القضائيّة، وتمارس صلاحيّاتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمّة، وذلك وفقاً للمواد اللاحقة في هذا الدستور، وتعمل هذه السلطات مستقلّة عن بعضها البعض» (16). علاقة الحاكم بأفراد المجتمع الإسلاميّ وبالشارع
إنَّ الحاكم بمثابة الأخ والمرشد لأفراد المجتمع، بحيث يتولّى سدَّ حاجات الأمّة ومعالجة مشاكلها، وحفظ حقوقها وإيصالها إلى أفراد المجتمع بالعدل
________________________________________
(16)معاونية العلاقات الدوليّة في منظمة الإعلام الإسلاميّ: دستور الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ط1، طهران، منظمة الإعلام الإسلاميّ، 1411هـ.ق/1990م، ص23،25،47.

[الصفحة - 52]


والحقّ، وأن يكون زاهداً في متاع الدنيا والسلطنة، حاملاً أعباء إدارة شؤون الأمّة، موجّهاً لها الوجهة السديدة، منمّياً لقُدراتها وطاقاتها على جميع الأصعدة، ضامناً التطبيق الصحيح والسليم لقانون السماء، مساعداً الأمّة على تشرّب الشريعة وفهمها الدقيق؛ لكي يتحقّق الهدف الذي من أجله وجدت الحكومة، وهو تمكين الناس من الاهتداء إلى الصراط المستقيم، والأخذ بأيديهم في سلوكه وعبوره.
وهذا ما نجده واضحاً جليّاً في أكثر كلمات أمير المؤمنين (عليه ‏السلام) في نهج البلاغة، لدى حديثه عن حقوق الرعيّة على الوالي والهدف من تولّي أمر الحاكميّة على الناس (17).
وأمّا بالنسبة إلى علاقة الحاكم بالشارع، فهي تتجلّى في كون الشارع المقدّس قد فوّض للفقيه العادل الولاية على المجتمع في عصر غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجة الشريف) على نحو التعيين المباشر النوعيّ لا الشخصيّ، فمتى ما تحقّقت الشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ، أصبح بذلك منصوباً من قِبَل الله تعالى، وعليه التصدّي لأمر الحاكميّة؛ لأنَّ عدول الحاكم الجامع للشرائط عن أمر الحكومة يؤدّي بالمجتمع نحو الانحراف، فيتعيّن حينها تصدّيه؛ امتثالاً لتكليفه الشرعيّ وتأديةً للواجب.
والتعيين هنا هو بمثابة الجعل الاعتباريّ لا التكوينيّ، حيث إنَّ المنْصِب جُعِل للمعصوم (عليه ‏السلام) أصالةً، وفوِّض للفقيه العادل نيابة عن المعصوم (عليه ‏السلام)؛ من خلال منحه عليه السلام هذا الأمر للفقيه العادل عند وجود موانع تمنعه من التصدّي مباشرة بنفسه لأمر الحاكميّة.
وقد أفاد الإمام الخميني (قدس‏ سره) بأنّ: «ولاية الفقيه من الأمور الاعتباريّة العقلائيّة وليس لها واقع سوى الجعل، وذلك كجعل القيّم للصغار... وكأنَّ الإمام(عليه ‏السلام) قد عيّن شخصاً لأجل حضانة الحكومة أو منصب من المناصب» (18).
وفي موضع آخر أورد بأنّه: «يجب كفاية على النوّاب العامّة القيام بالأمور
________________________________________
(17)الإمام علي بن أبي طالب(ع): نهج البلاغة، شرح محمد علي دخيل، ط1، دار المرتضى، بيروت، 1422هـ.ق/ 2002م، الخطبة 34، ص66، الخطبة 214، ص18.
(18)الخمينيّ، الحكومة الإسلاميّة، م.س، ص91.

[الصفحة - 53]


المتقدّمة]إدارة شؤون الأمّة وتنظيمها وتطبيق أحكام الشريعة[، مع بسط يده وعدم الخوف من حكّام الجور، وبقدر الميسور مع الإمكان» (19).
علاقة المجتمع بالحاكم
إنَّ علاقة المجتمع بالحاكم هي علاقة مولّىً عليه بمولّى، حيث يجب على الأمّة والمجتمع إطاعة الحاكم الجامع للشرائط، ومساعدته، وإعانته على تمكين حكم الله تعالى، ولا يجوز لهم مخالفته طالما لم يفقد شرائط النيابة العامّة عن المعصوم(عليه ‏السلام)، وعليهم إطاعته بجميع أجناسهم وأعراقهم وأوطانهم وأديانهم ومذاهبهم؛ لأنَّ ولاية الفقيه العادل ليست محدودة ومقيّدة بحدود جغرافيّة؛ ولانحفاظ هويّة الانتماء للوطن أو الدولة ضمنها، وعدم منافاتها وتعارضها مع التبعيّة للحاكم الإسلاميّ وحاكميّته.
وولاية الفقيه ليست مؤقّتة، بل دائمة بدوام عصر الغيبة، ودوام توافر الشرائط العامّة للنيابة عن المعصوم (عليه ‏السلام). وليس للمجتمع إضفاء المشروعيّة على الحاكم لا على نحو الجزئيّة كجزء علَّة لإضفاء المشروعيّة، فضلاً عن عدم كونهم علّة تامّة لذلك. وغاية ما يمكن أن يعطيه المجتمع للحاكم الإسلاميّ هو السيادة فقط؛ لأنّ المشروعيّة المُضفاة على الحاكم يجب أن تكون ناتجة من مصدر هو عادل ومريد بذاته، بحيث لا تنفكّ عنه هذه الصفات، وهذا ما لا نجده عند غير الله تعالى.
وعلى ذلك تكون إرادة الله هي المصدر الأوحد للمشروعيّة، والمانح الوحيد لها، ولذلك كان على الناس إطاعة من يُضفي الله عليه هذه الشرعيّة ويمنحه إياها. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهَ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } (20).
وبصدد ذلك يقول الإمام الخميني (قدس‏ سره): «يجب على الناس كفايةً مساعدة الفقهاء في إجراء السياسات وغيرها من الحسبيّات التي من مختصّاتهم في عصر الغيبة مع الإمكان، ومع عدمه فبمقدار الميسور الممكن» (21)
________________________________________
(19)الخمينيّ، روح الله: تحرير الوسيلة، ط2، دار المنتظر، بيروت، 1405هـ.ق/1985م، ص443.
(20)سورة الأحزاب، آية36.
(21)الخمينيّ، الحكومة الإسلاميّة، م.س، ص9091.

[الصفحة - 54]


وهذا ما نجده أيضاً في كلمات الفقهاء القدامى قدَّس الله تعالى سرَّهم الشريف حيث صرَّحوا بوجوب مساندة الناس للحاكم إذا تصدّى لإقامة حكم الله تعالى مع الأمن من الضرر (22).
وعلى ذلك تكون طاعة الفقيه العادل في طول طاعة الله تعالى، بل مصداقاً للتوحيد العمليّ لله تعالى، حيث جاء في لسان أكثر من حديث أنَّ الرادّ على من توافرت له شروط القيادة والحاكميّة كالرادّ على المعصوم (عليه ‏السلام)، وهو كالرادّ على الله تعالى، وعلى حدّ الشرك به عزَّ وجل(23).
كيفيّة تعيين الحاكم
يعيّن الحاكم الإسلاميّ في عصر الغيبة على نحو التعيين النوعيّ لا الشخصيّ (والمقصود بالغيبة هنا هو الغيبة الكبرى لا الصغرى، حيث جرى فيها تعيين شخصيّ من قِبَل الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجة الشريف)، نيابة عنه؛ ليكونوا صلة وصل بينه وبين الأمّة)، فقد صرَّحت أكثر من رواية بحيثيّات هذا التعيين؛ بحيث نظرت إلى مقامين: الأول: تنصيب من هو واجد لشروط الأهليّة والمشروعيّة. الثاني: دعوة الناس إلى وجوب إطاعة الحاكم الشرعيّ، ومساندته في تطبيق أحكام الشريعة (24).
والتعيين هنا كما أُشِيرَ سابقاً، هو جعليّ اعتباريّ، وملاك المشروعيّة فيه منحصرٌ بالله تعالى، وبمن منحهم الله تعالى صفة إعطاء المشروعيّة، كالمعصومين(عليهم ‏السلام)؛ فيكون بذلك تعيين الحاكم على نحو المباشرة من الله تعالى تعييناً نوعيّاً لا شخصيّاً، فلا دخالة لرأي الناس في إضفاء المشروعيّة والأهليّة على الحاكم الإسلاميّ، بل دورهم منحصر فقط في مجال إعطائهم السيادة لحكومته؛ من خلال التفافهم حوله وتمكينهم إيّاه من إقامة حكم الله تعالى.
وعليه يكون النصب في مقام الثبوت شاملاً لجميع من امتلك شروط الحاكميّة والأهليّة للقيادة، فيمكن في هذا المقام تعدُّد الفقهاء العدول المؤهّلين
________________________________________
(22)يٌراجع: ما ذُكِر في التمهيد في "نشأة الفكر السياسيّ عند علماء الإماميّة ومراحل تطوّره".
(23)يُراجع: مقبولة عمربن حنظلة. سورة النساء، الآية59. التوقيع الصادر من الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه.
(24)يُراجع: مقبولة عمربن حنظلة. التوقيع الصادر من الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه. سورة النساء، الآيتين59،83.

[الصفحة - 55]


للحكم، وتكون ولاية كلّ منهم متحقّقة، دون أفضليّة لأحدهم على غيره، ولا يحقّ لبعضهم أن يزاحم الآخر (25).
وأمّا في مقام الإثبات فبما أنّ طبيعة الحكم على المستوى العمليّ لا تحتمل التعدّديّة في شخص الحاكم؛ لأنَّ التعدُّد سيؤدّي إلى نشوء التعارض بين آراء المتصدّين في بعض المسائل، بما يؤدّي إلى الفوضى والإخلال بحفظ النظام، والمعلوم أنَّ إقامة الحكومة الإسلاميّة هو لأجل حفظ النظام وتطبيق الشريعة، فينتفي عندها الغرض مع التعدّد.
وعلى ذلك يتعيّن على المستوى العمليّ قيام فقيه عادل واحد بالتصدّي لشؤون المجتمع العامّة، ولا يجوز لبقيّة الفقهاء مخالفته ومزاحمته، لأنَّ مخالفتهم إياه ومزاحمتهم له، يؤدّيان إلى توهين حكمه وتضعيفه، وهو بلا شكّ غير جائز شرعاً.
وقد حاول أصحاب هذه النظريّة الخروج من هذه المشكلة على الصعيد العمليّ، من خلال طرح فكرة اختيار الأفضل والأجدر من بين الفقهاء المتصدّين الجامعين للشرائط، إمّا من خلال إجماع الفقهاء والحوزات العلميّة على كون فقيه ما هو الأعلم والأجدر لإدارة الشؤون العامّة للمجتمع، أو من خلال قيام الفقهاء العدول بترشيح أحد الفقهاء وليّاً للأمر، وهذا ما نجده في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، حيث جاء في المادّة السابعة بعد المئة ما يشير إلى ذلك، وهذه الفكرة طرحها القائلون بالولاية التعيينية المطلقة.
وأمّا القائلون بولاية شورى مراجع التقليد فقد خلصوا إلى أنّه مع إمكان اتّفاق الفقهاء الجامعين للشرائط فيما بينهم على واحد، فيتعيّن عليه بذلك أمر الحاكميّة، وإلاّ يُعتبر أعضاء الشورى مجتمعين حكّاماً على المجتمع، وعند قيام الناس بالالتفات حول أحدهم فيعتبر بذلك هو الحاكم والمتعيّن.
إلا أنّ أصحاب هذا القول قد أغفلوا أمراً مهمّاً، وهو أنّ المناط في إضفاء المشروعيّة على الحاكم منحصر بالله تعالى، وبمن أُعطي هذا الحقّ، كأهل بيت
________________________________________
(25)يُراجع: الخمينيّ، كتاب البيع، م.س، ج2، ص687694.

[الصفحة - 56]


العصمة (عليهم ‏السلام)، فلا مشروعيّة لغيرهم في التعيين. أضف إلى ذلك أنّه مع تعدّد الفقهاء فإنّ إجماع القواعد الشعبيّة على فرد دون الآخر، يُعدّ إدخالاً للشعب في إضفاء المشروعيّة على الحاكم.
وإن قيل بأنّ اختيار هذه القواعد الشعبيّة لبعض دون الآخر ليس من قبيل إضفاء المشروعيّة، يبقى إشكال آخر، وهو أنّه مع تعدّد الفقهاء المنصوبين من قِبَل القواعد الشعبيّة، يحصل ما يمكن أن يؤدّي إلى تفكّك الدولة الإسلاميّة، فينتفي عندها الغرض من إقامتها.
وهذه الإشكالات لا ترد على القائلين بالولاية التعيينيّة المطلقة؛ لما سيرد في طيّات هذه الدراسة.
مواصفات الحاكم
إنَّ أصحاب نظريّة الشرعيّة الإلهيّة المباشرة متّفقون على أنَّ الحاكم الإسلاميّ منصّب من قِبَل الله تعالى في عصر الغيبة الكبرى على نحو القضيّة الشرطيّة، التي يكون شرطها توافر شروط الحاكميّة العامّة، وجزاؤها التنصيب من قِبَل الله تعالى لمن تواجدت فيه. والشروط العامّة للحاكم الشرعيّ موضع وفاق بالإجمال، وهي مُقتنصة من الروايات والآيات الكريمة تارة، ومن العقل تارة أخرى، وتنقسم إلى شروط أهليّة؛ تعتبر بمثابة المؤهّلات التي يلزم توافرها في المتولّي لهذا المنصب، من قبيل: العقل، والإيمان، وطهارة المولد، والذكورة والعدالة. وشروط صلاحيّة وكفاية؛ بحيث تخوّل صاحبها التصدّي للشأن العام وأمر الحاكميّة، من قبيل: القوّة العضويّة والعلميّة، والأمانة (26).
إلاّ أنّ أغلب الفقهاء أكّدوا على شرطين أساسيّين في حيازة الحاكم على المشروعيّة لحكمه، وهما: العلم بالقانون والعدالة، وهاتان الصفتان منتزعتان من الروايات والآيات الكريمة التي تتحدّث عن النصب، ومُشار إليهما بعبارات عدّة، من قبيل: « مّمن روى حديثنا - نظر في حلالنا وحرامنا - عرف أحكامنا -
________________________________________
(26)يُراجع: مصطفويّ، محمد: نظريّات الحكم والدولة، ط1، معهد الرسول الأكرم(ص)، بيروت، 1423هـ.ق/ 2002م، ص206216.

[الصفحة - 57]


بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء - لَعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم - لا ينال عهدي الظالمين» (27)، وغير ذلك من العبارات التي تؤكّد تأكيداً حثيثاً على كون الحاكم والنائب مقام الإمام المعصوم عليه السلام متّصفاً بصفات معيّنة أبرزها وأهمّها العدالة والعلم بالشريعة والقانون.
وأمّا تحديد مفهوميّ العدالة والعلم بالشريعة والقانون، ومعيار انطباقهما على الفرد فليس محلّ كلامنا في هذه الدراسة. وقد أفاد الإمام الخميني (قدس‏ سره) بأنّ: «هناك شرطان أساسيّان[يلزم توافرهما في الحاكم الإسلاميّ وهما]: العلم بالقانون، والعدالة...[فـ]إنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فالعلم بالقانون بالنسبة إلى الحاكم يكون أمراً ضروريّاً كما ورد في الرواية، وليس فقط للحاكم، بل للمجتمع مهما كان عملهم أو مرتبتهم. فالعلم بأمر كهذا ضروريّ. غاية الأمر أنّ الحاكم يجب أن يكون الأفضل من الناحية العلميّة... [و]الحاكم يجب أن يكون عادلاً ومتمتّعاً بالكمال العقديّ والأخلاقيّ، وألاّ يكون ملوّثاً بالمعاصي... والذي يمنحه الله صلاحيّة إدارة عباده، يجب ألاّ يكون من أهل المعاصي» (28).
صلاحيات الحاكم وحكومته
اختلفت الآراء في صلاحيّات الحاكم وحكومته سعةً وضيقاً، إلاَّ أنّ القدر المتيقن هو نفاذ أمر الحاكم في دائرة معيّنة من المسائل، أُطلق عليها اسم دائرة الأمور الحسبيّة أو الحسبيّات، حيث اعتبر بعض الفقهاء أنَّ هناك جملة من الأمور العامّة لا يرضى الشارع بتركها؛ وعليه يلزم تصدّي الفقيه العادل لتسويتها، كالولاية على القُصَّر والإفتاء وغير ذلك من الأمور الداخلة ضمن إطار دائرة الأمور الحسبيّة (29).
وذهب آخرون إلى اعتبار الفقيه العادل وليّاً للأمر بالولاية العامّة، ولكن ضمن نطاق الأحكام الشرعيّة الأوليّة والثانويّة؛ فولايته ليست مطلقة، بحيث تتيح له التصرّف بكلّ شيء؛ وذلك لأنّ الحاكم الإسلاميّ وظيفته تطبيق الأحكام
________________________________________
(27)يُراجع: مقبولة عمر ابن حنظلة. التوقيع الصادر من الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه. سورة النساء، الآيتين83،59. سورة البقرة، الآية 124.
(28)الخمينيّ، الحكومة الإسلاميّة، م.س، ص8688.
(29)يُراجع: الخوئيّ، أبو القاسم: التنقيح في شرح العروة الوثقى، لا.ط، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئيّ، قم، لا.ت، ج1، ص360-361.

[الصفحة - 58]


الشرعيّة بالدرجة الأولى، وترجيح أو تقديم بعض الأحكام الشرعيّة على بعضها الآخر عند التزاحم بالدرجة الثانية، وخارج ذلك لا ولاية للفقيه العادل (30).
وفي مقابل ذلك ذهب آخرون إلى اعتبار ولاية الحاكم مطلقة، فأثبتوا للفقيه العادل ما ثبت للمعصوم (عليه ‏السلام) بلحاظ كونه حاكماً للمسلمين، وعدّوا ذلك أصلاً يحتاج الخروج عنه إلى دليل خاصّ؛ بحيث يفيد أنّ أمراً معيّناً هو من مختصّات المعصوم (عليه ‏السلام) (31).
وعليه فإنّ تحديد دائرة حاكميّة الحاكم الإسلاميّ سعةً وضيقاً بحاجة إلى دراسة أخرى، والمسألة خارجة عن إطار هذه الدراسة، وإن أمكن القول بأنَّ العقل والشرع يأبيان أن تترك أمور المعاش والمجتمع وتطبيق أحكام الشريعة دون راعٍ ومطبّق ومشرف (32).
ولذلك يلزم أن يكون للحاكم ولاية حتى على الأمور العامّة الخارجة عن نطاق الأحكام الأوليّة الشرعيّة والثانويّة؛ لوجود مصلحة للأفراد والمجتمع في ذلك؛ من خلال تنظيم شؤونهم وضمان حقوقهم جماعةً وأفراداً.
أدلّة الشرعيّة الإلهيّة المباشرة
الأدلّة الشرعيّة
استُدِلَّ لإثبات ولاية الفقيه وحاكميّته ومشروعيّتها الإلهيّة المباشرة بأدلّة عدّة، استُفيد منها ضرورة إقامة الحكومة، وكون الحاكم الإسلاميّ منصّباً من قِبَل الله تعالى على نحو التعيين النوعيّ؛ من خلال بيان الشارع والعقل لمواصفات المتصدّي لأمر الحاكميّة وشروطه، وتنحصر هذه الأدلّة بالقرآن الكريم والسنّة والعقل:
ـ القرآن الكريم
وقد ورد فيه بيان لضرورة إقامة الحكومة الإسلاميّة، وبعض مواصفات الحاكم الإسلاميّ، وكونه منصًّباً من قِبَل الله تعالى، فضلاً عن تحديده لتكاليف
________________________________________
(30)يُراجع: الكلبايكانيّ، محمد رضا: الهداية إلى من له الولاية، تقرير أحمد الصابريّ الهمدانيّ، 1373هـ.ش. نقلاً عن: كديور، م.س، ص105.
(31)يُراجع: الخمينيّ، الحكومة الإسلاميّة، م.س، ص9094.
(32)يُراجع: سورة النساء، الآية83. مقبولة عمر ابن حنظلة. التوقيع الصادر من الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه.

[الصفحة - 59]


الحاكم الإسلاميّ وكذلك الأمّة تجاه ضرورة إقامة الحكومة الإسلاميّة ومتطلّبات وجودها واستمرارها؛ وذلك من خلال ما يُستظهر من بعض آياته:
النص الأوّل:
قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (*) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (*) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (*) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (*) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (*) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (*) أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (33).
تقريب الاستدلال:يُستظهر من هذه الآيات عدّة نقاط، وهي:
ـ التأكيد المستمرّ في الآيات الخمسة على أنَّ الحكم يجب أن يكون بما أنزل الله تعالى، وعلى ضوء ما بيّنه الله تعالى للأنبياء (عليهم ‏السلام)، وكل حكم خارج عن هذه الدائرة يُعتبر مصداقاً للطغيان، وفاقداً للشرعيّة، وغير ممضيّ من قِبَل الشارع،
________________________________________
(33)سورة المائدة، الآيات4450.

[الصفحة - 60]


ولذلك جاء التعبير عن الحكم الذي لا يكون مصداقاً لما أنزل الله تعالى بأنَّه يجعل صاحبه كافراً، وظالماً، وفاسقاً، ومتّبعاً للهوى، وجاهليّاً وغير موقِنٍ بالإيمان.
ـ إنّ الله تعالى قد جعل التوراة كتاب نور وهداية لبني إسرائيل، وأوعز الحكم بمضمون التوراة إلى الأنبياء (عليهم ‏السلام) بالدرجة الأولى ، ثمّ إلى الربّانيّين بالدرجة الثانية، ثمَّ إلى الأحبار بالدرجة الثالثة (34)، والحكم هنا أعمّ من فصل النزاعات والخصومات بين الناس؛ حيث يُستفاد من سياق هذه الآيات أنَّ الحكم هنا هو الحكم بما جاء في التوراة من أحكام فرديّة وعامّة تتعلّق بالمجتمع وأفراده، وممّا يؤيّد ذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ... } ، فبعد أن بيّن التوراة ككتاب هداية ونور، جاء قوله تعالى في تلك الآية أنّ الحكم هو أعم من القضاء بين المتخاصمين والمتنازعين، بل هو واسع ليشمل القصاص والديات.
وقد شدّدت هذه الآية كما الآية الأولى على أنّ الحكم يجب أن يتمّ تأديته من دون خشية من الناس؛ لأنّ هذا الحكم هو ما أنزله الله تعالى، فيكون بذلك الحكم المأمور به النبيّين والربّانيّين والأحبار هو الأعمّ من القضاء في النزاعات.
أضف إلى ذلك أنّ الحكم بما أنزل الله تعالى قد أُمِرَ به النبيّون، ولا شكّ في أنّ النبيّين حكمهم نافذ على جميع الناس، وولايتهم مطلقة في إطار تطبيق حكم الله تعالى النازل في التوراة، وقد جاء في الآية أنّ تطبيق حكم الله تعالى وتنفيذه مُوكَل إلى النبيّين والربّانيّين أي الأوصياء، الذين يكون علمهم لدنّيّ غير اكتسابيّ، وإلى الأحبار الذين تفقّهوا في الدين ووعوا روحه وفهموه (35)؛ وذلك لمكان العطف في الآية الكريمة؛ إذ يثبت للأحبار ما ثبت للأنبياء والربّانيّين، فتكون ولاية الأحبار مطلقة في إطار تطبيق حكم الله تعالى كما هي حال ولاية الأنبياء والربّانيّين في مقام التطبيق لحكم الله تعالى.
ـ إنَّ كلّ الشرائع جاءت مصدّقةً بعضها بعضاً، وبما أنّ التوراة فيها حكم الله
________________________________________
(34)يُراجع: الطباطبائيّ، م.س، ص322323، 372.
(35)يُراجع: الأنصاريّ، محمد بن أحمد: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق سالم مصطفى البدري، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420 هـ.ق/ 2000م، ج6، ص189.

[الصفحة - 61]


تعالى، والإنجيل أتى مصدقاً لما جاء في التوراة، والقرآن الكريم أتى أيضاً مصدّقاً لما جاء في التوراة والإنجيل ومهيمناً عليهما، وكذلك فإنَّ الأنبياء أيضاً جاء بعضهم مصدّقاً بعضاً شخصاً ورسالةً، إلاَّ أنَّ كلّ نبيّ له شرْعَته في الحكم ومنهاجه؛ تبعاً لاختلاف الظروف الموضوعيّة ومقتضيات كلّ عصر من العصور.
ـ إنَّ اتّباع هذا التدرّج في الوصاية(الأنبياء ـ الربّانيون ـ الأحبار)، ثابت قطعاً في شريعة موسى (عليه ‏السلام) بحسب الآية الأولى، وبصلاحيّة مطلقة كما بيّنته الآية الثانية، حيث تحدّثت عن الحكم في بعض مصاديق الأمور العامّة، كوجوب القصاص، لتأتي بعد ذلك الآية الرابعة مشيرةً إلى أنّ أهل الإنجيل مُوكَل إليهم الحكم طبقاً لما جاء في الإنجيل. وأهل الإنجيل في الآية يُراد منهم العلماء من النصارى؛ لأنّ عبارة أهل إذا أُضيفت إلى شيء تُفيد بأنَّ الأشخاص الذين نُعتوا بهذا الاسم هم المتخصّصون والعالمون بأمر ما أكثر من غيرهم، نظير قولنا أهل الحكمة أي الحكماء. كما أنّ عبارة أهل الإنجيل منصرفة عن كونها خاصّة بالنبيّ عيسى (عليه ‏السلام)؛ لمكان الفراغ عن ذكره(عليه ‏السلام) في الآية السابقة، ولكانت الآية قد أتت بلسان: "وليحكم بما أنزل الله" بدلاً من قوله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل... } .
ثمَّ جاء بعد ذلك الحديث عن كون القرآن الكريم مصدّقاً لما جاء قبله من الرسالات ومهيمناً عليها، وأُمِرَ الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بأن يحكم بين الناس بما جاء في القرآن الكريم، وأمر الناس أن يطيعوه فيما يحكم ويسلّموا له أمورهم؛ لأنّ حكم غير الله تعالى هو مصداق للكفر والفسق والطغيان والعصيان.
إلاَّ أنّ الآيات الأخيرة لم تصرّح بحاكميّة غير الرسول الأكرم (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ولكن يمكن استفادة ذلك من خلال إقرار الشارع لما جاء على نحو الجزم في الشرائع السابقة من أمر التولية والحكم وتراتبيّته(الأنبياء ـ الربّانيون ـ الأحبار)؛ لأنّ الدين الإسلاميّ جاء مصدّقاً لما ورد في التوراة والإنجيل، وقام بنسخ بعض الأحكام الواردة فيهما سابقاً، ومتى ما أراد أن ينسخ حكماً سابقاً كان يبيّن أنّ هذا الحكم
________________________________________

[الصفحة - 62]


كان موجوداً في التوراة والإنجيل وقد نُسِخ بحكم آخر، وحيث إنّه لم يبيّن ذلك ويردع عنه؛ فيستفاد بذلك إمضاؤه له.
وعلى ذلك تكون النتيجة بأنَّ الله تعالى أوكل مهمّة إرشاد الناس، وتربيتهم إلى العلماء الربّانيّين في عصر الغيبة الكبرى؛ لكي يحكموا بين الناس بما أنزل الله تعالى، فيكونوا بذلك شهداء على الناس بتعاليمهم وإرشاداتهم، وهم مأمورون بالتصدّي لهذا التكليف، بحيث يحتجّ الله تعالى بهم على الناس، بعد أمره إيّاهم إطاعتهم وإتّباعهم، وقد جعل الله تعالى العلماء أوصياء وحفظة على الناس ليأخذوا بأيديهم، وليرشدوهم، وليكشفوا لهم سُبُل الهداية والصراط المستقيم (36).
وبهذا يمكن أن نستفيد من هذه الآيات أنّ الفقهاء العدول في عصر الغيبة الكبرى مأمورون بالتصدّي لأمر الحاكميّة والولاية على المجتمع الإسلاميّ، بتنصيب وتعيين إلهيّ، والناس مأمورون بإطاعتهم، وإعانتهم على تمكين دعائم الحكم؛ تمهيداً لتطبيق حكم الله تعالى وإنفاذه وعدم تعطيله، والولاية هنا مطلقة، بحيث تشمل جميع الأمور العامَّة إلاَّ ما جاء به دليل خاصّ يُخرج بعض المصاديق عن هذا الإطلاق؛ لكونها مختصّة بالمعصوم (عليه ‏السلام).
ـ النص الثاني
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } (37).
تقريب الاستدلال:إنَّ مورد هذه الآية وإن كان المستضعفين في مكة المكرّمة، حيث كانوا يعانون من وطأة ظلم المشركين وجورهم قُبَيل الفتح، إلاَّ أنَّ المورد لا يخصّص الوارد؛ لأنّ معظم آيات القرآن الكريم نزلت في مناسبات معيّنة ومحدّدة، فلو أنّ المراد من الآيات هو خصوص هذه الموارد التي نزلت فيها؛ لأدّى ذلك إلى تعطيل الأحكام، وتجميد الدين؛ لانحصار التكليف عندها بمن
________________________________________
(36)قال صاحب الميزان: "أي يحكم بها الربّانيّون وهم العلماء المنقطعون إلى الله علماً وعملاً، أو الذين إليهم تربية الناس بعلومهم، بناءً على اشتقاق اللفظ من الربّ أو التربية. والأحبار وهم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به وأراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله وكانوا من جهة حفظهم له، وتحمّلهم إيّاه شهداء عليه". الطباطبائيّ، م.س، ج6، ص43.
(37)سورة النساء، الآية75.

[الصفحة - 63]


سمعوا هذه الأحكام من الرسول (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) مباشرة، دون غيرهم ممَّن تلقوها بالنقل لا على نحو المباشرة.
وعليه فالآية في مقام بيان قانون عام وشامل يحكم البشريّة في كل زمان ومكان، وإبراز سنّة من سنن التاريخ، مُفادها كون المستضعفين يطلبون دوماً من الله تعالى أن يمنّ عليهم بوليّاً من أوليائه، يخرجهم من قهر الظلم والجور. وهذا خير شاهد على أنّ الولاية هي بمنحٍ وجعلٍ إلهيّ، فلا مشروعيّة لأحد إلاّ إذا كان منصّباً من قِبَل الله تعالى، وكل حكم صادر عن غير المنصوب من قِبَله تعالى هو حكم طاغوتيّ.
ولذلك كانت سيرة الناس قائمة على تقديم الولاء، وطلب الطاعة ممَّن ينصّبهم الله تعالى لمقام الولاية على الناس.
ـ السنّة
وقد جاء فيها بيان لأحوال المتصدّين للحكم وشؤونهم ومواصفاتهم ومعيار مشروعيّتهم وعلاقاتهم مع الأمّة وواجبات كلّ منهما تجاه الآخر، وتجاه ضرورة إقامة الحكومة الإسلاميّة، حيث استفيد ذلك من خلال ظهورات بعض النصوص الحديثيّة:
ـ الحديث الأول: مقبولة عمر بن حنظلة:عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟... فقال: من تحاكم إلى الطاغوت فحُكِم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يُكفَر به. قلت: كيف يصنعان، قال: انظروا إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم
________________________________________

[الصفحة - 64]


بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله قد استخفّ وعلينا ردّ والرادّ علينا كالرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله» (38).
سند الحديث:إنَّ الكثيرين من الفقهاء قد تلقَّفوا هذه الرواية بالقَبُول، حتى اشتهرت بينهم بالمقبولة، غير أنَّ سندَها قد وقع حوله الخلاف في بعض رواته، وهم:
محمد بن عيسى اليقطيني (39): ضعّفه الشيخ في فهرسته ووثَّقه النجاشيّ، ومع وجود هكذا تعارض في علم رجال الحديث يقدّم قول النجاشيّ (40)، فيُتعامل مع محمد بن عيسى معاملة الثقة؛ لعدم ثبوت تضعيفه صراحةً، وشهادة النجاشيّ بوثاقته.
ـ داود بن الحصين (41): عدّه الشيخ من الواقفيّة، ومن أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام، في حين أنّ النجاشي قد وثّقه. وعلى هذا الأساس يُتعامل معه معاملة الثقة؛ للنكتة المتقدّمة في سابقه.
ـ عمر بن حنظلة (42) :تُستفاد وثاقته ممَّا رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة، قال: « قد قلت لأبي عبد الله(عليه ‏السلام) إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله(عليه ‏السلام): إذاً لا يكذب علينا» (43). وقد عدّه الشهيد الثاني من الثقات (44).
أضف إلى ذلك أنّ كبار الأصحاب وأجلائهم قد عملوا برواياته، ومنهم أصحاب الإجماع، كزرارة وعبد الله بن مسكان وصفوان بن يحيى وغيرهم.
وبذلك يكون الحديث صحيحاً، ويمكن الأخذ به في مقام الاستدلال، على فرض ثبوت دلالته.
فقه الحديث:يُستفاد من الحديث عدَّة أمور، وهي:
ـ إنّ المفسدة المترتّبة على كون الحاكم القاضي فاسقاً ليست بأكبر من المفسدة المترتّبة على كون الحاكم في الشؤون العامّة للمسلمين فاسقاً؛ لأنَّ المصلحة الإسلاميّة الكبرى وراء كون القاضي غير فاسق هي إقامة العدل والمساواة. وعليه فإنّ كون الفاسق هو الحاكم في الشؤون العامّة للمسلمين يؤدي
________________________________________
(38) الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، ط3، دار التعارف؛ دار صعب، بيروت، 1401هـ.ق، ج7، باب كراهيّة الارتفاع إلى قضاة الجور، ح5، ص412.
(39)يُراجع: الخوئي، أبو القاسم: معجم رجال الحديث، ط4، مركز نشر آثار الشيعة، بيروت، 1409هـ.ق/ 1989م، ج17، ص113 114.
(40) لأنّ النجاشيّ متخصّص في علم الرجال، وهو أضبط وأدقّ من الشيخ الطوسيّ في هذا العلم، إضافة إلى أنّ النجاشيّ تعهّد في كتابه الفهرست بذكر تضعيف كلّ من يورده فيه أو توثيقه والتزم بذلك في كتابه، بخلاف الشيخ الطوسي الذي لم يلتزم بذلك في كتابه.
(41) يُراجع: الخوئي، معجم رجال الحديث، م.س، ج7، ص9798.
(42)يُراجع: م.ن، ج13، ص2729.
(43)الكليني، ج3، من أبواب وقت صلاة الظهر والعصر، ح1، ص78.
(44)يُراجع: الخوئي، معجم رجال الحديث، م.س، ج13، ص27.

[الصفحة - 65]


إلى ظهور الظلم والاستبداد وعصفهما بالمجتمع الإسلاميّ. فيكون بذلك الحديث دالاً بالأولويّة القطعيّة على ولاية الفقيه في الشؤون العامّة، التي من مصاديقها القضاء وفصل الخصومات بين الناس.
ـ حرمة رجوع المسلمين في تحاكمهم في المسائل البسيطة للحاكم الجائر، كما لو تحاكموا لديه في دَيْن صغير مقداره ديناراً مثلاً، فإنّه لا يجوز أن يتحاكموا لديه في هذا الأمر، فكيف الحال إذا كان هذا الحاكم الفاسق يتصرّف في الأموال والأعراض والدماء. أليس من الأولى أن لا يكون له سلطان في هذه الأمور؟.. أليس من السليم أن يكون الفقيه العادل هو القائم لهذا الأمر، كما أنّه قائم للقضاء وفصل الخصومات؟.. أليس من المنطقيّ أن يكون ترك هذه الأمور العامّة من باب الأولى غير جائز، كما أنَّ ترك التحاكم إلى القاضي العادل واستبداله بالجائر هو غير جائز؟..
ـ إنَّ قول الإمام (عليه ‏السلام): « فإنيّ قد جعلته حاكماً»ظاهر في كون الفقيه حاكماً على الجميع لا على خصوص من تنازع لديه، وليس ذكر الدين والإرث في الرواية إلا من باب المثال. وعليه يكون الإمام بصدد تنصيب حاكم عامّ لأمور المسلمين.
ـ إيراد عبارة « من كان منكم»ظاهر في تنصيب النوع لا الفرد.
ـ إنّ من أوجه النهي عن الركون إلى الحاكم كون الاحتكام لديه يؤدي إلى تقويته، فكيف الحال إذا كانت موارد البلاد، ومعايش العباد، ودماؤهم رهن سطوته وسلطانه؟.
ـ إنَّ الحاكم ليس مقصوداً به خصوص القاضي، وإن صحّ إطلاق لفظ الحاكم على القاضي، بل يُراد من الحاكم في الرواية الأعمّ من القاضي، بقرينة عطف القاضي على السلطان في قول الراوي: "فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة"، والجواب الذي صدر من الإمام (عليه ‏السلام)، حيث جاء فيه جعل الحاكم المنصوب من قبلهم عليهم السلام مقابلاً للسلطان الطاغوتيّ، فلا شرعيّة للأعمال التي يُقدِم عليها
________________________________________

[الصفحة - 66]


السلطان الطاغوتيّ؛ لكونها من مختصّات الحاكم المنصّب من قِبَل أئمّة الهدى عليهم السلام؛ بقرينة قوله(عليه ‏السلام): «فإنّي قد جعلته حاكماً».
ـقوله (عليه ‏السلام): « ممَّن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا»لا يصدق إلاّ على الفقيه العادل، وينصرف عن الراوي غير الفقيه، بقرينة النظر إلى الحلال والحرام ومعرفة الأحكام، حيث إنَّ معرفة الأحكام والنظر فيها إنّما يدل على سعة اطّلاع الراوي بأحكام الدين والشريعة، وعلى اجتهاده وقدرته على استنباط الأحكام من مداركها. ومعرفة الأحكام تدلّ على فقاهة الراوي.
أضف إلى ذلك أنّ إضافة الرواية والحلال والحرام لأهل البيت (عليهم ‏السلام) قرينة واضحة على كون الراوي ملتزم بأحكام الشريعة كما بيّنها أهل البيت (عليهم ‏السلام)، وقد تشرّب المنطق الفقهيّ الموجود لديهم عليهم السلام، من خلال اتّباعه للمنهج العلميّ الذي رسموه عليهم السلام لأتباعهم.
ـ وأمّا دلالة هذه الرواية على كون الفقيه العادل منصّباً لمقام الولاية بالنيابة عن المعصوم (عليه ‏السلام)؛ فتتجلّى في عدّة عبارات وردت في نصّ الرواية، بحيث يُستفاد من ظهورها نصب الإمام (عليه ‏السلام) للفقيه العادل، كقوله (عليه ‏السلام): فإنّي قد جعلته حاكماً»، وقوله(عليه ‏السلام): « فارضوا به حكماً»، فإنّ العبارتين ظاهرتان في كون المجتهد العادل العالم بأمور الدين « ممّن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا»مُنصّب لمقام الولاية عند تعذر تصدّي الإمام المعصوم (عليه ‏السلام)، ولا دخل للناس في إضفاء المشروعيّة على حاكميّته.
كما أنّ تشديد الإمام (عليه ‏السلام) على لزوم إطاعة الحاكم الجامع للشرائط، واعتباره ردّ حكمه كردّ حكمهم عليهم السلام، وهو يُوجِب خروج الرادّ عليه عن حدّ التوحيد العمليّ بالله تعالى.
وعلى ذلك يُستفاد من هذا الحديث أنّ الفقيه العادل منصّب لمقام الولاية في مجال الأمور العامّة من قِبَل المعصوم (عليه ‏السلام) نيابة عنه، فيثبت له من الأمر ما كان
________________________________________

[الصفحة - 67]


ثابتاً للمعصوم (عليه ‏السلام)، إلاّ ما خرج بدليل خاص مقيِّد أو اوأأمخصِّص لهذه الصلاحيّة المطلقة؛ بكون بعض الأمور من مختصّات المعصوم (عليه ‏السلام).
ـ الحديث الثاني
توقيع الإمام الثاني عشر(عج):عن الشيخ الطوسيّ قال: أخبرني جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه، وأبي غالب الزراريّ وغيرهما، عن محمد بن يعقوب الكلينيّ، عن إسحاق بن يعقوب قال: «سألت محمد بن عثمان العمريّ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكِلَت عليّ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان(عجل الله تعالي فرجة الشريف): « أمّا ما سألت عنه - أرشدك الله وثبَّتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا... وأمّا الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليكم...» (45).
سند الحديث:السند إلى إسحاق بن يعقوب يكاد يكون قطعيّاً، ولكن وقع الإشكال حول إسحاق بن يعقوب، حيث إنّه مجهول (46)، ولم يؤتَ له ذكر في كتب الرجال، إلاَّ أنّ نقل الكلينيّ عنه يدّل على اعتماده عليه وتصديقه له؛ لأنّ الكلينيّ من المعاصرين لرجال الغيبة الصغرى، وإيراده لهذا التوقيع، ونقله له إنّما هو بدافع إذعانه بصدق صدوره عن الإمام (عجل الله تعالي فرجة الشريف)، خاصّة أنّ هكذا تواقيع كانت لا تصدر إلاّ للخواصّ من الشيعة؛ لوجود حالة من التقيّة الشديدة آنذاك.
فقه الحديث:يُستفاد من الحديث عدَّة أمور، وهي:
ردَّ الإمام (عجل الله تعالي فرجة الشريف) المسلمين في المسائل التي يبتلون بها في حياتهم، وأمور معاشهم، وشؤونهم العامة، إلى الفقهاء العارفين بالحديث وفقهه، بقرينة عبارة: « رواة حديثنا»، حيث إنّ الإمـام (عجل الله تعالي فرجة الشريف) أراد من الناس الرجـوع إلى الرواة لأحاديثهـم (عليهم ‏السلام)، وليس الرجوع لأحاديثهم مباشرة، وذلك ظاهر في جعل الحجيّة لأقوال الرواة، وليس للروايات الصادرة عن الرواة.
كما أنّ إضافة الرواة إلى أحاديث أهل البيت (عليهم ‏السلام) قرينة على علم هؤلاء
________________________________________
(45)الحرّ العامليّ، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة، ط1، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، بيروت، 1413هـ.ق/ 1993م، ج18، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح9، ص140.
(46)م.ن، ج3، ص7576.

[الصفحة - 68]


الرواة بفقه أحاديثهم ومضامينها، ومعرفتهم بمنهج أهل البيت (عليهم ‏السلام) في بيان الأحكام، واتّباعهم لهم في ذلك. وعليه يكون المقصود من « رواة حديثنا»خصوص الفقهاء الذين يعرفون أحاديثنا ويستطيعون تبيينها للناس.
إنّ المراد من قوله (عجل الله تعالي فرجة الشريف): « الحوادث الواقعة»هو أعمّ من المنازعات أو خصوص المسائل التي يسأل عنها الراوي؛ وذلك لأنّ العبارة بإطلاقها تشمل جميع الأمور المُبْتلى بها الناس في حياتهم، على جميع الأصعدة السياسيّة، والاجتماعيّة وغيرهما من النواحي المرتبطة بشؤون الأمّة والأفراد.
إنّ من المرتكز لدى أتباع أهل البيت (عليهم ‏السلام)، وخصوصاً أمثال إسحاق بن يعقوب، الرجوع إلى الفقهاء في بيان المسائل الشرعيّة، فمن البعيد أن يسأل الإمام(عجل الله تعالي فرجة الشريف) عن مثل ذلك. وعليه يكون السؤال موجّهاً لتحديد الجهة التي يرجع إليها الناس في أمورهم العامّة، مع عدم تمكّنهم من سؤال الإمام (عليه ‏السلام) مباشرة عن تلك الأمور.
ـ قوله عليه السلام: « فإنّهم حجتي عليكم»ظاهر في كونه عليه السلام قد جعلهم في هذا المنصب، فمشروعيّة حكمهم مستمدَّة من قِبَله (عليه ‏السلام). وكذلك قوله(عجل الله تعالي فرجة الشريف): « وأنا حجّة الله عليكم»ظاهر في أنّه (عليه ‏السلام) يستطيع، - بما له من الحجيّة من قِبَل الله تعالى في الحكم على الناس-، أن يُرجِع الناس إلى أيّ فرد غيره إذا توافرت فيه أهليّة القيادة وشرائطها، وأن يعطيه المشروعيّة في حاكميّته على الناس.
ـ قوله (عجل الله تعالي فرجة الشريف): « فارجعوا فيها» قرينة واضحة على الأمر بالرجوع في تفسير الحوادث لا في الأحكام، وهو بذلك ظاهر في كون الحوداث غير مختصّة بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة، فيما لو أضفنا إلى ذلك مدلول قوله (عجل الله تعالي فرجة الشريف): « فإنّهم حجّتي عليكم»؛ لأنّه لو كان المُراد بالحوداث خصوص الأحكام الشرعيّة الفرعيّة لكان عبَّر الإمام(عجل الله تعالي فرجة الشريف) بدلاً عن ذلك بعبارة: «فإنّهم حجج الله عليكم».
________________________________________

[الصفحة - 69]


وعليه يظهر أنّ الحديث تامّ الدلالة على تنصيب الإمام عليه السلام للفقيه العادل، وجعله وليّاً لأمور المسلمين بالولاية المطلقة، بعد كون الإمام (عجل الله تعالي فرجة الشريف) في مقام البيان لشيعته كيفيّة الرجوع في أمور معاشهم ودينهم ودنياهم، فلو أراد استثناء بعض الأمور لفعل، ولمّا لم يفعل؛ يثبت بذلك أنّه قد أمضى ولاية الفقيه العادل في جميع ما كان ثابتاً له (عليه ‏السلام) في عصر الحضور إلا ما خرج بدليل خاصّ؛ لكونه من مختصّات المعصوم (عليه ‏السلام).
ـ الإجماع
قال صاحب الجواهر (قدس‏ سره): «قال الكركي في المحكيّ من رسالته التي ألقاها في صلاة الجمعة: اتّفق أصحابنا على أنّ الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعيّة نائب من قِبَل أئمّة الهدى (عليهم ‏السلام) في حال الغيبة في جميع ما للنبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) فيه مدخل، وربما استثنا الأصحاب القتل والحدود» (47).
وقال المحقّق النراقيّ (قدس‏ سره) في كتابه عوائد الأيام: «كليّة ما للفقيه تولّيه وله الولاية فيه أمران: أحدهما كل ما كان للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والإمام(عليه ‏السلام)،- الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام-، في الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نصّ أو غيرهما. وثانيهما: إنّ كل فعل متعلّق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم ولا بدَّ من الإتيان به ولا مفرّ منه، إمّا عقلاً أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به، أو إجماع أو نفي ضرر، أو إضرار، أو عسر، أو حرج، أو فساد على مسلم، أو دليل آخر أو ورود الإذعان فيه من الشارع ولم يجعل وظيفةً لمعيّن واحد أو جماعة، ولا لغير معيّن أيّ واحد، لا بل علم لابدّيّة الإتيان به أو الإذن فيه، ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه فهو للولي الفقيه وله التصّرف فيه والإتيان به. أما الأول فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع، حيث نصَّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من
________________________________________
(47)الأنصاريّ، محمد حسن: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ط7، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1981م، ج20، ص396.

[الصفحة - 70]


المسلّمات ـ ما صرّحت به الأخبار المتقدّمةـ ، من كونه وارث الأنبياء وأمين الرسل... وأمَّا الثاني فيدل عليها بعد الإجماع أيضاً أمران» (48).
ويمكن أن يُقال بأنّ غاية ما يمكن أن يطاله الإجماع هو الولاية الخاصّة للفقيه في الأمور التي لا يمكن للفقيه أن لا يتصدّى لها ويتركها، وهو ما يطلق عليه الولاية الخاصّة أو الولاية في الأمور الحسبيّة، ومجالها القضاء وقبض الأموال الشرعيّة من خمس وزكاة والإفتاء والولاية على السفهاء والأيتام والقُصَّر؛ لأنّ الإجماع دليل لبّيّ، فيقتصر فيه على القدر المتيقّن، وهو النصب الإلهيّ المباشر ضمن دائرة الأمور الحسبيّة.
ويرد على ذلك أنّ الإجماع الحجّة هو ما يكشف عن ارتكاز متشرّعي متّصل بعصر النصّ، بحيث يستكشف منه (أي الارتكاز) وجود دليل شرعيّ على واقعة ما، وقد كشف الإجماع عن وجود هكذا ارتكاز في مسألة الولاية والحاكميّة، وهو عدم دخالة الناس في إضفاء المشروعيّة على الحاكم الشرعيّ وكون مشروعيّته مستمدّة من الشارع.
وبذلك يثبت بالإجماع أنّ الفقيه العادل منصّباً للولاية العامّة من قِبَل الشارع، إلاّ أن يقال بأنّ هذا الإجماع مدركيّ أو محتمل المدرك، فيسقط بذلك عن الحجيّة.
الأدلة العقليّة غير المستقلّة
وهي الأدلّة التي تعتمد في دليليّتها على قضايا ومقدّمات عقلية وشرعية، وقد استدلّ بها على أصل إقامة الحكومة وضرورتها، وكون المتصدّي لها يلزم أن يكون الأجدر للقيام بهذا الأمر، وكونه الأقرب إلى المعصوم (عليه ‏السلام) في تصدّيه للحاكميّة. وقد قُرّبت بعدّة تقريبات، منها:
ـ التقريب الأوّل:ويتألّف من مقدّمتين:
الأولى:ومفادها أنّ حصول التوحيد العمليّ لله سبحانه وتعالى في ظهرانيّة
________________________________________
(48)عوائد الأيام، ص536538.

[الصفحة - 71]


المجتمع البشريّ غير متصوّر عقلاً، إلاّ من خـلال بعثه تعالى للأولياء والأوصياء ونصبه لهم.
الثانية:باعتبار القسمة العقليّة المنطقيّة لقضيّة ولاية الأمر فإمّا أن يكون الله تعالى لا يريد حكومة للمسلمين، وهذا خلاف الحكمة، ويلزم منه لغوية أكثر من ثلثيّ الشريعة، ولذلك فهو فرض مستحيل، وإمّا أن يكون الله تعالى يريد إقامة الحكومة، ولكن يرضى بتصدّي أيّ شخص لإقامتها، وهذا مردود عقلاً وعقلائيّاً؛ لكون غير الملتزم بأحكام الشريعة وليس عارفاً بأحكامها، وغير مطّلعاً على تفاصيلها وجزئيّاتها هو ليس جديراً بهذا الأمر وغير قادر عليه. فيبقى الاحتمال الأخير وهو كونه تعالى يريد الحكومة، ويريد من الفقيه العادل العارف بأحكام الشريعة أن يتصدّى لهذا الأمر.
وبذلك يثبت كون الفقيه العادل منصّباً لأمر الحاكميّة من قِبَل الله تعالى على نحو التنصيب المباشر.
التقريب الثاني (49): ويتألّف من مقدّمتين:
الأولى:إنّ تحقيق التوحيد العمليّ لله تعالى في المجتمع الإنسانيّ لا يتقوّم إلا بنصب الوليّ والوصيّ، بضمّ قاعدة اللطف التي توجب على الله تعالى تعيين هُداة للبشريّة في كل عصر.
الثانية:إنّ العقل يقضي بكون الهادي والمتصدّي لتطبيق أحكام الشريعة وتفصيلها، وتدبير الشؤون العامّة للمجتمع، هو منحصر بكون هذا الوليّ أعلم الناس وأقدرهم على هذا الأمر، وليس سوى الفقيه العادل مستحوذاً لذلك.
التقريب الثالث:ويتألّف من ثلاث مقدّمات:
الأولى:من المسلَّم أنّ ما ارتبط ارتباطاً وثيقاً بأمور الدين والدنيا للعباد، مثل موضوع القيادة والإدارة، فيجب على الله تعالى من باب أنّه رؤوف وحكيم(قاعدة اللطف) أن ينصّب قيّماً ومتولًٍّ عليهم.
________________________________________
(49) يُراجع: الخمينيّ، كتاب البيع، م.س، ج2، ص619-622.

[الصفحة - 72]


الثانية:حينما نبحث في الأدلّة الواردة عن الشرع لا نجد دليلاً على نصب شخص ولا جماعة، ما عدا الفقيه.
الثالثة:لقد ورد في الشرع أوصاف جميلة ومواصفات جمّة في خصوص الفقيه، وما ورد يكفي لإثبات أنّه منصوب من قِبَل الشارع في تصدّي هذه المهمّة (50).
الرابع الثاني: تقريب البروجرديّ:ويتألّف من ثلاث مقدّمات:
الأولى:إنّ في المجتمع أموراً لا تكون من وظائف الأشخاص ولا ترتبط بهم، بل تكون من الأمور العامّة الاجتماعيّة، التي يتوقّف عليها حفظ النظام، كالقضاء والولاية على الغُيّب والقُصّر ونحوها، وحفظ النظام الداخليّ، وسدّ الثغور، والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء.
الثانية:إنَّ الديانة الإسلاميّة المقدَّسة لم تُهمل هذه الأمور، بل اهتمّت بها أشدّ الاهتمام، وثبت بلحاظها أحكام كثيرة، وفوّضت إجراءها إلى سائس المسلمين.
الثالثة:إنّ سائس المسلمين في بادئ الأمر لم يكن إلا شخص النبيّ الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ثم خلفاؤه بعده...
وكيف كان فنحن نقطع بأنّ صحابة الأئمّة عليهم السلام سألوهم عمّن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور، مع عدم التمكّن منهم (عليهم ‏السلام)، وأنّ الأئمّة (عليهم ‏السلام) أيضاً أجابوهم ونصَّبوا لشيعتهم مع عدم التمكّن منهم أشخاصاً يرجعون إليهم إذا احتاجوا للأئمّة عليهم السلام. غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من الجوامع الحديثيّة التي بأيدينا، ولم يصل إلينا إلا ما رواه عمر ابن حنظلة وأبو خديجة. وإذا ثبّت هذا البيان النصب من قِبَلهم عليهم السلام وأنّهم لم يهملوا هذه الأمور المهمّة، التي لا يرضى الشارع بإهمالها... فلا محالة يتعيّن الفقيه لذلك، إذا لم يقل أحد بنصب غيره (51).
________________________________________
(50)النراقيّ، م.س، ص538.
(51)البروجرديّ، م.س، ص5255.

[الصفحة - 73]


إشكاليّات نقديّة
الإشكاليّة الأولى : الحكم المطلق يؤدّي إلى التسلُّط على رقاب الناس باسم الدين
إنَّ كون الحاكم منصوباً من قِبَل الله تعالى، ومستمدّاً لشرعيّته وسلطانه منه تعالى يؤدّي إلى جعل حكم الفقيه حكماً مطلقاً لا يقبل الردّ من الرعيّة، بحيث لا ضابطة تضبطه في أوامره على الناس ولا حدّ يحدّه، ممّا يسهم في وقوع الأمّة تحت سطوته وبطشه فيما لو كان مخطئاً في تشخيصه لواقعة ما، مع العلم بأنَّه ليس معصوماً وجواز خطئه وارد، إضافة إلى أنّ كون الحاكم منصوباًَ من الله تعالى يؤدّي إلى قيام المغرضين بخداع الأمّة، واغتنام الفرصة لتولّي مقام الحاكميّة، فيتسلّطوا على رقاب الناس، ولا رادع لهم؛ لأنّهم حسب هذه النظريّة يحكمون باسم الله والرادّ عليهم كالرادّ على الله.
لمعالجة هذه الإشكاليّة يلزم توضيح بعض النقاط:
ـ إنّ الأصل في الحاكميّة يقتضي عدم الشرعيّة الولائيّة لأحد على أحد، إلاّ ما خرج بدليل، كما هو الحال في ولاية المعصوم (عليهم ‏السلام).
ـ يوجد عدّة نصوص روائيّة عن المعصومين (عليهم ‏السلام) تُفيد كون الحاكميّة مفوّضة من قِبَلهم (عليهم ‏السلام) للفقهاء عند تعذّر إقامة المعصوم (عليه ‏السلام) للحكم، أضف إلى ذلك الدليل العقليّ المستقلّ، والدليل المشترك من العقل والنقل، واللذان يفيدان كون الفقيه العادل منصَّباً لمقام الولاية نيابة عن المعصوم (عليه ‏السلام).
ـ إنَّ كون الفقيه العادل حاكماً نيابة عن المعصوم إنّما هو بالتعيين النوعيّ؛ أي بالتعيين للحائز على الصفات اللائقة لمقام النيابة العامّة عن المعصوم (عليه ‏السلام). فمن تحقّقت فيه هذه الصفات والشروط أصبح منصوباً من قِبَل الله تعالى لهذا المقام، إلاّ أنّ فعليّة ولايته تسري من حين إلتفاف الناس حوله؛ بحيث يمنحون السيادة لحاكميّته. وعلى هذا الأساس متى ما اختلّت إحدى الشروط المعتبر
________________________________________

[الصفحة - 74]


وجودها في الحاكم سقطت بذلك مشروعيّة حكمه، ومتى لم تجتمع الأمّة حول الحاكم الجامع للشرائط لم يستطع بذلك إنفاذ حاكميّته، مع كونه واقعاً له المشروعيّة في الحكم.
ـ إنَّ الفقيه العادل هو أقرب ما يكون،- مع كونه واقعاً له المشروعيّة في الحكم-، والأجدر بين الناس للقيام بأمر الحاكميّة؛ لأنّ الفقيه العادل يتمتّع بخصوصيّات تخوّله فهم الشريعة والدين، بحيث يكون حكمه في واقعة ما أقرب ما يكون إلى الصواب، وأقرب ما يكون إلى حكم المعصوم (عليه ‏السلام) صاحب الولاية الحقيقيّة.
ـ إنَّ أبرز مصداق للتطبيق العمليّ لولاية الفقيه العادل من خلال المشروعيّة الإلهيّة المباشرة هو متمثّل في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، بحيث نصّ دستور هذه الجمهوريّة القائمة على أساس ولاية الفقيه، على تشكيل مجلس من الفقهاء المجتهدين العدول، الذين يقومون بالكشف عمّن تتوافر فيه صفات الحاكميّة وشروطها ولياقاتها، ويحرصون على مراقبة هذا الحاكم؛ للكشف عن اختلال بعض الشروط الضروريّة لمشروعيّة حاكميّته فيما لو اختلّت. ومع اختلال بعض الشروط والصفات يكشفون للناس عن أنَّ الحاكم قد انعزل تلقائيّاً، لفقدانه للمشروعيّة الإلهيّة في حكمه؛ بفقدانه لبعض الصفات (52).
وعليه يتبيّن ممّا تقدّم أنّه لا استبداديّة ولا ديكتاتوريّة في ولاية الفقيه على ضوء المشروعيّة الإلهيّة المباشرة، وما يُضرب كمثال على استبداديّة وديكتاتوريّة بعض الحكومات في التاريخ الماضي، والتي حكم بعضها باسم الإسلام، يُردّ بأنّها كانت مُفتقدة لمعايير الشرعيّة الإلهيّة والسيادة الشعبيّة، فلا يمكن والحال هذه أن نقيس حكومة الوليّ الفقيه على تلك الحكومات غير الشرعيّة والسياديّة.
بل إنّنا إذا دقّقنا النظر في صفحات التاريخ، لوجدنا أنّ المعايير والضوابط التي تحدّثت عنها نظريّة ولاية الفقيه على ضوء المشروعيّة الإلهيّة المباشرة، كانت تجربتها ناجحة في مرحلتين تاريخيّتين من تاريخ الإسلام، وهما المرحلة
________________________________________
(52)يُراجع: معاونيّة العلاقات الدوليّة في منظّمة الإعلام الإسلاميّ، م.س، ص67، 70.

[الصفحة - 75]


التأسيسيّة للمجتمع الإسلاميّ في عصر الرسالة، والمرحلة الاستكماليّة لها، وهي الحكومة العلويّة المباركة.
ولذلك كانت نظريّة ولاية الفقيه على ضوء المشروعيّة الإلهيّة المباشرة مجسّدةً لقيم الحكومة الإسلاميّة ومعطياتها في عصر الرسالة.
الإشكاليّة الثانية : هذا النمط من الحكم (الشرعيّة الإلهيّة المباشرة) يؤدّي إلى الاستبداد والتفرّد بالرأي.
إنَّ نظرية الشرعيّة الإلهيّة المباشرة، التي تُعطي الحاكم مشروعيّة حكمه من قِبَل الله تعالى، تؤدّي إلى إيجاد نوع من الاستبداد في الحكم؛ ذلك أنّ الفقيه العادل وبفعل كونه مجتهداً، فهو يعمل برأيه ولا يأخذ بآراء الآخرين، فيكون حكمه نابعاً من رأيه الشخصيّ، الممضيّ من قِبَل الشارع؛ بحكم كونه منصَّباً لمقام الحاكميّة من قِبَله تعالى، ولا رادّ لأمره؛ لأنّ الرادّ عليه كالرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله.
لمعالجة هذه الإشكاليّة ينبغي توضيح عدّة أمور:
ـ بيان معنى التصدّي للحكم وإصدار الأمر الولائيّ: إنّ الوليّ الفقيه ليس من المرتبطين بعالم الغيب؛ لكي يُتاح له الاطّلاع على كافة العلوم والمعارف، ولذلك فهو بحاجة إلى فريق من المتخصّصين، الذين يعملون على معاونته في تشخيص المسائل والأمور؛ حتى يُصدر حكماً مناسباً لها، على ضوء مشاوراته معهم، ويكون الوليّ الفقيه قائماً على هؤلاء المختصّصين ومراقباً لهم ومشرفاً عليهم.
وهذا نظير ما رأيناه في حكومة النبيّ الأكرم (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، الذي برغم إطّلاعه على جميع مناطات الأحكام والمسائل وملاكاتهما، بحيث يستطيع أن يُصدِر فيها حكماً دون الرجوع إلى الناس، إلا أنّه كثيراً ما كان يقوم بمشاورة المسلمين في بعض القضايا العامّة، ثمّ يقوم بإصدار الحكم المناسب لها.
ـ إنّ بعض القرارات التي يتّخذها الوليّ الفقيه هي مُسْتَنْبَطة من مداركها
________________________________________

[الصفحة - 76]


الخاصّة، أي الكتاب والسنّة والعقل، لأنّ الجانب الذي اتّخذ فيه هذا الحكم هو جانب اجتهاديّ شرعيّ يعتمد على خلفيّة الاجتهاد لدى الوليّ الفقيه، ولا أثر ولا مرجعيّة للآراء الأخرى في ذلك؛ إذ ليست المسألة مجالاً لإبداء الآراء من قِبَل الناس؛ لأنّ المرجعيّة في الحكم على المسائل المختلفة منحصرة بالقرآن والعقل لا غير، بحيث يقوم الفقيه باستنطاق هذه الأدلّة ليستكشف منها الحكم الشرعيّ.
ـ إنّ الأحكام التي يستنبطها الفقيه من مداركها الخاصّة لا يمكن أن يتصوّر فيها استبداداً؛ ذلك أنَّ وصول الفقيه إلى الكشف عن حكم ما، إنّما يتمّ بعد إعمال جهد وتدقيق موضوعيّ معمَّقين وشاملين، من خلال القيام بدراسة واسعة ووافية لمصادر التشريع والاستنباط. ولا يقف المجتهد عند هذا الحدّ، بل يحرص دائماً على التدقيق الواسع في المصادر التشريعيّة والاستنباطيّة، واستنتاجات غيره من المجتهدين في مسألة من المسائل، إذ لعلّه يكون قد اشتبه في حكمه على هذه المسألة.
وعليه فلا يكون المجتهد مُطلق العنان في رأيه، بمعزل عن مصادر التشريع ومناطات الاجتهاد والاستنباط.
ـ إنّ نظام الحكم في الإسلام قائم على أساس تطبيق أحكام الشريعة والدين، وإرساء العدالة الاجتماعيّة، والنهوض بالفرد والمجتمع إلى الرقيّ والتطوّر، وطبعاً ذلك يلازم عدم وجود استبداد سلطويّ في الحكم، إذ إنّ القرآن الكريم قد حثّ على وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال تعـالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } (53).
وكذلك حثّ القرآن الكريم على التشاور في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } (54).
________________________________________
(53)سورة آل عمران، الآية104.
(54)سورة آل عمران، الآية159.

[الصفحة - 77]


وعليه فلا يوجد أسس أو جذور لأيّ استبداد في الحكم. وما يظهر من أنّ الوليّ الفقيه قد أصدر حكماً ما متفرّداً، إنّما يرجع إلى استشارته للمتخصّصين في مورد المسألة التي أصدر فيها الحكم،- إذا كانت المسألة من الموضوعات العامّة التي يكون المتخصّصون فيها من أصحاب الرأي والنظر، بحيث تكون استشارتهم لها أثرها العمليّ في مقام إصدار الحكم الولائيّ-، أو يكون بفعل لياقاته الخاصّة التي يتمتع بها دوناً عن غيره، والتي أهّلته لمقام الولاية العامّة.
الإشكاليّة الثالثة : تعدّد المنصوبين لمقام الحاكميّة
إنَّ اعتبار الواجد لمواصفات الحاكميّة وشروطها منصَّباً من قِبَل الله تعالى، يؤدّي إلى احتمال تعدّد المنصوبين لها، ومع كون الشعب هو الذي يعطي السيادة لحاكميّة الوليّ، فإنَّ الأمر سيتّجه إلى قيام بعض الناس بالالتفاف حول أحد المنصوبين دون غيره، ممّن هو متّصف بالمشروعيّة أيضاً، ممّا يفضي إلى تقسيم المجتمع الإسلاميّ إلى عدّة دويلات يحكمها من أعطاهم الشارع المشروعيّة لحكمهم، وأضفى الشعب عليهم السيادة. فتكون نظرية الشرعيّة الإلهيّة المباشرة، التي تهدف إلى بناء مجتمع إسلاميّ موحّد، مُنذِرَة بانهدام الوحدة وتشتيت المجتمع وشرذمته.
ووجه معالجة هذه الإشكاليّة يكمن بأنّه على فرض جواز تعدّد المنصَّبين لمقام الحاكميّة ثبوتاً،- إذ إنّ كل من حاز على مواصفات الحاكميّة وشروطها يصبح منصَّباً من قِبَل الله تعالى-، إلاّ أنّ العقل يقضي بكون الولاية الفعليّة في مقام الإثبات والتطبيق العمليّ هي لفرد دون الآخرين، ومتى ما تعيّن الفرد يجب على باقي الفقهاء العدول الحائزين على المشروعيّة الإلهيّة أن يطيعوا الوليّ الفقيه، وأن لا ينازعوه في هذا الأمر، ولا يوهّنوا حكمه، وأن يعينوه على إقامة حكم الله تعالى، وتثبيت دعائم حاكميّته.
ولكن اختلف القائلون بهذه النظريّة في تعيُّن هذا الفرد من بين الفقهاء العدول الواجدين للمشروعيّة الإلهيّة في مقام النصب، حيث ذهب جماعة إلى
________________________________________

[الصفحة - 78]


تعيّن شخص الوليّ الفقيه عبر شورى مراجع التقليد، من خلال قيامهم باختيار أحدهم للتصدّي لهذا الأمر (55)، ومع عدم التوافق على فرد معيّن يكون جميع المراجع أعضاء شورى في الحكومة الإسلاميّة، بحيث يمارسون صلاحيّة الولاية والحكم على المجتمع.
هذا وقد ذهب آخرون إلى حلّ هذه الإشكاليّة بطريقة أخرى، مُفادها ما جاء في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، حيث ورد فيه: «بعد المرجع المعظّم والقائد الكبير للثورة الإسلاميّة العالميّة، ومؤسّس جمهوريّة إيران الإسلاميّة، سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (قدس‏ سره)، الذي اعترفت أكثريّة الناس بمرجعيّته وقيادته، تُوكَل مهمّة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من قِبَل الشعب، وهؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء الجامعين للشرائط المذكورة في المادتين الخامسة بعد المئة والسادسة بعد المئة، ومتى ما شخّصوا فرداً منهم باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهيّة، أو المسائل السياسيّة والاجتماعيّة، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتّعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة في المادة التاسعة بعد المئة، انتخبوه للقيادة، وإلا فإنّهم ينتخبون أحدهم، ويعلنونه قائداً، ويتمتّع القائد المنتخب بولاية الأمر، ويتحمّل كلّ المسؤوليّات الناشئة عن ذلك» (56).
وعليه تكون نظريّة الشرعيّة الإلهيّة في مقام التطبيق العمليّ قد حلّت إشكاليّة تعيُّن الوليّ عند تعدّد المنصَّبين الحائزين على صفات الحاكميّة وشروطها.
ولا يشتبه على أحد أنّ هذا الحلّ قد أخرج نظريّة الشرعيّة الإلهيّة المباشرة من جوهرها، وسيّرها إلهيّة وشعبيّة؛ بكون اختيار مجلس الخبراء لشخص القائد والوليّ هو نوع من الانتخاب الشعبيّ غير المباشر، خصوصاً أن أعضاء مجلس الخبراء يُنتخبون من قِبَل الشعب.
لأنّه يُردّ على ذلك بأنّ مجلس الخبراء لا يعطي الوليّ الذي يختاره مقام الولاية؛ كونه أصلاً حائز على المشروعيّة؛ باستحواذه على صفات الحاكميّة وشروطها، فلا
________________________________________
(55)وزارة الإرشاد الإسلاميّ: دستور جمهورية إيران الإسلاميّة، ترجمة لجنة مكلّفة من وزارة الإرشاد الإسلاميّ، ط1، وزارة الإرشاد الإسلاميّ، طهران، 1403هـ.ق، ص20،75.
(56)يُراجع: معاونيّة العلاقات الدوليّة في منظّمة الإعلام الإسلاميّ، م.س، ص67.

[الصفحة - 79]


يحتاج لهم لكي يضفوه عليه المشروعيّة، ولذلك كان اختيار مجلس الخبراء لشخص الوليّ هو من باب الكشف عن الأصلح والأليق لمقام الحاكميّة.
هذا بالإضافة إلى أنّ مجلس الخبراء على الرغم من أنّهم يُنتخبون من قِبَل الشعب مباشرةً، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ الشعب يختار من يشاء ويجعله في مجلس الخبراء، بل يُشترط في عضويّة مجلس الخبراء حيازة مرشّحيه على صفات معيّنة ومحدّدة، هي صفات الوليّ حقيقة، أي كون كلّ عضو في مجلس الخبراء يتمتّع بلياقات الوليّ ومواصفاته، ولكن بدرجة أقلّ، وانتخاب الناس لمجلس الخبراء يكون ضمن هذه الضوابط ومن بين هؤلاء الأشخاص المقبولين للترشّح.
وفي نهاية الأمر لا بدّ من قيام الوليّ بالمصادقة على ترشيح هؤلاء الخبراء وتعيينهم، بعد قيام أعضاء شورى صيانة الدستور الذين يعيَّنون من قِبَل الوليّ بتأييد صلاحيّتهم للترشّح لعضويّة مجلس خبراء القيادة (57).
ولا يُقال بوجود دور صريح في ذلك، مفاده أنّ الوليّ يقوم بانتخاب نفسه بواسطة؛ لأنّ مجلس الخبراء لا يقوم بتعيين الوليّ، بل يقوم بالكشف عن صلاحيّته لمقام الولاية، فالخبراء مكلَّفون تعريف الشعب من هو الأليق للولاية وقيادة المجتمع، فهم أشبه بالبيّنة المُقامة على كون أحد المجتهدين ممّن تبرء الذمّة بتقليدهم في الأحكام الشرعيّة الفرديّة.
وبالإضافة لذلك فإنّ شورى مجلس صيانة الدستور لا تقوم بمنح الخبرة لأعضاء مجلس الخبراء، بل تقوم بالكشف عن صلاحيّة أحدهم للترشّح لعضويّة مجلس الخبراء.
وعليه تكون جميع المناصب التي يُحتَكم عمليّاً في اختيار أعضائها مباشرة للشعب، كرئاسة السلطة التنفيذيّة مثلاً، هي وإن كانت من خلال مباشرة الشعب لانتخاب أحد المرشّحين لها، إلاّ أنّ الوليّ هو الذي يشرف بواسطة مجلس صيانة الدستور على صلاحيّة المرشّحين، وهو الذي يقوم بإضفاء المشروعيّة على من انتخبه الشعب لهذا المنصب.
________________________________________
(57)يُراجع: م.ن، ص68.

[الصفحة - 80]


الإشكاليّة الرابعة : عدم وجود مجتمع إسلامي موحّد مع تحقق ولاية الولي وفعليّتها ينذر بفشل النظريّة
إنَّ جوهر أدلّة الشرعيّة الإلهيّة المباشرة هو إقامة العدالة وحفظ النظام؛ وذلك من خلال التنصيب النوعيّ لشخص الحاكم الإسلاميّ، الذي يضمن تحقيق هذه الأهداف، ومع تحقّق فعليّة ولاية الوليّ، ينبغي تحقّق هذه الأهداف، وإلا فلا موجب لهذا التنصيب النوعيّ، ولا طائل منه إذا لم يؤدّي إلى إقامة مجتمع موحّد متماسك ومتناغم.
والحال أنّ الواقع الراهن يُنذر بالفشل الذريع لنظريّة الشرعيّة الإلهيّة المباشرة، حيث يعيش المجتمع الإسلاميّ حالة تشرذم وفرقة مقيتة، على الرغم من وجود المتصدّي لأمر الحاكميّة، والجامع للشرائط النوعيّة العامّة للولاية، وفعليّة ولايته!...
ويُجاب على ذلك بأنّ إقامة مجتمع إسلاميّ موحّد رهن بتحقّق ثلاثة أركان، يشكّل كلّ منها جزء علّة لحصول المجتمع الموحّد، وهذه الأركان هي:
ـ الدستور أو القانون العام الذي يحكم هذا المجتمع، ويحمل في طيّاته الحلّ لجميع المعضلات والمشاكل التي تعترض الأمّة والأفراد. وهذا القانون يتجلّى في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، حيث كانا وما يزالان المرشد والدليل لسير البشريّة نحو كمالها، والضامن الوحيد لصحَّة وجهتها وعدم انحرافها.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (58).
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (59).
ـ القائد والمرشد الإسلاميّ، الذي يشرف على تطبيق الشريعة وبيانها، وتثبيت دعائم الإسلام وصيانته. وقد تحقّق هذا الركن بالحضرة المحمديّة (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وآله الأطهار(عليهم ‏السلام)، حيث تجلّت فيهم شخصيّة القائد والمرشد والهادي. ومقام
________________________________________
(58)سورة الإسراء، الآية9.
(59)سورة النحل، الآية89.

[الصفحة - 81]


الولاية لهذا القائد مُستمدّ من الله تعالى، الذي له الولاية وحده، ولا ولاية لأحد على أحد إلا إذا كانت ولايته شرعيّة ومستمدّة من الله تعالى. وقد تحقّقت هذه الشرعيّة في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (60). والفقيه العادل الجامع للشرائط العامّة المنتزعة من مجموع الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام، هو القائم مقام الإمام المعصوم(عليه ‏السلام) في غيبته، والمنصوب من قِبَل الله تعالى لهذا المقام، نيابة عن صاحب الحقّ الشرعيّ الإمام المعصوم (عليه ‏السلام)، حتى يتمكّن عليه السلام من إقامة حكومة الله تعالى على الأرض. فولاية الفقيه العادل مُتحصَّلة من خلال النقل والعقل معاً، فيكون بذلك الركن الثاني متحقّقاً أيضاً.
ـ القاعدة الشعبيّة التي تلتفّ حول القائد الشرعيّ، وتعطيه السيادة على المجتمع الإسلاميّ، وتعمل بتوجيهاته، وتسانده في تمكين دعائم الدين وتطبيق أحكام الشريعة؛ حتى يتسنّى له بذلك أن يساعد الأمّة الإسلاميّة فرداً وجماعةً في الوصول إلى هديها وكمالها. وهذا الركن هو ما لم نجد له تحقّقاً على امتداد التاريخ الإسلاميّ.
وعليه فإنّ عدم تحقّق وحدة إسلاميّة في عصرنا الراهن راجع إلى اختلال الركن الثالث؛ حيث رضي شريحة من المسلمين بالدستور الإسلاميّ والقائد المرشد، وعزف الكثير عن القَبُول؛ لأسباب سلطويّة، وأخرى حاقدة مذهبيّة أو قوميّة أو عرقيّة، وأخرى راجعة لعدم الوعي والنضج والفهم المتّزن للدين والشريعة.
ولذلك فإنّ قياس نجاح التجربة السياسيّة العمليّة لنظريّة ما لا يمكن أن يُأخذ بمعيار ناقص ومجتزأ، بل ينبغي أن تُراعى جميع التفاصيل والدقائق الواردة في النظريّة وعدم إغفالها وإهمالها في التقويم، وبعد ذلك يمكن أن نقوم بنقد موضوعيّ لهذه النظريّة؛ لنحكم عليها بالفشل أو بالنجاح.
________________________________________
(60)سورة النساء، الآية59.

[الصفحة - 82]


الإشكالية الخامسة : إن نظرية الشرعيّة الإلهيّة المباشرة تُنذر بإلغاء المجتمع الموحّد بعد أن كانت تهدف إلى إقامته.
إنّ من أبرز مآزق الشرعيّة الإلهيّة المباشرة، كونها تنظر إلى ضرورة إقامة حكومة إسلاميّة، ووجود حاكم منصّب من قِبَل الله تعالى؛ لتحقيق أهداف الشريعة وإيصال المجتمع إلى الفضيلة. فمتى ما تحقّق ذلك انتفت عندها الحاجة إلى إقامة المجتمع، وضرورة وجود الحاكم. وبذلك تكون هذه النظريّة مُنْذِرَة بإلغاء المجتمع السياسيّ، وهادمة له، بعد أن كانت تقول بضرورة تحقيقه. وتُنْذِر بزوال التنصيب النوعيّ، بعد أن كانت تدّعيه، وتثبته بالأدلّة والبراهين!...
ويُجاب على هذه الإشكاليّة بإنَّ إحدى أهداف إقامة المجتمع السياسيّ الموحّد، وضرورة وجود حاكم منصّب على نحو النوع؛ هو تطبيق الشريعة الإسلاميّة، ومساعدة المجتمع جماعة وأفراداً في تحقيق الفضيلة والكمال. فالإسلام يريد من خلال ذلك تحقيق أمرين: الأول: وهو إيصال الفرد إلى كماله، والثاني: وهو إيصال المجتمع إلى كماله.
فلو سلمنا أنّ الأفراد قد تحقّقت فيهم الفضيلة، ووصلوا إلى كمالهم الفرديّ، فإنّه لا تنتفي حينها الحاجة إلى إقامة المجتمع الموحّد؛ لأنّ البشريّة كمجتمع لا تصل إلى كمالها إلا باجتماعها، والدليل على ذلك العقل والشرع، حيث يقضي العقل بضرورة قيام المجتمع الموحّد واستمراره؛ ذلك أنّ الأفراد وإن وصلوا إلى الفضيلة فإنّ مصالح بعضهم سوف تبقى تتعارض وتتزاحم مع مصالح الآخرين، والضمان الوحيد لمعالجة هذه المشكلة، هو استمراريّة المجتمع الموحّد وحاكميّة القائد المرشد؛ الذي يتكفّل بمعالجة هذه المزاحمات والتعارضات في الحقوق، وإقامة القسط والعدل بين الناس، وذلك غير مُتاح إلا لمن يكون الأجدر والأليق بين الناس لأداء هذا الأمر، ويكون منصّباً من قِبَل الله تعالى، لا من قِبَل الناس؛ حيث لا يأمن أحـد من وجـود مصالح نفعيّة لبعض في انتخـابهم لهذا القـائد دون غيره.
________________________________________

[الصفحة - 83]


وأمّا الشرع فقد صرَّح بأنّ للمجتمع عمل وحساب، وأنّ الفرد يُحاسب ضمن مجتمعه وأمّته، إضافة إلى كونه محاسباً كفرد، لقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } (61). وقوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (*) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(62). وقد شدّدت الشريعة على كون المجتمع ضروريّ التحقّق؛ لبلوغ الكمال والخير، كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (63). وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (64).
وهذه الآيات خير شاهد على أنّ عمليّة التغيير تتناول المجتمع كجماعة؛ من خلال تخلّي أفراده عن التناقض الداخليّ في أنفسهم، والذي يبعثهم على تحقيق منافعهم الفرديّة والذاتيّة.
ولذلك فلا بدّ من وجود اجتماع بشريّ موحّد ومستمرّ؛ لضمان مسيرة التكامل الفرديّ والجماعيّ للإنسانيّة، ومتى كان الأمر كذلك فإنّ وجود المرشد في هكذا مجتمع، هو ضروريّ ابتداءً واستمراراً؛ لضمان تحقيق التكامل، وحفظاً للنظام، ومنعاً لهدر الحقوق وضياعها.
________________________________________
(61)سورة يونس، الآية49.
(62)سورة الجاثية، الآيتين28 29.
(63)سورة آل عمران، الآية110.
(64)سورة الرعد، الآية11.

[الصفحة - 84]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف