البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التحديد المفاهيمي لمصطلحيّ الأمّة والمُواطَنة

الباحث :  السّيد صادِق عبّاس الموسوي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  54
السنة :  السنة الرابعة عشر صيف 1430هجـ 2009 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 8 / 2015
عدد زيارات البحث :  3976

التحديد المفاهيمي لمصطلحيّ الأمّة والمُواطَنة

السّيد صادِق عبّاس الموسوي (*)

يُعتبَر تحديدُ المفهوم خطوة أولى في سبيل الوصول إلى نتيجة حميدة للبحث، حيث تخرُج مصطلحات البحث من دائرة الغموض والإبهام إلى وجهة الوضوح والبيان، تمهيداً لإيصال الفرضيّات إلى الدليل والبرهان.
لذلك لا بُدَّ من إيراد تعريف للمفهومين وتحديدهما، وبيان حدودهما تمهيداً للولوج إلى حلٍّ للإشكاليّة المطروحة.
القُسم الأوَّل: مفهوم الأُمَّـة
يتماهى مفهومُ الأُمَّـة في معاجم اللغة بالجماعة البشريَّة والأقوام والناس، ويتقاطع مع مفاهيم المِلَّة والقوم والشعب.
ويُعرِّف إبنُ منظور مُفردة الأُمَّـة بأنها القرنُ من الناس، أما أُمَّة كلِّ نبّي فهم من أُرسِل إليهم من كافر ومؤمن، وأُمَّة مُحمَّد كل من أُرسِل إليه ممن آمن به أو كفر (1).
ويعاضدُه في ذلك الراغب الأصفهاني، حيث صنَّفَ الأُمَّـة «بأنَّها كلُّ جماعةٍ يجمعُها أمرٌ ما، إنْ دينٍ واحد أو زمانٍ واحد أو مكانٍ واحد، سواءَ كانَ ذلك الأمرُ تسخيراََ أو إختياراََ، وجمعُها أُمَم»(2).
ولكنَّ القواميسَ تذكرُ معانٍ أُخرى لهذا المفهوم، حيثُ يذكرُ صاحبُ لسانِ العرب مرادفات له، كالرجل الذي لا نظيرَ له والحين والمُلك.. ويذكر إبن الأنباري في
________________________________________
(*)كاتب وباحث في الحوزة العلمية، من لبنان.
(1)ـ ابن منظور، لسان العرب، ج12، بيروت، دار صادر، لا.ت.، ص 26.
(2)ـ الأصفهاني، الراغب، مفردات ألفاط القُرآن، ط1، بيروت، طليعة النور، 1426هـ، ص86.

[الصفحة - 89]


كتابه الزاهر في معاني كلمات الناس أنّ الأُمَّـة في كلام العرب تنقسمُ إلى ثمانية أقسام، منها الجماعة والزمان والدين (3)...
والسبب الأساس في تنّوع معاني هذه المفردة إستعمُالها قرآنيَّاً في عدَّةِ موارد بمعانٍ مُختلفة، ممّا يَشُّقُ على اللغوي أن يجمعَها في معنى واحد ليعتبر الباقي مصداقاً لها، ما يُلزِمُهُ بأن يفترِضَ أنّ لها معانٍ كثيرة تختلف بحسب إستعمَالها في الخطاب والنّص، وبحسب مقصد المستعمِل لها.
أمـَّا إصطلاحاً، فيتبادرُ من إطلاق كلمة الأُمَّـة الجماعة البشريّة المتجانِسة، حيث يكون التجانس إما زمانيّاً أو مكانيّاً أو فكريّاً ودينيّاً.
وتُعرِّف موسوعةُ السياسة الأُمَّـة، بأنها مجموعةٌ بشريةٌ، تكَوَّنَ تآلفُها وتجانسُها القومِّي عبر مراحل تاريخيَّة تحقَّقت خلالها لغةٌ مشتركةٌ، ممّا يؤدِّي إلى إحساسٍ بشخصيّة قوميّة وتطّلعات ومصالح قوميّة موحّدة ومستقّلة (4). ولكن يبدو أنّ هذا التحديد موغِلٌ في التقييد، حيث يجمعُ عدداََ كبيراً من المحدِّدات ليُطلق على قومٍ بأنّهم أُمَّة، الأمر الذي يُخالف إرادة عدد كبير من المستعمِلين لهذا المفهوم. هذا الإشكالُ على التعريفِ المذكور تتجنّبهُ الموسوعةُ العربيّةُ العالميّةُ التي تُعرِّف الأُمَّـة بأنّها «مجموعة بشريّة كبيرة توحِّدُها عواملٌ مشتركةٌ مثلُ الدين واللغة والتاريخ والتراث والثقافة المشتركة، وكثيراً ما يشعرُ الناس بولاء كبير لأمّتهم ويعتّزون بمّميزاتها القوميّة» (5).
هذه التعريفات وغيرها، بقدر ما تعطي وضوحاً عن هذا المصطلح، بقدر ما تُولِّد إبهاماً وغموضاً، خاصّة فيما لو قارنّا بين نتاج هذه التعريفات وبين الصيرورة التاريخيّة لهذا المصطلح. فالدائرةُ الواسعةُ التي رسمتها هذه المعاجم لهذا المصطلح من حيث الشمول والانطباق، يعارضُها تضييقٌ وتحديدٌ يمكن أن ينّبه إليهما الباحث في الاجتماع السياسيّ الإسلاميّ والعربيّ بجلاء ووضوح.
هذا ما سيتّضح فيما لو استطعنا أن نجعل البحثُ أكثرَ إيغالاً في فهم المصطلح المذكور، وكيف استَعمِلَته العرب بمعنىً محدَّد، وكيف تمَّ نقلُه نقلاً تعيُّنِّياً حيث تتَّسع
________________________________________
(3)ـ السيِّد، رضوان، الأُمَّـة والجماعة والسلطة، ط1، بيروت، دار إقرأ، 1984، ص43 ـ 44.
(4)ـ الكيالي، عبدالوهاب، موسوعة السياسة، ط3، ج23، المؤسسة العربية، بيروت، 1990، ص305.
(5)ـ مؤسسة أعمال الموسوعة، الموسوعة العربية العالمية، ط2، الرياض، 1990، ص693.

[الصفحة - 90]


دائرته ويصبح أكثر انطباقاً على مصاديق مختلفة.
فلهذا المفرد تاريخٌ عريقٌ في اللغةِ العربية وفي المجال الثقافيّ والسياسيّ الإسلاميّ، حيث يرى «ماسينيون» أنَّ المصطلحَ إِستُعمِلَ في الإسلام بمعنى «الجماعة من الناس التي أَرسلَ الله لها نبّياً وآمنت به فارتبطت بعقدٍ مع الله من خلاله» (6). لكن لو تحرَّينا بدّقة عن تاريخَ المصطلح فلن نجدَ هذا المعنى الواسع، بل سنلحظ أنَّ مصطلحَ الأُمَّـة كان يشيرُ بوضوحٍ وتأنٍ إلى خصوصِ المُسلِمين وديارهم، وهذا ما سيظهر عندما سنستعرِضُ استعمَالاتِهِ المختلفة. ولكن بدأَ هذا المدلولُ يتَّسِعُ شيئاً فشيئاً، فبعد أن كان مُختّصاً بالمُسلِمين توسَّعَ ليشملَ أقواماََ أخرين يُصَّنفون بحسب الدين، ثمّ بعد ذلك يخلع ثوبَه الدينيّ لينطبق على شعوبٍ مختلفةٍ باعتباراتٍ متنَّوعة. لذلك يمكن لنا أن نخلصَ إلى أنّ المفهوم المذكور استُعمِلَ جدّياً بمداليل ثلاثة انطلاقاً من أحاديث الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وأصحابه ووصولاً إلى القرن التاسع عشر وهذه المداليل هي:
الأوّل : الدولة الإسلامية أو أراضي الخلافة
حيث تكون السطوة السياسيّة للمسلمين، فكلُّ دارٍ يسيطرُ المُسلِمون على حكمها وينفذون إلى إدارتها بحيث تكون خاضعةََ لهم، وتحت رغبتهم وفي ظلِّ سطوتهم هي أرضُ الأُمَّـة، وحيث نجد في هذا المدلول مُقَّّوِمان أساسيّان هما البعدُ المكانيُّ والسلطة السياسيّة. فتكون الدولة تعبيراً عن الأُمَّـة، فتتعدَّد داخلها الإنتماءات الفرعيّة إلا أنّ جامعةً سياسيّةً واحدة تربطُ بين المنتمين لها، هذه الجامعة قد تقبل لأسباب إقتصاديّة أو أمنيّة تعدُّداً في الإنتماءات الأوليّة للجماعات المكوِّنة للأُمَّة، دون أن يعني ذلك تعارُضاً مع المبادىء الدينيَّة التي قامت الدولة على أساسها وبين ضرورات المصلحة الشرعيّة التي رضيت أن يكونَ بين مواطني الدولة الإسلاميِّة آخرون لا يؤمنون بالدين الإسلامي. في هذا المجتمع، تسودُ العلاقات التعاضُديّة وعلاقات المنفعة والمصلحة المشتركة، على ما يحمل هذان المفهومان من تناقض وتوافق في وعاء الأُمَّـة الإسلاميِّة (7).
وقد استُعمِلَ هذا المعنى بشكلٍ كبيرٍ في مستهلّ بناء الدولة الإسلاميِّة بعد هجرة
________________________________________
(6)ـ السيّد، رضوان، سياسات الإسلام المعاصر، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 1997، ص55.
(7)ـ حبيب، كمال، الاقلّيات والسياسة في الخبرة الإسلامِّية، ط1، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2002، ص96.

[الصفحة - 91]


الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى المدينة المنوّرة، حيث وردَ نصُّ خطاب للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) : «إنَّ يهودَ بني عَوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهودِ دينُهم وللمسلمين دينُهم، مواليهم وانفسهم، إلا من ظلم......» (8).
حيث يظهرُ من هذا النّص أنَّ المقوِّمَ لمصطلحِ الأُمَّـة هو الرابطُ السياسيُ حيث تكون السلطة بيد المُسلِمين. ويُرادف هذا النص تعبيرٌ آخر، كان متداولاً بين المُسلِمين، هو دار الإسلام، وهي البلاد التي يحكمها المُسلِمون، حيث يقولُ الفقيهُ الشافعيُّ الرافعي(643هـ): ليس من شرط دار الإسلام أن يكونَ فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام. فالمعيار الأساس فيها ليس ديانة المحكومين بل الحاكمين. وكذا دار الهجرة، وهي المناطق التي هاجر إليها المُسلِمون، هذان الداران يُعبِّران عن معنى الأُمَّـة بقسمهِ السياسي حيثُ يخضعُ الجميعُ لأحكامِ الإسلام، ويُنفَقُ على المُسلِمين من بيت المال وتجري أحكامُ القَصاص والحدود والدِّيات وفق الشريعة. يذكرُ ذلك رسولُ الخليفةِ الأوَّل إلى اليمامة بأنّه : «أيُّّما شيخٍ ضَعُفَ عن العمل أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيّاً فافتقرَ، وصار أهلُ دينِهِ يتصَّدقون عليه، طُرِحت جزيته وعيلَ من بين مالِ السلمين وعياله ما أقامَ بدار الهجرة ودار الإسلام» (9). فالداران المذكورتان هما أرضان يحكمُها المُسلِمون بخلاف دار الحرب التي يفصلُ السيفُ بينها وبين أراضي المُسلِمين، وبالتغاير عن دار العهد التي يحكمها غير المُسلِمين ولكن أنشأَ المُسلِمون فيما بينهم وبينها صلحاً وعهداً، وبالتمايزِ عن دار الرِدَّةِ التي انقلبت إلى غيرِ حُكمِ المُسلِمين بعد أن كانت ضمن حوزتهم.
الثاني: خصوصُ أهل العقيدة المشتركة
هنا يكون المُقوِّم الأساسُ هو رابطُ الدين، فكلُّ أهلِ شرعة هم أُمَّة مشتركة حتّى لو فُقِدَ عنصرُ اللغةِ أو المكان أو الزمان أو السلطة السياسيّة، فالمعتقدون بدينٍ واحد هم أهلُ أُمَّةٍ واحدةٍ حتّى لو أبعدتهُم المسافات أو باعد بينهم الزمان، أو فرَّقت بينهم اللغة. هنا تكون الأُمَّـة تعبيراً عن انتماءٍ عقيدِّي وتفتقر إلى الأُطر المؤسَّسيِّة التي تُعَّبر
________________________________________
(8)ـ اليوسفي، محمّد هادي، موسوعة التاريخ الإسلامي، ط1، ج2، قُم، مجمع الفكر الإسلامي، 1420هـ، ص62.
(9)ـ دغيم، سميح، موسوعة مصطلحات العلوم الاجتماعية والسياسيَّة، ط1، بيروت، مكتبة لبنان، 2000، ص459.

[الصفحة - 92]


عن هذا الانتماء من خلال الدولة، هذا المجتمع المُكوَّن من ذوي عقيدةٍ مشتركةٍ يُمَّيزُه تضامنٌ عضوِّيٌ وإئتلافٌ وثيق، حيث يتمَّيزون بوحدة الفعل العبادي وأحاديّة النظرة المستقبليّة وفرادة الطرح العالمي. وكلّما كان الدين أشدُّ ولوجاً في نفسيِّة المتدينيّن كان الترابطُ أوثقاً فيما بينهم، وأينما شعروا بأنّهم أقليّة زاد تماسُكم العضويُّ المشترك.
هذا التعبير وُجِد مع قيامِ الإسلام في فترة ما قبل الهجرة، حيث واجهَ المُسلِمون مشكلة الأقليم الذي يُمثِّل الوعاء الجغرافيّ لحركتهم، ويعبّرون فيه عن إرادتهم السياسيّة التي تسعى إلى تحويل الدّين الإسلامي إلى ممارسة حركيّة في أرضِ الواقع أي تحويل المبادِئ إلى ممارسة (10).
ويُعبِّر الإمام علي (عليه ‏السلام) عن هذا المعنى بقوله « فإنّ الله قد امتَّنَ على جماعةِ هذه الأُمَّـة فيما عقدَ بينهم من حبلِ هذه الألفة التي يتنَّقلون في ظِلِّها ويأوونَ إلى كنفِها بنعمةٍ لا يعرفُ أحدٌ من المخلوقين لها قيمة. واعلموا أنَّكم صرتُم بعد الهجرةِ أعراباً وبعد الموالاةِ أحزاباً، ما تتعلَّقونَ من الإسلامِ إلا باسمهِ ولا تعرفونَ من الإيمان إلا رسمه» (11)، وفي نصٍّ آخر «ولكنني آسى أن يليَ أمرُ هذه الأُمَّـة سفهاؤها وفجّارُها فيتخذوا مالَ الله دولاً وعبادَه خولاً» (12).
لقد عبَّر الإمام علي (عليه ‏السلام) عن أكثر معاني مفردة الأُمَّـة إستعمَالاً وأقواها دلالةً، خاصّةً أنَّ النصَ القُرآنيَ قد أوجدَ هذا المعنى بشكل رئيس ـ سيأتي بيانه ـ كشكلٍ من أشكال تضامن أهل العقيدة وتماسكِهم في معنى واحد هو الأُمَّـة.
ولو تتبّعنا نصوصَ التاريخِ الإسلامّي مع الأدباء والشعراء والفلاسفة وأهل الفقه والكلام والنُخَب والرموز لوجدنا أنّ هذا المعنى متّحدٌ مع المفهوم إلى حدّ الإلتصاق. ويستقرىء »حسين المرصيفي« (1890 م) استعمَالات كلمة الأُمَّـة، فيلحظ هذا المعنى قسماً من ثلاثة أقسام، يقول في رسالة الكَلِم الثمان: «أما الأُمَّـة بحسب الدّين فهم قوم اتَّبعوا نبيّاً والتزموا شريعته، ووقفوا عند حدودها فلم يتعَّدَوها ولم يخرج بهم تفرّق المذاهب، الذي هو من ضرورة اختلاف الأفهام وتفاوت الآراء إلى عداوةٍ تؤثِّر في
________________________________________
(10)ـ حبيب، كمال، الأقليات والسياسة في الخبرة الإسلامِّية، م.س، ص93.
(11)ـ الإمام علي، نهج البلاغة، ط1، ج2، قُم، دار الذخائر، 1412، ص155.
(12)ـ م.ن.، ج3، ص120.

[الصفحة - 93]


مصالح دنياهم وتبعثُهم على القتال «فإذا كانوا كذلك لم يكونوا أُمَّةَ دينٍ وكان الدينُ بينهم إسماً ليس له مُسَّمى» (13). هذا الاستقراء الذي قام به المرصيفي يدُّلُ على نظرةٍ عميقةٍ إلى المفهوم لسبرِ أغواره واللحوق بمضامينه بعد أن كثرت إستعمَالاته وتنوعّت، ما ولّد التباساً في كثير من متعلّقاته. ويعتبرُ المرصيفي أنَّ إستعمَاله في معنى الدّين أساسّي، لكّنه لم يحدِّده بالدين الإسلامي بل بمطلق أي دين أو عقيدة أو شريعة.
يمكن أن نستخلص من إنطباق هذا المفهوم على ما نحن فيه، أن الأُمَّـة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضاريّة إلهيّة، وتعيش طبقاً لمبادئ هذه الرسالة، وتظلّ تحمل سِمَة الأُمَّـة ما دامت تحمل هذه الصفات، والعنصر الأساسيّ فيها هو عنصر الرسالة التي تحاول الجماعة تقديمها إلى الآخرين لإتِّباعِها، كما لا يشُتَرط في العنصر البشريّ ـ المكوِّن للأُمَّةـ الروابط الدمويّة أو الجغرافيّة ولا الكمّ العددي, فقد يكون هذا العنصر فرداً أو فئة أو جماعة ما دامت تحمل رسالة ويوحِّدها فقهٌ شامل لهذه الرسالة. (14)
لكن لو تتَّبعنا أكثرَ النصوص، فسنجد أنّ إستعمَال الدال في المدلول المذكور ليس مُطَّرداً، إنّما قد استُعمِلَ للدلالة عن الدّين في خصوص الدّين الإسلامي، حيث أنّه دين أقام دولة وأنشأ حضارة وثقافة موحّدة بين أقوام متشّعبين وأفرادٍ متنوعين وألسنٍ مختلفة. فقلّما نجد استعمَالاً لهذا المفرد لتوصيف ديانات أُخَر، فلم يكن يُقال أُمَّة النصارى ولا أُمَّة اليهود ولا أُمَّة الصابئة، إلاّ نادراً، مثل استعمَال ابن خلدون للمصطلح مرَّة واحدة على بني إسرائيل ولكن يعود ذلك لالتباس المفهوم عنده ـ كما سيأتي ـ .
لذلك يمكن الاستنتاج أنّ الأُمَّـة بمعنى الدين استُعمِلَ في الإسلام خاصّة، يَدُّلُ على ذلك أنّ القدماء كانوا يعتمدون على إطلاق هذا المصطلح لبداهة انطباقه على الإسلام، فنادراً ما نجدُ استعمَالاَ مقيّداً لهذا النص، لكن عندما تداعت الدُوَل على المُسلِمين وعانوا من اهتراءٍ في حضارتهم أصبح يُقيَّد بكلمة الإسلاميِّة، فأصبح
________________________________________
(13)ـ المرصيفي، حسين، رسالة الكَلِم الثمان، تح. خالد زيّان، ط1، بيروت، دار الطليعة، 1982، ص41.
(14)ـ الكيلاني، ماجد، الأُمَّـة المُسلِمة، ط1، بيروت، العصر الحديث، 1992، ص14.

[الصفحة - 94]


المصطلح المطلق مقيّداً بطريقة تعدُّد الدال والمدلول. وإذا ما رجعنا إلى النصوص القديمة فقد كان استعمَاله كما ذكرنا، ولكن قد يُستعمل في معانٍ أُخَر بعد أن يقيَّد، فيُقال أُمَّة اليونان مثلاً، وهذا الاستعمَال في فترة متأخّرة نسبيّاً.
هذا الأمر يقودنا للإشارة إلى مفردة أخرى استُعمِلَها المُسلِمون والعرب الدلالة على أصل الديانات الأخرى، وهي المِلَّة (15).
والمِلَّة في القُرآن هي الدّينُ وشعائرُه، فمِلَّة إبراهيم عنَت دين إبراهيم. وأتباع كلِّ دين بمقتضى هذا يشكِّلون مِلَّة بحد ذاتها: مِلَّة النصارى، مِلَّة اليهود، مِلَّة المُسلِمين. وقد استُعمِلَ هذا المصطلح قديماً للدلالة على أتباع الديانات الأخرى، وفي الحديث لا يتوارث أهل ملّتين، أي أهل ديانتين. وهي في اللغة الشريعة والدين (16).
ولأنَّ المصطلحَ استُعمِلَ قديماً للدلالة على أتباع الديانات الأخرى، فإن كُتَّّاب القرن التاسع عشر من المُسلِمين كانوا يميلون لاستعمَاله للدلالة على الدولة والأُمَم والشعوب غير المُسلِمة أكثر من استعمَالهم لمفرد الأُمَّـة الذي ارتبط في أزمانهم بدرجة أو بأخرى بالأُمَّـة الإسلاميِّة (17).
لكن بمقاربة بعض النصوص نجدُ تصنيفاً آخر، أكثرَ قِدَماً، فابن خلدون الذي التبس عنده مفهوم الأُمَّـة يستعمل مفردة المِلَّة في أتباع الديانات سواء كانت إسلاميِّة أم غيرها، فيقول «المِلَّة الإسلاميِّة لمّا كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتَّحدَت فيها الخلافةُ والملك... » (18)حيث يَستعملُ كلمة المِلَّة للدلالة على الديانة الإسلاميِّة. وكذا الفارابي حيث يعتبر أنّ المِلَّة والدّين يكادا يكونان اسمين مترادفين وكذلك الشريعة والسنّة فإنّ هذين إنّما يدُّلان ويقعان عند الأكثر على الأفعال المقدّرة من المِلَّة (19).
ويعتبر «الدكتور ناصيف نصّار» أنّ الإزدواجيّة في مفهوم الأُمَّـة وضرورة اعتبار جوانب أُخرى غير الدّين أو المذهب في تكوين الجماعات البشريّة وفي تمييزها بعضها عن بعض حمل بعض المؤرّخين والفلاسفة في المائة الثانية من تاريخ الخلافة
________________________________________
(15)ـ السيّد، رضوان، سياسات الإسلام المعاصر، م.س، ص57.
(16)ـ لسان العرب، م.س.، ج11، ص631.
(17)ـ السيد، رضوان، سياسات الإسلام المعاصر، م.س، ص57.
(18)ـ إبن خلدون، عبد الرحمن، تاريخ إبن خلدون، ط1، ج4، بيروت، دار إحياء التراث، 2001، ص230.
(19)ـ دغيم، سميح، موسوعة مصطلحات العلوم الاجتماعية، م.س.، ص992.

[الصفحة - 95]


العباسيّة كالمسعوديّ والفارابي على فكِّ الازدواجية أي استعمَال لفظة المُسلِمة أو لفظة الشيعة للدلالة على المعنى الدّيني وعلى استعمَال لفظة الأُمَّـة بالمعنى الاجتماعيّ التاريخيّ (20).
لكن رغم استعمَالات بعض المؤرّخين فيما ذكره «الدكتور نصّار»، فإنّه يظهر في نصوص المُسلِمين وخلفيَّاتهم الفكريّة توجُّهاً لاستعمَالِ كلمة الأُمَّـة في خصوصِ المُسلِمين، سواء كانوا أهلَ ديانةٍ واحدةٍ أم أهلَ حُكم واحد، واستعمَال مفردة المِلَّة في ديانات غير المُسلِمين كونها أكثر دلالةً. نعم، يظهر استعمَال لفظة المِلَّة عند الحديث عن الدِّين الإسلاميّ كشريعة وفقه ورسالة، ولا يُطلق على المُسلِمين كجماعةٍ وشعبٍ وسلطةٍ ودولةٍ. ومن المعروف أنّ العثمانيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر استخدموا مفرد (ملّت) للدلالة على طوائف رعاياهم المختلفة والتي تمتّعت في نطاق نظام الملل باستقلال ذاتيّ نسبيّ، لكنَّ هذا المصطلحَ خرجَ من الاستعمَال السياسِّي تماماً في الربع الأوّل من القرن العشرين.
الثالث : خصوص أهل اللِسان
فاللِسان هو المقوِّم الأساس لجماعة الناس، ومن خلالهِ يتَّصفون بمصطلح الأُمَّـة، حيث يُستعمَل الخطاب ذو الطبيعة الواحدة ويُتبادل الكلام ما يؤدّي إلى تقصير المسافات وتقليل حجم الفروقات وتشكيل ثقافةٍ شبه موحدّة تشتمل على التقاليد والعادات. هذا ما يدفعُ نحوَ إحساسٍ بحجم الإتّحاد والاشتراك بين الأفراد، قوامُهُ اللغة الواحدة.
سابقاً كانت اللغة تُسَّمى باسم قومها، فالفُرُس يُجيدون الفارسيَّة والفرنسيِّون يُجيدون الفرنسيّة وكذلك العرب، ما يجعل للّغة وقعٌ خاصٌ على القلوب تجتذب أنظارَ من يتكلَّم بها. وعند العرب يظهر موقع اللُّغة بوضُوحٍ وجلاء، خاصّة في فترات الإسلام الأولى حيث كان الشعرُ العربي مادَّةً أساسيّة يتلقّفون وراءها ويتبارون فيها، ثم بعد بعثةِ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) زادت هذه الأهميّة مع تنزُّلِ الخطاب الإلهيّ عربيّاً ما جعل
________________________________________
(20)ـ نصّار، ناصيف، مفهوم الأُمَّـة بين الدين والتاريخ، ط1، بيروت، دار الطليعة، 1980، ص29.

[الصفحة - 96]


الاهتمام بها أساساَ ليس عند الشعراء والأدباء وحسب بل عندَ الفقهاءِ والحكماءِ والأفرادِ المُكَلَّفين أيضاً.
وظلّت الخلافة في أراضي العرب متنقّلة من المدينة إلى الكوفة إلى الشام وبغداد مع وحدةِ أراضي المُسلِمين، ولم يظهر خِصامٌ بين الإسـلام ذي الخطاب العربيّ وبين الإسلام في الأقوام غير العربيّة. لكن شهدت فترة ما بعد الخلافة الراشدة وخاصّة مع دخول كثيرٍ من الأقوام غير العرب إلى الإسلام تصنيفات على أساس اللُّغة ما بين العرب والعجم والترك وغيرهم. لكنّ هذه التقسيمات لم تُبعِد مفردة الأُمَّـة عن مدلولها الإسلامي ـ العربي وغير العربي ـ .
وبعد تحوُّلِ القيادة إلى مركز جديد غير عربي في إسطنبول، وخاصّة مع معاناة السلطنة العثمانيّة، واهتراء الرجل المريض، وإتِّباع سياسةٍ جائرةٍ بحقِّ العرب، وسطوع الحركة القومّية في أوروبا كضرورةٍ لتوحيد الشعوب ذوي اللُّغة والأصُول المشتركة، ووفود مفكِّرين متأثِّرين بالإشعاع الغربي، أصبح الحديثُ واضحاً عند العرب عن أُمَّةٍ واحدةٍ تجمعُهم لغةُ الكتاب المقدّس وتاريخ الإسلام المشترَك.
وقد أفردَ «المرصيفي» حديثاً عن هذا المعنى في تصنيفهِ لاستعمَالات كلمة الأُمَّـة، حيث يقول: «أمّا الأُمَّـة بحسبِ اللِسَان فهي أسبقُ إستحقاقاً لهذا الإسم وهو بِها أَلبَق، فإنّ جامعتها من ذاتها، وهي أدخل في الغرض من الاجتماع. إذ بوحدة النطق يتم الإئتناس ولا تكون نفرة ووحشة، بخلاف أهل الألسنة المختلفة، فإنَّهم في أوّلِ الأمر يكونون بمنزلة الحيوانات العجم، بينهم نفرةٌ ووحشةٌ، حتّى يتعلَّمَ فريقٌ لسانَ فريقٍ، وذلك بعد عسر وزمن طويل، وحينئذٍ يكونون أُمَّـةً بحسب اللسان»(21). ويُستَشَّفُ من النَّصِ المزبور أنَّ «المرصيفي» (1890م) كان من طليعةِ المنادين بالوحدة على أساس اللسان، لأنَّ الأُمَّـة الواحدةَ تفترضُ تلاحُماً بين أعضائها وتلاصُقاً بين أفرادها، وهذا الأمر يصعبُ على مختلفي اللُّغة إلى حدِّ توصيفهم بأنَّهم كالحيوانات من حيث عدم القدرة على التفاهم والحوار.
________________________________________
(21)ـ المرصيفي، حسين، رسالة الكَلِم الثمان، م.س.، ص41.

[الصفحة - 97]


إضافة لـ «المرصيفي» وفي الفترة المُتعاقبة بعده، نجد إلحاحاً على مصطلح الأُمَّـة العربيّة، خاصّة بعد تنامي الأسباب السالفة. يلفتُ نظرَ الباحث في هذه الفترة نصوص »جمال الدّين الأفغاني« (1897م)، حيث يُشدِّدُ على هذا الإستعمَال فيقول «إنَّه لا سبيل إلى تمييزِ أُمَّـةٍ عن أخرى إلا بلغتها... والأُمَّـة العربيَّة هي «عرب» قبل كلِّ دين ومذهب، وهذا الأمرُ من الوضوح والظهور للعيان بما لا يحتاج معه إلى دليلٍ أو برهان» (22). هنا يكون معيار الأُمَّـة هو اللُّغة، لكنَّه في نصٍّ أخرَ يُضيفُ إلى اللُّغة البلد والدّين والسلطان. حيث يقول إنَّ «الأُمَّـة المختلفة من أفراد يختلفون في المشارب، وتربُطُهم روابط الاجتماع والجنس، وتلحمُهم وحدةُ اللغةِ والأصل والموطن، ويطيعون شريعةً واحدةً لا تُفَرِّق بين الكبير والصغير، وتحكمهم سياسة واحدة، هذه الأُمَّـة تكون رمزاً لسعادة الفردِ الواحِد» (23). لكن يعود جمال الدِّين لينسف العنصر المشترك بين التعريفين السابقين للأُمَّة وهو اللُّغة ويوسِّع دائرة استعمال المفردة لتجمع المُسلِمين بل الشرقيين في جامعةٍ أُمَميّة واحدة، حيث يذكرُ «أنَّ الأُمَّـة الخاضعةَ للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارجِ الكمال إلا بهمَّةٍ عالية.. من دون ملاحظة الاختلاف في الجنسيّة، لأنَّهم بتقاربِ أخلاقهم وتلاؤمِ عاداتهم وتوافقِ أفكارهم صاروا كأنَّهم جنس واحد وإن اختلفت لغاتهم.. فيجب على كلِّ شرقّيٍ دفعاً لهذه النازلة وصيانة لأمته عن ذُلِّ العبودية أن يسعى جمعاً لكلمة..». (24)
ويمكن تلمُّس «الأُمَّـة» العربيَّة كأُمَّةٍ مشتركةٍ في فترة مخاض إنثلام العملاق العثمانيّ وإنسيال العنصر العربيّ عنه، مع «جرجي زيدان« (1914م) الذي يؤكِّد في فلسفة الإجتماع على «الحثِّ على تأييدِ اللُّغة العربية لأنَّها قِوامُ الأُمَّـة العربيّة أو العنصر العربيّ ولا بقاء للأُمَّة إلا بلغتها»(25). ويعتبر أنَّ على مصر واجب إنهاض هذه اللُّغة لأنَّها محورُ العالم العربيّ.
أمّا «نجيب العازوري« (1916م) الذي أسّس حزب «جامعة الوطن العربيّ» سنة 1904 والذي أنبت فكرة الهلال الخصيب حيث يرتبط الهلال العربيّ بالشطر الأفريقيّ،
________________________________________
(22)ـ دغيم، سميح، مصطلحات الفكر العربي والإسلامي، م.س.، ص142.
(23)ـ م.ن.، ج2، ص143.
(24)ـ م.ن، ج2، ص143.
(25)ـ م.ن.، ج2، ص148.

[الصفحة - 98]


فكان من طلائع المصّنفين والمنّظرين للأُمَّـةِ العربيّة، التي يعتبرها على اختلاف الأديَان والمشارب والمذاهب أُمَّـةً واحدةً، حيث يُشدِّدُ في مُصَّنَفه يقظة الأُمَّـة العربيّة أنَّه لا يوجد بين دجلة وبرزخ السويس من البحر المتوسِّط حتَّى بحر عمان سوى أُمَّة واحدة (26)هي الأُمَّـة العربيّة، التي تَتحدَّثُ بلغةٍ واحدة، وتمتلكُ تقاليد تاريخيّة واحدة وتُدَّرس الأدب ذاته، وكلُّ فردٍ من هذه الكتلة العنصريَّة يفتخرُ بالانتماء إلى الوطن العربي.
وبعد تفرّقِ العرب إلى أوطان متعدِّدة، ظلَّت أنظارُ المفكِّرين تحومُ حول هذا المفهوم، وتحلُم به وتتألَّم لفقده لتكون اللُّغة هي الجامعة بين الأوطان والمُؤسِّسة للوحدة السياسيّة، هذا ما يظهر مع «عبدالحميد بن باديس« (1940م) الذي يقول «أمـَّا المسألة العظيمة العظيمة فهي الوحدة السياسيّة للأُمَّة العربيّة من المحيط الهندي إلى الميحط الاطلنطيقي (27)» حيث نجدُ أنَّ فقدان الوحدة الإسلاميِّة ومن بعدها الوحدة العربيّة أثَّرَ ألماً وشوقاً لعودة العربيّة فقط إن أمكن، حيث بدأت تظهر ملامح تغيُّر مفهوم الأُمَّـة من الدِّين إلى اللُّغة.
وفي نصف القرن العشرين الثاني تنامى التّيار العربيّ، وبرزَ مصطلحُ الأُمَّـة مناسِباً للعرب، خاصّة مع تأسيس جامعة الدُوَل العربيَّة 1946، والثورة القوميّة التي قام بها «جمال عبد الناصر»، حيث اجتاحت الفكر العربيّ لتطفو على السطح ولتُصبح هذه المفردة وثيقة التعبير عن الشعب الذي يتكلَّم العربيّة. لكن وبشكلٍ مساوقٍ لهذا التيّار الجارف، نما فكرٌ إسلاميّ ينأى بنفسه عن القوميّة مُعيداً للشعارات السالفة عن الأُمَّـة التي تتكوَّن من مسلمين حتّى لو ضاقت بينهم السبل وأبعدتهم الأقطار.
يُمكنُ مقاربة ثنائية الأُمَّـة / العربيّة والأُمَّـة / الإسلاميِّة، من خلال تفحُّص نصوص متزامنة للدلالة على الخطاب المُتَّحدِ في الوقت والمختلفِ في الفكر.
فشيخُ الجماعات الإسلاميِّة »حسن البنّا« (1949م) يستعمل الثنائيّة الدينيَّة. يقولُ في رسالة الجهاد: «إنّ الأُمَّـة التي تُحسِن صناعة الموت، وتعرفُ كيفَ تموتَ الموتةَ
________________________________________
(26)ـ العازوري، نجيب، يقظة الأُمَّـة العربية، تر. أحمد بو ملحم، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات، لا ت، ص 37.
(27)ـ العازوري، نجيب، يقظة الأُمَّـة العربية، م.س.، ج2، ص149.

[الصفحة - 99]


الشريفة، يهبُ لها اللّهُ الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة » (28). حيثُ يطلقُ بداهةً مُفردة الأُمَّـة على مدلولها الدّيني. على النقيض منه يستعمل صاحب «كيف ينهض العرب؟» «عمر الفاخوري» (1946م) المصطلح في ثنائيّة لغويّة، حيث يأسف لأنَّ «الأُمَّـة العربيَّة نائمة نوماً عميقاً منذ ستة قرون، فهي لذلك متخدِّرة الأعصاب وإن أخذت تفتحُ عينيها، لكنّها تفتحُهما لتُغمِضَهُما بعد قليل» (29).
بعد أكثرِ من عشرةِ سنوات تبقى الثنائيَّة السالفة، تّتضح جليَّاً بين شهيدِ الجماعات الإسلاميِّة والمُنَظِّرِ لها «سيِّد قطب» (1966م) الذي يُؤَّكد على الاستعمَال الدّيني للمصطلح حين يوَصِّف الأُمَّـة الإسلاميِّة باعتبارها «جسداً واحداً يحُّسُ إحساساً واحداً، فما يُصيبُ عضواً منه يشتكي منه سائر الأعضاء» (30).
وبين مُعاصرِهِ «زكي الأرسوزي« (1968م) الذي يفخر ويمتدح الأُمَّـة العربيّة التي لم تأفل منذ الإنسانيّة الأولى «فالأُمَّـة العربيّة - برأيه- ينبوع الشعوب السامية كافّة، عالَمٌ بذاتها لم تأفل منذ ظهور الإنسان على مسرح التاريخ» (31)، ويعاضِدُهُ في ذلك «ساطع الحُصَري» الذي أفرَد مؤلّفات جمّة للدفاع عن الأُمَّـة العربية (32).
هذه الثنائية ظلّت تحكم الدُوَل العربيّة، بين التيارات الإسلاميِّة التي تُعطي لمفهوم الأُمَّـة طابَعهُ السلفِّي الذي استخدمَه القُرآن وعبَّر عن ذهنيّة الأصحاب والتابعين ومن لَحِقَ بهم، وبين التيّاراتِ القوميَّةِ التي اتَّخذَت من خلفِّيتها مدلولاً جديداً للمصطلح، خاصَّة مع بروز مفكِّرين غير مسلمين، يهتَّمون بإبعاد المصطلح عن بُعده الدِّيني ليكونوا ضمن دائرة دلالته. وبين الأُطروحات والأُطروحات المضادّة أُوجِدَت صيَغ تعبيريّة تُبرِز التكامل بين العروبة والإسلام، صيَغ تُبعِد عن سطح الخطاب معنى التقابل والتعارُض فتؤكّد أنَّ «العرب مادَّة الإسلام» أو أنّ «الإسلام عربي(33)» .وقد وقع أصحاب ثنائية الأُمَّـة/ العروبة في إشكال التمييز بين القوميَّة وبين الأُمَّـة، فكثيرٌ منهم جعلوا منهما مُصطَلحين مترادفَين، وقد حذّر «أرسوزي» من ذلك لأنَّ كلاً منهما يعني معنىً مختلفاً عن الآخر (34)، ونبَّهَ أيضاً «عمر فروّخ» من إستعمَال القوميّة دون الأُمَّـة
________________________________________
(28)ـ مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البّنا، بيروت، مؤسسة الرسالة، لا ت، ص60.
(29)ـ جهامي، جيرار، موسوعة مصطلحات الفكر العربي والإسلامي، ط1، مكتبة لبنان، بيروت، 2002، ص277.
(30)ـ م.ن.، ص275.
(31)ـ جهامي، جيرار، موسوعة مصطلحات الفكر العربي والإسلامي، م.س، ص277.
(32)ـ الحُصَري، ساطع، العروبة أوّلاً، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1985، ص168
(33)ـ الجابري، محمد عابد، مسألة الهويّة، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1977، ص22.
(34)ـ م.ن.، ص286.

[الصفحة - 100]


حيث يقول «إنَّهم يُكثرون الكلام على القوميَّةِ ويُهملون الكلام على الأُمَّـة أو يجعلون الكلام عن الأُمَّـة تابعاً للكلام على القوميّة... إنَّ القوميَّة موجودةٌ بالأُمَّـة» (35).
التحذير المذكور هو بسبب الاعتبار بأنَّ الأُمَّـة مفهومٌ فيه من الإتِّحاد أكثر منه في القوميَّة، وهو يتضَّمن عوامل أخرى غير اللُّغة كالتاريخ المشترك وغيره من عوامل الارتباط.
الرابع : الأمّـة على أساس الوطن
هذا أضيقُ مدلولٍ لمصطلحِ الأُمَّـة، حيث قُسِّمت الأُمَّـة الإسلاميِّة إلى أُمَم تركيَّة وفارسيَّة وعربيَّة، وهذه بدورها قُسِّمت إلى أوطان، يُطلَق على كلِّ وطن أُمَّة.
لكن على رغمِ وجودِ مدلولٍ كهذا، لكنّهُ بقيَ في إطارِه الضيِّّق خاصّة القانوني منه، حيثُ يُعرِّف القانون الدولي الأُمَّـة بأنَّها مجموعةٌ من الناس يمارِسون حُكماً ذاتياً داخلَ إقليمٍ محدَّد باعترافِ أُمَم أخرى من خلال تبادل السفراء فيما بينهم (36)، حيث إنَّ منحة المُواطَنة أي الجنسيَّة هي التي تجعلُ من الفرد عضواً من الأُمَّـة، فحقُّ الانتماء إلى الأُمَّـة قد يكون أصيلاً، كما لو وُلد في بلدٍ معيّن، وقد يكون مُكتَسباً إذا مُنحَ حقُّ المُواطَنة بسبب ولادته أو زواجه أو طول مدَّة سكنه... وقد أشار إلى ذلك «ساطع الحصري« (1968م) في مُصنَّّفه «آراء وأحاديث في القوميَّة العربيَّة» حيث يذكرُ بأنَّ مواطني الدُوَل العربيَّة مُنقسِمون من ناحية الآراء إلى ثلاث زُمَر، الفريقِ الثاني منهم يتمسَّك بالإقليميّة الناتجة عن تعدُّّد الدُوَل ويعتبر «أهالي كلِّ دولة من الدُوَل العربية أُمَّة قائمة بذاتها ومتمّيزة عن غيرها، فيقول بوجوب بقاءِ هذه الدُوَل منفصِلة بعضها عن بعض إنفصالاً تامّاً، في الحال وفي الإستقبال».
وقد برز إشعاع هذا المصطلح خاصّةً في فترة النضال للإستقلال الذي سعَت إليه الدُوَل العربيّة، حيثُ برزَت الكتابات عن الأُمَّـة الجزائريّة والأُمَّـة السوريّة والأُمَّـة المصريّة. يقول «أنطوان سعادة ـ مُؤسِّس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ» : «الأُمَّـة السوريّة هي وحدة الشعب السوريّ المتولِّدة من تاريخٍ طويلٍ يرجع إلى ما قبل الزمن
________________________________________
(35)ـ م.ن.، ص288.
(36)ـ الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج2، ص693.

[الصفحة - 101]


التاريخيّ الجليّ» (37). وقد عنى «سعادة» بالأُمَّـة السوريّة سوريا الطبيعيَّة، أي بلاد الشام التي تضُّم سوريا ولبنان. ويُعطي هذا المعنى الضيّق لهذا المفهوم «عبد الحميد بن باديس« (1940م) في حديثه عن الجزائر وفي معرض تشييد الحدود الثقافيّة مع فرنسا، فالأُمَّـة الجزائرية الإسلاميِّة ليست هي فرنسا، ولا يُمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أُمَّةٌ بعيدةٌ عن فرنسا كلُّ البعد في لُغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن مُحدَّد معيّن هو الوطن الجزائريّ بحدوده الحاليّة المعروفة(38). وتبرز في هذا الإطار مِصر التي شهدت مخاض تطبيق المصطلح عليه بشكلٍ أسبق عن غيرها كونها تميَّّزت عن السلطنة العثمانيّة بوقتٍ مُبكر، يُمكن الاسترشاد إلى ذلك بنصوص المفكِّرين المصريين «كقاسم أمين» و«مصطفى لطفي المنفلوطي (1924م) الذي يجعل مصر أُمَّة ضمن الأُمَّـة الإسلاميِّة مُتجاهلاً الأُمَّـة على أساس اللُّغة، فالأُمَّـة المصريّة «أُمَّةٌ مسلمةٌ شرقيةٌ فيجب أن يبقى لها دينها ومشرقِّيتها ما جرى نيلُها في أرضها، وذهبت أهرامها في سمائها، حتى تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات» (39) .
نافلة ما ذكرنا، إنَّ تجزئة الوطن العربيّ واستعماره، ثمَّ نشوء الدولة الوطَنِّية المستقلِّة أدّى إلى اعتبار أفراد كلِّ دولة «شعباً» واعتبار أرضه «وطناً». كما أنَّ الضبابيّة التي اكتنفت مفهوم العرب، مكّنت الأمر الواقع الذي فرضه الإستعمار من إيجاد تعبيرات واقعيّة، وأدّت أيضاً إلى تبلور اتّجاهين، لكلِّ منهما موقف محدّد إنطلاقاً من هذا الأساس «الأمر الواقع».الأوّل اعتبر الشعوب والأوطان العربيّة أمّة، والثاني اعتبر الشعب المعيّن والوطن المعيَّن أمّة (40).
في هذا المعنى تتحّدُ السلطة السياسيّة بمفهوم الوطن، وتندمجُ مُفردات الوطن والأُمَّـة والدولة في حدود جغرافيَّة محدَّدة، وإذا ما كان هذا الإتحادُ سهلاً حين تكون الأُمَّـة مصطلحاً غيرَ ملتبسِ المدلول تنشط على كافّة أجزاءه وحدة سياسيّة جامعة، فإنَّ جمعَ هذه الدوال شاقٌ حين يكتنفَه غموضٌ وإبهام. فيسهلُ على الفرنسيِّ مثلاً قِرانُ
________________________________________
(37)ـ الحُصري، ساطع، آراء وأحاديث في القومية العربية، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1985، ص21.
(38)ـ م.ن، ج2، ص146.
(39)ـ م.ن، ج2، ص150.
(40)ـ كيلة، سلامة، العرب ومسألة الأُمَّـة، ط1، بيروت، دار الفارابي، 1989، ص40.

[الصفحة - 102]


هذه المفاهيم الثلاثة لكن يصعُبُ على المُسلِم ذلك، وإن كان مصطلح الأُمَّـة يدلُ بأحد معانيه على هذا المعنى الضِّيق.
يشيرُ «فريد هاليداي» إلى هذه التحدِّيات لمفهوم الأُمَّـة التي تختصُّ بالشرق الأوسط، حيثُ يذكرُ أنّ هناك دوائراً عند العرب منها القوميِّة والقطريِّة والوطَنِّية والإسلام، هذه التحدِّيات لا تقتصرُ على العرب بل تشملُ المُسلِمين، حيث يُعطي مثلاً على ذلك في كتابه «الأُمَّـة الدّين في الشرق الأوسط»، فالتركي «له أربعُ هويَّات: عثماني وتركي بالمعنى الذي حدَّدهُ غوكالب ثمَّ أتاتورك من بعدِه، وتركي بالمعنى الذي يجمعُ أتراك الدنيا من الأدرياتيك إلى البامير، وطوراني بالمعنى القائم على الأرض الأسطورية القديمة الممَّتدة إلى أفغانستان، وأخيراً الإسلام أكان إسلام جمال الدّين أو حزب الرفاه» (41).
لكن رغم إستعمَال مفردة الأُمَّـة في مصطلح الدولة لم يرسخ هذا المفهوم على المستوى الشعبيّ، وإذا ما ظهر وتجلّى في بعض المناطق والأمصار فهو يبقى خافتاً في أمصارٍ أخرى، فاستعمَالُه الخجولُ في مصر أكثر من تداوله النادر في لبنان.
وتعقيباً على ما بدأنا به، فالاستعمَال الأغلب له هو في المجال القانونيّ البحت، الذي تمَّ استيرادُه عن الخارج بمفاهيمه ومصطلحاته وتشريعاته. فنرى استعمَالاً جليّاً وإتِّحاداً واضحاً بين الأُمَّـة والدولة في القوانين الدستوريّة، فالبرلمان هو تارة مجلس الشعب وأُخرى مجلس النواب ـ لكنَّ النائبَ هو مُمَثِّلُ الأُمَّـة مع أنَّ الأُمَّـة هنا هي الدولة والشعب هم المواطنون الذي يحملون الجنسيَّة ـ وثالثة مجلس الأُمَّـة ليظهر جليّاً بأنه مجلس لأبناء الدولة ذات الحدود المُعتَرف بها في مجلس الأمن الدولي، فبدلاً من مجلس النواب لدولة الكويت يصبح مجلس الأُمَّـة الكويتية فيتمخَّض عنه أنَّ الكويت أصبحت أُمَّة.
كما يظهر ذلك في الجوانب الدستوريَّة الأخرى فدستورُ الدولة دستورٌ للأُمَّة ومحكمتها محكمةُ الأُمَّـة وكذا قضاتها ومدَّعُوها العامُّون وساستُها وأحزابُها...
________________________________________
(41)ـ هاليداي، فريد، الأُمَّـة والدين في الشرق الأوسط، ط1، بيروت، دار الساقي، 2000، ص46.

[الصفحة - 103]


وقد أثّر هذا الإستعمَال رفضاً عند بعض المفّكرين، خاصةً الإسلاميُّون الذين يُظلِّلون مفهوم الأُمَّـة ببعده الدّيني إلى حدٍّ جعل «عبدالله العلايلي« (1997م) يفترض صراعاً بين الأُمَّـة والدولة ونزاعاً تاريخيّاً قديماً، فالأُمَّـة والدولة كائنان مُتمايزان ينفصلان أحياناً ويندمجان أخرى، وما كانت الأحاديث الانقلابيّة الخطيرة في التاريخ إلاّ صراعاً بين هذين الكائنين رغبةً من الكائن الطبيعي (الأُمَّـة) بالاندماج الإيجابي والكائن الصناعي (الدولة) بالاندماج السلبي (42).
يجبُ الإشارة ـ بعد استعراض إِستُعمِلات مفهوم الأُمَّـة ـ إلى أنَّ هذا التقسيم الرباعيّ لمداليل هذا الدال ليست حصراً عليها. فإضافة إلى إستعمَاله في الأرض والدين واللغة والوطن نجد تعبيرات أخرى.
فالمسعودي ـ المؤرِّخ العربي والإسلامي ـ صاحب مروج الذهب، يُشير في إطار حديثه عن ملوك الطوائف عند الفرس إلى مجموعتين من المفاهيم للتمييز بين الأُمَم. الأولى تضُّم الشيَم الطبيعية والخُلُق الطبيعية واللسان، والثانية تضُّمُ البيئة أي المسكن والنسب والدولة أي الملك الواحد.
أمّـا إبن خلدون فيشوبُ هذا المفهوم عنده كثيرٌ من الاضطراب والإبهام في تطبيقه على الأُمَم التاريخيّة، فانعدام الصياغة النظريّة للمفهوم حملَ ابن خلدون إلى إطلاق اللفظ دون ضابط موضوعيّ موحد. فالأفرنج تارةً أُمَّة وطوراً أُمَم متعدِّدون، والتُرك كذلك في الغالب أُمَم وفي بعض المواضع أُمَّة واحدة... (43)، وبنو إسرائيل أُمَّة لها تاريخ خاص ولمّا خرجت من صحراء سيناء «حاربتهم أُمَم الفلسطينيين والكلدانيين والأرمن وأردن وعمان ومأرب» (44).
هذا الإلتباس يتبدَّد ولو ظاهِراً عند الفارابي، الذي يُعطي ضابطة وحدود لهذا المفهوم، فالأُمَّـة «تتميَّز عن الأُمَّـة بشيئين طبيعيين: بالخُلُق الطبيعيّة والشيَم الطبيعيّة وبشيء ثالث وضعي وله مدخل ما في الأشياء الطبيعيّة وهو اللسان، أعني اللغة التي تكون بها العبارة» (45).
________________________________________
(42)ـ دغيم، سميح، موسوعة مصطلحات الفكر العربي الإسلامي، م.س.، ج3، ص285.
(43)ـ نصّار، ناصيف، مفهوم الأُمَّـة بين الدين والتاريخ، م.س. ص79.
(44)ـ إبن خلدون، عبد الرحمن، تاريخ إبن خلدون، ط4، ج1، بيروت، دار إحياء التُراث، ص231.
(45)ـ دغيم، سميح، موسوعة مصطلحات العلوم الاجتماعية، م.س، ص70.

[الصفحة - 104]


أمّا «الكواكبيّ» فيُضيف إلى ما ذكرناه من تقسيم النسب ليكون مميّزاً للأُمَم عن بعضها إضافة لغيرة من المقوّمات، فالأُمَّـة «هي مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين» (46).
ويظهر التلاطُم في مفهوم الأُمَّـة عند «جمال الدّين الإفغانيّ»، فالأُمَّـة هي الشعوبُ الجامعة للُغةٍ جامعةٍ تارة، وهي الشعوبُ المتفّقةُ على دين مشترك ـ كما ذكرنا سابقاً ـ تارة أخرى، وثالثة هي المؤلَّفة من أفراد يختلفون في المشارب، وتربطُهم روابط الاجتماع والجنس، وتلحمهم وحدة اللغة والأصل والموطن، ويطيعون شريعة واحدة لا تُفَرِّق بين الكبير والصغير، وتحكمهم سياسة واحدة وحكومة واحدة» (47).
أخيراً، إنَّ سوءَ الفهمِ أو التعثرَ فيه ـ إن أحسَّنا الظن ـ لمفردةِ الأُمَّـة، أدَّى إلى عدم القدرة على الصياغة النظريَّة لمفاهيم النهضة والبعث والوحدة والتقدُّم وغيرها من المفاهيم التي تُشكِّل تخوم استمرار الجسم الحضاري وعتباته، ولو استطاع كثيرٌ من روَّادِ الفكر تحديد المصطلحات قبل الولوجِ إلى سَرد آرائهم ورؤاهم لأمكنم الورود إلى بيت القصد بمُكنَةٍ وثبات ولمنَحهم القدرة على رفع بناء أهدافِهم وغاياتهم وآمالهم تحت ظِلِّ أعمدة راسِخة وأُسُسٍ ثابتة.
والعرض الذي أسلفت الكلام عنه كان مثلاً ونظرة على تلك الأبنية المهترئةِ القواعد وأُنمُوذجاً لتلك الصروح المتصّدعةِ الأُسُس. وقد كان هذا العرض ضروريّاً لرصد هذا المفهوم كبداية نظريّة لمعرفة مقصد إنموذج بحثنا من هذا المفهوم ليتّمَ الحكمُ على طِبقه ووفق مؤدّاه.
الخامس : مفهوم الأمّة في القرآن
ليس من المُلتَبس أو المبُهَم تأثير رسالة الإسلام ومفاهيم الدِّين على المُسلِمين وأفكارهم ومبتنياتهم، حيث أنّه وبجانب تحويل كثيرٍ من المفاهيم عن مسارِها التاريخيّ السابق، إستطاع خلق مفاهيم أُخرى تحوّلت فيما بعد عن المنظور الدّينيّ إلى مضمونٍ إجتماعيّ وثقافيّ عام.
________________________________________
(46)ـ الكواكبي، عبدالرحمن، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ط2، بيروت، د.ن.، 1973، ص115.
(47)ـ الأفغاني، جمال الدين، سلسلة الأعمال المجهولة، لندن، رياض الريِّس، 1987، ص143.

[الصفحة - 105]


ولا يمكنُ تكوين فكرةٍ متينةٍ عن المكانة التي تتمتَّع بها فكرة الأُمَّـة في القرون الوسطى العربيّة والإسلاميِّة ـ بحسب ناصيف نصّار ـ وبالتالي لا يُمكن فهم الاشكاليَّة التي تُحيط بفكرة الأُمَّـة في العالم العربيّ المعاصر دون دراسة مضمونها وموقعها في النصِّ القُرآني، والسبب في ذلك هو أنّ النصَّ القُرآنيَّ كان النصَّ الأساسيَّ الأعلى على امتداد العصور الوسطى العربيَّة والإسلاميِّة. أمَّا محاولةُ تصوّرِ الأُمَّـة في الإيديولوجيَّة القوميَّة من حيث أنَّها نتاج فكريّ حديث يُحاول تجاوز النصِّ القُرآني، يقع تحت تأثير هذا التصوّر من جهة أسبقيَّته في التراث وتأصُّله في النفوس (48).
ذُكِرت كلمةُ (الأُمَّـة) في 49 آية بصيغة المفرَد، وآيتين بصيغة الجمع المخاطَب، وبمعنى الجمع غير المُعرَّف في 13 آية، وقد تعدَّدت معاني الكلمة بحسب سياقها في النصّ (49).
يُعرِّف صاحبُ «مفردات ألفاظ القُرآن» «الراغب الأصفهانيّ» الأُمَّـة بأنَّها «كلُّ جماعة يجمعهم أمر ما، إمَّا دينٌ واحد أو زمانٌ واحد أو مكانٌ واحد، سواء كان ذلك الأمرُ الجامعُ تسخيراً أو إختياراً» (50)، لكنَّه يعترف بوجود معانٍ أخرى في إستعمَالات القُرآن.
ويتّفق المفسّرون على ذلك المعنى الأساسيّ لمدلول الكلمة مع جواز إستعمَالها في معانٍ أخرى، فيذكر السيِّد الطباطبائي أنّها بمعنى «القوم حيث يختلف في السعة والضيق حسب موردها الذي استُعمِل فيه لفظها أو أُرِيد فيه معناها» (51).
ويمكن إيراد استعمَال المفردة في القُرآن التي جاءت بمعاني:
أوَّلاً: الجماعة أو القوم،غالباً ما يكون لهم مقصدٌ واحدٌ، ويُقال للمنفرد «أُمَّة» أي مقصده غير مقصد الناس (52). أمّا باقي المعاني التي استُعمِلَت فيها الأُمَّـة كجماعة بشريَّة مقيَّدة بصفاتٍ محدّدة، فهي معاني تطفو على المعنى الرئيس، أي «القوم ذَوو المقصد»، والصفات عارضةٌ عليه. ومن تلك الصفات:
الأولى: الدِّين الواحد:حيث يقول الله «كانَ الناسُ أُمَّةً واحدةً»، أي متَّفقين على
________________________________________
(48)ـ نصّار، ناصيف، مفهوم الأُمَّـة بين الدين والتاريخ، م.س، ص11.
(49)ـ الحديثي، نزار، الأُمَّـة والدولة، ط1، بغداد، لا.ن.، 1987، ص131.
(50)ـ الأصفهاني، الراغب، مفردات ألفاظ القُرآن، ط1، قم، طليعة النور، 1426هـ، ص86.
(51)ـ طباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القُرآن، ج1، بيروت، الأعلمي، 1974م، ص297.
(52)ـ النحّاس، معاني القُرآن، ج1، جامعة أمُّ القرى، السعودية، 149هـ، ص161.

[الصفحة - 106]


دينٍ واحد. ويقول: «ولو شاءَ اللهُ لجعلكم أُمَّةً واحدةً» أي متَّفقون على شريعةٍ واحدة، و «إنَّ هذه أمَّتكم أُمَّة واحدة» أي أهل مِلَّة واحدة.
الثانية: الحالة والطريقة:ومنها «إنَّا وجدنا آباءَنا على أُمَّة» أي على نعمة وحالة حسنةٍ أو دين واحد. وأيضاً «لما وردَ ماءَ مدينَ وجدَ عليهِ أُمَّةََ من الناسِ يَسقون» أي جماعة يعملون في الرعي.
الثالثة: أهل عصر معيّن:فقوله «لكلِّ أُمَّةٍ أجَل»، و«لكلِّ أُمَّةٍ رسول» أي لكلِّ أهل عصر.
ثانياً: الحين والزمان:كقوله «وادّكر بعدَ أُمَّة»، و«إلى أُمَّةٍ معدودة» أي بعد زمن ووقت.
ثالثاً: كلُّ المخلوقات المتحرِّكة:كقوله «وما من دابةٍ في الأرضِ ولا طائرٍ يطيرُ بجناحيه إلاّ أُمَمٌ أمثالُكم»، حيث يُطلق على كلِّ نوعٍ منهم أُمَّة حتَّى ولو لم يكونوا بشر، ويتّفق مع المعنى الأوّل بأنَّ لهم مقصد واحد.
يمكنُ أن نعرِفَ أنّ المعاني المتداوَلة قرآنيّاََ للكلمة المزبورة خصَّت الجماعة البشريّة بمدلول أكثر إستعمَالاً من غيره، لكنّ هذا المفهوم ولو أنَّه أُطلق عامّاً للجماعة المتوحِّدة في القصد، إلاّ أنّه خَصَّ المُسلِمين بالخطاب، حيث تجدُ ذلك في كثير من الآيات، فيصفهم بصفةٍ دالةٍ على الجماعة «إنّ هذه أُمتُكُم أُمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدُون»، ويمتدحهم لاعتبار تلبُّسِهم بالدين الذي هو خاتم الأديان «كنتم خيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للناس»، ويُحفِّزُهُم على الاعتدال «وكذلك جَعلناكُم أُمَّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ».
هذا الخطابُ المباشِر، بما يحمل من تفجُّرٍ عاطفيٍّ ودلالاتٍ رمزيّةٍ، ناشدَ فيها المُسلِمين بمفردةِ الأُمَّـة دونَ غيرهم، جعلَ من هذه المفردةِ مفهوماً ساكِناً في ذاكرة المُكَلَّفين، يُسَتعادُ في كلِّ أزمةٍ أو ضعفٍ يصيبهم ليحفزّهم على النهوض، أو يُسترجَع للدلالة على التاريخ المجيد والناصع لهم. هذا الارتباط جعل مفهوم الأُمَّـة
________________________________________

[الصفحة - 107]


مرتبطاً ببعده الدّيني أي الإسلام وملتصقاً به، وكان العلَّة الأساس في ذلك الخطاب القُرآني السالف.
القسم الثاني : مفهوم المواطنة
يمكن الولوج إلى هذا الفهم من خلال أمور:
الأوّل : تعريف المواطنة
لا بُدَّ قبل الدخول في تعريف مُفرَدَة المُواطَنة وبيان معناها ودلالتها، أن نُحاكي الجذر الذي انطلقت منه وهو الوطن.
يُعرَّف الوطن لغةً بالمنزل تُقيم به، وهو موطن الإنسان ومحلُّه، وفِعل أوطنَ أي أقامَ، وأوطنه اتخذه وطناً، ويُقال أوطنتُ الأرض ووطنّتها توطيناً واستوطنتها أي إتخذتها وطناً (53).
ويبدو أنّ الداءَ الذي اعتوَر مفهومَ الأُمَّـة أصابَ مُفردَة الوطن، الأمر الذي أعقب تشويشاً في دلالته وتشويهاً في معناه، فاختلطَ بمصطلح النظام وتماهى مع الدولة وارتبطَ مع الأُمَّـة، ما جعل حدوده عُرضةً للعبور والتآكل.
والفرد قد يكون في ذهنه «وطنٌ خاص» يتحدَّد بحدود كلِّ دولة، و«وطنٌ عام» يشمل جميع الأراضي التي تسكنُها شعوب الأُمَّـة على اختلاف دولها وأوضاعها السياسيّة، و«وطنٌ فعليّ» تعترف به الدُوَل و«وطنٌ مثالي» تنشده نفوس المواطنين (54)، وذلك لأنَّ هذا المفهوم أخذ حيِّزاً من الربط العاطفي بين المواطن وأصله اللُّغوي، وعاضدت ذلك النصوص الدينيَّة التي ألقت المسؤوليّة على المُكَلَّف لحفظ وطنه.
يُعرِّف رفاعة رافع الطهطاوي الوطن بأنّه «عُشُّ الإنسان الذي فيه درَج، ومنه خرَج، ومجمعُ أسرته» (55)، ويُعرِّفه آخرون بأنَّه الدار والمسكَن والمحلّ والبيت الكبير ومسقط الرأس، ويُمكن القول بأنَّه الحيّز الجغرافيّ الذي تعيش وتعتاش عليه مجموعة بشريَّة معيَّنة، حيث يَتفاعل الأفراد مع بعضهم ومع الأرض التي يقطنون عليها.
________________________________________
(53)ـ ابن منظور، لسان العرب، م.س.، ج13، ص451.
(54)ـ دغيم، سميح، مصطلحات الفكر العربي والإسلامي، م.س، ج3، ص2067.
(55)ـ م.ن.، ج3، ص1266.

[الصفحة - 108]


وهو مصطلح قديم، وردَ ذكرُه في رواياتٍ عديدة، تحُثُّ على حُبّهِ والزود عنه والعيش فيه بكرامة أو الرحيل عنه. لكنَّه أُهمِل لصالح مفردة «الأُمَّـة» لاعتبار ورودها في القُرآن، ولكونها أكثر ثباتاً منه. بدأ استخدام المفرد فعليَّاً مطلع القرن التاسع عشر، فيُقال في أحد النصوص «يريدُ العساكر أن يرجعوا إلى أوطانهم». ومع أنّ المُسلِمين ـ العرب والترك ـ عرفوا المُفرد الفرنسي patric في وقت مُبكِّر، لكنَّهم لم يستعملوا المفرد «وطن» أو أنَّهم لهم يخرجوا عن الاستعمَالات التقليديّة للمصطلح في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر (56)، لكنّه ورد في فرمانٍ سلطانيّ هو خطّ كلخانة عام 1839، حيث وردَ مصطلح الوطن في موقعين: الأوّل عندما تحدَّثَ الخطُ عن الإنسان العثمانيّ الذي تتزايد غيرته يوماً فيوماً على دولته وملَّته ومحبّته لوطنه، والثاني عندما اعتبر مهمّة العساكر هي «محافظة الوطن» (57). أمّا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فإنَّ النسبة إلى وطن: وطني استُخدمت في مواجهة الأجنبيّ أو الغريب غير العثمانيّ في الشام مصر، فقد سمَّى بطرس البستاني مدرسته 1863: المدرسة الوطَنِّية، قاصداً بأنَّها عربيَّة تركيَّة في لغة التدريس وليست من مدارس الإرساليَّات. وتأتي الثورة العربيّة فيكثُرُ الحديث عن حبِّ الوطن وعن الغيرة الوطَنِّية ويُسمِّي العرابيّون أنفسهم «الوطنيون» (58).
وقد استَعملَ الطهطاويّ (1872م) وسليم البستاني (1884م) وأديب إسحاق (1885م) هذا المصطلح بشكل غنّي حيث حدَّدوا مفهوم الوطن وماهيّته وحقوق المواطن والوطن المُتبادلة.
وقد أشاروا إلى مفهومِ «الوطَنِّية» التي يعتبرُها المرصيفي بأنّها «كلمةٌ دائرة على الألسنة تحقَّقَ بمعناها قومٌ فرشدوا وسعدوا وخلا آخرون فضلُّوا وشقوا» (59). وتُعرَّف الوطَنِّية بأنّها تعبيرٌ قوميٌ يعني حُبَّ الشخص وإخلاصه لوطنه، ويشمل ذلك الانتماء إلى الأرض والناس والعادات والتقاليد والفخر بالتاريخ والتفاني في خدمة الوطن» (60).
أخيراً، وقبل أن نستهِلَّ البحث عن مفردة المُواطَنة، يجدرُ الإشارة إلى أنّ الوطن
________________________________________
(56)ـ السيد، رضوان، سياسات الإسلام المعاصر، م.س، ص60.
(57)ـ العزاوي، قيس، المُواطَنة في مجتمع متعدد القوميات والطوائف، موقع www.tanmia.ma، في 10ـ05ـ2007
(58)ـ السيّد، رضوان، سياسات الإسلام المعاصر، م.س.، ص61.
(59)ـ دغيم، سميح، مصطلحات الفكر العربي والاسلامي، م.س، ج1، ص1268.
(60)ـ مؤسسة أعمال الموسوعة، الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج27، ص113.

[الصفحة - 109]


يختلف عن الدولة، حيث ارتبط الأوّل في ذهن العرب بالحيِّز الجغرافيّ والتفاعل الاجتماعيّ بين أبناء هذه الأرض التي هي مسقط الرأس، أمَّا الدولة فقد التصقت بالرابطة التنظيميَّة والسياسيّة للبلد وبالتفاعل السلطويّ أو الإداريّ بين الأفراد.
أمَّا المُواطَنة لغةً فهي صفةٌ بصيغة دالَّةٍ على المطاوعة والمشاركة، مُشتقّة مباشرةً من اسم الفاعل (مواطن) المشتقّ بدوره من الفعل الرباعيّ (واطنَ) المزيد من الثلاثي (وَطن) أي قطنَ وأمِنَ في مكان وعلى بقعةٍ من الأرض (61).
تُعرِّف دائرة المعارف الأمريكيّة المفهوم بأنّه «عبارة عن علاقة بين فرد ودولة تتضمَّن عضويّة الفرد السياسيَّة الكامِلة في الدولة وولائه الدائم لها» (62). أمَّا موسوعة السياسة فتعتبرها «صفة المواطن الذي يتمتّع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى وطن، وأهّمها واجب الخدمة العسكريّة وواجب المشاركة الماليّة في موازنة الدولة. وللمُواطَنة معانٍ متعدِّدة، بالمعنى السياسيّ هي الحقوق التي يتمتَّع بها المواطن في نظامٍ سياسيّ معيّن كحقِّ الاقتراع. وبالمؤشِّّر الحقوقيّ فالمواطن هو ذاك المُعترَف به على مستوى القانون، والمؤشِّر الاقتصاديّ فالفرد يتمتَّع بملكيّة محدّدة ويساهم في موازنة الدولة ضمن شروطٍ معيّنة» (63). هذه التعريفات تُحدِّد واجبات وحقوق، فمنها السياسيّة والاقتصاديَّة والماليَّة والقانونيَّة. وهي بشكلٍ مُختصر، كما يعرفها مُعجَم العلوم الاجتماعيّة «مشاركة الأفراد في الحقوق والواجبات، وقد تعني العلاقة بين الفرد والدولة حيث يدين الأوّل بالولاء والثاني بالحماية» (64).
ويعتبر «تشارلز كيسلر» أنَّ مصطلحَات المُواطَنة والسلوك الحضاريّ والمدنيَّة متجانسة ومُشتّقة من اللاتينيَّة civis (مواطن) وcivitas (مدينة) التي هي نفسها المُعادل اللاتيني لعائلة الكلمات الإغريقيّة المشتّقة من polis (مدينة). والمتمدِّنون ـ حسب نظر الكلاسيكيّة ـ هم أولئك الذين يصلحون أن يعيشوا في المدن ويحتملوا الأعباء، أمَّا أولئك غير المتمدِّنين الذي هم غير سياسيّين فهم برابرة (65).
يمكن مما سبق تلخيص عناصر المُواطَنة بنقاط:
________________________________________
(61)ـ أسس المُواطَنة وصور الإلتباس،نشرة الحزب التقدّمي، مجلة الإسلام والديمقراطية،عدد10، 2000، ص23
(62)ـ م.ن.، ص24
(63)ـ الكيالي، عبدالوهاب، موسوعة السياسة، م.س، ج6، ص373.
(64)ـ مجموعة باحثين، معجم العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1975، ص580.
(65)ـ سي. نانفليد، ادوارد، السلوك الحضاري والمُواطَنة، تر. مسجد نصار، ط1، ج10، عمان، دار النشر، 1995، ص80.

[الصفحة - 110]


أوّلاً:أنَّها إنتماءٌ إلى مكانٍ محدَّد، بحيث يحملُ الفرد هويَّة ذلك الزمان بدون أي اعتبار للانتماء إلى هويِّة أخرى.
ثانياً: تفاعل الفرد أُفقّياً بمحيطه الاجتماعي وعاموديّاً بالسلطة القائمة التي له حقٌّ معادلٌ للآخر في نصبها أو عزلها.
ثالثاً: أساس التفاعل هو المشاركة التي تنقسم إلى حقوق وواجبات.
رابعاً: الاعتراف بالعضو الاجتماعيّ الآخر دون تمييز والسعي معه لبناء الوطن أساسُ المُواطَنة.
خامساً: الرضا الكامل بالانتماء للوطن بمؤسّساته السياسيّة المختلفة والاعتراف بحدوده النهائيّة وعدم التطلُّع للانفصال أو الاتّحاد مع بلدٍ آخر.
الثاني : تطوّر مفهوم المواطنة
إنَّ حقَّ المُواطَنة للفرد وجعله عُنصراً في المجتمع المدنيّ بالشروط السالفة لم يتِّم بصياغة مباشرة ولا بتقنين باتٍ وتامٍ، إنَّما له صيرورة تاريخيَّة شهِدت مخاضات مُتعثِّرة ومحطَّات مُختلفة، وبُنيَت على هياكل أوصلتها إلى ما نحن عليه. وهذه العناصر والشروط المذكورة لم تنته عند محطّتنا الحاليّة، بل ستختلف مدّاً أو جزراً وكماً أو كيفياً بما سينسجه القدر لها مستقبلا وبما ستحيكه أناملُ روَّادٍ جُدُد. فليس هنا نهاية التاريخ بل هذه محطةٌ في السُنَن التاريخيّة التي يمكن تعقّبها بدراسة موضوعيّة للماضي.
أوَّلاً: الغرب:
يُشير المراقبون إلى أنَّ مصطلحَ المُواطَنة غربيّ، يعودُ في أصولِهِ إلى الفكر الإغريقيّ والرومانيّ، حيث كان يُشير إلى ساكن المدينة المُتمتّع بكامل الحقوق السياسيّة فيها، مقابل المحرومين من هذا الحقّ وعلى رأسهم النساء والعبيد والأجانب. وقد تطوّرَ مفهوم المُواطَنة في روما الامبراطوريّة ليشمل أعداداً من النُّخَب من خارج
________________________________________

[الصفحة - 111]


المدينة ولكنَّه أُفرِغ من مضمونه السياسيّ بحيث أصبحت للمواطن حقوق مدنيّة دون المشاركة الكامِلَة في السلطة كما كان الحال سابقاً (66).
وبعد إندثارِ التجارُب الديمقراطيّة المحدودة في دائرتيّ الحضارتين اليونانيّة والرومانيّة، تراجعَ مبدأ المُواطَنة في الفكر السياسيّ الأوروبي طوال العصور الوسطى التي امتدَّت من 300 إلى 1300(ب.م.).
ويعودُ تاريخ إبداع مفهوم المُواطَنة في أوروبا ـ بعد اكتشافه ـ إلى بداية ظهور الفكر السياسيّ العقلانيّ التجريبيّ، وتزايد تأثير حركات النهضة والتنوير في الحياة السياسيّة. وقد قام هذا الفكر السياسيّ والقانونيّ الجديد في دائرة الحضارة الغربيّة منذ القرن الثالث وحتّى قيام الثورتين الأمريكيّة والفرنسيّة بصياغة مبادىء واستنباط مؤسّسات وتطوير آليّات وتوظيف أدوات حكم جديدة، أمكنت بعد ذلك من تأسيس وتنمية نظام حكم مقيَّد.
ولا يُمكن إغفال بداية المشاركة السياسيّة التي يؤَّرَخ لها في العصر الحديث بـ«الماغناكارتا» عام 1215، وذلك حين أكّدَ الإعلان حقوق البارونات الإقطاعيين تجاه الملك. واستمرَّ الصراعُ بعد ذلك مع الملك حول الإصلاح السياسيّ حتّى توسّعت قاعدة المشاركة 1265 عندما دُعيَ مواطنان من كلِّ مقاطعة ونبيلان من كلِّ مديريَّة ليجلسوا في البرلمان مع الأشراف والأحبار (67).
حدَثَ المنعطفُ الهام في تاريخ المفهوم عند إندلاع الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر، حيث اتَّسعت آنذاك الدائرة اليونانيّة والرومانيّة الضيقة بشكلٍ هام ومُفاجِىء تشمل عدداً كبيراً من أعضاء المجتمع، وبدأت تتحدَّد معالم جديدة للمُواطَنة كانت مجهولة سابقاً. يعتبر «روجرز بروباكر» أنَّ فهمَ المُواطَنة لن يكون كاملاً إذا لم نضعها في سياقِ الخصائص الأربعة للثورة الفرنسيّة، أي كونها ثورة برجوازيّة (تعلّقها بالملكيّة) وديمقراطيّة (التمرّد على الاستبداد) ووطنيّة (التصدّي للغزاة) وبيروقراطيّة (إدارة مباشرة وفْقَ هرم تنظيميّ) (68). هذه الخصائص حدَّدت شروطاً
________________________________________
(66)ـ الافندي، عبد الوهاب، إشكالية الأُمَّـة والوطن، حوار عبد الحي شاهين. www.tanmia.ma، في 10ـ05ـ2007
(67)ـ مجموعة باحثين، المُواطَنة والديمقراطية في البلدان العربيّة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص23.
(68)ـ المعمّري، سيف، الوطنية والمواطنية، مجلة المعلم، www.tanmia.ma،12ـ6ـ2007

[الصفحة - 112]


للمواطنيَّة من حكمٍ مركزيّ يحمي ويحكم أفراداً مُنتمين إلى الدولة، ويتمتَّعون بحقوق عامَّة منها حقُّ الملكيّة والمشاركة السياسيّة.
هذه الثورة وسَّعَت حقوقَ المُواطَنة الأثينية، لكنَّها لم تصِل إلى حدود الشرائط المُعتبَرة لاحقاً، حيث أخفقت عندما مَيَّّزت بين الجنسين مثلا، فلم تعترف بحقِّ الانتخاب للنساء أيّ لنصف المجتمع. ويشيرُ التاريخ الاقتصاديّ لأوروبا إلى العلاقة بين الحاجة إلى جَنيِ الأموال والمشاركة السياسيّة من جهةٍ أُخرى. فقد تمَّت المشاركة السياسيّة في دُوَل الشمال الأوروبيّ الفقيرة نسبيّاً «الدُوَل الاسكندنافيّة وبريطانيا» بسبب حاجة الملوك إلى الاعتماد على شعوبهم في تحصيل الضرائب، بالتالي تشجيعهم على الإنتاج وزيادة قدرتهم الضريبيّة من خلال السماح بمزيدٍ من المشاركة السياسيّة واستتباب الأمن الجماعيّ، بينما تأّخرت في أوروبا الجنوبيّة خاصّة أسبانيا والبرتغال التي استطاع ملوكها مِلء خزائنها من المُستعمرات في أمريكا (69).
على مقلبِ الغربِ الآخر كانت تنمو المُواطَنة بهدوء وتأنٍ، خاصّة في مسألة المشاركة السياسيّة، أي الديمقراطيّة التي نمَت بشكلٍ خافت، ما حدا بـ «ألكسي دو توكفيل» أن يذهل ويعجب لما توصّلوا إليه في كتابه «عن الديمقراطيّة في أمريكا».
حيث برز الحديث عن الحقوق المتساوية والمشاركة الفاعلة حيث يقول «جورج واشنطن» خلال فترة رئاسته الأولى: «كلُّ الامريكييّن يتمَّتعون على حدٍٍّ سواء بحريّة الضمير وحصانة المُواطَنة، ولم يَعد الآن يُقال عن التسامح كأنَّه تسامُح طبقةٍ واحدةٍ من الشعب إزاء تمتّع طبقةٍ أُخرى بممارسة حقوقها الطبيعيّة المتأصِّلة» (70).
أمَّا المرحلة الثالثة من تطوُّر المصطلح في الغرب الأوربيّ (بعد أثينا والثورة الفرنسيّة) فكانت فيما دشَّنه الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان سنة 1948. فلأوّلِ مرَّة أصبحت المُواطَنة عبر الحريَّات السياسيّة حقُّ كلِّ شخص «دون أيِّ تمييز كالتمييز بسب العنصر أو الجنس أو الُّلغة أو الدين أو الرأي السياسيّ أو رأي الآخر أو الأصل الوطنيّ أو الاجتماعيّ أو الثروة أو البلاد ودون تفرقة بين الرجال والنساء» (71). إنّ هذا
________________________________________
(69)ـ مجموعة باحثين، المُواطَنة والديمقراطية، م. س.، ص26.
(70)ـ كيسلر، تشارلز، السلوك الحضاري والمُواطَنة، م.س.، ص93.
(71)ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نشرة الأمم المتحدة، إدارة شوؤن الإعلام، 2000، مادة2، ص7.

[الصفحة - 113]


الإعلان كرّسَ المساواة المُطلَقة في كافَّة الميادين خاصَّة السياسيّة، ونظر إلى الحريّة كحقٍّ طبيعيّ «كما عند روسّو»، فقد خصّصَ معظم موادِّه للحقوق السلبيَّة التي تتّجه نحو حماية المواطن من أيِّ اعتداء تقوم الدولة به أو أيّة مجموعة منَّظمة أُخرى ضدَّ حرِّياته الضروريَّة (مواد 2 إلى 18) أو حُرِّياته العامَّة (مواد 19 إلى 21)، ولم يُغفِل الإعلانُ الحقوقَ التي تكفل للمواطنين الأمان الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ في قدرته على المشاركة بنشاط وفعاليَّة في الحياة السياسيّة (72).
وبما أنّ المُواطَنة تقتضي واجبات كما تفترض حقوقاً، فقد لخَّصها الإعلان في البند الثاني من المادّة 29: «بالاعتراف الواجب بحقوق وحريَّات الآخرين واحترامها، وكذلك من واجبات المواطن الاحترام المُتبادل لاختيار الآخرين لهويّاتهم الثقافيَّة واللغويّة ولحريّاتهم في إنمائها».
لقد بنى هذا الإعلان صرحَ المُواطَنة في البلاد الغربيّة, وكان المحطَّة الثالثة في تشكيل مفهوم المُواطَنة وتطبيقها هناك، محاولاً أن يرتديَ لباساً عالميّاً كنموذجٍ أعلى ونصٍ فوقيّ تعتمد عليه الأنظمة السياسيّة وأفراد الشعب لمعرفة حقوق المُواطَنة.
لذا يُمكِنُ القول أنَّ المفهوم وُلدِ في الغرب مُرتبطاً بحقِّ المشاركة في النشاط الاقتصاديّ، ثمَّ بحث المشاركة في الحياة الاجتماعيّة، وأخيراً بحقِّ المشاركة في اتِّخاذ القرارات وتولّي المناصب. وأصبح الانتماء للوطن لا يعني الانتماء إلى ديار جغرافيّة يُقيم الناس فيها أو يُؤون إليها بقدر ما يعني أنَّ الوطنَ قام أساساً على توفير مجموعة من المصالح للمواطنين القاطنين في كنفه، بالمقابل يقومون بدورهم في الواجبات التي تُفرض عليهم.
أخيراً، التطوُّرُ التاريخيّ للمفهوم الذي يختلف في مراحله الأخيرة ما بين أوروبا وأمريكا أحدثَ تغيُّراً في النظرة إلى المُواطَنة. فالنظريَّة الفرنسيّة تعتمد مفهوماً كُلِّياً يُشدِّد على وحدةِ الجسم الاجتماعيّ المؤلّف من اتّحادٍ حرٍّ لأفراد مستقلِّين عن كلِّ أشكال التبعيّة، وتتحدّد هويّة المواطنين فقط بالرابط السياسيّ الذي يجمعهم، أي
________________________________________
(72)ـ الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، م.س.، ص.ص.1ـ15.

[الصفحة - 114]


التساوي بالحقوق أمام القانون، ولا يُؤخَذ بعين الاعتبار ارتباطهم الدينيّ أو العرقيّ أو الثقافيّ وإن كانوا يُعَّرِفون أنفسهم على مستوى الهويّة باعتبار واحد من هذه المعايير. أمَّا النظريّة الأمريكيّة فلم تتبنَ المفهوم الفرنسيّ، ومع ذلك تبدو بعض ملامح هذه الرؤية في الشعار الأمريكيّ الداعي إلى ذوبان جميع المهجَّرين في أُمَّـة واحدة. حيث تضع هذه النظريّة في المقام الأوّل الفرد وقدرته الشخصيّة على المبادرة والإبداع عِوَضاً عن تفضيل مفهوم التضامن المجتمعيّ، هذا النوع من المفهوم يُحدَّد أساساً لمواجهة التحدِّيات التي يطرحها مجتمع مُتعدِّد الأعراق» (73). لا بُدَّ أيضاً من طرح النموذج الماركسيّ الذي يرى في المفهوم الليبراليّ للمُواطَنة طرحاً أجوفَ، لأنَّه يمنح حقوقاً شكليّة لعجز الفقراء المعزوفين عن ممارستها عمليّاً (74).
برزت في الغرب إشكاليَّة على المُواطَنة، حيث إنّ المُواطَنة عندهم وما يتفرّع عنها من حقوق وواجبات يُمكن أن تُمنَح لأيِّ فرد حقَّقَ الشرط القانونيّ. فقد وفدت أعدادٌ كبيرة من المهاجرين إليها واستحصلوا على الشرط القانونيّ للمُواطَنة بحسب ما تُوجبه قوانينها حتّى بلغ العدد 12 مليوناً في أوروبا وحدها. وحيث كان الوافدُ يتمتّع بحقوقه كامِلَةً ويلتزم بواجباته، كانت أزمة ما تتعمَّق خاصّة عند المُسلِمين منهم حيث إنَّ الانتماء إلى البلد هامشيّ أمام الانتماء إلى الدِّين، ما فرض حديثاً عن ثقافة المُواطَنة والتربية عليها كأساسٍ للقبول بمنح الجنسيّة لتنتقل المُواطَنة من مفهوم قانونيّ إلى ثقافةٍ قائمةٍ بنفسها.
ثانياً: المُسلِمين:
يُعتبَر مفهوم المُواطَنة مُستَحدَثاً في الفكر العربيّ والإسلاميّ، حيث لا تكاد تجد ذكراً لـه في نصوصِهم إلى حدِّ تأكيد «برنارد لويس» أنّه غريبٌ تماماً عن الإسلام، حيث يبدو له أنّه حقيقة تاريخيّة وثقافيّة، ويُعبِّر «محمد أركون» عن رأي مُماثلٍ مفاده أنّ مفهوم الجماعة السياسيّة في الإسلام يخلو من أيَّة محاولة لتطوير سياق «المُواطَنة» (75)، لكن يبدو جليّاً إستعمَالهم لمفردات بديلة قريبة من مضمونه وجوهرة
________________________________________
(73)ـ بنخزاز، هشام، المُواطَنة والوطن، م.س.، ص54
(74)ـ الافندي، عبد الوهاب، إشكالية الأُمَّـة والوطن في الفكر الإسلامي، إشكالية الأُمَّـة والوطن في الفكر الإسلامي، حوار عبدالحي شاهين. www.demoislam.com
(75)ـ الأفندي، عبد الوهاب، المُواطَنة والديقراطية، ص55.

[الصفحة - 115]


كالمدينة والمدنيّ والسياسة المدنيّة والمدينة الفاضلة والسياسة الفاضِلة، وصولاً إلى المجتمع المدنيّ والمجتمع الأهليّ.
وكما شهد المصطلح تطوُّراً تاريخيّاً عند الغرب واختلف بحسب المجتمعات، فإنَّ صيرورته الإسلاميِّة مختلفة، كما أنّ الشروط الحادَّة الجامعة والمانعة التي تُذكر اليوم لم توجد في المجتمعات الشرقيّة، بل كان هناك توفّراً لبعضها تبعاً للخصوصيَّة في هذا المجتمع. لذلك يَصعب البحث عن هذه المراحل التاريخيّة عند هذه المجتمعات لأنّها ربيبة مواطنها الخاصّة بها.
يَنظر بعضُ المراقبين إلى أنَّ النشأة التاريخيّة للمفهوم عربيّاً كانت في حياة القبائل العربيّة التي تفترِض طبيعة حياتها مشاركة من القبائل سعياً نحوَ التماسُك والتسانُد في وجه الخطوب، ويلفتون إلى أنّ «سبأ» و «معين» عرفت قدراً من المشاركة السياسيّة، فـ «سبأ» عرفت «التمثيل النيابيّ» إلى أنْ تدرّجَ الحكم إلى ما يُشبه الإقطاع. ويقُّّصُ القُرآن الكريم خبر ملِكة سبأ التي وقعت في حيرة من أمرِها عندما طلب منها «سليمان» التوجُّه لعبادة اللّه دون غيره، فطلبت من كبار قومها وزعمائهم المشورة لأنَّها لن تبُّتَ بالمسألة قبل مشورتهم وحضورهم وأخذ رأيهِم (76).
ويرى آخرون أنَّ إرهاصاته كانت في وثيقة «حلف الفضول» أي الوثيقة التي اتَّفق عليها أهلُ مكَّة وطبّقوها على أرض الواقع، حيثُ تنُّصُ على احترام الانتماءات ونُصرة المظلوم. فقد كانت قريش تظلم الغريب ومن لا عشيرة لـه في مكّـة، حتّى حدث أن ظُلِم رجل واستجار بقريش فقاموا وتحالفوا ألا يُظلَم غريب ولا غيره، وأن يُؤخَذ للمظلوم من الظالم وحلَفوا على ذلك (77). ويَعتبر بعضُ المؤرِّخين أنَّ الحلف هو أوَّلُ تجربة «ديمقراطيّة» لحماية الأفراد أيّاً كان دينهم أو عرقهم أو مذهبهم من أيّ اضطهاد أو قمع.
تأتي بعد ذلك التجربة النبويَّة المدنيّة، حيث شكّل المُسلِمون رابطة ائتلافيّة تعاقديّة فيما بينهم أوّلاً، ومع غيرهم ثانياً. حيث تمتّع يهود المدينة بالمساواة مع
________________________________________
(76)ـ القُرآن الكريم، سورة النمل، 32.
(77)ـ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، دار صادر، بيروت، ص19.

[الصفحة - 116]


المُسلِمين، وبالحقِّ في ممارسة نشاطهم الاقتصاديّ والدينيّ والاجتماعيّ بدون تحفُّظ من المُسلِمين، شريطة الانتماء الصادق إلى المدينة وعدم مساعدة الخصوم على السلطة السياسيّة القائمة.
ويرى المُستشرقون أنَّ صحيفةَ الحُديبيَّة أكثر قُرباً لمفهوم المُواطَنة بمعناه الحديث، حيثُ اتَّفق الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ومُشركو مكَّـة كشُركاء في الوطن/ الدولة/ الأُمَّـة. خاصّة أنها جَّسدَت اتِّفاقاً بصبغةٍ دُنيَويَّة وليست دينيّة بين فئاتٍ متساوية في القوّة والتأثير عندما وافقَ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على التوقيع عليه باسمه أي بدون ذكر صفته الدينيَّة... حينها تمَّ الاتِّفاق بمحض إرادة المساهمين فيه وبدون إكراه وقتال. صحيح أنَّ الصلح كانت له طبيعة دينيّة، ولكنَّه برأي المستشرقين أرسى إتِّجاهاً جرى تثبيته بمرور الزمن لقبول مبدأ التعدديّة والعمل على أساسة، من خلال قبول مبدأ «الشراكة في الوطن» بين المُسلِمين وغيرهم (78).
كان تعاملُ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) مع غيرِ المُسلِمين وسيرته مع المُكَلَّفين، أي ما يُصطلَح عليه بالسُنّة أساساً لتعامل المُسلِمين ورؤيتهم للحكم، وقد أفردَ حقوقاً لأبناء الأُمَّـة وغيرهم، وفرض عليهم واجبات وأرسى قواعد المشاركة من خلال الشورى بين المُسلِمين ولو كانت غير مُلزِمة. هذه هي بعض عناصر مفهوم المُواطَنة الحديث. لكنَّ العناصر الباقية ظلَّت في إطار الخصوصيَّة الإسلاميِّة، فالمُسلم يَنتمي إلى دينٍ يجب الدفاع عنه، وانتماؤه للأرض وحبِّه لها يجب أن لا يتعارض مع واقع دينه، كما أنَّ المشاركة لا تعني القدرة على انتخاب الخليفة بالطرق الديمقراطيّة الحديثة.
إستمرّ التاريخُ الإسلاميّ على صيغة الخلافة، حيث أخفقَ الحاكِمون في الحفاظ على بعض عناصر المُواطَنة التي أقرَّها الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، فاختلف تطبيقهم للحقوق ما بين مدٍٍّ وجزر حتَّى حُكْم السلطنة العثمانيّة، حيث فُرِضَت إشكاليَّة المُواطَنة بمعناها الحديث على الفكر الإسلاميّ بسبب واقع التجزئة والتحدِّيَات الخارجيّة (79). وبعد انقسام السلطنة إلى دُوَل متعدِّدة، برزَ التضادّ بين مفهوم المُواطَنة الإسلاميّ والحديث،
________________________________________
(78)ـ العزاوي، قيس، المُواطَنة في مجتمع متعدِّد القوميات، م.س.، ص48
(79)ـ الافندي، عبد الوهاب، إشكالية الأُمَّـة والوطن، حوار عبد الحي شاهين. www.tanmia.ma، في 10ـ05ـ2007

[الصفحة - 117]


الأمر الذي استطاعت بعض الحركات الإسلاميِّة التعايش معه وبقيَت أُخرى في طَور التصادم لكونها تؤمِن بالمصطلح الإسلاميّ «الأُمَّـة» الذي يتعارض برأيها مع واقع التجزئة الحديث. وتشكَّلت الدُوَل المُقسَّمة وفقاً للنظريَّات الوضعيَّة، واضعة في دساتيرها هذا المفهوم كأساس ثابت نظريَّاً. أمَّا الدُوَل الإسلاميِّة «إيران» فقد تعاملت مع الأمر الواقع، وبنَت دستورها بائتلاف ما بين مفهوم المُواطَنة الحديث والمفهوم الإسلاميّ.
الثالث : المواطنة عند فقهاء الشيعة
رغم تداول هذا المُصطلح في الروايات الصادرة عن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وأهل بيته، يبقى استعمَال الفقهاء له خجِلاً ومتلطِّياً خلف مصطلحات أُخرى أكثر استعمَالاً كالدار والأهل والأرض والمنزل.
يُمكن جلاء ذلك في قراءة عدديَّة لكتاب شيخ الطائفة «الطوسيّ» «الخلاف»، حيث ترِد كلمة «الوطن» في كلِّ كتابه أربع مرات، كما في مبحث صيام المسافر، حيث يقول «ولأنّ السفر لا يجوزُ فيه الصيام عندنا فلمْ يبقَ إلا إرادة الرجوعِ للوطن» (80)، لكنَّه يذكرُها في كتابه المبسوط إحدى عشر مرَّة، ويذكر مرَّة واحدة كلمة «استوطن». بينما نراه يذكرُ مصطلح أهله 34 مرَّة وداره 19 مرَّة ونزله 9 مرّات ودار الإسلام 46 مرَّة .
أمَّا الفقيه الشيعيّ «الشيخ المفيد» فنجد كلمة «وطن» عنده خمس مرات، حيث يستعيضُ عنها في كتابه «المقنعة» بالأهل التي تتردَّد 48 مرَّة والدار المُتعاقِبة ثماني مرات (81).
لكنَّنا نجدُها خجولة في كتاب تذكرة الفقهاء لـ «العلامة الحلِّي»، حيث يذكر «الوطن» 14 مرَّة، لكنّ نسبتها إلى غيرها من المُفردات معدومة، فنجد ذكر «أهله» 416 مرَّة وداره 185 مرَّة ودار الإسلام 185 مرَّة (82).
لكنَّ المصطلحَ يزدادُ مع مرور الزمن، حيث نراه مُستَعملاً 37 مرَّة في العُروة
________________________________________
(80)ـ الشيخ الطوسي، الخلاف، ط جديدة، ج2، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1409، ص280.
(81)ـ الشيخ المفيد، المُقنعة، ط2، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410، ص213
(82)ـ العلاّمة الحلي، تذكرة الفقهاء، طبعة حجرية، قُم، منشورات المكتبة الرضوية، ص145.

[الصفحة - 118]


الوثقى للسيِّد اليزديّ في منتصف النصف الأوّل من القرن العشرين، بينما نرى «داره» 58 مرّة(83).
هذا الاستعمَال للمصطلح المذكور يجد ثقله في مسائل صلاة المسافر، أي صلاة من يخرج عن بلده «وطنه» مسافة معيَّنة تبلغ حوالي 45 كلم، فيصلِّي قصراً أي تتقلَّص عدد ركعات صلاته.
ويُقسِّم «السيِّد مُحمَّد باقر الصدر» الوطن إلى:
أوَّلاً: مسقط الرأس، أي مسكن الأبوين حيث تُعَّدُ البلدة وطنه تاريخيَّاً بحسب الشرع، ولكنّه لو نوى الخروج منهـا نهائيَّاً لاستيطانِ بلـدٍ آخر، خـرجَت عن كونها وطناً له.
ثانياً: البلدة التي يتَّخذها وطناً له ومقاماً مدى الحياة، حيث ينزح أو يهاجر إليها.
ثالثاً: البلدة التي يستقِّرُ فيها مُدَّة مؤَّقتة، لكنَّها طويلة بحيث تُخرِجه عن كونه مسافراً فيها عُرفاً.
رابِعاً: من لا وطنَ له بالمعنى المُتقدِّم، إذا قرَّرَ أن يتَّخذ بيتاً ليسكن فيه، أصبح ذلك البلدُ وطناً له(84).
ويمكن أن يكون للمكلَّف أكثر من وطن، وذلك إذا قرَّرَ إن يتَّخِذ مسكناً شتويَّاً وأخر صيفيّاً.
مِن هذا التقسيم يُمكن استخلاص المرونة التي تحكُم المصطلح في الفقه الشيعيّ، حيث إنَّ سكنَ المُكَلَّف الطويل عن بلده وإعراضه عن وطنه يُخرِجُهُ عن كونه من مواطني تلك الأرض. كما أنّ تحديد الوطن لا يخضع لمعايير السلطة السياسيّة ولا الُّلغة، بل يرتبط بالأرض أي منبت الإنسان. وفي كتاب الحدود، يُشرِّع الفقهاء حدَّ النفي للزاني، حيث يجب إخراجه من الأرض التي جُلِدَ فيها، ولو لم تكن هذه الأرض وطنه لا يجوز إرجاعه إلى وطنه (85).
________________________________________
(83)ـ السيّد اليزدي، العروة الوثقى، ط1، قُم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417هـ.، ص217
(84)ـ الصدر، السيد محمّد باقر، الفتاوى الواضحة، النجف الأشرف، مطبعة الأداب،1980، ص176
(85)ـ الموسوي الخميني، الإمام روح الله، تحرير الوسيلة، ط2، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 1409هـ، ص471.

[الصفحة - 119]


أمَّا في باب الدفاع فنجد أحكاماً شرعيَّة تتجاوزُ خصوصيّة الدفاع عن الوطن بالمعنى الحديث «أي بما هو أرض»، ليتناول الحديث فيه الدفاع عن بيضة الإسلام أو حوزته أو الدِّين الإسلاميّ والأُمَّـة، مُتجاهلاً الوطن أو الأرض الصغيرة، حيث يقول «السيِّد الخوئي» في منهاج الصالحين: «يجب على كُلِّ مسُلِم الدفاع عن الدِّين الإسلامي إذا كان في معرض الخطر، ولا يُعتبَر فيه إذن الإمام بلا إشكال ولا خلاف في المسألة، وإذا قُتِل فيه جرى عليه حكم الشهيد في ساحة الجهاد مع الكفار» (86).
أمَّـا «الإمام الخمينيّ» فيفصِّل في المسألة آخذاً في الاعتبار إنقسام المُسلِمين إلى دول، لكن هذه الدُوَل «الأوطان» لا تُحدِّد حريَّة المُكَلَّف وواجبه وتكليفه في الدفاع عن حوزة الإسلام وبيضته. حيث يحكم بأنّه : «لو خِيفَ على إحدى الدُوَل الإسلاميِّة من هجمة الأجانب، يجب على جميع الدُوَل الإسلاميِّة الدفاع عنها بأيِّ وسيلة ممكنة» (87). ولا يكتفي بذلك، بل حتّى الأفراد يجب عليهم ذلك.
هذه الفتاوى والأحكام تجعل الفرد غير مُقيَّدٍ لوطن أو بلد، وتُخرِجُهُ عن ثقافة المُواطَنة، حيث تُحَفِّز المُكَلَّف أن ينتمي إلى دينه وإسلامه قبل أيِّ شيءٍ آخر، حتّى لو أضرَّ ذلك بوطنه ـ بالمعنى الحديث ـ حيث لا يُوليه الفقه أهميَّة كبرى كما هو الأمر في الدِّين والأُمَّـة ودار المُسلِمين. ومِنَ اللافِت أنَّ فقهاءَ الشيعةِ بأكثرهِم رغم أنَّهم تهجَّروا وانتقلوا إلى أماكنَ أخرى، فقد حافظوا على انتسابهم إلى مواطنهم الأصليَّة. وإذا لم نكُن نجد ذلك عند بعض الفقهاء الأوائل من «المفيد» و«الصدوق» و«الرضي»، فإنَّنا نجدُهم عند «الطوسيّ» و«الحلِّي» و«الأردبيلي» و«العاملي» و«الكركي» وغيرهم.
أكثر من ذلك، إنَّ الأحكامَ القضائيِّة في الإسلام من تعزيرٍ وحدودٍ وقصاصٍ وغيرها، كما يفترِض المُسلِم إنبثاثها عن روح الشريعة الخاتمة، ينظرُ إليها كقانونٍ إلهي يجب مراعاته والحكم على أساسه، الأمر الذي يتصادَم مع المُواطَنة لأسباب أقلُّها ثلاثة:
الأوَّل: إنَّ مراعاة القانون الإسلاميّ يفترض قضاة مسلمون، فلا يحقُّ لغيرهم
________________________________________
(86)ـ الخوئي، السيد أبو القاسم، منهاج الصالحين، ط28، ج1، قم، مُهر، 1410 هـ، ص388.
(87)ـ الموسوي، روح الله، تحرير الوسيلة، م.س، ج1، ص486.

[الصفحة - 120]


ممارسة هذه المهنة، ما يخلُّ بمبدأ المساواة في العمل بين أعضاء المجتمع الذي تفرضه المُواطَنة.
الثاني: وجوب تطبيق الحكم الإسلاميّ يُلزم بقيام حكم إسلاميّ على أساسه أي دولة إسلاميِّة، ما يجعل من العقد الإجتماعي المُفترَض بين مؤسّسي الوطن ـ بالمعنى الحديث ـ عُرضةً للتآكُل. ويجدر بالمُسلِم أن يفكِّر بقيام حكم إسلاميّ، وإن كان تطبيقُه منوطاً بموافقة بقيَّة أعضاء المجتمع، ما يؤدِّي إلى شلل آخر في مفهوم المُواطَنة الجديد.
الثالث: القانون الإسلاميّ يتعارض ومبدأ «وحدة القانون» بين أفراد الشعب؛ وذلك لأنّه وفي موارد عديدة يُفرِّق ما بين المُسلِم وغيره، والذي منها:
1 ـ في الإرث، حيث لا يرثُ الذِّمي (الذي كان لـه عقد ذِمَّة مع المُسلِم) من المُسلِم، ويُحرَم من ذلك (88).
2 ـ الشهادة، حيث لا تُقبَل شهادة غير المُسلِم على المُسلِم مُطلقاً، وتُقبل في دينه إذا لم يكن هناك شهود من المُسلِمين (89).
3 ـ لو أتلفَ الذِّمي الخمر أو الخنزير لصاحبهما المُسلِم لا يَضمن قيمتها، أمَّا لو أتلف المُسلِم الخمر أو الخنزير للذميّ فعليه أن يدفع لـه قيمتها (90).
4 ـ إذا باع المُسلِم أرضاً للذميّ كان عليه دفعُ خُمسِها (خُمس ثمنها) (91)، أمَّا لو باع الذِّمي للمُسلِم أرضه فليس عليه شيء.
يُمكن أن نستخلِص أنَّ الفقهَ التقليديّ يتعارَض مع مفهوم المُواطَنة الحديث كونه يفترض حُكماً إسلاميّاً. ولكن يجب الإشارة إلى أنَّ بعض فقهاء المذهب الجعفريّ تخطَّوا كثيراً من عوائق الفقه المُحيطة بالمواطَنة، خاصّة مسألة المُشاركة السياسيّة لغير المسلمين. نقرأ ذلك بدون لَبسٍ في خطاب مرجع الشيعة في مطلع القرن العشرين «الميرزا النائينيّ» الذي يُوضِح بأنَّ «عضويَّة المجلس(الشورى) لا تقتصر على المسلمين، بل لا بُدَّ أن تتمثّل الأقليّات غير المُسلِمة في المجلِس، ولا بُدَّ أن
________________________________________
(88)ـ الموسوي، روح الله، تحرير الوسيلة، م.س، ج2، ص366.
(89)ـ م.ن.، ج2، ص441.
(90)ـ م.ن.، ج2، ص604.
(91)ـ الخوئي، السيد أبو القاسم، منهاج الصالحين، م.س، ج1، ص328.

[الصفحة - 121]


تُشارِك في الانتخابات، لأنَّ أتباعها شركاء في الوطن، وشركاء في أموال الدولة... » .ويمكن الالتفات إلى أنَّ تجربةَ الجمهوريّة الإسلاميِّة في إيران قد أعطت هذا الفقه بُعداً عمليَّاً، وحاولت قانونيِّاً أن تجعلَ الفقهَ يتعايش ـ ولو بالحدِّ الأدنى ـ مع مفهوم المُواطَنة الحديث. وسيأتي ذكر ذلك في مورده.
الرابع : خصائص المواطنة وعناصرها
تعني المُواطَنة ـ إضافةً للجنسيّة والانتماء ـ إمكانيَّة تدَّخُل المُواطَنة في اقتراح وصياغة القرار، وفي تدبير وتسيير كُلٍّ من الشأنين المحلِّي والعام، كما في تقاسُم السلطة وتداولِها والرقابةِ عليها. فهي ليسَت مُجرَّد صِفة لوضعيَّة تُطلِق فيها النصوص القانونيّة لدولة ما تَسَّمِية مواطنين على أفراد يحملون جنسِّيتها. إنَّها فوق ذلك،إنَّها عمليّة المشاركة النشيطة والعدالة لهم في مجالات الحياة المختلفة (92).
هذا التفاعُل مع المحيطِ الاجتماعيّ والمشاركة فيه، يفرِض على المواطن واجبات ويعطيه حقوقاً بالتساوي مع الشريك الآخر. لكن يمكن القول، إنَّ هذا المفهوم ومع تطوُّرِه المرحلَيّ ونموِّه التاريخيّ خرج عن البُعد المادِّي الواقعيّ، ليصبحَ بحسب روّاده مفهوماً مثالياً إنسانيَّاً يُذَكِّر بأفكار «فولتير» وروَّاد المدرسة المثالية الأوروبيَّة. فبعدَ أن كان المفهوم يشتملُ على مجموعةِ إجراءات وأحكام وقوانين وتشريعات ماديَّة، أصبحَ يُحاكي نفسيَّة المواطن الذي يجب أن ينمو وينشأ على فكرة المُواطَنة. فقد خلعت هذه الفكرة أحاديّة الانتساب الجغرافي فقط ليُنتَسب إليها ثقافياً أيضاً، وتكون هويَّة المواطنين. وقد طُرِحت فكرة التربية على المُواطَنة جدّياً، حيث تُعرَّف بأنَّها التربية التي تُساعِد في بناء المُواطِن، وهي حصيلةُ النشاط التربويّ لدى الطالب للمساعدة في تكوين شخصِّيته كعنصرٍ فاعلٍ في الوطن الذي يعيش فيه وينتمي إليه. كما يرى «برسلين» و«موريس» أنَّ تربيةَ المُواطَنة هي أكثر من مادَّة دراسية، ولذلك فتفكيرُنا فيها يجب أن يكون في عِدّة اتّجاهات منها تربية المُواطَنة كمادَّة دراسية وكنشاط، كخُلُق» (93).
________________________________________
(92)ـ صوليح، المصطفى، المُواطَنة والسيادة، موقع اللجنة العربية لحقوق الإنسانwww.achr.nu ، تاريخ 25ـ6ـ2007
(93)ـ المعموري، سيف، الوطنية والمُواطَنة، موقع اللجنة العربية لحقوق الإنسان موقعwww.achr.nu ، تاريخ 25/6/2007

[الصفحة - 122]


إنّ طرحَ ثقافةِ المُواطَنة كان لأسباب مختلفة، أهَّمُها هو أنَّ الإقتِصارَ على البُعد القانونيّ والسياسيّ للمُواطَنة خلَّفَ أزمةً في الغرب، حيث وفدَ المهاجرون يحملون هويَّاتِهم وانتماءاتِهم المختلفة، وحصلُوا على المُواطَنة الإجرائية «الجنسيَّة»، وبعد فترةٍ من عيشهم لم يندمِجوا في المجتمع «الذي تأسَّست فكرة المُواطَنة فيه»، وبقيَت ثقافتهم وهويّتهم خاصّة بهم، الأمرُ الذي خلَّف تناقضات وجُزر مجتمعيّة تطفو في ذلك المجتمع، ما فرض على الغيورين على تلك الفكرة أن يُفكِّروا فيها كثقافة وانتماء للحدِّ من خطر الثقافات الوافدة، فتراجعت المواطنيَّة عن كونِها عمليّة قانونيّة فقط، وأضحَت أيضاً ما تُسَّميه «أيهوه أنغ» : «صيرورة ثقافيّة لصناعة المُواطَنة» (94).
يُحدِّد الفكر الفرنسيّ خصائص المُواطَنة بنقاط تُشير لشخصيّة المواطِن:
1ـ ينتمي إلى وطنٍ، أي إلى قطعة من الجغرافيا آهلة بُسكّان وتحكمها دوله قويّة.
2ـ يخضعُ لحكمٍ مركزيٍ يُسجِّل ويحمي كلَّ التابعين له.
3 ـ يتمَّتع بجُملَةٍ من الحقوق السياسيّة، منها المساواة والحريّة التي تُمكِّنه من المشاركة في تسيير الشأن العام.
4ـ له حقُّ الملكية على ما إستطاع إليه بوسائل شريفة.
ويمكن تلخيص بعض واجبات الفرد وحقوقه وفقاً للمُواطَنة بـ :
أوّلاً : حقوق المواطن
والحقوق هي أكثر ما ركَّزَ عليها روَّاد المُواطَنة، حيث نجد ذلك على مستويات متعدِّدة منها:
الأوَّل: على المستوى الاقتصادِيّ: للمواطن الحقّ في التجارة والعمل والبيع والشراء، وله حقُّ الملكيَّة مُطلَقاً بلا قيود، ولا حدَّ لأمواله التي جناها بطريقة شرعيَّة.
وعلى الدولة السعي لإنتاج فُرَص عمل للمواطنين والعمل على إلغاء حالات الفقر في المجتمع.
________________________________________
(94)ـ جوزيف، سعاد، الجندر والمواطنيّة في الشرق الأوسط، ط1، بيروت، دار النهار، 2003، ص35.

[الصفحة - 123]


الثاني:على المستوى السياسيّ: المواطن فاعِل في الحياة السياسيّة، له حقُّ الانتخاب والترشيح والاعتراض والتظاهُر، وله المشاركةُ في الأحزاب السياسيّة والجمعيَّات والنوادي. ولا يجوز محاكمته على رأيه السياسيّ، تستمِدُّ السلطة شرعيتها منه، وهذا هو الوجه الديمقراطيّ للمُواطَنة. والدولة ضامنة للأمن الجماعيّ، ما يعني أن أيَّ خللٍ يُصيبُ الأمان الداخلي ويهدّده يطعن في حقِّ المُواطَنة.
الثالث: على المستوى القانونيّ: القانون المدنيّ والأحوال الشخصيَّة لا تُفرِّق بين المواطنين، لا في الجنس ولا في الدِّين ولا في الأصل، والجميع مُتساوون أمام القضاء الذي يقوده سلكٌ مدني.
ثانياً: واجبات المواطن :
الأوّل: الرابطة العُليا التي تربط الأفراد هي عضويَّة كلٍّ منهم في الوطن، فخطُّ الإنتماء العريض هو للوطن من خلال عدمِ تقديم أي انتماءٍ عليه مهما تزاحمت الهويَّات.
الثاني: الشراكة في الوطن تعني احترام آراء الآخرين مهما تعارضَت مع الهويَّة الشخصيَّة للأفراد، هذه الشراكة تعني أموراً:
1 ـ الإعتراف بحقِّ الآخر في انتخاب من يُريد ليمثِّله سياسيّاً، فيكون شريكاً حقيقيّاً في الحكم؟
2ـ الإعتراف بحقِّ الشريك في الانتماء إلى أيِّ فكرة أو دين أو مذهب أو جماعة لا تتعارض مع السلم الأهلي والانتماء الوطنيّ.
الثالث: القانون هو الشخصُ المعنويّ الذي يضمن حقوق الجميع، وأيّ عملٍ أو تنظيم مُخالِف للقانون يتعرَّض للعقاب بدون تمييز بين جماعة أو أُخرى، والدستور هو الحاكم على سلوك الحاكم والمحكوم، حيث يستمِّر المُنتخَب في مكانه طالما استمرَّ في حفظ الدستور وصيانته.
________________________________________

[الصفحة - 124]


ويمكن أخيراً اختصار مفهوم المُواطَنة بمفاهيم ثلاثة، تُعدُّ العناصر الأساسيَّة في تكوينه هي الليبراليَّة «في المجال الاقتصادي» والعلمانيَّة «في الجانب السياسيّ الاجتماعيّ» والديمقراطيَّة «على المستوى السياسي».
القسم الثالث: إشكالية المواطنة والأمّة في الفكر الإسلاميّ
أبرزَ نشوءُ الشرقِ الأوسطِ بشكلهِ الحديث وتآكُل آخر أشكال السلطنة التي كانت تُوَحِّد الدُوَل الإسلاميِّة تحت وعايتها وتحكمها في ظلَّ رعايتها، واشتهاء الأُمَم لتناول القصعة الإسلاميِّة وتقاسمها مفاهيم وإشكاليات فُرِضَت على الفكر الإسلامي بعد أن كانت في الكنف اللامُفكَّر فيه.
من هذه الإشكاليات مفهومنا ـ موضع الدراسة ـ الذي شكَّلَ هاجس المفكِّرين المُسلِمين، الذين بنَوا أفكارهم على وحدةِ الآمال والآلام بين المُسلِمين، ما اضطَّرهم إلى إعادة تشكيل آرائهم لإعادة إنتاج مفاهيمهم.
ومن هؤلاء المفكّرين من وجد في الأفكار المُستَحدثة كالعلمانيّة والليبراليّة والمُواطَنة أشجاراً تُثمِرُ في بيئتها المناسبة وأرضها الخصباء، لكنها لو زُرِعَت في غير تُربتها لأسقطت ما فيها من خُضرةٍ وثمار، وتحوَّلت شَوكاً في خاصرةِ المجتمع الجديد. على المقلَب المُقابِل، تلَّقفَ بعضُ المفكّرين المفاهيم بشراهة وإعجاب، ليعتبروا أنَّ تاريخَها موجودٌ في الإسلام بوضوح وجلاء، فلا استيحاشَ من مضمونِها الذي يَتناسب مع أرضنا بل هو في صميم تاريخنا، وسعى هؤلاء إلى تشريح التاريخ والبحث في مكنونات الأحداث السالفة واصطياد أحاديث عن السُنَّة تدُّلُ ضمنيَّاً أو صراحةً على مدلول هذه المصطلحات.
أمّا القسمُ الثالث من المُفكِّرين، فتعاملوا بواقعيَّة مع هذه المفاهيم التي فرضَت نفسها على المجتمع. فإلى جانب الاعتراف بأجنبيّة هذه الأفكار ـ في بعض مضامينها ـ عن الإسلام، يجب إيجاد معامُل الاشتراك بينها وبين الإسلام والابتعاد عن المثاليَّة في التفكير. فبناءً على أنَّ الضرورات تُبيح المحظورات، حيث لا إمكانيَّة لقيام حكم
________________________________________

[الصفحة - 125]


إسلاميّ، سواء لضعف الحاكم أو لعدم إرادة الشعوب فلا مناص من قبول هذه المفاهيم من دون إغفال ضرورة تشذيبها بما يتعايش أو يتلاءم مع الإسلام.
الأوّل : تعارض المواطنة والأمّة
يَبتني هذا الموقف على الإعتبار القائل بشمولِ الأُمَّـة للشعوب من مِلَّة الإسلام، أي الأُمَّـة بحسب الدِّين، الذي يتعارَض والمُواطَنة التي تقتضي تمزيقَ جسدِ هذه الأُمَّـة، وتحكيم غير الإسلام على المُسلِمين. فمفهوم الأُمَّـة يتعلَّق أصلاً في الإسلام بالرابطة الأخويَّة الدينيَّة بين المؤمنين، وهي رابطة طوعيِّة إختياريَّة، ينطلقُ منها مفهومُ الجماعة باعتبارها رابطة تضامنيَّة تقتضي الالتزام بالقيَم الإسلاميِّة وتُطَبِّقُها في واقعِ الحياة، بينما الرابطة الوطَنِّية هي رابطةٌ تعاقُديّة ليس لها محتوىً سابق على التعاقد نفسه، وهي وإن كانت طوعيَّة نظريَّاً إلا أنَّها أصبحت إجباريَّة، حيث يولدُ الفردُ مُرتبِطاً بهويَّة وطنيَّة معَّينة يصعبُ إستبدالها (95).
ويتركَّز العداءُ لمفهوم المُواطَنة إسلاميَّاً وعدم توافقِها مع الأُمَّـة لأمور:
أوّلاً : تمزيق المسلمين
إنَّ أُمَّةَ الإسلام لا حدودَ لها وتالياً لا وطنَ لها، إنطلاقاً من مبدأ أنَّ الأرضَ أينما كانت وكيفما امتَّدت هي أرضُ الله، والاستحقاق السياسيّ للكيان الإسلاميّ هو الأرض كلّها، فيحقُّ للدولة الإسلاميّة إخضاع جميع أراضي العالم لها (96)، والمُسلِمون يأوون إلى ديارٍ سمَّوها في أدبِّياتهم «دار الإسلام» تقابِلُها «دار الكفر»، حيثُ يجبُ أن تكونَ مِحوَراً للدعوة الإسلاميِّة وإلا أصبحت «دارُ حرب». فأينما أقامَ المُسلِمون ـ أغلبيّة كانوا أم أقلّية ـ فهم ينتمون إلى أُمَّة عقيديّة هي أُمَّة الإسلام التي لا حدود لها. فمُسلمو «اليوغور» ينتمون إلى الأُمَّـة الإسلاميِّة قبل أن ينتموا إلى وطن «الصين» (97)، وكذا مسلمو الهند وكشمير والبوسنة وألبانيا وغيرهم. وقد تشكّلت أحزاب سياسيّة ذات نظرة عقائدية، تلتزم بالإسلام هويةً وحكماً، وترفض الأوطان المختلفة. مِن أبرزها حزب التحرير الذي أسّسه تقّي الدين النبهاني، حيث يدعو إلى إعادة تشكيل الخلافة
________________________________________
(95)ـ الأفندي، عبد الوهاب، إشكالية الأُمَّـة والوطن في الفكر الإسلامي، م.س، .www.islamtoday 20/6/2007.
(96)ـ أبو زيد، أحمد، محمد باقر الصدر: السيرة والمسيرة، ط1، ج1، بيروت، دار العارف، 2007، ص27.
(97)ـ العزاوي، قيس، المُواطَنة في مجتمع متعدد القوميات، م.س.، ص124.

[الصفحة - 126]


الإسلامية، ليتعامل الأفراد معها على أساس الرابطة الدينيّة، وليس العُلقة الوطنيّة التي مزّقت أرض الخلافة وأضعفَت الحضارة الإسلاميّة.
ويمكن وبأقلِ تفحُّصٍ معرفة أنَّ المُواطَنة تضُّرُ بالوحدة السياسيّة والفكريَّة للمسلمين، فالدولةُ الإسلاميِّة التي لطالما اتَّحدت مع المجتمعِ الإسلامِّي وأُمَّة الإسلام، تواجِه تحدِّي التقسيم، وما يزيدُها وَهناً هو هذا المفهوم الذي يُحاوِل تعميق الهوَّة بين الدُوَل التي تقاسمت الأُمَّـة.
فالأُمَّـة الإسلاميِّة لها وحدةُ شعور، وهي كما يقول «سيِّد قطُب» : «جسدٌ واحد يحسُّ إحساساً واحداً، وما يُصيبُ عضواً منه يشتكي له سائر الأعضاء، وللتكافل بين المؤمنين صورة مُعَبِّرة دقيقة هي: المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضُه بعضاً» (98). وكلُّ ما يجعل المُسلِم يبتعد عن أخيه في المودّة والأهداف المشتركة هو من صنيعة أعداء الدين الذين يحاوِلون السيطرة على عقولِ المُكَلَّفين من خلال الغزوِ الثقافي والذي قوامُهُ الأفكار المستورَدة مثل المُواطَنة.
ويُوجِّه «محمّد رشيد رضا» نقداً قويّاً لفكرة الوطَنِّية، فبعد الخلل الذي اعتَوَرَ إستقلال الجسم الإسلاميّ، أصبحنا ـ كمُسلمين ـ مقلِّدِين للإفرنج حتَّى فيما نحسِب أنَّنا نهرب به من سيطرتهم، كدعوة «الوطَنِّية» التي كان الخسارُ فيها علينا والربح لغيرنا (99)، فهذه الفكرةُ والمُشتَّقُ منها وأخواتها (المُواطَنة) سبَّبت انفصال العالم الإسلاميَّ وتمزُّق المُسلِمين، فيجبُ العمل على الحدِّ من التماهي مع هذه المفاهيم.
إنَّ فكرةَ الأُمَّـة التي تفترضُ وحدةَ الجسمِ الإسلامي، والتي امتدح بها القُرآن المُسلِمين، تتزلزلُ أمام تفكُّكِ هذا الجسد الذي يتحوّل إلى أوطان متعدِّدة، وقد كان السببُ الأساس في ذلك هو تلك الأفكار الدخيلة التي أوهنت الأُمَّـة، ومنها المُواطَنة.
ثانياً : إبعاد الإسلام عن الحكم
يتذرّع أدعياء المُواطَنة أنَّ قيامَها تطلَّبَ مبدأين: الأوّل هو أرضيَّة مُواطَنة، والثاني هو أرضيَّة لفصل المُواطَنة عن عضويَّة الكنيسة أو الإيمان الدّيني... ولأنَّه لا يُمكِن
________________________________________
(98)ـ دغيم، سميح، مصطلحات الفكر العربي والإسلامي، م.س.، ج2، ص275.
(99)ـ م.ن.، ج3، ص76.

[الصفحة - 127]


تحويل حريَّة العقل إلى الغير، فمن «المستحيل منح حكومة سلطة أو حقِّ إجبار العقول على الإيمان بمعتقد لم تقتنع به (100)».
من هذا المنطلق الداعي لتحييد الدِّين برزَت مواجهة عميقة ضدّ مفهوم المُواطَنة، فالإسلاميِّون يعتبِرون أنَّ الإسلام لا يُجبِرُ أحداً على اعتناق دينٍ آخر وفقاً لقول اللّه تعالى: « لا إكراه في الدِّين»(101). وبالتالي فعِلَّة فرض المُواطَنة مُلغاة في الإسلام، فلا ضَيرَ في أن يكون هذا الدِّينُ حاكِماً باعتباره دين الدّنيا والآخرة، لا كدين الكنيسة. فالرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان إلى جانب نبُّوته حاكماً لدولة، وصحيحٌ أنَّ المسلمين في اللَّحظة الأولى لوفاته اختلفوا فيما بينهم حول الدولة، لكنَّهم لم يختلفوا حول ضرورة وجودِها، بل حول كيفيَّّة وجودِها وأسلوب عملها وحول من يتولَّى الخلافة عليها، وقد كانت في مختلف التاريخ العربيّ الإسلاميّ محوَر نشاط المجتمع والضامن الأساس لبقائه واستمراره (102)، لذا فلا مكان للمُواطَنة في المجتمع الإسلاميّ، وإذا أُريد تطبيقها فعليها التماهي والتلاؤم مع فكر الإسلام، فيكون هناك مُواطَنة إسلاميَّة.
هذا ما أكَّد عليه «سيِِّد قطب» الذي عرَّف الوطن بأنّه : « دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من اللّه» . هذا هو معنى الوطن اللائق بالإنسان برأي مفكِّر الأخوان المسلمين. وفي نصٍّ نادرٍ له تعليقاً على المُواطَنة، يُناقش فيه (103)إشكاليَّة الإسلام العقائديَّ الذي تنبثقُ منه شريعة يقوم عليها نظام من جهة ووجود أقليّات لا تؤمن بالإسلام من جهةٍ أُخرى. فيشيرُ إلى أنَّ الإسلام يضمن للجميع حريَّة الاعتقاد والعبادة.
وحتَّى لو كانت التشريعات مُستمَدَّة من الإسلام، فالأحوالُ الشخصيَّة خارجة عنها تخصُّصاً، فما الذي يُضير أيَّة أقليَّة في أنْ يكون التشريع المدنيّ والجنائيّ والتجاريّ مُستمدّاً من الشريعة (104)؟ فالإسلام هو الحلّ والعقد والأمر والنهي والحكم والسلطة، به تتآلف القلوب ويشعُر الجميع برابطة الأخوّة التي هي أوثَق من المُواطَنة وأكثر لُحمةً منها.
________________________________________
(100)ـ كيسلر، تشارلز، السلوك الحضاري والمُواطَنة، م.س.، ص91.
(101)ـ القُرآن الكريم، سورة البقرة، آية 256.
(102)ـ شلق، الفضل، الأُمَّـة والدولة، ط1، بيروت، دار المنتخب العربي، 1993، ص14 .
(103)ـ السيِّد، رضوان، الإسلام المعاصر والليبرالية، مجلَّة قضايا إسلاميّة معاصرة، عدد24.
(104)ـ قطب، سيد، المواطنة والدولة الدينية، موقع الإخوان المسلمين في مصر: www.ikhwan.net، تـ 12/5/2007.

[الصفحة - 128]


وقد شكَّكَ الإحيائيِّون المسلمون في مصر بمبدأ المُواطَنة الذي يفترض مساواة المسلم بغيره بسبب مناقضة ذلك للقرآن والسنَّة. لكن منذ الثمانينات بدأ الإسلامّيون المصريّون يُراجِعون مسألة المُواطَنة، فقالوا إنَّها تحقَّقت بعقدٍ جديدٍ في مصر من خلال الجماعة الوطَنِّية الناشئة نتيجة اشتراك الأقباط مع المسلمين في الكفاح ضدّ الاستعمار، ومع ذلك ظلَّ هناك من يُشكِّك في هذا الأمر مثل زعيم الإخوان المسلمين «حامد أبو النصر» الذي قال عام 1997 أنَّه لا يرى أن يُشارِك الأقباط في الجيش.
إشكاليَّة المُواطَنة هذه ـ إبعاد الإسلام عن الحكم ـ انتَقلت إلى الجانب الشيعيّ بشكلٍ خافِت في مطلع القرن العشرين مع عدم وضوح رؤية لشكل الحكم عند «السيِّد محمد حسين الشيرازي» و «الميرزا النائيني»، لكّنها صعدت إلى العلن فيما بين كلمات «الشيخ محمَّد حسين كاشف الغطاء»، وتفاقَمت بشكلٍ كبير حين أُسِّس «حزب الدعوة الإسلاميّة» من خلال كتابات «السيِّد مُحمَّد باقر الصدر» التي تُعنى بمسائل تنظيميّة داخل الدولة وعلى مستوى التخطيط «اقتصادُنا، البنك اللاربويّ في الإسلام...»، وانتقلت أخيراً من المستوى النظريّ إلى تحقيق الدولة والحكم مع ثورة «الإمام الخمينيّ» حيثُ أصبحَ الإسلامُ حاكِماً، وحُلَّت كثيرٌ من إشكاليَّات المُواطَنة، فمُنِحت المرأة حقَّ التصويت والترشُّح لمجلس الشورى إلى جانب الرجل، وأُعطيَ غيرُ المسلم الحقَّ في الانتخابِ العام.
الثاني : المُواطنة مفهوم إسلامي
إنَّ التاريخَ الإسلاميّ في زمن النَّص الذي ينضح بأحداث متعاقبة وروايات متنّوِعة وتشريعات مختلفة سهّل على كثيرٍ من المفكرين أن ينسِبوا كثيراً من المفاهيم المُستحدَثة إليه، أو أن يجدوا جذوراَ لها في تاريخه، أو أن لا يجدوا حرجاَ في ملاءمتها له، وقد عنى علم الكلام الجديد بهذه المسألة، فبحث مسائل الديمقراطيّة وحقوق المرأة وغيرها.
أمّا مفهومُ المُواطَنة فقد بَحثَ كثيرٌ من المفكرين عن جذورٍ إسلاميّةٍِ لها، فوجدوا
________________________________________

[الصفحة - 129]


ذلك في إمضاء حلف الفضول ـ الذي قام بين عشائر قريش ـ من قِبَل الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وفي وثيقة المدينة بين المسلمين بعد الهجرة ويهود المدينة، وفي صلح الحُدَيبيَّة بين أهل الإسلام وأهل الشرك من قريش. كما أنَّهم استدَّلوا له بمرويِّات عن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في حُبِّ الوطن والدفاع والزَّوْد عن أرضه مثل «حُبُّ الوطن من الإيمان (105)».
كما حاولوا التركيز على عناوين المُواطَنة العريضة، حيث ترتكز المُواطَنة على مجموعة قِيَم كالعدل والمساواة والعدالة والحريَّة، وهي قِيَم تُشَكِّل رًُكناً حيويَّاً في الإسلام فضلاً عن قِيَم التسامُح والتراحُم والتعاون حيث يقولُ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): « كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته (106)، ويقول اللّه في القُرآن الكريم: «وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (107)».
ويحاول «علاّل الفاسي» أن يُنقِّب عن هذا المفهوم المرادِف لمفهوم المواطنة الحديث في القاموس الإسلاميّ، فيجده في مفهوم التكليف، فالإسلام يعتبر كلَّ فردٍ مُكلَّفاً، أي مدعُّواً للقيام بواجباته تّجاه الله ونحو المجتمع ونحو نفسه ونحو الإنسانيّة جمعاء. والحقوق التي يتحصّلها إنَّما هي تتحصّل من خلال النهوض بالواجبات تلك. وعليه فإنَّ التكليف في العُرف الإسلامي يقوم مقام المواطنة في العُرف الديمقراطيّ الحديث (108).
لكن هؤلاء لم يتطّرقوا إلى مخالفة المُواطَنة للشريعة الإسلاميّة (109)، ولم يلتفتوا إلى تفاصيلِها ومحتوياتها، أو أنَّهم فعلوا ذلك لكِّنهم إمّا التزموا بالعلمانيّة كمفهومٍ لا يَتنافى مع الإسلام باعتبار أنَّ القوانين مجموعة من الأمور التنظيميّة (110)التي تتغَيَّر باختلاف الوقت والزمن أو رأوا أنَّ الشريعةَ تُساوي بين الأفراد مثلها مثل المُواطَنة.
وقد أسهبَ كثيرٌ من المفكِّرين في التحدُّث عما أسمَوه «فقه المشاركة»، أي المُواطَنة بمضامينها الإسلاميَّة حيث تقوم على :
1ـ تكافُؤ الفُرَص لكُلِّ الأجناس المنخرطِين في الإسلام، إنطلاقاً من قول الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) : « لا فضلَ لعربيٍ على أعجميٍ إلا بالتقوى».
________________________________________
(105)ـ الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، ج3، لا.م.، دار الحديث، لا.ت.، ص2566.
(106)ـ النووي، محي الدين، المجموع، ج4، بيروت، دار الفكر، ص676.
(107)ـ القُرآن الكريم، سورة المائدة، آية 106.
(108)ـ الغنّوشي، راشد، حقوق المواطنة، تونس، د.ن.، 1989، ص40 .
(109)ـ المحرر، أُسُس المُواطَنة وصوَر الإلتباس، مجلَّة الإسلام والديمقراطية، 15 أيّار 2006، عدد 10.
(110)ـ السيوطي، جلال الدين، الدر المنثور، ج6، بيروت، دار المعرفة، ص911.

[الصفحة - 130]


2ـ المساواة والاعتراف بالآخر انطلاقاً من قول الله : «إنَّ الله يأُمرُ بالعدل والإحسان (111)»...
3ـ مشاركة المُسلِم للخلفاء أو الولاة في مهمَّة إصلاح المُجتمَع وتقويم العِوَج فيه والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر استتباعاً لقول الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): «من رأى منكم مُنكَراً فليُغَّيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه (112)»... فإذا كانت المُواطَنة بالمفهوم الغربيّ تعني بالتحديد هذه المبادىء الثلاثة، التي تتواءم مع الخطوط العريضة للشريعة ومقاصدِها، فيكون الانتقال من «فقه المشاركة» إلى تبَّني «المُواطَنة» سَهلاً وعذباً إلى حدِّ البداهة.
وينقُل «محمّد رشيد رضا» (1935م) عن أُستاذِه «جمال الدِّين الأفغاني« (1987م) أنَّه كان يرى أنَّ الوطَنِّية ـ التي هي عبارة عن تعاون جميع أهل الوطن الواحد المُختلفي الأديان على كُلِّ ما فيه عُمرانه وإصلاح حكومته ـ لا تُعارِض الدِّين الإسلامي في شيء، كما يُثبته شرعه في العدل والمساواة ويشهد له تاريخُه، وقد بَيَّن السيِّد ذلك في كتاب الإسلام والنصرانيَّة. وينقلُ رضا أنَّ الأفغاني «كان يُرشد تلاميذه ومريديه وحزبه السياسيّ إلى وجوب اتِّحاد أهل كُلِّ قطر شرقِّي إلى التعاون على الأعمال الوطَنِّية السياسيّة والعمرانيَّة، وكان حزبُهُ مؤَّلَفاً من أذكياء المِلَل المُختلِفة»(113). لذا يُعَدُّ السيِّد جمال الدِّين ـ المُتنازَع في موطنه الأصلي ـ من روَّاد الوطَنِّية الأوائل الذين سنُّوا مشروعيَّة الانتماء للوطن والدفاع عنه والعمل وفق ما تقتضيه المُواطَنة من الحقوق والواجِبات والمشاركة الفاعِلة في الحياة العامّة، كما أنَّه ومن خلال التشريع وأسلَمة فكرة المُواطَنة سمحَ لمن بعده من الإسلاميِّين مِن خَوض غمار هذه التجرُبة المُستَحدَثة في الفكر الإسلامي.
والظاهر أنَّ تعرُّفَ الإصلاحيين المسلمين على الوطن الحديث كان من بابِ النموذجِ الأوروبي للدولة الوطَنِّية الحديثة، ومن خلال سياق سياسيّ هو الضغط الأجنبي والاحتلال والإدارة الاستعماريَّة، أي من خلال معاينة نموذجها السياسيّ في
________________________________________
(111)ـ القُرآن الكريم، سورة النحل،آية 267.
(112)ـ السيوطي، جلال الدين، الجامع الصغير، ط1، ج2، بيروت،دار الفكر، ص602.
(113)ـ العجم، رفيق، مصطلحات الفكر العربي والإسلامي، ج2، م.س.، ص1131.

[الصفحة - 131]


البلدان الإسلامية الواقعة تحت قبضة الاستعمار أو من خلال معاينة أوروبا في موطنها بالرحلات والبعثات والأسفار إليها (114).
ويبدو أنَّ الإعجاب بمفهوم المُواطَنة الذي تفرضه الدولة الحديثة كان بسبب عنصرٍ أساسٍ فيه هو خصيّصة العدل، حيث يعزو «خير الدِّين التونسي» وصول ممالك أوروبا تلك الغايات والتقدُّم في العلوم والصناعات إلى التنظيمات المؤسَّسة على العدل السياسيّ. هذا العدل يتجلَّى في القانون الذي ينتظِم به أمرُ السياسة والدولة وفي هذا القانون ـ المُدَّون في كتاب هو مرجع الدولة وقاعدتها في إجراء الأحكام الذي هو الدستورـ أمُور لا يُنكِر ذوو العقول أنَّها من باب العدل.
وإذ يُدخِل «رفاعة» قانون الدولة المؤسَّس على مفهوم المُواطَنة من باب العدل، يستدرِك إلى أنَّ غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله، ويريد بذلك التفريعات والتفاصيل في القانون، لكنَّه لا ينفي أنَّ أمره قام على مقتضى العقل الذي لا يُعارِض مقتضى الشرع، بينما لا يتردّد «خير الدِّين التونسي» في التقرير بأنَّ الشريعة لا تُنافي تأسيس التنظيمات السياسيّة المقوِّية لأسباب التمدُّن ونمو العمران (115).ويجدر ذكر أنَّ باب العدل من الأبواب المُختَلَف عليها بين المذاهب الإسلاميّة، حيث تذهب الشيعة والمُعتزلة إلى أنَّه من باب أصول الدِّين، بينما يُقرِّر الأشاعرة أنَّه من فروع الدِّين.
ولقد كان للعدل أهميَّة كبيرة في فكر العلماء من المذهبين، خاصَّةً في مسألة نقد الاستبداد، ويدُّل على ذلك ما كتبه «عبد الرحمن الكواكبي» في كتابه «طبائع الإستبداد» و«الميرزا النائيني» في «تنبيه الأُمَّـة»، ما دفع كثيراً منهم لتبّني المُواطَنة كأقصرِ طريقٍ للتخلُّص من الظلم واللجوء إلى العدل، حيث رأوا في القانون المدني تفاصيل وضعيّة لخطوط شرعيَّة عالية مُستمَّدة من الله.
رغمَ الكثير من هذه التأييدات للمفهومِ المذكور، بما اشتملت من بحثٍ عن أسُسِه في أغوار الشريعة أو تنقيب عن مفرداته ومردافاته في أكنافِ السُنّة والسيرة،
________________________________________
(114)ـ بلقزيز، عبد الإله، الدولة في الفكر الإسلامي المُعاصِر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ص25 .
(115)ـ بلقزيز، عبد الإله، الدولة في الفكر الإسلامي المُعاصِر، م.س.، ص36.

[الصفحة - 132]


يبقى تساؤلٌ يُستثار في وسط هذا الصخب، قد تُغني الإجابةَ عنه إشكاليَّة البحث. وهو أنَّه لو تعارض التعلُّقُ بالوطن والتمسُّك به مع الإلتزام بالدِّين والإنتماء إليه فمن هو المُقدّم؟ وبحبل من يلتزم المكلّف والمواطن؟ هذا السؤال يُفيضُ علينا إجابة قد تكون شافيةً وافيةً عن موقف الإسلام من المواطنة التي تجعل من الإنتماء للوطن أولوية ً يجب أن لا يتقدّمُ عليها إنتماء وأساساً طليعيَّاً يتفرعُ غنه كلُّ انتساب.
يُجيب «القرضاويّ» عن هذا السؤال مُستذكِراً مقاصد الشريعة التي رتّبها الله مراتب، أوّلها الدِّين ثمَّ النفس، ويليها النسل ويتَّبعها العقل والمال، فالإنسان يُضّحي بأي شيء لأجل دينه حتَّى لو كان الوطن هو الأضحية، فالرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وصحابته كانوا يُحبّون مكّة حتّى قال(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) : «والله إنَّكِ لأحبُّ بلاد الله إلى الله وأحبُّ بلاد الله إلَي (116)». ولكن عندما اصطدمَ الوطن والدِّين ضحّى بالوطن من أجل الدِّين، وقد قال الله تعالى: « قُل إن كانَ آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانكُم وأزواجُكُم وعشيرتكُم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشَون كسادها ومساكن تردونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره(117)»، فلو كانت كلُّ هذه الأشياء ومنها الوطن ـ ومساكن ترضونها ـ في مقابل الدِّين قُدِّم هو وتراجعت وتخلَّفت هي عنه.
كما يؤكِّد «السيِّد مُحمَّد باقر الصدر» أنّ أسّ انتماء الراعي والرعيّة هو للإسلام، الذي يمثل المبدأ الكامل، فيتكوَّن من عقيدة «لمعرفة الخالق..» وشريعة «القوانين والأنظمة..» في الكون، ينبثق عنها نظام اجتماعيّ شالٍ لأوجه الحياة (118). ولا يمكن لأي نظامٍ أن يحكم بدلاً عن الإسلام، كما أنّ المسلم لا ينتسب إلى نظام لا يتأسَّس وفقاً للإسلام، وإلا وجب أن تكون دعوته للإسلام تغييريّة إنقلابية لأنّه المبدأ والارتكاز الذي يعيش فيه الفرد وينتسب إليه (119).
________________________________________
(116)ـ مُقابلة مع ش يوسف القرضاوي، الشريعة والحياة، قناة الجزيرة الفضائية، www.aljazeera.net، الثلاثاء 23/10/2006.
(117)ـ القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 24.
(118)ـ أبو زيد، أحمد، محمد باقر الصدر: السيرة والمسيرة، م.س.، ص267 .
(119)ـ م.ن.، ص260 .

[الصفحة - 133]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف