البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

جدليَّة العلاقة بين الدِّين والأخلاق

الباحث :  د.محمد لغنهاوزن و الشيخ عابدي شاهرودي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  30
السنة :  السنة الثامنة صيف 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 23 / 2015
عدد زيارات البحث :  2084

جدليَّة العلاقة بين الدِّين والأخلاق

وجهة نظر حواريَّة بين لغنهاوزن وعابدي شاهرودي (*) (1)

ما الذي تقصده بمُصْطَلحي «الدِّين» و «الأخلاق»؟ ثمَّ انطلاقاً من هذا المعنى الذي تقصده لـ «الدِّين» و «الأخلاق»، كيف ترى التأثيرات الإيجابيَّة، أو السلبيَّة، التي يتركها هذا المعنى على الدِّين، في صلته بالأخلاق، وعلى الأخلاق في صلتها بالدِّين؟
تعريفات للدِّين والأخلاق (1)
لغنهاوزن:
من المعروف أنَّ هناك صعوبة تكتنف وضع تعريف محدّد لمفردة الدِّين: Religion ، وثمَّة اختلافات، بين العلماء والباحثين، في شأن الجذر اللغوي لهذه المفردة في اللغة اللاتينية متمثّلًا بـ «Religio» . فمنذ القدم، والاختلافات بادية في الرؤى التي قدّمها العلماء والباحثون إلى اشتقاق هذه المفردة، ولا تزال الساحة تخلو من وجود وجهة نظر موحّدة تنتظم الرؤية وتضبطها على هذا الصعيد. بيد أنَّ هذه التقلّبات لم تمنع، على ما يبدو، من أن يكتسب المصطلح معنىً أساسياً في اللغة اللاتينية مفاده تعاطي الأمور العبادية والتوفّر على ميل في إنجاز المراسم العبادية، وذلك في مقابل الغفلة (2).
في السياق نفسه يلحظ أن عدداً كبيراً من الدَّارسين اللاتينيين والكتّاب المتأخّرين، حملوا معنى هذه المفردة على «ربط الذات» ووصل النفس بالله، أو
________________________________________
(*) لغنهاوزن و عابدي شهرودي مفکِّران إيرانيان. ترجمة:أ . خالد توفيق
(1)أضاف المترجم بعض العناوين الفرعيَّة لهذا الحوار.
(2)ينظر: Wilfred Cantwell Smith, The Meaning and end of Religion, San Francisco: Harper & Row, 1978, PP.204 - 205.

[الصفحة - 226]


الآلهة، من خلال الدِّين. وعلى الرُّغم من أنَّ هذا النَّمط في تحديد الجذر وتوصيف معناه، على هذا النحو، قد أضحى موضعاً لشك العلماء حاضراً، إلا أنّه ترك في لحظة طرحه تأثيرات كبيرة في إضافة مفهوم: Religion وفهمه في الغرب.
عندما نسلّط الضَّوء على مفردة «الدِّين»، في اللُّغة العربية، نرى شيئاً من الاختلاف في شأن تحديد مرتكزها ومعرفة الجذر الذي تعود إليه. فقد كانت تُستعمل في صدر الإسلام بمعنى التسليم إزاء الشريعة والقائد (النبي)؛ وذلك في مقابل الجهل الذي يعني البداوة والتوحّش والانفلات وغياب النظم. كما كانت هذه المفردة تستعمل أحياناً في مقابل الدنيا، للدلالة على معاني الاستغراق بالحياة والأمن والراحة. من هذا المنظور ارتبط الدين بالجهاد المثابر الشجاع، في ظلّ المناخات الصعبة التي كانت تواجهها الأهداف السامية للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) (3).
أمّا المفردة العربية «الأخلاق» فهي جمع «خُلق»، بمعنى خصائص الإنسان الفرد. على أنَّ هناك صلة لهذه المفردة بـ «الخَلق»، ترجع إلى أنَّ الخصائص الشخصية للإنسان ناشئة من طبيعة خَلقه وكيفية تكوينه. وفي النِّطاق المعاصر، يلحظ أنَّ مفردة «الأخلاق» تعادل حاضراً المصطلح الإنكليزي: Ethics . بيد أنَّ مفردة: Ethics محفوفة بالغموض، بحكم استعمالها في مجالين متجاورين، إذ تُستخدم في جزء من الفلسفة يبحث في نطاق دراسة القيم وتأمّل الفضائل والمعايير ذات الصلة بهذا النطاق، كما تُستخدم أيضاً للدلالة على القيم والفضائل نفسها والمعايير ذات الصلة بها. ما يبعث على الرضا، أنَّ هذا الالتباس لا مجال له باللغة الفارسية عبر التمييز الذي أقامته هذه اللغة بين الأخلاق وفلسفة الأخلاق، وما ترتّب عليه من اتّضاح الفارق في معنى المفردة بين هذين المجالَين الاستعماليَّين. وما يعنينا التركيز عليه في الأسئلة التي يُثيرها الحوار هو الأخلاق، وإن كنّا مضطرّين للبحث في فلسفة الأخلاق أيضاً.
من وجهة نظر علماء المسلمين، في القرون الوسطى، يُطلق «علم الأخلاق»، في الغالب، على الاختصاص المستمد من «المباحث ذات الصلة بالفضيلة والرذيلة والتصنيفات التابعة لهما، المأخوذة بدورها من آراء أرسطو في كتاب: الأخلاق إلى نيقوماخوس». لكنّ بحثنا هنا ينطلق إلى آفاق أرحب، لأنَّ رقعته تمتدّ لتشمل،
________________________________________
(3)ينظر: M.M. Bravmann, The Spiritual Background of Early Islam, Leiden: Brill, 1972, PP. 34 - 36.¬

[الصفحة - 227]


إضافةً إلى الفضيلة والرذيلة، المعايير والأوامر، والقيم والغايات الأخلاقية أيضاً. وما يلحظ، في هذا الشأن، أنَّ المجال الاستعمالي للأخلاق في اللغة الفارسية المعاصرة يضمّ في مداه هذه المباحث أيضاً، وإن كانت بعض النصوص تركّز على مفهوم أضيق.
بتفحّص الجذرين المعرفيَّين لمصطلَحي الأخلاق والدين، يتَّضح عدد من النُّقاط على صعيد الصلة بينهما، منها: التسليم في مقابل الشريعة والنبي، وأنَّ الشجاعة في المشاركة في الجهاد والجرأة في ممارسته بعد التسليم، تستلزمان التوفّر على الفضيلة الأخلاقية. إنَّ الدِّين بحاجة إلى الأخلاق، والقيم الأخلاقية التي كانت سائدة في الجاهلية كانت على نحو بحيث كان الناس يدركون بالأخلاق التي يتخلّقون بها في ذلك العصر، بأنَّ الإيمان بالدين ينطوي بذاته على فضيلة أخلاقية، وإن كانت المقتضيات الأخلاقية للإسلام تفوق الأخلاق أو الرؤى الأخلاقية لعصر الجاهلية.
العلاقة المتفاعلة
يعدّ الالتفات إلى هذه النقاط مقدّمة جيّدة للولوج إلى بحث الصلة الشائكة المعقّدة القائمة بين الدِّين والأخلاق. فمن جهة، يبدو أنَّ الأديان كافة لها تعاليم أخلاقية، إذ هي تبادر إلى تعريف المنتمين لها بما هو صحيح وما هو خاطى، وتنهض ببيان المثل الأخلاقية وتحديد القدوة الصالحة لهم، وترشدهم إلى ما ينبغي أن يمثّل قيمهم وإلى ما يعارض هذه القيم ويخرج عن دائرتها. من جهة أخرى، لا تملأ التعاليم الأخلاقية للدين الفراغات الأخلاقية للمجتمع، وإنّما هي تخاطب الوجدان الأخلاقي لمخاطبيها. على هذا الضوء، يمكن القول: إنَّ الدين يمارس مهمّة مزدوجة، فهو من جهةٍ يعترف بالأخلاق ويمنحها الاعتبار إلى حدّ ما، كما يقوم من جهة أخرى بإصلاحها إلى حدّ ما أيضاً.
يمكن العثور، في ثنايا الآيات القرآنية الكريمة، على أمثلة كثيرة لهاتين الخصيصتين، فالقرآن الكريم يحثّ الناس على الأمر بالمعروف، وذلك انطلاقاً من تلك الأمور التي ينظر إليها العُرف بعنوان أنّها خير. كما أنَّ الدين يأمرنا بوجوب الاحتراز من بعض الممارسات، كما في نهيه عن تناول المشروبات المسكرة، يفعل
________________________________________

[الصفحة - 228]


الدين ذلك في الوقت الذي لا يتوافر فيه الوجدان الأخلاقي على حكم واضح وعام يلتزم به في هذه المواضع.
يعبّر هذا النَّحو من الارتباط عن اعتراف جزئي، وعن إصلاح لخصوصية علاقة الدين بعدد كبير من الحقول المختلفة. ثمَّ عن ارتباط جدلي مشابه بين الدين والسياسة، كما بين الدين والاقتصاد، وبين الدين والتاريخ، والدين وعلم الأجناس وغير ذلك من المجالات. على أنَّ المسألة لا تقتصر على علاقة الدين بالأخلاق، بل تمتدّ إلى العقل أيضاً، الذي له الصلة الجدلية نفسها بالدِّين، بمعنى أنَّ الدين يقرّ بالعقل ويعترف به إلى حدّ، كما ينهض في الوقت نفسه بمهمّة إصلاحه. إنَّ الدِّين يقرّ بوجداننا الأخلاقي وعقلنا ويعترف بهما، ويسعى في الوقت نفسه إلى إصلاحهما.
على أثر هذا الارتباط المزدوج، ذي الطَّرفين، بين الدين والأخلاق، ينبثق في الإنسان المؤمن مسار متدفّق. فالدين يدعو الإنسان المؤمن إلى ممارسة الفكر النقدي حيال رؤاه الأخلاقية وتصوّراته على هذا الصعيد. من المعروف أنَّ رؤانا الأخلاقية تخضع بشكل واسع إلى مؤثّرات الهوية وطبيعة صلاتنا مع الآخرين في المجتمع، ومن ثمَّ يكتسب تأثير الدِّين على الأخلاق أبعاداً متعدّدة. مردّ ذلك أنَّ الدِّين، بالإضافة إلى دوره في إصلاح فكرنا الأخلاقي، ينهض بدور آخر، أيضاً، يتمثّل في الإقرار بهويتنا ومجتمعنا والمبادرة إلى إصلاحهما كذلك.
المصادرة، أو المسلّمة الثابتة، التي ينطلق منها الدين، هي أننا نعرف أنفسنا بقدرٍ ما، وأنّنا عارفون باحتياجاتنا وما ننشده من آمال بالقدر نفسه. ويسعى الدِّين، من جهته، إلى تعميق هذا الفهم وإصلاحه عبر المقولة التي تفيد بأنَّ للإنسان عهداً إلهياً: {وَاءِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، مِنْ ظُهُورِهِمْ، ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأشْهَدَهُمْ عَلَى اءَنْفُسِهِمْ: ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قالُوا: بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف/172].
إضافةً إلى ما سلف، يهب الدِّين الإنسان الأسوة والأنموذج والقدوة بوساطة الإنسان الكامل، الذي يبرز مصداقه بالنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وبالأئمّة المعصومين (عليهم السلام). وبذلك نحظى من خلال الانتفاع من الثقلين، متمثّلين بالقرآن الكريم والعترة الطاهرة (عليها السلام)؛ نحظى بمعرفةٍ بالإنسان بوصفه أحد مصادر الرؤية الأخلاقية في الإسلام.
________________________________________

[الصفحة - 229]


المصادرة، أو المسلّمة الثابتة، الأخرى التي يصدر عنها الدين، هي أنَّ بمقدورنا أن ننهض بتنظيم أمورنا في المجتمع بقدرٍ ما. وهنا، أيضاً، يؤيّد القرآن الكريم وأهل بيت النبي (صلوات الله عليه وعليهم)، فهمنا الاجتماعي إلى حدّ معيّن، كما يقومان بإصلاحه بقدر معيّن أيضاً. الحقيقة هي أنّه ينبغي لمجتمعنا ألَّا يتأسّس بدافع الحاجة إلى المنافع المادية للحياة الاجتماعية، ويجب ألَّا يكتسب قوامه عن هذا السبيل، إنّما ينبغي لنا أن نبادر إلى إيجاد أمّة يرتبط أفرادها مع إخوتهم في الإيمان بباعث تحقيق مرضاة الله.
بغية فهم العلاقة المتبادلة بين الأخلاق والدين، من المهم أن نعرف أنّه مع وجود الدِّين وحركيّته يتكوّن مسار معقّد على مستوى علم الإنسان الديني وعلم الاجتماع الديني، يتألّف من التفاعل بين الفهمين: الديني والأخلاقي. وفي شأن المجتمع، فإنَّ مفاهيمنا الأخلاقية تخضع إلى تأثيرات المجتمع، وأنَّ هذه التأثيرات لا تكتسب صيغة محدّدة ومتحيّزة بالكامل. مردّ ذلك هو أنَّ الدين يصدر أوامره بإصلاح المجتمع وإعادة بنائه لكي يتطابق مع الشَّريعة الإلهية.
الدَّور التَّغييري
ينبغي للنِّظام الاجتماعي الدِّيني أن ينهض بمهمّة تغيير المفاهيم الأخلاقية، لمن ينشأ في المجتمعات التي تمّ إصلاحها بوساطة الدين. كما يحتّم علينا أن نوظّف هذه المفاهيم الأخلاقية التي تمّ إصلاحها ونستعملها مجدّداً في اللحظة التي نسعى فيها إلى تقريب المجتمع من المقتضيات الدينية، وعندئذ يتغيّر المجتمع ويشهد التحوّل، ويصير ذلك باعثاً إلى نقاء المفاهيم الأخلاقية وسموّها أكثر.
ما يحصل للمجتمع ينبغي أن يقع في شأن معرفة الإنسان أيضاً. فعندما نضع أنفسنا في مقابل العهد الإلهي، يتعيّن أن يطرأ على مفاهيمنا الأخلاقية تغيير مماثل، ومن خلال تكامل مفاهيمنا الأخلاقية، ندرك مقتضيات هذا العهد الإلهي أفضل، وهكذا يقودنا هذا المسار صوب المزيد من النموّ والسموّ والازدهار، وهو يتحرّك على خط تكاملي لا نهائي.
________________________________________

[الصفحة - 230]


تقرأ أغلبية الأفراد القرآن الكريم كلّ يوم، ومَن يقرأ القرآن يكتشف على الدوام نقاطاً ومعاني جديدة تبعث فيه الدهشة والعجب. وهذه الظَّاهرة يعيشها الإنسان حتّى لو أدمن قراءة القرآن وداوم عليها سنوات. ربّما يكمن سرّ هذه الظاهرة في طبيعة التحوّلات التي يوجدها القرآن فينا. إن هذا التحوّل ينشأ منذ لحظة التعرف على الوحي الإلهي، ومن ثمَّ عندما نقرأ القرآن مجدّداً تنكشف لنا أمور لم نكن قد حصلنا عليها في ما سبق، بمعنى أنَّ القراءة الأولى لا تهبنا معطيات القراءة المتكرّرة، وإنما تبدأ الأمور بالانكشاف على أثر التكرار وتجدّد التلاوة. هذه القاعدة تجد مصداقها أيضاً، في مختلف ضروب العبادة وأنواع الدراسات الدِّينية. فلو أدّينا العبادة على نحوٍ صحيح ينبغي أن نتغيّر، وينبغي أن يكون لهذا التحوّل أثره في طبيعة إدراكنا للعبادة، كما ينبغي لرؤيتنا عن العبادة أن تتأثر بهذا الفهم الجديد، وهذه التحوّلات جميعها ناشئة عن مقدرة العبادة على إيجاد تحوّل آخر فينا، بما في ذلك إيجاد التحوّل الأخلاقي.
إن التحوّل في المفاهيم الأخلاقية إنّما يتمّ من خلال الأعمال الدينية، لأنَّ الدين يسوقنا نحو الله. على أثر هذا التوجّه يدرك الإنسان المؤمن أن المكارم الأخلاقية جميعها هي لله، وإنّما تنسب إلى أمور ومتعلقات أخرى على نحو المجاز وحسب. ثمَّ إن الأسماء الإلهية الحسنى ناظرة إلى مكارم الأخلاق، ومن ثمَّ يمكن عدّ كسب الفضيلة أنَّه التخلّق بأخلاق الله (4).
استناداً لما ذكرناه عن التأثير المتبادل بين الفهم الأخلاقي والفهم الديني، يمكن معالجة الإشكال القديم الذي يثار بنسبة الأنبياء إلى البراهمة (5).
يذهب إشكال هؤلاء إلى القول: إذا كانت التعاليم الأخلاقية للأنبياء متطابقة مع العقل، فلا حاجة للعقل بتلك التعاليم، أمّا إذا كانت تعاليم الأنبياء متعارضة مع العقل، فينبغي رفض تلك التعاليم. إنَّنا ندرك جواب هذه المسألة في اللحظة التي ننتبه فيها إلى كيفيَّة حاجة العقل إلى التعاليم التي يتوافق معها. ففي جميع التعاليم العقليّة ذات الصلة بالعلوم العقليّة، من الضَّروري دخول عنصر التعليم والتربية لإكمال العقل وإدراك ما هو متوافق معه. فالمنهج الديني، في تعليم الأخلاق والتربية
________________________________________
(4)قارن: William C, Chit tick, Imaginal Worlds, Albany: state university of New York Press, 1994, P.40.
(5)قارن: Fazlur Rahman, ٌ»Barahma», in The Edition of Encyclopedia of Islam. A version of the argument mentioned and Shahristani. is attributed to Ibn Hazm.

[الصفحة - 231]


عليها، يكتسب صيغة مراحل متتابعة في الاعتراف والتأييد الجزئي؛ ومن ثمَّ فهو يعمد، عن هذا السبيل، إلى إصلاح ما سبق وأشرنا إليه.
في ظلّ التأثير المعقَّد لبُعدي الفكر الديني والفكر الأخلاقي، تأثير أحدهما في الآخر، يمكن إزالة الغموض عن التباس آخر في نطاق استعمال مفردة الأخلاق. إذ ينبغي أن نميّز بين نطاقين استعماليين: أحدهما يدور في فلك الإنسان الكامل والآخر يتحرّك في الأفراد والثقافات العادية. ففي المجال الأوَّل، ينبغي استخدام هذه المفردة للدلالة على القيم والمعايير والفضائل الناشئة في نهاية الأمر من ارتباط ثنائي مع الدين، وحينئذ يُقصد بالمفردة الأخلاق المثالية التي تختصّ بالإنسان الكامل. أمّا، في المجال الثاني، فنستخدم الأخلاق للدلالة على القيم والمعايير والفضائل التي تقع لإنسان معيّن أو ثقافة ما على نحو المصادفة.
يكتسب هذا التمييز في المعنى أهمّيته، في الإجابة عن بعض الأسئلة الأخرى التي يتضمّنها هذا الحوار.
عابدي شاهرودي:
أقول في الجواب: إذا لم تكن ماهيّة الشيء وطبيعته مندرجتين في الجهاز المعرفيّ للإنسان، ينبغي للسؤال أن ينصرف إلى معنى هذا الشيء ومحتواه والمقصود منه، بدلًا من تعريفه.
على أنَّ ما نجهله من أمور، أو نلمّ به إلماماً معرفياً ضئيلًا وحسب، ليس قليلًا. فهناك في الدائرة الاستقرائية أو التجربية أمور كثيرة إمّا أننا نجهل مضمونها ومعناها بالكامل، أو أنَّنا لا نعرف عنها إلا شيئاً ضئيلًا، كما هي الحال في الضوء، والذرّة الحقيقية، والموج الذرّي والسرعة ما بعد الضوئية وهكذا.
هذه الموارد ليست قليلة، في مضمار الفلسفة أيضاً، فمن وجهة نظر ابن سينا، نحن نجهل معنى ماهيّة الفصول الحقيقية للأشياء، أو لا نملك إلا اطلاعاً ضئيلًا عليها، بل نحن نجهل أيّ ماهيّة تدخل أفق المعرفة عن طريق الاكتساب والاستدلال، ولا نعرف عن معناها شيئاً قبل الاكتساب، أو أنَّ ما نعرفه عنها هو شيء قليل. فمعنى الوجود والوجوب، مثلًا، وإن كان ليس معلوماً بمعناه الحقيقي
________________________________________

[الصفحة - 232]


العميق، مندرج في الجهاز المعرفي على نحو المسبقات والأوّليَّات، ومن ثمَّ فقد صار بديهياً وعاماً في معناه، كما في التصديق بتحقُّقه، بحسب لغة الفلسفة الأولى.
ولو أخذنا واجب الوجود، بوصفه مبدأ الوجود وأساس وجود العالم والأخلاق، لرأينا أنَّه ضرورة من ضرورات المنظومة المعرفية بوصفه واجباً بالذات، كما أنّه ضرورة من ضرورات المنظومة على مستوى التحقُّق. ومع أنَّ كنه واجب الوجود يتخطّى دائرة الإمكان ويستعصي عليها، إلا أنَّ تعريفه والإيمان بوجوده والتصديق به يعدّ ضرورة عامّة.
هذا عن الحالة الأولى التي لا يكون فيها الشيء، أو المورد، مندرجاً في الجهاز المعرفي.
أمّا إذا كان الشيء مندرجاً في الجهاز المعرفي، فمن الحرِّي بنا، عندئذ، أن نسأل عن تعريفه، لا فرق بين أن يكون من مسبقات المعرفة وأوَّلياتها أو من المكتسبات والتاليات.
والسؤال المثار، في مدخل هذا الحوار، يدخل في عداد معطيات المعرفة، وهو من الشقّ الثاني المندرج في الجهاز المعرفي، ومن ثمّ يصحّ لنا السؤال عن عناصره ومكوّناته وعلاقاته، كما تجوز لنا دراسة ذلك كلّه وتحليله والبحث فيه. وعندئذ من الجدير بنا أن نسأل: ما هو تعريفه؟
فالأشياء التي لا تسجّل لنفسها حضوراً في أفق المعرفة قبل مرحلة السؤال، لا يمكن أن يكون هناك سؤال عن تعريفها، إلا إذا تبلور شيء عنها، ونفذ إلى دائرة الفكر من خلال عملية البحث والدراسة نفسها. أمّا الأشياء التي لها حضورها في أفق المعرفة ولها استقرارها في هذا الحيِّز، فيمكن السؤال عن تعريفها.
مسألتان أساسيَّتان في تعريف الأخلاق والدِّين
يفتح التوضيح السَّالف الباب أمام عرض مسألتين حيال الدِّين والأخلاق، هما:
المسألة الأولى: كيف تعرَّف نظام المعرفة البشرية على هاتين المقولتين؟ وما هو مدى معرفته بهما؟ ثمَّ ما هي النقاط التي تدلّل على حضورهما في دائرة المعرفة؟
________________________________________

[الصفحة - 233]


المسألة الثانية: التعريف الذي ينطوي عليه الجهاز المعرفي لمقولتي الدين والأخلاق، هل هو موجود في نظام المعرفة العام على نحو مسبق، وفي ما قبل التجربة وحتّى ما قبل الاستدلال؟ أو أنّه أخذ موقعه لاحقاً، وعلى نحو الاكتساب، سواء بعد التجربة فقط أم بعد الاستدلال أيضاً؟
تدخل هاتان المسألتان في عداد مسائل نقد العقل على مستوييه: النظري والعملي، وعلى مستوى ميتافيزقيا الأخلاق. وسنعمد، في ما يأتي، إلى إضاءة هاتين المسألتين والجواب عنهما، انطلاقاً من توظيف المعطيات التي توافرت لدينا من خلال نقد العقل وحصيلة معرفة ماهية الدين والأخلاق، مما قمنا بدراسة بعضه على نحو منهجي منظّم، وتناولنا بعضه الآخر في مواضع مختلفة ومناسبات متفرّقة.
بديهي أنَّنا لا نحتاج للقول: إنَّ ما سنوافي به القارى يتناسب وإمكانات الكاتب ومؤهّلاته المتواضعة، وهذا يعني أنَّ هذه الأجوبة لن تكون خالية من النواقص والإشكالات شئنا ذلك أم أبينا. إضافةً إلى حاجة هذه المسائل أساساً إلى بحوث واسعة وتحليلات عميقة تسبر أغوارها، نظراً لما يحفّها من غموض وتعقيد، وبخاصَّة من زاوية استنباطها من المصدرين التشريعيين الأساسيين: كتاب الله وسنّة نبيّه (صلي الله عليه و آله و سلم) وأوصيائه المعصومين (عليهم السلام)، وكذلك من زاوية استناد هذه المسائل إلى هذين المصدرين الأساسيين والمرجعين الفصلين في الدين. (من الحري الانتباه إلى أن الاستنباط والاستناد هما مقولتان اثنتان، ومع ذلك فإنَّ بينهما صلة وارتباطاً).
بديهي، في ممارسة الفقه وأصول الفقه على مستوى الاجتهاد الشرعي، أن يتمّ التعاطي مع الأدلّة الأربعة التي تذكر على النحو الآتي: كتاب الله، وسنة المعصومين (عليهم السلام)، والعقل والإجماع. أمّا في ما نحن فيه، فإنَّ المرجعين الأساسيين للاستنباط ومصدرَي التشريع هما كتاب الله وسنّة المعصومين (عليهم السلام)فقط.
فالعقل والإجماع يأخذان موقعيهما بعد ذينك المصدرين، وهما بحسب الأدبيَّات الأصولية والكلامية دليلان، وليسا مصدرين، ويأتيان في طول المصدرين المذكورين وامتدادهما، لا في عرضهما وفي حال قطيعة معهما، ومن ثمَّ فهما ليسا
________________________________________

[الصفحة - 234]


من مصادر التشريع، وإنّما يمكن لهما أن يكونا كاشفَين عن المصدرَين الأصليين على نحو محدود ومشروط.
انطلاقاً من هذه الزاوية اشترط في الإجماع، لزوم أن يكون كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام)أو متضمِّناً له، ليسمّى إجماعاً كشفياً من حيث الكشف، وإجماعاً تضمينياً من حيث التضمّن.
أمّا العقل فهو يخضع للقسمة إلى عقل نظري وعملي وأخلاقي، وإلى عام وخاص. والعقل حتّى لو قرَّر قضية ما على نحو يقيني وعام، فهو أيضاً كاشف عن المصدر ومنبع التشريع، لكن مع فارق، فحيث يكون تقريره عاماً فإنَّ كاشفيته غير مشروطة. وتوضيح ذلك أنّه، في حال عموميّته، سيكون أساساً لمبنى الملازمة العامّة بين العقل والشَّرع، ويكوّن دليلًا أصولياً يستند إلى العقل الضروري العام، بحيث تكون له من حيثيّة حجّية متعدّية، ومن حيثيّة أخرى حجّية شاملة. أمّا إذا كان العقل على نحو الخصوصية والشخصية، ولم يكن عاماً، فلن يتحوّل إلى أساس لمبنى الملازمة العامّة بين العقل والشرع، ومن ثمَّ ستكون كاشفيته محدودة ومشروطة، وهي عرضة لعروض الخطأ وعدم المطابقة مع الواقع، وبهذه المثابة، سوف تكون منجّزيته أو حجّيته من النوع اللازم المشروط غير المتعدّي، بحيث لا يشمل الآخرين.
المسألة الأولى:
استقرار تعريف الدِّين والأخلاق في الجهاز المعرفي
بين أيدينا لمعالجة هذه المسألة والجواب عنها، طريقان:
الأوَّل: طريق التَّحليل الذي يتألّف بدوره من مرحلتين، هما:
المرحلة الأولى: تفكيك البِنية أو المنظومة الموجودة، وتوزيعها إلى أجزاء وعناصر وأواصر، أو إلى جهات وحيثيّات، وإلى صيغ ارتباط كلّ حيثيّة وجهة مع الأخرى ومع الكلّ.
المرحلة الثَّانية: فصل كلّ قسم، أو جزء، أو عنصر، أو جهة وآصرة، وعزله
________________________________________

[الصفحة - 235]


عن العناصر الأخرى في البِنية (من الحري استخدام مصطلح البِنية في المواضع التي يكون فيها التركيب انضمامياً)، أو المنظومة (من الحري استخدام مصطلح المنظومة في المواضع التي يكون فيها التركيب تحليلياً وحسب)، ثمَّ ملاحظة أحكامها وخواصّها، وكذلك ما تنطوي عليه من معطيات وعلاقات.
الثاني: طريق التركيب والاكتشاف، الذي يمرّ بدوره بعدّة مراحل تبدأ من معرفة كلّ جزء من الأجزاء والجهات والأواصر ودراسة خواصّه وأحكامه، وتنتهي إلى تنميطها وتنظيمها وتركيبها على نحو عرضي أو طولي، أو في إطار مركّب من العرضي والطولي.
سنعرض، في ما يأتي، إلى حلّ المسألة ودراستها باختصار عن طريق التحليل والفرز (التفكيك والفصل).
تحليل تعريفَي الدِّين والأخلاق
عندما نفتح الجهاز المعرفي الموجود (المنظومة المعرفية)، ونطلّ على مكوّناته بالتَّحليل، ستواجهنا فيه ثلاثة أنواع من القضايا، بحيث يتّضح من خلال التعامل مع كلّ نوع من هذه الأنواع الثلاثة، وجه من وجوه العقل. وبعبارة أخرى: سيتجلّى ضرب من ضروب العقل، من كلّ نوع خاص من القضايا.
النوع الأول هو مجموعة القضايا النظرية، والعقل الذي يتألّف منها هو العقل النظري. وهكذا تفضي عملية تفكيك أنواع القضايا وتحليلها، إلى إمكان معرفة ماهية العقل الذي يناظرها، على الأقل بالنسبة إلى القضايا التي خضعت للبحث والدراسة. فمن خلال معرفة القضايا النظرية يغدو من الممكن معرفة العقل النظري نفسه، عن طريق الماهية المشتركة للقضايا النظرية. والعقل العملي والعقل الأخلاقي يخضعان في معرفتهما إلى هذا المنهج أيضاً.
نستعرض، في ما يأتي، عدداً من المقولات العامّة والضرورية للعقل النظري، ثمَّ نبادر إلى وضع تعريف للعقل النظري على ضوء الخصال المشتركة للمقولات النظرية، يكون بمقدوره أن يكشف عن المكوّنات الماهوية لهذا العقل إلى جوار العقل العملي والعقل الأخلاقي.
________________________________________

[الصفحة - 236]


بعض القضايا العامّة في العقل النَّظري
أ ـ العقل النَّظري المنطقي
1 ـ استحالة التناقض. يعدّ هذا الأصل أحد أصلين أساسيين من الأصول المنطقية ومبادى ما بعد الطبيعة.
2 ـ إنَّ كلّ شيء هو ذلك الشيء نفسه، وليس من الممكن أن يُسلب الشيء من نفسه (سلب الشيء عن نفسه محال). من المفضّل أن يسمّى هذا الأصل أصل «إنّية» الشيء ومبدأ هوهو، وهو من «الإنّيات» أو الهويّات التي تقع في ضروب الحمل العرضي أيضاً. إنَّ أصل «الإنّية» أو الهوية هو الأصل الآخر من الأصلين الأساسيين للمنطق وما بعد الطبيعة، إذ هو يرسي مع مبدأ عدم التناقض المار، ويؤسّسان معاً، المنطق كلّه ومنظومة المعرفة والعلم بأجمعها.
3 ـ النسبة، في كلّ مقولة، هي إمّا الضرورة أو الإمكان أو الامتناع. هذه القضية المنفصلة هي من القوانين العامّة للمنطق ومن المبادى العامّة للعلم كلّه.
4 ـ يحتاج الممكن، في حدوثه وبقائه، إلى الواجب بالذات.
5 ـ إنَّ الحادث يحتاج إلى علّة.
6 ـ إنَّ الواجب بالذات هو واجب بالذات من جميع الجهات.
7 ـ إنَّ ممكن الوجود هو ممكن من جميع الجهات، ومن ثمَّ فهو بحاجة إلى الواجب من جميع الجهات أيضاً.
8 ـ إنَّ الدور باطل، بملاك امتناع توقُّف الشيء على نفسه، وكذلك بملاك امتناع التسلسل.
9 ـ إنَّ التسلسل باطل، ومع أنَّ بطلان التسلسل يثبُت عن طريق البرهان، إلا أنّه يدخل في عداد القضايا النظرية العامّة. وتوضيح ذلك أنّه ينبغي للتسلسل أن ينتهي في كلّ فرضيّة إلى ضرب من التدليل والتعليل، لأنَّ افتراض التسلسل إمّا أن يكفي
________________________________________

[الصفحة - 237]


للتعليل أو لا يكفي. في الحالة الأولى ينتفي التسلسل لكفايته، وفي الحالة الثانية يعدّ وجوده وعدمه سواء.
هكذا يجب أن تنتهي سلسلة التسلسل إلى الواجب بالذات، في كلا الحالتين، لكي يتحقق التعليل والتدليل.
بكلام آخر: إنَّ العقل العام يرفض التسلسل، بقطع النظر عن الاستدلال المشار إليه آنفاً، لأنَّ العقل لا يراه كافياً للتعليل. وبهذا التوضيح، يمكن القول: إنَّ بطلان التسلسل، هو من قبيل القضايا التي توجد قياساتها معها.
10 ـ لا يعدّ القياس المنطقي منهجاً للاستدلال، وإنّما هو الصورة المنطقية والاكتشافية المسبقة لماهيّة الاستدلال. والاستقراء والتمثيل يَحتاجان بدورهما إلى الشكل القياسي، لكي يتحوّلا إلى الاستدلال.
من هذه الزَّاوية، فإنَّ ما يكون في مقابل المنهجين الاستقرائي والتمثيلي، هو المنهج العقلي وليس المنهج القياسي.
مع ذلك، فإنَّ وضع المنهج القياسي بإزاء المنهج الاستقرائي والتمثيلي، هو أمر شائع. تأسيساً على هذا، لا نجانب الصواب إذا قلنا: قد يكون ما يقصده الباحثون المحقّقون، من المنهج القياسي عندما يكون في مقابل المنهج الاستقرائي والتمثيلي، هو المنهج التعقّلي.
تعريف العقل النظري
في تعريف العقل النظري لا يبدو أنَّ هناك اختلافاً بينه وبين العقل العملي، إلا في حدود كلّ واحد منهما ووظيفته.
يسجّل ابن سينا، في النمط الثالث من طبيعيات الإشارات، في تعريف العقل النَّظري، ما نصّه: «ومن قواها [النفس] ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها، عقل بالفعل» (6).
يظهر، من هذا الكلام، أنَّ العقل النظري يتعلّق بإدراك المعقولات بالفعل،
________________________________________
(6)أخذنا هذا التعريف عن شرح الإشارات للمحقق نصير الدين الطوسي، ج2، ص 353.

[الصفحة - 238]


ومن ثمَّ فهو في شأن الاطلاع على المعلومات، والانتقال من حالات العقل بالقوّة إلى حالاته بالفعل فقط.
أمّا الحكيم السبزواري فهو ينقل عن المعلّم الثاني (الفارابي)، في فصل العقل النظري والعقل العملي من شرح منظومته، التعريف الآتي للعقل النظري: «إنَّ النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان» (7).
أمَّا بالنسبة إلى صدر الشيرازي، فقد ذهب في مقدمة الأسفار إلى أنَّ قوّة العقل النظري تعادل حاقّ جوهر الإنسان (8).
على ضوء التعريف المار، وعلى أساس نقد العقل وتشريحه، سننتقل، في ما يأتي، إلى تعريف آخر للعقل النظري يهدف، بالإضافة إلى تكميل التعريف المذكور وتتميمه، إلى بيان الوجه المنطقي والصُّوري.
التعريف المتمّم للعقل النظري
تعدّ مرتبة الإدراك الانكشافي الحصولي على نحو كلّي ومنضبط، من خلال تعلّقها بالمعقولات من حيث إنّها معقولات؛ تعدّ هذه المرتبة بنفسها العقل النظري في وجهه الحصولي. أمّا الوجه الحضوري للعقل ووجهه الجمعي أيضاً، فإنَّ لكلّ واحد منهما تعريفه ومكوّناته الخاصّة به. والتعريف الذي ذكرناه أخذ بنظر الاعتبار تعريف العقل الحصولي النظري فقط.
أمَّا الخصائص الأربع المذكورة في التعريف، والمتمثّلة بـ: الانكشافي، والحصولي، والكلّي، والمنضبط، فهي بمنزلة فصول الإدراك، وهي هنا بمنزلة الجنس.
ثمَّة متمّمات أخرى لتعريف حدّي العقل النظري هي بمنزلة الفصول أيضاً، لكن لمّا كان لها جهة سلبية، ولمَّا كانت معرفتها تتوقّف على بيان ماهية العقل العملي، فسنكل بيانها إلى ما بعد تعريف العقل العملي.
والآن، بعد الاكتفاء بما مرّ ذكره من مكوّنات العقل النظري، نسجّل أنَّ هذا التعريف يضمّ بين دفتيه بُعدي العقل أو جهتيه المنطقية والمضمونية.
________________________________________
(7)شرح المنظومة، ص 310.
(8)الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، الطبعة الإيرانية الجديدة، ج1، ص 2، سطر 17.

[الصفحة - 239]


تتمثّل الجهة المنطقية بصور التعريف والمقولة والاستدلال وضوابطها. والحقيقة أنَّ هذه الصور والضوابط لا تعكس الوجه الصوري والضابطيّ للتعريف والقضية والاستدلال وحسب، وإنّما تتعدّى ذلك إلى كشف حيثيّة ما بعد الطبيعة.
أمّا الجهة المضمونية، للتَّعريف المذكور، فهي عبارة عن المكوّنات المندرجة في التعريف والمقولة والاستدلال، بحيث يمكن بيان بِنية العقل النظري من خلال هذه المكوّنات الثلاثة. على سبيل المثال، إنَّ للقضية التي تقول: إنَّ الممكنات بحاجة إلى الواجب بالذات، صورة منطقية هي عبارة عن صورة الوجود الرابط والعرض المنطقي المنظّم لموضوع القضية ومحمولها، على النحو الذي يكون فيه الموضوع والمحمول، ومضمون الوجود الرابط، هي عناصر الصورة المنطقية للقضية المذكورة، في حين أنَّ كلّ الصورة والعناصر المندرجة فيها وما تفيده هذه العناصر، تؤلّف مضمون القضية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ للقضايا على نحو الانفصال الحقيقي، إمّا طابع الضرورة أو الإمكان أو الامتناع.
على هذا، تتألّف صورة العقل النظري من صور المعقولات وضوابطها، في حين يتكوّن محتواها من المضامين المندرجة في التَّعريفات والقضايا والأدلّة.
ومن ثمَّ فإنَّ الإدراك الانكشافي الحصولي الذي ينطوي على الكلّية والانضباط، ويكون معرّفاً للعقل النظري الحصولي، يدلّ على صورة العقل النظري، كما على محتواه أيضاً. فالكلية والانضباط المنطقي والانكشافي مبيّنة لصورة هذا العقل، في حين أنَّ معقولات من جهة أنّها معقولات، مبيّنة لمحتواه.
هذه الأمور التي مرّت كانت بعض موارد تحليل العقل النظري إلى صور وعناصر وقضايا عامّة مع تعريفه، تمّ تناولها بالأسلوب التحليلي المشار إليه آنفاً. وللمزيد من التوضيح، نضيف إلى ما مرّ أنَّ التعريف المذكور تمّ بلحاظ المنطقة الضرورية للعقل وحيّزه العام، وبغضّ النظر عن منطقته الاكتسابية القابلة للاكتساب والخاضعة للخطأ. وإذا ما شئنا استكمال التعريف، من الضروري الأخذ بنظر الاعتبار التَّعريفات والقضايا الاكتسابية وغير الضرورية. وهذه قصة أخرى تخرج عن نطاق هذا الحوار.
________________________________________

[الصفحة - 240]


الآن، وعلى خلفية تعريف العقل النظري، أصبح الطريق مفتوحاً لتعريف العقل العملي. وتعريف العقل العملي يمرّ بالمنهجية نفسها التي تناولت العقل النظري، إذ ستبدأ هذه المنهجيَّة، أيضاً، من تسجيل بعض نماذج القضايا العامّة في العقل العملي، ليُصار بعد ذلك إلى معرفة العقل العملي من طريق تحليل وجوه تلك القضايا وعناصرها وفرزها.
على أنَّ ما تنبغي ملاحظته هو أنَّ هذه المعرفة لا تكتمل، إذا لم تصل إلى مرحلة تركيب الأمور والعناصر التي طالها التحليل والفرز والتفكيك. وبذلك نحن لا نتوقع استكمال التعريف، من خلال المنهج التحليلي الصرف.
مقدّمة لقضايا العقل العملي
أ ـ تعدّ هذه القضايا شرطاً ضرورياً للقوانين الأخلاقية، لأنها تمثّل الوجه المنطقي وكذلك الوجه الشمولي لهذه القوانين. بيد أنَّ ذلك لا يعني أنَّ هوية تلك القوانين الأخلاقية قد تحقّقت بكاملها من خلال قضايا العقل العملي.
لقد تحقّق الجزء الأساسي لهذه الهوية من المكوّنات الأخلاقية. ومع ذلك، ليست قضايا العقل العملي صورية بأجمعها، بل حيثيتها الصورية والمنطقية هي حيثيتها الأخلاقية أيضاً، لكن لا على نحو الشرط الكافي، وإنّما على نحو الشرط اللازم.
هذه الخصوصية المتمثّلة في بيان عدم الشرطية الكافية للقضايا العملية بالنسبة إلى الأخلاقي، تعدّ إحدى فروقات هذه الرؤية مع رؤية عمانوئيل كانت في مجال هذه القضايا.
ب ـ إضافةً إلى ما مرّ، تحظى قضايا العقل العملي بسند منظومي مؤسسي، تماماً كما هي حال قضايا العقل الأخلاقي، على النحو الذي سيأتي بيانه لاحقاً. مردّ ذلك هو أنَّ المؤسسة التي تجرّب هذه القضايا من زاوية الحيثية الأخلاقية، إنّما تحسّها على نحو عينيّ تجسيدي انطلاقاً من ثلاث جهات أساسية. وهذه الجهات الثلاث تمثّل بدورها الحدّ الأدنى لأخلاقية قضايا العقل العملي، بحيث يختلّ شرط الأخلاقية في القضية، بإهمال أي شرط من هذه الشروط.
________________________________________

[الصفحة - 241]


هذه الجهات الثلاث هي:
الأولى: جهة صحّة هذه القضايا وصدقها. والمؤسّسة التي تستقطب الأخلاق في المنطقة العامّة كلّها، ومن دون أي شرط أو اكتساب أو اختبار قط، إنّما يتمّ تحسّسها من قبل هذه الجهة على نحو تجسيدي عينيّ مباشر.
الثانية: جهة ما تحظى به هذه القضايا الأخلاقية من مكانة وشأن واحترام. وعمانوئيل كانت يُعيد هذه الجهة إلى الإحساس بذهنيَّة الاحترام.
الثَّالث: جهة الإذعان والتَّسليم في مقابل قوانين العقل العملي وقوانين العقل الأخلاقي، التي تتجلّى للوجدان البشري على نحو عام.
ترجع هذه الجهات، بحسب الفلسفة والكلام الإسلامي بالمفهوم الأعمّ، إلى فضائل النفس وكمالاتها. أمّا بحسب الفلسفة والكلام الإسلامي، بمفهومه الأخصّ الذي يمكن استنباطه من خلال النُّصوص الدينية أيضاً، فقد فسّرت في أحد وجوهها بقوى العقل الجمعي وحيثياته. وهذه الحيثيات التي يبلغ عددها اثنتين وسبعين حيثيَّة، تعدّ قواعد الجهاز المعرفي والأخلاقي في بنية العقل الإنساني (على سبيل المثال يمكن العودة إلى حديث جنود العقل في كتاب: الأصول من الكافي).
في عدد آخر من وجوه الفلسفة والكلام الإسلامي الخاص الذي يمكن التأسيس له على ضوء النُّصوص الدينية، تمّ إرجاع الجهات الثلاث إلى ماهية الشيئيات الأخلاقية، وذلك لاشتراك ماهية العقل والأخلاق. وقد جاء التفسير المذكور في النظريات التي يمكن أن تستند فيها الجهات الثلاث إلى المصادر الدِّينية.
ج ـ من بين الفروقات التي تميّز هذا الضرب من القضايا من قضايا العقل النظري، أنَّ قضايا العقل العملي تبرز بوصفها أوامر العقل النظري، من دون أن تفقد خصوصيتها الخبرية.
د ـ يحظى كلّ أمر من أوامر العقل العملي، في نفسه، بسند مُحكم يعضده، وبفكرة أساسية وبجهة أخلاقية.
على ضوء هذه المقدّمة، تكون الأرضية مهيّأة لعرض قضايا العقل العملي، على النحو الذي سيأتي في الفقرة الآتية.
________________________________________

[الصفحة - 242]


نماذج لقضايا عامّة من قضايا العقل النَّظري
تقسّم هذه القضايا إلى مجموعتين: عامّة واكتسابية، تماماً كما هي الحال في قضايا العقل النظري. والمجموعة الاكتسابية في العقلين تنشأ عن طريق البحث والاستدلال، ومع أنَّ هذه الحصيلة يمكن أن تكون سابقة على التجربة، إلا أنّها لا يمكن أن تكون سابقة على الاستدلال. ومن ثمَّ فهي عرضة من هذه الجهة ـ استدلاليتها ـ إلى الخطأ والنقصان، وبالتالي تحتاج إلى التمحيص العقلي في دائرة ما قبل التجربيّات، وإلى التمحيص التجريبي في دائرة التجربيّات.
ما سنتوفّر على ذكره، في ما يأتي، هو نماذج ترتبط بالمجموعة العامّة، التي لا صلة لها بالاكتساب:
القضيَّة الأولى: ينبغي للفكر، أو للرَّصيد الفكري الذي يتّجه لتشخيص الحسن والقبح العمليين ويتضمّن كيفية توجيه الفعل؛ أن لا يكون متناقضاً مع النظام الجمعي للعقل المتألّف بدوره من الحصيلة المتأتية عن الأقسام: النظري والعملي والأخلاقي. وبذلك لا يجوز اللجوء إلى المحالات العقلية والأخلاقية في تشخيص الحسن وفي كيفية الفعل.
القضية الثانية: ينبغي لكلّ فكرة، أو ما ترتكز عليه في مضمار الحسن والقبيح واتّخاذ طبيعة الفعل؛ أن تكون قابلة للتعميم من دون تناقض مع نفسها من جهة، ومع كلّية العقل من جهة أخرى. والقابلية للتَّعميم من دون استثناء، هي شرط ضروري للأخلاقية ومعيار لازم لها، بيد أنّها لا تعدّ شرطاً كافياً، وإنّما يتحقّق الشرط الكافي انطلاقاً من المحتوى الأخلاقي.
القضية الثالثة: تصرّف بطريقة بحيث ينطوي سلوكك والمرتكزات التي يستند إليها هذا السلوك، على مكوِّنين ذاتيين،الأول: أنّه قابل للتعميم،والثاني: أن لا يستلزم ثبات هذا السلوك على نحو ذاتي، نفي السلوك التعميمي للآخر، وإبطال الرصيد التعميمي الذي يصدر منه سلوك الآخر.
تعدّ المكوّنة الثانية مكمّلة لكلّية قانون العقل العملي، وعلى ضوئها يغيب
________________________________________

[الصفحة - 243]


التعارض بين أوامر العقل العملي ولا يقع التنافي الذاتي في ما بينها. وفي الوقت نفسه تبرز إمكانية عروض التزاحم الموضعي في تطبيق تلك الأوامر، بسبب محدودية الإمكانات والأجواء ذات الصلة بتنفيذها.
القضية الرابعة: لا تتصرف بطريقة، بحيث يتناقض سلوكك والمرتكزات التي يستند إليها في حال التعميم، مع المحتوى الأخلاقي.
مع أنَّ هذه القضية هي من شعبة العقل العملي، وهي تبيّن الوجه الصوري والمنطقي للأخلاق، إلا أنّها تشير إلى مضمون أخلاقي، ومن ثمَّ فإنَّ سنديها هما العقل العملي والعقل الأخلاقي معاً. وهذا ما يفسّر مجيئها في عداد قضايا العقل الأخلاقي أيضاً.
المسألة التي نرى أنَّه من الضروري توضيحها، في هذا المجال، هي: القضايا العمومية المذكورة ليست مشروطة، ومع أنَّ القضية الرابعة تبدو كأنها مشروطة بعدم التناقض مع المحتوى الأخلاقي، بيد أنَّ الأمر ليس كذلك في حقيقته. لأنَّ المقصود من القضية الرابعة هو أن لا تكون صورة القانون العملي أو محتواه المتمثّل بالعنصر الأخلاقي، متناقضة، لأننا إذا افترضنا تناقض القانون العملي مع المحتوى، فيكون متناقضاً مع نفسه أيضاً. على سبيل المثال، يمكن أن نأخذ الصِّدق بوصفه مكوِّناً من المكوّنات الأخلاقية، فليس هناك أي قانون من قوانين العقل العملي يستلزم تقريره حذف قانون الصدق الذي يؤسّس لمحتوى الصدق، حذفاً كلِّياً تاماً.
إذا أخذنا هذه القضية، بوصفها أصلًا ثابتاً، لرأينا أنَّها تنفي نفسها بحكم تناقضها مع نفسها. توضيح ذلك، أنَّ نفي قانون الصدق كلياً، يسري إلى القضية النافية نفسها، ويستلزم تناقضها مع نفسها، فإذا كانت صادقة تكون على خلاف أمرها الماثل بنفي الصدق، وإذا كانت كاذبة لا تستطيع أن تقرّر شيئاً.
إضافةً إلى ما مرّ، إذا وقعت أية قضية عملية مفترضة في تناقض مع المحتوى الأخلاقي، سيجرّ ذلك إلى التناقض مع العقل العملي كلّه أيضاً.
القضية الخامسة: هذه القضية المنبثقة من عمق الأخلاق ببعدَيها: العملي والمضموني، تبيّن استقلال العقل العملي عن المنطقة الاكتسابية المعرّضة للخطأ، التابعة للعقل النظري.
________________________________________

[الصفحة - 244]


يمكن شرح هذه القضية، على النحو الآتي: لا يمكن للقضايا المكتسبة، في العقلين: النظري والعملي، المعرّضة للخطأ والتي تفتقد الطابع العام، أن تكون أساساً لإثبات مقولات العقل العملي الأصلية أو نفيها. فمع أنَّ المقولات المذكورة غير مشروطة في ماهيّتها العملية، فهي من جهة ترتبط بالعقل النظري الضروري العام من دون أن تكون مقرّرة من قبله، ولها من جهة ثانية استناد ماهوي ووجودي إلى العقل الأخلاقي.
لتوضيح ذلك ينبغي أن نضيف: إنَّ قضايا المنطقة الاكتسابية للعقل، وغير الضرورية، إذا كانت متوافقة مع العقل العملي، يمكن استخدامها في التبيين النظري لمعطيات العقل العملي، من دون أن يفقد هذا العقل استقلاله عن المنطقة المعرّضة للخطأ النظري.
أمّا إذا كانت غير متّسقة مع العقل العملي، فإنها لا تستطيع أن تنفي المنطقة الضرورية لهذا العقل أو تلحق بها الشكّ، لأنها ليست عرضة للخطأ، كما لا وجود لها في المنطقة الضرورية والعامّة للعقل.
على ضوء هذا البيان، سيكون للقضية الخامسة ثلاثة أهداف تحقّقها، هي:
الأوَّل: حفظ استقلال العقل العملي وصيانته إزاء نظريَّات المنطقة الاكتسابية في العقل النظري؛ هذه النظريات التي يمكن أن تكون قابلةً للخطأ.
الثَّاني: حراسة المنطقة الأصلية والعامّة، للعقل النظري، من أضرار الآراء الشخصية وتدخّلاتها؛ هذه الآراء التي تنفذ إلى المنطقة الأصلية وتقتحمها من خلال المنطقة الاكتسابية وغير الكلّية لهذا العقل نفسه.
الثالثة: تثبيت مبدأ المسؤولية الأخلاقية وحراسته في مقابل الفرضيات التي تنفي هذا المبدأ، أو تبادر إلى تعطيل مفعوله عبر شراك التنظير.
القضية السادسة: ينبغي للأمر الذي يسند الإرادة وموضوعه، أن يكون على نحو بحيث لا يتناقض مع متعلّق إرادة مصدر الأخلاق ومبدأ العالم (الله). ولهذه القضية بعدان أسوة ببقية قضايا العقل العملي، أحدهما البعد الخبري والآخر البعد
________________________________________

[الصفحة - 245]


الأمري، وهي في منطقيتها عينها تتضمّن الرجوع إلى المحتوى الأخلاقي، تماماً كما هي حال القضية الرابعة التي تتضمّن الرجوع نفسه.
المحتوى الأخلاقي، في القضية السادسة، عبارة عن تعريف أو قانون، من حيث أنّه متعلّق الإرادة التشريعية لله.
أوَّلية هذه القضية
بغية بيان أوّلية هذه القضية وأصليّتها، نقول: القضية الأوَّلية، في نطاق الدائرة النظرية، أو الدائرتين: العملية والأخلاقية، هي عبارة عن القضية التي يكفي تصوّر الموضوع أو تصوّر الموضوع والمحمول، لتقريرها أو التصديق بها. والأوليّ في الهليّات البسيطة، هو عبارة عمّا يحتاج إلى تصوّر الموضوع فقط، أمّا في الهليّات المركّبة، فهو عبارة عمّا يحتاج إلى تصوّر الموضوع والمحمول معاً. على أنَّ أوَّلية القضية هي تعبير عن أنّ مكوّنة الأمرية عينها ونفسها، لها استقلال عن موقعية العارف الذي يمارس المعرفة وعن ذهنيته.
والآن، نعرض لأوّلية القضية السادسة، على النحو الآتي: ينطوي العقل العملي، في مرتبتي تقرير قوانينه، على فكرة مبدأ العقل والعالَم. وهذه الفكرة التي تعدّ تعريفاً مسبقاً للقوانين الأخلاقية، تعدّ بالنسبة إلى العقل العملي، وعلى نحو ذاتي، صادقة ومحترمة وجديرة بالتضحية. من هذه الزاوية، فإنَّ تصوّر هذا التعريف لمبدأ الأخلاق والعالَم، لأجل إصدار الأمر المطلق عن العقل العملي، يكفي فيه عدم تنافي مصدر الإرادة الإمكانية وموضوعها مع الإرادة الوجودية والإلهية.
إذا ما أريد تبيين هذا الأمر، من الوجهة الخبرية، سيكون مفاده: «الإرادة الكلّية والقانون العقلي العملي لها، هما ما لا يكون متعلّقه، ومصدره أيضاً، متناقضين مع إرادة المشرّع وخالق العقل والعالَم».
تستند القضية السابعة التي تعدّ مكمّلة للقضيتين: الرابعة والسادسة، إلى فكرة العقل العملي. هذه الفكرة تدفع العقل لكي تكون قوانينه المطلقة متطابقة مع الأخلاق ومع مصدر الأخلاق ومبدأ العالَم، وأن تتقرَّر من خلال الترتّب عليها، لكي
________________________________________

[الصفحة - 246]


تحظى القوانين العملية بالمحتوى، وتستقرّ وفاقاً لملاك عموميتها وكلّيتها. هذه القضية توجّه العقل، لكي يتخطّى المرحلة العملية الصورية إلى المرحلة الأخلاقية، والمرحلة المستندة إلى الأخلاق.
أمّا القضية السابعة، فستكتسب البيان الآتي: «قرِّر الأوامر العملية المطلقة القائمة وفاقاً لفكرتها المتعالية؛ قرِّرها على نحو متطابق فقط مع محتوى تلك الأوامر، والمحتوى المستند إلى مبدأ تلك الأوامر ومصدرها، وإلا للزَم خلاف ذلك نقض العقل العملي لنفسه، وأن يؤسّس لأمر هو نقيض قانونه».
البيان أعلاه للقضية السَّابعة، يُشير إلى البعد الأمري في القضية المذكورة. أمّا إذا أردنا أن نلحظ البعد الخبري لها، فيمكن بيانه على النحو الآتي: «لا تكون أوامر العقل العملي أوامر صحيحة ومطلقة، إلا حينما تقرّر المحتوى المندرج في هذه الأوامر، والمحتوى المتحقِّق من مبدأ هذه الأوامر ومصدرها. أمّا إذا أردنا أن نقرِّر محتوىً آخر من هذه الأوامر، أو دفعناها لتقرير ذلك بالإجبار، فستتناقض أوامر العقل مع نفسها، ولمَّا كان وقوع التناقض محالًا، لذلك لن ينقض العقل العملي قانونه، وإنّما سيبادر بدلًا من نقض نفسه، إلى رفض تلك المضامين التي حمّلت عليه ونبذها».
إيضاح القضية السابعة
يمكن إيضاح هذه القضية التي تنطوي على متمّمين، على النحو الآتي: تضع هذه القضيَّة المحتوى الفكري المحدّد المنضبط للعقل العملي، عبر جهازه غير المشروط؛ تضعه بعنوانه معياراً، ثمَّ تعمد إلى صيانة أوامر العقل وتجعلها بمنأى عن التقرير الفكري المتناقض مع العقل. هذه الفكرة تفصح عن نفسها بصورة كاملة، من خلال مرحلتين، هما: «أ» و«ب». وكلّ مرحلة تشترك مع الأخرى وتتداخل معها، ولكن ينبغي المجيء بكلّ واحدة منهما على حدة، لكي يصار إلى التَّعرُّف على مكوّناتها بالتفصيل.
في المرحلة «أ» يبرز المضمون الأخلاقي للأمر، لكي يملأ فراغ القضية الأمرية للعقل.
________________________________________

[الصفحة - 247]


وفي المرحلة «ب»، ينكشف مصدر الأمر العقلي وملاكه والمضمون الأخلاقي، من صميم القضية التكميلية.
المحتوى الأخلاقي لا يملأ الفراغ العملي وحسب، بل يفسّر ما يتَّصف به من عمومية أيضاً. لأنَّ القانون العملي إنّما يعدّ كلياً، من زاوية أنّه أخلاقي، وليس بالعكس. أي أنّه كلّي، ولأنّه كلّي فهو إذن أخلاقي.
بعبارة أخرى: ليست الكلّية بنفسها ملاك الأخلاقية، بل هي توفّر له الشرط اللازم لا الشرط الكافي، وإنّما الأخلاقية هي التي تعدّ الشرط الكافي للكلّية.
على هذا، سيكون المضمون الأخلاقي، في المرحلة «أ»، مكمّلًا للقضية الرابعة، بحيث يمكن تقريره على النحو الآتي: «تتضمّن أوامر العقل العملي غير المشروطة في صميمها، الاستناد إلى محتويات الجهاز الأخلاقي الذي يتّسم ذاتاً بالكلية والتعميم، والأمر المكمّل لها في المرحلة «أ»، هو: ينبغي لهذه الأوامر أن تكون على نحو بحيث لا تقرّر إلا المضامين والمحتويات المعطاة من الأخلاق ومن مصدر الأخلاق ومبدئها.
أمّا الأمر المكمّل في المرحلة «ب» التي تقرّر التمامية الفكرية للعقل العملي، فهو يتمثّل في أنَّ الغاية بالذَّات هي التي تجعل أوامر العقل، وهي التي تصونه من التناقض مع نفسها».
يمكن تقرير المرحلة «ب» على النحو الآتي: «ما دام التعريف الذي ينطوي عليه العقل، لمصدر الأخلاق ومبدأ العالَم صحيحاً بالذات، وأنَّ هذا المبدأ جدير بالاحترام والتضحية ذاتاً، فعندئذ سيكون هذا المبدأ الكلي في مرتبة العقل، ملاكاً للأخلاق أيضاً، كما ستترتّب عليه كذلك ماهية الأخلاق والقانون العملي. فإذاً، يحكم العقل العملي على نحو أولي وقبل الاستدلال والتجربة، بأنَّ القانون العملي هو ذلك القانون العملي المترتّب على الحيثية التشريعية لمصدر الأخلاق ومبدأ العالَم».
الصورة الفلسفية لهذه المعادلة تستقر هي الأخرى على نحو أولي، وهي تقول: إنَّ القانون العملي المترتّب على الحيثية التشريعية لمبدأ الكل، هو نفسه
________________________________________

[الصفحة - 248]


القانون العملي المطلق الثابت من دون أي شرط. عند الانتقال إلى المحتوى الأخلاقي، فإنَّ هذه المعادلة ذات الطرفين تبرز بنفسها، وبذلك يوصل العقل العملي في المرحلة «ب» قانون الفكرة إلى المرحلة العامّة، ويقرّر على نحو مطلق، بأنَّ أوامر العقل غير المشروطة ينبغي لها أن تقرّر محتوىً يستند إلى مصدر الأخلاق ومبدأ العالَم بالذات وعلى نحو مطلق. وما دام هذا الأمر ناشئاً من تصوّر مبدأ الكل، ومن تصوّر القانون العملي المطلق، ومن تصوّر ضرورة اتساق الشيء مع مبدئه واتساقه مع ملاكه، فهو إذاً أمر أوَّلي، ومن ثمَّ فإنَّ القضية التي يبيّنها الأمر المذكور هي قضية أوَّلية أيضاً.
المعايير الثلاثة
لتوضيح عدد من التصوّرات المذكورة، نقول: ليس للعقل العملي أي أمر جزافي عبثي، كما ليس له أي أمر يرتكز إلى الدافع، وإنَّ أمره غير مشروط بالدافع وغير مقيّد به. يرتكز هذا الأمر إلى ثلاثة معايير هي:
1 ـ يتمثّل أحد هذه المعايير بعلاقة الذات المكتسبة للأخلاق مع الأمر. وهذه الرابطة أو الصلة تتحقق في صحّة الأمر الأخلاقي الذي يُحسّ من قبل العقل العملي، وما يتحلّى به هذا الأمر من فضيلة وما يستحقّه من تضحية، وهذه الرابطة العينية ليست مبنيَّة على الحسّ الذهني، وإلَّا لانحدرت الأخلاق وانحطّت إلى مستوى الحالة الحسّية.
أمّا المعياران الآخران فيتمثَّلان بمحتوى الأخلاق ومصدرها.
2 ـ المحتوى الأخلاقي عبارة عن المضمون الذي يتبيّن بصورة كلية عن طريق الأمر العملي، كما هي الحال في الصدق أو الأمانة اللذين ينطويان على محتوى من سنخ أخلاقي محض. إنَّ العقل الذي يعطي الأمر على نحو غير مشروط لضروب السلوك وقواعده، بحيث تكون هذه السلوكيات قابلة للتعميم من دون تناقض؛ هذا العقل يملأ فراغه من خلال الصدق أو مضمون أخلاقي آخر، ويعكس أمره من خلال أحد النماذج بصيغة قانونٍ له محتوى، عبر هذا الضرب من البيان: «ما دامت طبيعة الصدق هي الصدق، فينبغي أن يكون مبنىً عاماً لكلّ إنسان ولكلّ فكرة».
________________________________________

[الصفحة - 249]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف