البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التَّجديد الكلامي عند الشَّهيد محمد باقر الصَّدر قراءة في المعالم المنهجيَّة

الباحث :  أ. الأسعد بن علي التونسي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  30
السنة :  السنة الثامنة صيف 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  2005

التَّجديد الكلامي عند الشَّهيد محمد باقر الصَّدر قراءة في المعالم المنهجيَّة

أ. الأسعد بن علي التونسي (*)

مــدخــــــل
لا يكتفي المجدّدون الحقيقيون، عادة، بطرح مفاهيم جديدة وتصوّرات غير مسبوقة ومضامين مستحدثة، وفاقاً لما تحتاجه الساحة الفكرية، أو على أساس عمليَّة استشرافيَّة لمعالم المستقبل وتحدِّيات التقدُّم الإنساني، بل إن هؤلاء المجدِّدين يحدثون نقلات منهجية تحقِّق قفزة نوعية، وربما تحدث تحوُّلات معرفية كبرى، تمكِّن الأجيال من النظر إلى المسألة من منظور جديد مختلف عن جميع الأساليب التي سلكها الأوَّلون.
إنَّ كبار المجدِّدين، من العلماء والفلاسفة، في كل ميدان، هم الذين استطاعوا فعلًا إحداث مناهج جديدة، علاوة على أنَّهم أتوا بمعارف مبتكرة، ففي مجال الفلك ما كان لـ «كوبرنيك» أن يعرف هذه الشهرة لولا القطيعة المعرفية التي أحدثها مع النظرية الفلكية القديمة وطرحه رؤية جديدة، وديكارت، في مجال الفلسفة، ما كان ليصبح علماً بارزاً وعلَّامة لمرحلة جديدة في تاريخ التفكير الفلسفي لو لم يكن صاحب منهج جديد، وكذلك آنشتاين في الفيزياء لولا ثورته الكبرى على فيزياء نيوتن وتأسيسه لنظريته النسبية التي قلبت الفيزياء رأساً على عقب لما كان ذلك العلم البارز في مرحلة من التاريخ العلمي جديدة.
وفي هذا السِّياق، وفي مجال البحث العقدي، يتجلَّى إبداع محمد باقر الصدر
________________________________________
(*)باحث من تونس

[الصفحة - 59]


في القدرة على الانتقال بعلم الكلام نقلات منهجيَّة كبرى، من شأنها أن تسهم في إرساء أسس جديدة لعلم عقدي جديد.
لقد التفت إلى هذه القدرة الإبداعية للصَّدر شبلي ملاط، في دراسته: تجديد الفقه الإسلامي، فقال: «لقد اكتشفنا، في كتابات باقر الصدر وأقواله، نظاماً يستمد قوَّته، كما كل النظم، لا من الإجابات المحدَّدة القادرة على توفرها، وإنما من المجالات التي يفتحها» (1).
وباستقراء الإنتاج الكلامي العقدي للسيد محمد باقر الصدر، المبثوث هنا وهناك في أكثر كتبه، يمكن أن نستكشف خمس نقلات منهجية أساسية هي:
أوَّلًا: من المنطق الأرسطي إلى المذهب الذَّاتي.
ثانياً: من الاتجاه التجزيئي إلى المنهج الترابطي الموضوعي.
ثالثاً: من النزعة الثبوتية إلى المنهج التكاملي.
رابعاً: من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع.
خامساً: من المذهبيَّة الجدلية إلى الإنسانية اليقينيَّة.
النَّقلة المنهجيَّة الأولى ـ من منطق أرسطو إلى المذهب الذَّاتي
في كتاب «فلسفتنا» تبنَّى باقر الصدر النظرية الأرسطية في المعرفة؛ إذ سلّم بالبديهيات الست، وضرورة مبدأ العلِّية ومسألة بداهة الواقع الخارجي، لكنه لم يكن ليقف في حدود منطق أرسطو الذي حكم إلى حد ما تراثنا الفكري، وبخاصَّة الكلامي الذي تأثَّر بالمباحث المنطقية والفلسفية على أثر ترجمة التراث اليوناني، واتخذ طابعاً جدلياً، وتطرَّف أحياناً كثيرة في ملاحقة إشكالات الفلسفة والمنطق الأرسطي حتى سقط في التجريد المطلق، والبحث عن شبهات افتراضية أكثر منها واقعية لا ثمرة عملية من ورائها.
لكن باقر الصدر لم يستسلم للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي، على الرُّغم من جميع التعديلات التي أدخلها عليه المفكِّرون الإسلاميون، وقطع مع هذا التراث
________________________________________
(1)ملاط شبلي، تجديد الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص 250.

[الصفحة - 60]


الطويل بأطروحته المتميزة: الأسس المنطقية للاستقراء، والتي قال عنها باقر الصدر نفسه: «إنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة» (2)، وليس كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء»، كما قد يوحي عنوانه، دراسة لمشكلة الاستقراء فحسب، وحل لقضية التعميم الاستقرائي، وإنما هو أطروحة لنظرية معرفية جديدة أسماها باقر الصدر المذهب الذاتي في المعرفة، إنه مذهب ثالث مقابل المذهبين: التجريبي والعقلي، ولإدراك تمايز هذا المذهب لا بأس من أن نقارن بين هذا الاتجاه الجديد وبين هذين المذهبين الكبيرين. وسنركّز هذه المقارنة في النقاط الآتية:
أوَّلًا: تحديد مصدر المعرفة، فالمذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي في وجود قضايا وإدراكات قبلية تمثِّل أساساً يقوم عليه البناء الفوقي للمعرفة.
ثانياً: يختلف مع المذهب العقلي في الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي، فالمذهب العقلي يستند، في هذا التعميم، إلى مبادى ثلاثة: مبدأ السببيَّة، ومبدأ عدم تكرار المصادفة باستمرار، ومبدأ أن الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدِّي إلى نتائج متماثلة، ويعتقد هؤلاء بأنَّ هذا المبدأ مستقل عن التجربة ومستقل برهانياً عن مبدأ السببيَّة، ومن نقطة الخلاف هذه المتعلِّقة برجوع الاستقراء إلى القياس، حسب المنطق العقلي، ينطلق باقر الصدر ليشيد نظريته في المعرفة.
ثالثاً: إن المذهب العقلي يعتقد أساساً بالتَّوالد الموضوعي في المعرفة، والقياس هو العمدة في الاستدلال، وحتى الاستقراء يرجع في الأخير إلى قياس صغراه الملازمة بين ظاهرتين كما تعكسها ملاحظاتنا وكبراه أن المصادفة لا تتكرر باستمرار.
والتَّلازم الموضوعي يعني أنه اعتماداً على التلازم بين قضية وأخرى، أو بين قضية ومجموعة قضايا أخرى، يمكن أن تحصل معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضية أو القضايا التي تستلزمها، مثال ذلك من قولنا: سقراط إنسان وكل إنسان فان، نستنتج أن سقراط فان، فهذا توالد موضوعي لأنه ناشىء عن التلازم بين الجانب الموضوعي للمقدمات والجانب الموضوعي للنتيجة، «فالتوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي، لأن النتيجة دائماً ملازمة
________________________________________
(2)الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول 4: 130، المجمع العلمي للشهيد الصدر.

[الصفحة - 61]


للمقدِّمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل بعضها على البعض الآخر بصورة قياسية» (3).
أمَّا التَّوالد الذاتي الذي يعتقد المذهب الذاتي بأنَّه الطريقة التي تحصل بها أكثر معارفنا، فيعتقد بأنه يمكن أن تنشأ معرفة جديدة انطلاقاً من التلازم بين الجانبين الذاتيين للمقدمات والنتائج من دون تلازم في الجانبين الموضوعيين، والمقصود من الجانب الذاتي الإدراك، في حين أن المنطق الأرسطي يرى أن هذا التلازم الذاتي من دون تلازم في الجانب الموضوعي غير كاف للانتقال إلى النتيجة، وهكذا حاول المنطق الأرسطي أن يفسر جميع معارفنا بأنها إما أن تكون أوَّلية أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعي، أما المذهب الذاتي فيؤمن بوجود معارف أوَّلية تمثل الجزء العقلي القبلي من المعرفة (مبدأ عدم التناقض)، وأن هناك معارف ثانوية مستنتجة على طريقة التوالد الموضوعي (مثال ذلك نظريات الهندسة الإقليدية والمستنتجة من بديهيات تلك الهندسة)، وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي (التعميمات الاستقرائية)، وهي تعم أكثر معارفنا.
ولا يتوهَّم أن المذهب الذاتي يتفق كلِّياً مع المذهب الأرسطي في المعارف القبلية، إنهما يتفقان من حيث المبدأ والإقرار بوجوده هذه المعارف القبلية، ولكنهما يختلفان من جهتين:
أ ـ طبيعة المعارف الأوَّلية.
ب ـ ضرورة كونها يقينيَّة.
في الجهة الأولى، يناقش باقر الصدر، في أطروحته الرائدة: «الأسس المنطقية للاستقراء»، البديهيات التي آمن بها المنطق الأرسطي والتي أرجعها إلى ست، يقول الصدر: «إن القضايا التجريبية والحدسية والمتواترة والمحسوسة كلها قضايا استقرائية تقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد، وتبعاً للمرحلتين اللتين حددتهما للدليل الاستقرائي» (4).
ولا بدّ من الإشارة، هنا، إلى أن باقر الصدر يفرِّق بين الحس الظاهر والحس الباطن، ويرى أن قضايا القسم الأخير أولية وما نفى بداهته هو الحس الظاهر: «ولا
________________________________________
(3)الصدر، محمد باقر، الأسس المنطقية للاستقراء، ص 135، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، 1981م.
(4)المصدر نفسه، ص 470.

[الصفحة - 62]


شك في أن القضايا المطلوب إثباتها بالحس الباطن أولية، لأن الإنسان في هذا القسم من الإدراك الحسي يتصل بصورة مؤكدة بمدلول القضية المطلوب إثباتها بهذا الحس مباشرة وأما القضايا المطلوب إثباتها بالحس الظاهر، فهي تختلف عن قضايا الحس الباطن لأننا بالحس الظاهر نريد أن نثبت الواقع الموضوعي، أي أن هناك حينما أرى البرق برقاً موضوعياً موجوداً بصورة مستقلة عن إدراكي، وهذا لا يكفي فيه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحس الظاهر» (5).
أما القضايا الأوَّلية والفطرية التي تمثل البقية الباقية على لائحة البديهيات الأرسطية التي يدركها العقل مستقلًّا عن الحس والتجربة، فإن باقر الصدر، وإن كان لا ينكر قبليتها، لكنه يثبت أنه بالإمكان الاستدلال عليها بطريقة الاستقراء.
إنَّ باقر الصدر لا يستثني، في إمكان الاستدلال استقرائياً على «البديهيات»، إلّا مبدأ عدم التناقض وبديهيات نظرية الاحتمال، «وفيما نؤكد أن بالإمكان تطبيق الاستدلال الاستقرائي على كل الأوَّليات الأرسطية إلّا في حدود هذين الاستثنائين (ما سبقت الإشارة إليهما) لا نعني بذلك أن تلك القضايا استقرائية فعلًا وليست قبلية، وإنما نعني أن بالإمكان نظرياً أن نفسرها على أساس الطريقة التي حددناها للاستدلال الاستقرائي ولا ينفي هذا أن تكون قضايا أوَّلية قبلية» (6)، وتعليل هذا الاستثناء للمبدأين المشار إليهما يرجع إلى أن مبدأ عدم التناقض لا بد من أن يفترض ثابتاً، وإلّا لما أمكن للطريقة الاستقرائية أن تقوم لها قائمة، لأنّه لا يمكن حينئذ أن تجمع القيم الاحتمالية على محور واحد، لأن هذا التجميع على محور واحد يعني نفي نقيض كل قيمة احتمالية، وهذا لا يتحقَّق إلا إذا قبلنا باستحالة اجتماع النقيضين، أما إذا قبلنا باجتماع النقيضين، وأنكرنا مبدأ عدم التناقض فلا يمكن تجميع القيم الاحتمالية على محور واحد، وأما استثناء كل المسارات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي، بما فيها بديهيات نظرية الاحتمال، فواضح، أما الجهة الثانية فنبحثها في النقطة الرابعة الآتية.
رابعاً: إن المذهب الذاتي لا يشترط أن تكون المعرفة الأوَّلية يقينية، فهو يرجع بداية المعرفة إلى قسمين:
أحدهما: المعرفة التي تفرضها بديهيات نظرية الاحتمال، والآخر: الخبرة الحسية نفسها بالموضوعات، فنحن حين نشاهد سحاباً في السماء تعدّ مشاهدتنا
________________________________________
(5)المصدر نفسه، ص 452.
(6)المصدر نفسه، ص 472.

[الصفحة - 63]


خبرة حسية والسحاب في السماء هو موضوع هذه المشاهدة، ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائية أوَّلية وليست مستدلَّة، أما معرفتنا بوجود سحاب في السماء فهي معرفة مستدلَّة بطريقة استقرائية، ومع تمسك المذهب الذاتي بوجود بداية للمعرفة حتى لا يلزم التراجع إلى ما لا نهاية، لا يقر بأن تكون هذه البدايات ضرورية، وهو يتصور المعرفة الأوَّلية احتمالية في مجالين: مجال الخبرة الحسية ومجال القضايا العقلية الأوَّلية التي يكون ثبوت المحمول فيها للموضوع ثبوتاً مباشراً من دون حد أوسط. هذه القضايا التي لا يمكن إثباتها باستنباط عقلي قد تكون متقدمة بدرجة عالية من التصور، وكذلك بدرجات أقل: «وما دامت بعض المعارف الأوَّلية بالإمكان أن تحصل بقيم احتمالية في البداية، فمن الممكن تنمية هذه القيم الاحتمالية وفقاً لنظرية الاحتمال، فكلما وجدت احتمالات تتضمن تلك المعرفة الأوَّلية المحتملة ازدادت قيمتها الاحتمالية» (7).
هذا تمام الكلام في تحديد الفوارق بين المذهبين: العقلي والذاتي، أما أهم الاختلافات بين المذهبين: الذاتي والتجريبي فأبرزها:
إن المذهب الذاتي، كما رأينا، يؤمن بمعارف عقلية قبلية في حين ينكر التجريبيون كل معرفة غير نابعة من الحس والتجربة، فهم يعتقدون بأنَّ التجربة هي الأساس العام الوحيد الذي يموّن الإنسان بكل ألوان المعرفة التي يزخر بها الفكر البشري، ولا توجد لدى الإنسان أي معارف قبلية بصورة مستقلة عن التجربة، وحتى ما يبدو في أعلى درجات التأصل في النفس البشرية من قضايا الرياضة والمنطق، نظير (1+ 1 = 2)، يرجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن (8).
وفي ضوء هذا، فإن بدايات المعرفة عند التجريبيين جزئية، فلا مجال لنلتقي بقضية كلِّية تتجاوز نطاق الخبرة الحسية المباشرة.
النَّقلة المنهجيَّة الثَّانية ـ من الاتجاه التَّجزيئي إلى المنحى التَّوحيدي الموضوعي
لم يفتأ باقر الصدر، في مواطن عديدة، ينتقد المنهج التجزيئي المعتمد في تحليل القضايا وطرح المسائل، حيث أن الرؤية التجزيئية كثيراً ما تجني على الفكرة
________________________________________
(7)المصدر نفسه، ص 504.
(8)المصدر نفسه، ص 480.

[الصفحة - 64]


وتسيء إليها، لأنها تقدِّمها مشوَّهة ومنقوصة، وأحياناً تحمّلها ما لا تريده، والمتتبِّع للتراث الكلامي يلحظ بيسر ما لهذه النزعة التجزيئية في التعامل مع النص من نتائج وخيمة على التفكير العقدي بسبب النتائج التي يؤدي إليها، الخاطئة أحياناً وغير الدقيقة أحياناً أخرى.
فالنَّظرة التَّجزيئية هي التي جعلت بعض الاتجاهات تتجمَّد في حدود حرفية بعض الآيات، لتثبت لله يداً ورجلًا ووجهاً، وتنسب له الاستواء على العرش بمعانيه الحقيقية غافلين عن الآيات المحكمة الأخرى والكثيرة التي تنزه الله عن الجسمية والتشبيه، وتجزم أنه {ليس كمثله شيء} ، وأنه {ولا يحيطون به علماً} .
لقد تغلغلت هذه النزعة، وحطَّمت الوحدة الموضوعية للمقطع القرآني الواحد أحياناً بعزل الآيات عن سياقها، فيستشهدون بقوله عز وجل: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات/95]لإثبات أن الله خالق أفعال العباد في حين أن الآية أجنبية عن هذا المدلول، إذ إنها تتحدث عن الأصنام بوصفها عملًا من أعمال العباد، وفي النهاية هي من خلق الله، يقول تعالى: {قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون} [الصافات/95 و96]، إن الأمثلة على هذا الاتجاه التجزيئي عديدة جداً... وبمثل هذا الاتجاه، تم التعامل مع أصول الدين، بوصفها مبادى منفصلة ومستقلة بعضها عن بعضها الآخر؛ فالتوحيد أصل وحده والنبوة أصل والمعاد أصل.. وغابت الرؤية الترابطية لهذه الأصول والعلاقة في ما بينها..، وغدت هذه الوحدة الموضوعية بين الأصول مسكوتاً عنها طوال هذا التاريخ العريق لعلم الكلام.
لقد حاول باقر الصدر (وأعتقد أنه نجح في محاولته)، أن يتجاوز هذا الطوق الذهني والقيد الفكري الذي حجب عن المؤمنين اكتشاف العلاقات بين هذه الأصول بل بين مفردات الأصل الواحد نفسه.
تعرَّض الصدر لمشكلة المنهج التجزيئي، وعالجها في معرض محاضراته القرآنية (المدرسة القرآنية) عندما دعا إلى تأسيس المنهج الموضوعي التوحيدي في التفسير مقابل التفسير التجزيئي، وهذه المعالجة، وإن كانت متصلة مباشرة بميدان التفسير، لكن يمكن أن يستفاد منها في المجال العقدي، لأن العقلية التجزيئية واحدة
________________________________________

[الصفحة - 65]


هنا وهناك، والمنحى نفسه. ومن ثم فإنَّ تجاوز هذا الاتجاه هناك يعني تجاوزه هنا بالتبعيَّة، إضافة إلى أن النصوص القرآنية تتضمن جملة من أدلة المتكلِّمين، فتنعكس طريقة تعاملهم مع الآيات وآليات تفسيرهم على نتائج بحوثهم، ولقد ضرب الصدر بالفعل أمثلة من مجال العقيدة، للتدليل على أهمية المنهج الموضوعي، يقول: «فالمنهج التجزيئي، في التفسير، حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول (الله)؛ حيث إن فهم مدلول (الله) كان في البداية متيسراً لعدد كبير من الناس، ثم بدأ اللفظ يتعقَّد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم القدرات والتجارب وتطور الأحداث والأوضاع، من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مفهوم (الله) حتى تكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير» (9).
ولم يكن غياب المنهج التوحيدي ظاهرة تطول العلوم جميعها، فقد استفادت بعض العلوم من المنهج الموضوعي، «وأكثر ظني أن الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه، بامتداده وانتشاره، ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية، في هذا المجال، بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النموّ المكتمل، وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتّى تكاد تقول: إنَّ قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي، ولم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة»(10).
إنّ الاتجاه الموضوعي التوحيدي يمتاز عن نظيره التجزيئي بخصلتين أساسيَّتين أشار إليهما الباحث، وهما:
أوَّلًا: إن دور الاتجاه التجزيئي تجاه النص سلبي؛ إذ يبدأ بتناول النص القرآني ويحاول أن يجد مدلول النص في ما يسعفه به اللفظ، مع ما يتاح له من قرائن متصلة ومنفصلة، فدور المفسِّر هنا دور المصغي والمتفهم والمتلقّي، فالقرآن يعطي بمقدار ما يفهم هذا المفسِّر من المدلول، خلافاً لذلك يفعل المفسر الموضوعي التوحيدي، فإنه لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة، يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقديَّة أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب
________________________________________
(9)المصدر نفسه، المدرسة القرآنية: 10، دار التعارف للمطبوعات.
(10)المصدر نفسه، ص 18.

[الصفحة - 66]


الفكر الإنساني في شأن الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً، ويبدأ مع النص عملية استنطاق، وهو يريد من ذلك كلّه اكتشاف موقف القرآن من القضية المطروحة وصياغة النظرية القرآنية في الموضوع.
ثانياً: إنَّ الاتجاه الموضوعي لا يكتفي بالمدلولات التفصيلية للنص، وإنَّما يسعى جادَّاً إلى اكتشاف الروابط الموضوعية التي تشد النص إلى مركب نظري تحتل في حدوده كل واحدة من تلك المدلولات التفصيلية موقعها المناسب، وهذا ما يُسمَّى بالنظرية، فالاتجاه الموضوعي هو السبيل للوصول إلى نظريات الإسلام في النبوَّة وسنن التاريخ والتغيُّر الاجتماعي..
وقد يثار، في هذا المقام، تساؤلٌ عن أهمية هذا المنحى بلحاظ أن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) نفسه لم يعط هذه النظريات تفصيلياً، وإنما منح للمسلمين نصوصاً وأحكاماً كما هي متناثرة بين أيدينا، ويرد باقر الصَّدر عن هذا السؤال بأن الصحابة، وإن كانوا لم يتعلَّموا هذه النظريات تفصيلًا، ولم يتلقّوها كذلك، فإنَّهم تلقوها إجمالياً وارتكازياً، ورسخت في أفكارهم ووجدانهم: «كان المناخ العام الإطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعتبرونه مساعداً على تفهُّم هذه النظريات، ولو تفهُّماً إجمالياً، وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقسيم، أما حين لا يوجد ذلك المناخ، أما حيث لا يوجد ذلك الإطار، إذن تكون الحاجة إلى النظريات، يعني الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام..، خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية» (11).
إنَّ هذا التفاعل بين الإنسان المسلم والإنسان الغربي جعل المسلمين وجهاً لوجه مع نظريَّات كثيرة، ولكي نحدِّد موقف الإسلام من هذه النظريات «كان لا بد من أن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية» (12).
________________________________________
(11)المصدر نفسه، ص 36 ـ 37.
(12)المصدر نفسه، ص 37.

[الصفحة - 67]


وتطبيقاً لهذا المنهج الموضوعي، في بحوثه العقديَّة، يمكن أن نلتمس موارد عديدة، لكننا نكتفي بمثالين لذلك، كي تتَّضح من خلالهما الثمرات العلمية والمنهجية المهمَّة لهذا التطبيق، وهما:
المثال الأوّل: التحليل الموضوعي والقراءة التوحيدية الترابطيَّة
لمفردات اللوحة الخماسية لأصول الدِّين
فعندما طبَّق الصدر هذا المنهج الموضوعي، تبيَّن أن أصول الدين، في وحدتها الترابطية، تمثل رؤية في فلسفة التاريخ وقاعدة لنظام اجتماعي متميِّز يعتمد صيغة رباعية في العلاقات الاجتماعية عكس جميع النظريات الوضعية التي تستند إلى صيغة ثلاثية، لقد كشف باقر الصَّدر أن اللوحة الخماسية (التوحيد ـ العدل ـ النبوة ـ الإمامة ـ المعاد) تمثّل رؤية حضارية تقدمية تختزن داخلها مقدمات الدفع والتحريك والتغيير جميعها؛ فالتوحيد يقدِّم مثلًا أعلى مطلقاً هو الله عز وجل، وهو اللامتناهي من جميع الجهات، وهذا ما يجعل المسيرة البشرية تصاعداً لا يهدأ ولا يفتر: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} ، إن عقيدة التوحيد تؤمن بمثل أعلى خارج الساحة التاريخية، ما يجعل المسيرة.. في دفع متواصل مستمر، وكلما قطعت شوطاً انفتحت أمامها أشواط جديدة، وهذا هو التغيير الكمّي الذي يطرأ على مسيرة البشر باعتناقها التوحيد واتخاذها «الله» مثلًا أعلى مطلقاً، وهناك أثر آخر مهم، وهو الأثر الكيفي للتوحيد والمتمثل في حل الجدل الداخلي للإنسان والصراع بين متطلبات ذاته وشهواته وغرائزه، وبين ما تستوجبه القيم والتعاليم الدينية، فالتوحيد يعطي الرؤية الفكرية والايديولوجية الواضحة التي تغني جميع الطموحات وجميع الغايات في مثل أعلى.
والعدل، بوصفه صفةً من صفات الله.. لها ميزتها الاجتماعية، تسهم بفعالية في توجيه البشرية وحمايتها من السقوط في متاهة الظلم، والنبوَّة توفر قاعدة الاتصال والرابطة الموضوعية بين الإنسان والمثل الأعلى، هذه الصلة التي يوجه فيها هذا المثل الأعلى البشرية من خلال أنبيائه ويهديهم إلى سبيل السعادة والرفاه، والإمامة هي الامتداد القيادي للأنبياء في حياة الناس، والحاجة إليهم تنبع من الحاجة إلى
________________________________________

[الصفحة - 68]


استمرارية رسالة الثورة التي يقوم بها الأنبياء في مجتمعاتهم ولا يستكملونها، أما المعاد فهو الركيزة التي تمنح الإنسان الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية: «إذن أصول الدين في الحقيقة ـ وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه ـ هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى، وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصيغها القرآنية الرباعية» (13).
المثال الثاني: التحليل الموضوعي التَّرابطي لحياة الأئمّة الاثني عشر
في هذا المجال، يطبِّق باقر الصدر المنهج الموضوعي على حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فيتجاوز التقليد السائد في دراسة سير الأئمة، ويسعى إلى اكتشاف الخيط الرفيع الذي يشد حلقات هذا الخط الإلهي الممتد والمستمر في التاريخ، لأن المدارس التقليديَّة تدرس سير الأئمَّة، عادةً، بشكل تجزيئي، وتفصل مرحلة إمام عن الإمام الذي يسبقه والذي يليه، ولا تهتم بالأهداف التخطيطية المشتركة التي يلتقي عندها غير إمام، ولا تحاول أن تعطي تفسيراً منطقياً لهذا الاختلاف في الأدوار بين الأئمة (عليهم السلام)، ولذلك توحي هذه الدراسات بصورة يمزقها التناقض بين الأئمة أنفسهم، فلا نفهم كيف يصالح الحسن (عليه السلام)، بينما يثور الحسين (عليه السلام)، ويلجأ الإمام زين العابدين (عليه السلام)إلى الدعاء بينما يتجه الباقر والصادق (عليهما السلام)إلى الفقه والحديث...، فإذا قمنا بدراسة أحوال الأئمة، على المستويين: التجزيئي والترابطي، فسوف نواجه على المستوى الأول اختلافاً وتبايناً في السلوك وتناقضاً من الناحية الشخصية في الأدوار التي مارسها الأئمة (عليهم السلام) (14)، أما على المستوى الثاني، وباعتماد المنهج الترابطي، فإنه ستزول جميع هذه الاختلافات لأنها تبدو حينئذ مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وإنما اختلف التعبير عنها وفاقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل إمام (عليه السلام).
ويستدل باقر الصدر على الدور المشترك بأمرين أساسيَّين:
أ ـ تكرار ظواهر في حياة الأئمة: يذكر الصَّدر، منها، استشهاد الإمام علي (عليه السلام)بنصوص الإمامة وتكرر الموقف نفسه من قبل الإمام الحسن والحسين والباقر (عليهم السلام)إلخ...
________________________________________
(13)المصدر نفسه، ص 199.
(14)الصدر محمد باقر، أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 141.

[الصفحة - 69]


ب ـ عقيدة الإمامة: يترقّى الصدر أكثر في مجال الاستدلال على الدور المشترك؛ حيث يؤكد أن هذه الفرضية مما تفرضه عقيدة الإمامة: «وفي عقيدتي أن وجود دور مشترك مارسه الأئمة جميعاً ليس مجرد افتراض يبحث عن مبرراته التاريخية والمشاهد مما تفرضه العقيدة نفسها وفكر الإمامة بالذات، لأن الإمامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها، فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في شروط الأئمة (عليهم السلام)وأدوارهم، مهما اختلفت أدوارهم الطارئة بسبب الظروف والملابسات، ويجب أن يشكل الأئمة بمجموعهم وحدة مترابطة الأجزاء، ليواصل كل جزء من تلك الوحدة الدور للجزء الآخر ويكمله» (15).
يمثل هذا الاتجاه الذي يؤسس له باقر الصدر أيضاً ضرورة لتبيُّن الدور الإيجابي الرسالي للأئمة (عليهم السلام)، لأن التصوُّر الشائع والسائد أن الأئمة مثَّلوا دوراً سلبياً في المستوى الرسالي الحركي نتيجة إقصائهم عن الحكم، ولقد كرَّست النظرة التجزيئية هذا المعنى في أذهان الناس، ولكن المنهج الجديد يكشف عن دورهم الكبير في خط الجهاد والرسالة: «فالأئمة (عليهم السلام)بالرغم من إقصائهم عن مجال الحكم، كانوا يتحملون باستمرار مسؤوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية وتحصينها ضد التردِّي إلى الهاوية، هاوية الانحراف والانزلاق عن مبادئها وقيمها، فكلما كان الانحراف يقوى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية، كان الأئمة (عليهم السلام)يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقع في التجربة الإسلامية والعقيدية من محنة ومشكلة وعجزت الزعامات المنحرفة عن علاجها بحكم عدم كفاءتها، بادر الأئمة (عليهم السلام)إلى تقديم الحل ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددها» (16).
وهناك دور مشترك آخر يشير إليه باقر الصدر: «هو جانب رعاية الشيعة بوصفهم الكتلة المؤمنة بالإمام (عليه السلام)، والإشراف عليها بوصفها المجموعة المرتبطة به، والتَّخطيط لسلوكها وحياتها وتنمية وعيها وإسعافها بكل الأساليب التي تساعد على صمودها في خضم المحن، وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإصلاحية إلى جيش عقائدي وطليعة واعية» (17).
________________________________________
(15)المصدر نفسه، ص 142.
(16)المصدر نفسه، ص 144.
(17)المصدر نفسه، ص 144.

[الصفحة - 70]


في ظل هذا الاعتقاد بالدور الإيجابي للأئمة (عليهم السلام)ووحدة هدفهم وتنوع أدوارهم وفاقاً لما تمليه خصوصيات المرحلة الظرفية لكل إمام، يطرح باقر الصدر أدواراً ثلاثة أو مراحل ثلاث لخط الإمامة في التاريخ.
الدَّور الأوَّل: مرحلة تفادي صدمة الانحراف نتيجة المسار الذي اتخذته الأحداث عقيب وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، وهذه الصدمة التي تجرَّع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)مرارتها، والتي كادت تعصف بالإسلام وأهله لولا الجهود التي بذلها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)خصوصاً الإمام علي (عليه السلام)لتحصين الأمة والإبقاء على الرسالة نفسها.
يبدأ هذا الدور بعد وفاة الرسول، ويستمر إلى حياة الإمام الرابع زين العابدين (عليه السلام).
الدَّور الثاني: بعد أن نجحت «الإمامة» في تحقيق الهدف المركزي من الدور الأول، وتجاوزت الأمة الخطر الداهم على الرسالة، وأقيمت جميع التحصينات ضد صدمة الانحراف يصل الدّور إلى هدف جديد، وهو بناء كتلة الخاصة، أي الطليعة الشيعية التي تتمتع بدرجة أعلى من التحصين، وتتوافر على عناصر أعمق من الوعي حتى تكون الفئة المتميزة على طريق حفظ الإسلام ومبادئه، وقد أدى هذا الدور الإمام الباقر (عليه السلام)واستمر إلى زمان الإمام الكاظم (عليه السلام).
الدَّور الثالث: بناء الكتلة الطليعية الواعية والمجاهدة: أصبح بمقدور الأئمة السعي الحثيث لاستلام السلطة، ومن ذلك رهبة السلطات القائمة وخوفها من أئمة أهل البيت في هذه المرحلة التاريخية أكثر من أي مرحلة أخرى، ذلك أنه بدا لهم أن قيادة الأئمة أصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام النقي، ما صعَّد من مواجهة السلطة ومحاربتها للأئمة من زمن الكاظم (عليه السلام)إلى أيام الإمام العسكري والإمام المهدي (عج)، الذي تواترت عن جده رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أخبار تفيد أنه سينتصر على جميع الطواغيت ويملأ الأرض قسطاً وعدلًا.
هذا الاعتقاد بتكامل أدوار الأئمة (عليهم السلام)يشكل الوجه الآخر لإيمان الصدر
________________________________________

[الصفحة - 71]


لانبثاق قيادة أهل البيت (عليهم السلام)من رسالة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، وأنَّها الامتداد الطبيعي والاستمرار المستقبلي الضروري لولاية النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) لحفظ الرسالة والبلوغ بالمسيرة الإسلامية إلى أسمى غاياتها متمثلة في قيام مجتمع الحق والعدل الذي لا يشوبه ظلم ولا انحراف، مجتمع يحقق الوعد الإلهي الصادق {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} [النور/55].
النَّقلة المنهجية الثَّالثة ـ من النَّزعة الثُّبوتية إلى الاتجاه التكاملي
يُنْعت الفكر الديني بالجمود وتحجُّر آلياته، ويتفاخر الفكر المادي بأنه فكر متطور يدرس الطبيعة والمجتمع من منظور متحرّك يرصد التطور الحاصل، فلا إيمان بقضية مطلقة إلى الأبد، والحقيقة دائماً تتغير وتتبدل، ولقد أسست المادية لهذا الأمر قوانين طبَّقتها على الطبيعة والتاريخ، وبخاصَّة المدرسة الماركسية التي طرحت المادية الجدلية (الديالكتيك) لتفسير الطبيعة، والمادية التاريخية لفهم التاريخ، فالتناقض والجدل هما أساس الحركة والتطور سواء على مستوى المادة أم على مستوى التاريخ.. إن الماركسية تتبجّح بأنَّها حوَّلت الجدل من أسلوب في المناظرة في المنطق القديم إلى منهج في تفسير الأشياء وقراءة الواقع وقانوناً كونياً شاملًا قابلًا للانطباق على الطبيعة والتاريخ، «فالجدل الجديد، في الديالكتيكيين، قانون للفكر والواقع على سواء، ولذلك فهو طريقة للتفكير ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره» (18)، ويزعم المنطق الجدلي أنَّ أصحاب المنطق القديم عموماً، والإلهيين خصوصاً، يستندون إلى ثلاثة مبادى لا أساس لها من الصحة، وهي: مبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ السكون والجمود في الطبيعة الذي يرى الأشياء ساكنة جامدة لا تغيير فيها، لقد تجاوز المنطق الجدلي هذه الأسس والمبادى الثلاثة، وآمن بمبادى أربعة أخرى هي حركة التطور وتناقضات التطور وقفزات التطور وقانون الارتباط العام (19).
لقد ناقش باقر الصَّدر هذه المبادى الأربعة في المصدر المشار إليه، وأكد أن
________________________________________
(18)الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، 191. دار التعارف للمطبوعات.
(19)انظر: فلسفتنا، من ص 192 ـ 260.

[الصفحة - 72]


الإلهيين لا ينفون الحركة، ولا ينظرون إلى الواقع بعامَّة والطبيعة بخاصَّة نظرة ستاتيكية جامدة، بل إنهم يؤمنون بالتطور والتكامل وفاقاً لقانون الحركة التي هي «سير تدريجي وتطور للشيء في الدرجات التي تتسع لها إمكاناته، ولذلك حدد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج الشيء من القوة إلى الفعل» (20).
وعمّقت الفلسفة الإسلامية نظرية الحركة على يد ملَّا صدرا (قدس سره) الذي أثبت أن الحركة لا تمس ظواهر الأشياء فحسب، بل تمسّ صميم الطبيعة وجوهر الأشياء، وهذه الحركة الجوهرية العميقة هي منشأ جميع التغيرات والتبدلات التي تطرأ على الظواهر، وهكذا يكشف الصدر أن الماديّين، في اتهامهم للميتافيزيقيين أو الإلهيين بأنَّهم يقتدون بجمود الطبيعة وسكونها، لا مسوِّغ له سوى سوء فهم الماديين الديالكتيكيين للحركة بمعناها الفلسفي الصحيح.
ويفرِّق باقر الصدر بين مفهوم الحركة عند الماديين والحركة في الفلسفة الإسلامية، ويرجع الاختلاف إلى نقطتين أساسيَّتين:
أولًا: إن الديالكتيك يرى أن التناقض مفهوم أساسي للحركة، فالصراع بين المتناقضات هو القوة الدافعة للتطور والحركة، أما في المفهوم الفلسفي الميتافيزيقي، فإن الحركة سير من درجة إلى درجة أعلى مختزنة داخل الشيء نفسه، لكنها في حالة كمون.
ثانياً: إن التطور الداخلي للأشياء لا يتوقَّف، كما رأينا، في حدود الطبيعة، وإنما يتعدَّى إلى عالم الأفكار والمفاهيم التي يراها التحليل الماركسي انعكاساً للواقع الخارجي، فقوانين الديالكتيك هي القوانين العامة للحركة، سواء في العالم الخارجي أم في الفكر البشري، وهذا ما لا توافق عليه الفلسفة الميتافيزيقية التي ترفض عموم قانون الحركة للمفاهيم الذهنية، لأنه لا يمكن أن تتوافر فيها جميع خصائص الواقع الموضوعي، ولا يعني هذا طبعاً «أن الميتافيزيقيين، إذا كونوا مفهوماً عن الطبيعة في مرحلة ما، جمدوا أفكارهم، وأوقفوا بحوثهم، واعتبروا ذلك المفهوم كافياً لاستكشاف أسرار الطبيعة في شتى مراحلها، فلا يوجد غافل يكتفي مثلًا بالمفهوم العلمي الذي يكونه عن البويض، فلا يتابع سير الكائن الحي في المرحلة
________________________________________
(20)المصدر نفسه، ص 200.

[الصفحة - 73]


الثانية» (21)، فالاختلاف أن الفلسفة الميتافيزيقية لا تخلط بين المفهوم الذهني للشيء والشيء نفسه في الخارج، فالأول ثابت والثاني متطوِّر.. ولكن بمقدور الفكر أن يلاحق هذا التطور للوقائع الخارجية بمفاهيم ذهنية جديدة، ولا يعني التكامل العلمي في مختلف الفروع تطوراً وجدلًا في عالم الفكر كما حاولت أن تثبت ذلك الماركسية، لأن الحقيقة أن التطور العلمي لا يعني نموّ الحقيقة وتطورها وإنما معناه تكامل العلم، أي زيادة حقائقه وقلة أخطائه تبعاً لتطور وسائل البحث والتعمق في التجربة.
إن المفكرين الإسلاميين، على الرُّغم من انتسابهم إلى فلسفة إلهية لا تلغي الحركة وتقربها بوصفها مفهوماً أساسياً للطبيعة، وكذلك للفكر بالمعنى التكاملي الذي طرحه باقر الصدر، نراهم يعالجون الظواهر الاجتماعية والمفردات العقديَّة بخاصَّة، غافلين عن تكامل هذه المفاهيم، فنراهم يسلكون منهجاً ثبوتياً ستاتيكياً في تحليل المسائل العقديَّة من دون أي نظر إلى تكامل هذا المفهوم وتطوره، أو المراحل التي قطعها لبلوغ هذه المرتبة، كما أنهم لا يلتفتون إلى الاستعدادات التي يختزنها هذا المفهوم والتي يتحرك من خلالها إلى آفاق مستقبلية، فلا يحاولون استشرافها.. باستقراء تاريخ التكامل والإحاطة بمنحى التطور..
إنَّ التفكير العقدي القديم حاول أن يدرس التراث العقدي والمسائل الكلامية بمنأى عن قانون الحركة والتكامل، لذلك فاتته دلالات مركزية مهمَّة ومضامين عميقة لأصول الدين عبر تاريخ علم الكلام، غير أن باقر الصدر (قده) يحدث نقلة نوعية تثور على هذا الإطار الثبوتي السكوني، ويعتمد منهجاً ديناميكياً تكاملياً، وهذا من شأنه أن ينتقل بالبحث الكلامي إلى مدارات جديدة لم يعهدها لو قيِّض لهذه النقلة أن تقنَّن وتقعَّد.
ولعل العديد من النتائج الجديدة التي توصّل إليها الصدر، في جملة من المسائل، تعود إلى هذه النَّقلة المنهجية المهمَّة:
فقد درس الصَّدر جملة من القضايا العقديَّة، عبر هذا المنظور التكاملي، وأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن والتغيُّر الذي يطرأ على المفهوم نفسه، فتجاوز الأحكام الإطلاقية والتصورات الثبوتية، ويمكن أن نعطي لذلك أنموذجين من نتاج الشهيد في هذا المضمار هما:
________________________________________
(21)المصدر نفسه، ص 210.

[الصفحة - 74]


الأنموذج الأوَّل: التوحيد وتكامل الوعي التوحيدي
في هذا المقام، يحلِّل الصدر التوحيد لا كأصل ثابت، وإنما يدخل في حسابه عامل الزمن وتكامل النبوَّات المبشرة بالتوحيد، فيرى أن الوعي التوحيدي بلغ أوجه مع رسالة الإسلام، لأن القرآن قد أوصل الفكر الإنساني إلى أعلى درجات التنزيه والتعظيم لله عز وجل {ليس كمثله شيء}[الشورى/11]، {وما قدروا الله حقّ قدره} [الأنعام/91]، ولم تبلغ الرسالة هذه المرحلة طفرة واحدة، وإنما ارتقت بالوعي الديني تدريجياً بوساطة نبوَّات عديدة لتدرك هذه الدرجة العالية، يقول الشهيد الصدر: «إن فكرة التوحيد ليست ذات درجة حدية، وإنما هي بنفسها ذات درجات من العمق والأصالة والتركيز والترسيخ، فهذه الدرجات متفاوتة كان لا بد بمقتضى الحكمة الإلهية أن يهيأ لها الإنسان بالتدريج، هذا الإنسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي الطبيعي في حسّه ودنياه حينما يدعى إلى فكرة التوحيد، لا بدّ من أن ينتزع من عالم حسه ودنياه بالتدريج لكي ينفتح على فكرة التوحيد التي هي فكرة الغيب» (22).
ويستقرى الصَّدر هذا التكامل للوعي التوحيدي عبر مقارنة بين أهم ديانتين سابقتين وبين الإسلام، فيسجل أن التوحيد في التوراة يعطي فكرة الله، لكن لا يستطيع أن ينزع عنه الطابع القومي المحدود، وفي الإنجيل صعدت فكرة الله مرتبة؛ وذلك لأنه تخلص من الطابع القومي، وأصبح الإله إلهاً عالمياً، ولكنه لم يجرّد كلية من حس الإنسان بل بقي أسير ذهنيّة الإنسان الحسية، وبهذا يعبَّر في الإنجيل عن المسيح بـ «ابن الله»، فالإله هو الأب لكل البشرية، لكن القرآن يعطي لفكرة التوحيد مداها الأعظم من التنزيه والتجريد، فيجرِّد الله عن أي علاقة مادية مع أي إنسان كان(23).
الأنموذج الثَّاني: تكامل النبوّات
إن إشكاليَّة الثابت والمتغير، أو الثابت والمتحول، تطرح نفسها بقوة لا في المجال الفقهي والتشريعي فقط، وإنما تمتد لتفرض نفسها في المجال الفكري والعقدي؛ حيث يثار التساؤل القديم الجديد: كيف يعالج الدين، بصيغته الثابتة وتعاليمه المحدودة المحصورة في صيغ معيَّنة ومفاهيم محدودة وتعاليم وأحكام
________________________________________
(22)الصدر، محمد باقر، أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 39، مصدر سابق.
(23)انظر تفاصيل هذا التطور في كتاب: أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص 39 و40.

[الصفحة - 75]


مخصوصة، جميع قضايا الإنسان ومشاكله وهمومه وآفاقه التي لا يحدها شيء على مدى الزمن؟ لقد تفحص هذه الإشكالية العديد من المفكرين الإسلاميين، ولئن تعدَّدت الإجابات إلا أنها تلتقي تقريباً عند المبدأ نفسه (24)، وهو أن تكامل الرسالات، مهما امتد واستمر، لا بد من أن ينتهي عند نقطة يبلغ معها نهايته، ومن المستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، وعليه لا بد من أن نصل إلى رسالة خاتمة تختزن داخلها جميع المقومات الأساسية لقيادة الإنسان وهدايته وتستوعب كل الحلول لجميع المشاكل والهموم التي يفرضها التقدم التقني والصناعي والاجتماعي.
لقد أجاب باقر الصدر عن السؤال السابق في بحثه: «التغيُّر والتجديد في النبوَّة» فاستعرض عوامل هذا التجديد، وهي أربعة عوامل أساسية:
أوَّلًا: أن تكون النبوَّة قد استنفدت أغراضها، واستكملت أهدافها بأن تجيء وصفة لمرض طارى في المجتمع الإنساني من الناحية الفكرية أو الروحية أو خللٍ في النظم الاجتماعية، فحينئذ لا يمكن أن تصلح النبوَّة وصفةً مؤقتة لكل زمان ومكان، ومثال ذلك ما يقال عن المسيحية من أنها تحث على التركيز على النواحي الروحية نتيجة لإفراط بني إسرائيل في الانغماس في الدنيا.
ثانياً: أن لا يبقى تراث يمكن أن يقوم على أساسه العمل والبناء، ويمكن تصوُّر ذلك في فرض موت النبي، وتولُّد ظروف تعصف بالرسالة، وتذهب بالتُّراث الروحي والمفاهيم، حينذاك تبقى النبوَّة مجرد مسألة تاريخية، ولا يوجد في حياة الناس ما يجسد مفهومها ومنظارها إلى الحياة.
ثالثاً: محدودية النبي نفسه، فالأنبياء كغيرهم من البشر غير متساوين في درجات تلقِّيهم للمعارف الإلهية عن طريق الوحي، فبعضهم غير مؤهَّل لأن يحمل هموم البشرية على الإطلاق في كل زمان ومكان، بل هو مؤهَّل لأن يحمل هموم عصره فقط، أو هموم مدينته أو هموم قبيلته فقط، «فإذا كانت النبوَّة محدودة بطبيعة قابليات هذا النبي، كان لا بد في خارج هذه الحدود الزمانية والمكانية من نبوَّة أخرى تمارس عملها في سبيل الله سبحانه» (25).
رابعاً: تطوُّر البشرية، فإن هذا التطور يجعل الرسالة السابقة غير مهيأة لهداية
________________________________________
(24)لاحظ بحث الشهيد مطهري، ختم النبوة، ودراسة السيد الطباطبائي حول النظام الاجتماعي في الإسلام.
(25)الصدر، محمد باقر، م.س.، ص 38.

[الصفحة - 76]


الإنسان الجديد، وهنا يؤكد باقر الصدر على مفهوم تكامل الرسالات، مصرّحاً بأن كل رسالة تهيِّء الإنسان لرسالة جديدة فـ «الإنسان المدعو يتصاعد بالتدرج لا بالطفرة، وينمو على مرّ الزمن في أحضان هذه الرسالات الإلهية، فيكتسب من كل رسالة إلهية درجة من النمو تهيِّئه وتعدّه لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة وأعبائها الكبيرة ومسؤولياتها الأوسع نطاقاً» (26).
ويحلّل باقر الصدر أبعاد التطوُّر البشري ومستوياته فيرجعها إلى ثلاثة:
أ ـ الوعي التوحيدي.
ب ـ المسؤولية الأخلاقية في تحمُّل أعباء الرسالة.
ج ـ خط التقدُّم الفني والتقني والسيطرة على الطبيعة. ويذكر أن التطور بلغ أوجه في البعد الأول (كما أشرنا في الأنموذج الأول)، وكذلك في البعد الثاني حين ارتقت النبوَّات بالإنسان وعوّدته على التضحية في سبيل الرسالة إلى أن بلغ أعلى المراتب.
أمَّا البعد الثالث فهو خط متطوِّر دائماً، لا يمكن أن يتوقف، لأن التقدم التقني والتكنولوجي الصناعي يمتاز بالتراكم الكمي، فكلما سيطر على مجال ما في الطبيعة رمى بصره نحو ميدان آخر، وهكذا... وتغير النبوات قانون أو سنة ترتبط بالبعد الأول والثاني، ولكنها لا تتأثر بالعنصر الثالث، ولا تنفعل به، وإلا لو كانت متوقفة عليه لما كانت النبوَّة متغيِّرة ومتجددة بين الحين والآخر، وبخاصَّة في عصورنا الأخيرة؛ حيث يشهد العالم نقلات سريعة في مجال التقدم العلمي والصناعي، ولكن لمَّا كانت النبوة مرتبطة فقط بخط الوعي التوحيدي وخط المسؤولية الأخلاقية، ولمَّا بلغ هذان الخطان نهايتهما ختمت النبوَّة مع رسالة الإسلام التي تمثل «رسالة شاملة كاملة عامة للحياة، جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل من ناحية استعداده لتقبل وعي توحيدي صحيح كامل شامل ومن ناحية تحمله لمسؤولية أعباء الدعوة» (27).
ولقد تصدّى أحد أبرز طلَّاب باقر الصدر (28)لتعميق هذا المفهوم (تكامل النبوّات) وحقّب تاريخ الأنبياء، وقسّمه إلى مراحل عديدة مهّدت لبلوغ الإنسانية أوج
________________________________________
(26)نفسه، ص 38.
(27)نفسه، ص 43.
(28)هو السيد محمد الصدر، في موسوعة الإمام المهدي(عج)، الجزء الرابع، اليوم الموعود.

[الصفحة - 77]


استعدادها لتلقِّي الأطروحة الكاملة والنهائية التي ستطبّق في المجتمع العالمي المنشود على يد صاحب العصر والزمان (عج).
وطرح أربع مراحل بوصفها نسقاً تكامليّاً يحكم تطوُّر النبوَّات:
أ ـ النبوَّات العقديَّة.
ب ـ النبوَّات التشريعية.
ج ـ النبوَّات القبلية.
د ـ النبوَّات العالمية (29).
في التحليل السابق، لاحظنا كيف تعامل باقر الصدر مع النبوَّة في تكاملها الزمني بلحاظ جذورها في التاريخ، ويشهد له بحثه عن الولاية، تعاملًا مع ظاهرة النبوَّة نفسها، ولكن هذه المرة في تكاملها وامتدادها في المستقبل؛ حيث أثبت بمنهجية فريدة مبتكرة قائمة على طريقة الاحتمالات ضرورة الولاية بوصفها استمراراً لخط النبوَّة في التاريخ.
النَّقلة المنهجية الرابعة ـ الأبعاد الاجتماعية للعقيدة، من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع
بحكم المهمَّات التي آمن بها المتكلِّمون وحدَّدوها، اصطبغ هذا العلم بصبغة تجريدية تستند على الجدل والتبكيت ومحاولة تسويغ التناغم والانسجام بين معطيات العقيدة وضرورات العقل بعيدة نسبياً عن الواقع وعالم الإنسان، لقد انقلبت وتحولت العلاقة الثنائية بين الإنسان والعقيدة.
هذا الاتجاه عمّق، من جانب آخر، الصبغة الفردية لعلم الكلام؛ حيث تعالج العقيدة بوصفها عقيدة فرد وتتعاطى مع قضية المسلم في ما يجب معرفته واعتقاده، وتوسَّعت هذه النزعة التجريدية بمنأى عن واقع الناس وهموم الجماهير، بل استغرقت أكثر فأكثر في عالم خاص من المصطلحات والرموز والصياغات البرهانية تضخم مع مرور الأيام.. ليعلن الانفصال عن التحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تواجه المسلمين، وبخاصَّة في عصرنا الحالي.
________________________________________
(29)انظر تفاصيل وخصائص كل مرحلة في كتاب: «اليوم الموعود» للسيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، ص 426 وما بعدها.

[الصفحة - 78]


من هنا كان علم الكلام بحاجة إلى نقلة ثورية تعيده إلى مهمته الأساسية في تكوين شخصيَّة الإنسان وهدايته، انطلاقاً من قاعدة فكرية مركزية، لأن العقيدة في قاموس الصدر هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة، وهذا لم يغب عن وعي العديد من زعماء الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إذ اتفق هؤلاء على إعطاء العقيدة بعامَّة والتوحيد بخاصَّة مدلولهما الاجتماعي والسياسي في حياة المسلمين، حتى ينفضوا عن أنفسهم غبار التخلُّف، ويهبوا مندفعين نحو قيام مجتمع متحضر ومتقدم يحتل مكانة على الأرض بجدارة ولا يرضى بالهوان والضعف (30)، ويلتقي مع هؤلاء بعض المفكرين المحدثين أيضاً: «لقد أدرك بعض المفكرين المسلمين المحدثين إشكالية علم الكلام هذه، فراحوا يبحثون عن علم كلام جديد إن أمكن القول. علم كلام يكون فيه للتوحيد وظائف جديدة، ويكون علماً محرّراً للإنسان وعلماً خالصاً صافياً من الشوائب والأكدار، وإن علماً تكون له هذه الخصائص لقادر حقاً على أن يدفع بأصحابه إلى الأمام» (31)، وبقراءة هذه المحاولات المهمَّة في بناء هذه القواعد الجديدة يبدو مشروع باقر الصدر متميزاً، لأنه قام على معالجة أصول الدين معالجة اجتماعية نهضوية تسعى أساساً لتقديم الدين بوصفه حلًّا للمشكلة الاجتماعية والتوحيد، بوصفه برنامجاً ثوريَّاً ضد الظلم والجهل والانحراف، والنبوّة بوصفها صلة موضوعية بين الله والإنسان، تقود زمام هذه الثورة الإلهية، وتنتصر لطموحات البشر في الكمال والسعادة، لقد قرأ الصدر هذه الأصول العقديَّة قراءة مستحدثة مستنيرة لم تفصل الله عن الإنسان، والسماء عن الأرض، والاعتقاد عن الحياة، والتصور عن العمل والحركة، إن هذه الازدواجية بين الغيب والشهادة بين الأرض والسماء، تتهاوى عندما تتحرك عقيدة الأمة في اتجاه إلباس الأرض أطر السماء (32)وتعميم روح المسجد على كل فضاء.
يتحوَّل الدِّين مع هذه النَّقلة المهمَّة من شأن فردي وقضية شخصية إلى مشروع مجتمعي، ويغدو حينذاك الملاذ الواقعي الصحيح لحل المشكلة الاجتماعية، ولا غرابة في أن يعمد باقر الصدر لإحداث هذه النقلة إذا التفتنا إلى أن حل المشكلة الاجتماعية كان دائماً هاجسه الكبير، لذلك حاول طوال مسيرته العلمية أن يؤسس
________________________________________
(30)انظر أمين أحمد، زعماء الإصلاح في العصر الحديث.
(31)جدعان، فهمي، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ص 189.
(32)الصدر، محمد باقر، منابع القدرة في الدولة الإسلامية (الإسلام يقود الحياة)، ص 228، دار التعارف.

[الصفحة - 79]


النظريات الإسلامية التي تقدِّم حلولًا لهذه المشكلة في أبعادها المختلفة: السياسية والاقتصادية والدستورية..
لقد كان همّه الأكبر الوصول إلى صياغة علمية دقيقة متكاملة للنظام الاجتماعي الأصلح، إنه البحث الدؤوب عن الإجابة عن سؤال محوري مهم: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وشعوبها في حياتها الاجتماعية؟ هذه المشكلة متجذرة في أعماق تاريخ الإنسان لأنها طغت على السطح منذ أن تشعبت النواة الأولى للمجتمع الإنساني وظهر أفراد عديدون تتجاذبهم ميول مختلفة وطموحات متفاوتة، وتجمعهم من جهة أخرى هموم مشتركة ومصالح موحّدة.
ولكن الإحساس المعاصر بهذه القضية أقوى وأشد، لأن الإنسان المعاصر يعي جيِّداً أنه هو الذي صنع المشكلة، وأنها لا تعرض عليه من فوق، إضافة إلى أن التراكم التاريخي للتجارب العديدة والنظم المختلفة، والتي باء أغلبها بالإخفاق، ما عمَّق في الوعي الإنساني الحاجة إلى التمحيص والتدقيق في المسألة.
لقد أبدع باقر الصَّدر حقاً في مناقشة المدارس الكبرى التي طرحت حلًّا لهذه المشكلة، وبخاصَّة المدرستان: الماركسية والرأسمالية في كتابيه: فلسفتنا واقتصادنا، وأبرز إخفاق هذين المذهبين في تشخيص حقيقة المشكلة، وبالتالي في وصف النظام الذي يقود إلى السعادة والكمال والرفاه. إن الخطوة الأولى للوصول إلى النظام الاجتماعي الأصلح هي دراسة جوهر المشكلة النابعة من طبيعة الإنسان، والتي جبلت على حب الذات والأثرة التي تمثل أقوى الغرائز الإنسانية المؤثرة على المسار الاجتماعي، ومن جهة ثانية، إن التواصل الإنساني والعلاقات الاجتماعية يقتضيان التنازل عن جملة من المصالح الفردية، ولا تستقيم حياة المجموعة إلا من خلال نظم حاكمة تحد من مصالح كل فرد لأجل الصالح العام، وهنا يصطدم النظام الاجتماعي بهذه العقبة، كيف نوفِّق بين الدَّوافع الذاتية ومقتضيات الحياة الاجتماعية؟
لقد سلكت الرأسمالية طريقاً ضحّت معه بالمصالح الجماعية من أجل الفرد، وسلكت الاشتراكية طريقاً موازياً، قدّمت فيه مصالح الجماعة على الفرد، وعمقت هذه الاتجاهات وغيرها الأزمة الاجتماعية، ولم تحلها بسبب تفسيرها المادي للحياة
________________________________________

[الصفحة - 80]


ورؤيتها المحدودة للكون والإنسان ورسالته في الوجود، ما جعل الإنسان أسير الحاجات المادية، يعيش أزمة عميقة في نفسه نتيجة هذا التمزّق الشديد بين الفرد والجماعة، والانشطار بين المادة التي أوغل في متطلباتها والآفاق الروحية التي اءُقْصي عنها، أما الصدر فيبدأ بداية مغايرة، إنه ينادي بـ «أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها ومقاييسها» (33)، «فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة... فإن نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجَّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي، هي النظرة المادية إلى الحياة التي يختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط» (34)، فالبشرية بحاجة إلى معين آخر غير التصورات المادية عن الكون التي تسجن الإنسان في سجن الطبيعة وضيق التاريخ، وليستقي منه نظامه الاجتماعي لا بدّ من «وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنَّى القضية الإنسانية الكبرى... ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم» (35).
فالعقيدة هي القاعدة الفكرية المركزية التي ينبثق عنها هذا النظام العادل الكفيل بتحقيق السعادة المنشودة، فالإسلام يمنح الإنسان نظرة روحية للحياة ومقياساً خلقياً جديداً يشخِّص من خلاله ما يجب وما لا يجب، فيخترق بذلك حجب الأنانية والانغلاق على الذات، لينفتح على الآخرين وهمومهم ومشاكلهم، بل ليقدم مصالحهم على مصالحه، وهو بذلك يوفِّق بين الدوافع الذاتية المركوزة فطرياً في الإنسان وبين مقتضيات الحياة الاجتماعية القائمة على المصالح المشتركة... إن هذا المقياس الخلقي الجديد تغذِّيه عقيدة المعاد والإيمان باليوم الآخر، وأن الحياة الدنيا شوط عابر نحو الحياة الآخرة الخالدة، حين تُوَفَّى كل نفس ما عملت ولا تظلم مقدار ذرة.
ويشرح باقر الصدر ـ مفصَّلًا ـ محاولة التوفيق التي يعتمدها الدين: «إن التوفيق الوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة وتتخذ العملية أسلوبين:
الأسلوب الأوَّل: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها
________________________________________
(33)الصدر، محمد باقر، المدرسة الإسلامية، ص 84، دار الكتاب الإيراني.
(34)المصدر نفسه، ص 87.
(35)نفسه، ص 88.

[الصفحة - 81]


الصحيح مقدِّمةً تمهيدية إلى حياة أخروية، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله، فالمقياس الخلقي، أو رضا الله تعالى، يضمن المصلحة الشخصية في الوقت نفسه الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى...
أمَّاالأسلوب الثاني الذي يتَّخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم، أو المصالح الاجتماعية، فهو التعهُّد بتربية أخلاقية خاصة تعنى بتغذية الإنسان روحياً وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه...» (36).
وفي ضوء الرِّسالة الحضارية المهمَّة للدين، يقدم الصدر أكثر التعريفات اختصاراً للإسلام ليكشف فيه عن مركزية العقيدة ومحوريتها: «وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها، فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدَّد، ويضع لها أهدافاً أعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه» (37).
هذه الأطروحة للدِّين، في قاعدته العقيديَّة والمفهوميَّة وكيف تمثل حلًّا للمشكلة الاجتماعية، يرتقي بها باقر الصدر ويطوّرها أكثر في «المدرسة القرآنية»، حيث يؤصل أكثر فأكثر هذه النظرية في بحث مقارن بين النظرية الاجتماعية الإسلامية والنظريات الوضعية الأخرى، إذ تستند الثانية إلى صيغة اجتماعية ثلاثية مقابل الصيغة الاجتماعية الرباعية التي تؤمن بها النظرية الإسلامية، إن كل المجتمعات تؤمن بوجود عنصرين أساسيين: الإنسان والطبيعة، ففي كل مجتمع لا بدّ من إنسان، ولا بدّ من أرض وموارد طبيعية ليمارس في ظلها الإنسان دوره الاجتماعي، لكن العنصر المرن والمختلف من نظام اجتماعي إلى نظام آخر، هو العلاقة الاجتماعية، فلكل مجتمع خصوصيات في نسج هذه العلاقة المعنوية بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة، هذا العنصر المرن له صيغتان: صيغة ثلاثية، لأنها تحدد الأطراف في ثلاثة (الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان)، وصيغة رباعية لأنها تؤمن بأربعة أطراف (الله ـ الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان)، ولا يتوهَّم أن الصيغة الرباعية تمتاز بإضافة عددية لعنصر جديد فحسب بل «إن هذه الإضافة تحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيبة الأطراف الثلاثة الأخرى نفسها، من هنا ليس هذا مجرد عملية
________________________________________
(36)نفسه، ص 91 ـ 93.
(37)نفسه، ص 97.

[الصفحة - 82]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف