البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأخلاق وتحوّلات المعرفة الإنسانيَّة

الباحث :  أ مسعود أميد
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  29
السنة :  السنة الثامنة ربيع 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 18 / 2015
عدد زيارات البحث :  1431

الأخلاق وتحوّلات المعرفة الإنسانيَّة مدخل إلى فلسفة الأخلاق عند الشَّيخ محمد تقي جعفري

أ. مسعود أميد (*)

احتلَّت «الأخلاق» مكانة متميِّزة بين مختلف الموضوعات التي تناولها المرحوم الشيخ محمد تقي جعفري؛ فقد ترك، في هذا المجال، تأمُّلات وأفكاراً معمَّقة، إضافة إلى تحديده لجملة من النقاط جديرة بالاهتمام. وفي وسعنا العثور على مستويات متعدِّدة من ذلك في أعماله وكتبه المختلفة.
يمكن، في إجمال عام، أن نلجأ إلى طرح خمسة أقسام نتناول في إطارها وجهات نظر الشيخ جعفري وأفكاره في ما يتَّصل بعلم الأخلاق حكمياً وفلسفياً، أو فلسفته للأخلاق بعبارة أخرى. وفي خطوة أولى نستعرض في ما يأتي كلًّا من الأقسام الخمسة:
أ ـ الأخلاق.
ب ـ الأخلاق، في المجالات والمستويات الأخرى.
ج ـ موضوعات علم النَّفس الفلسفي في مجال الأخلاق.
د ـ الموضوعات الإبستمولوجية في ما يتصل بالأخلاق.
هـ ـ نقد الاتجاهات والمدارس الأخلاقيَّة ودراستها.
تحاول هذه الدِّراسة أن تستعرض، في إطار الأقسام الأربعة الأولى، الأفكار والنقاط التي جرى استنتاجها من أعمال الشيخ جعفري.
________________________________________
(*)باحث، من إيران ترجمة: أ . سرمد الطائي .

[الصفحة - 244]


الأخلاق
ماهيَّـة الأخلاق
نجد أنَّ ثمَّة تعريفات متعدِّدة في ما يتَّصل بماهيَّة الأخلاق. وعلى سبيل المثال، في متناول أيدينا تحديدات شتَّى، من قبيل: إن «الأخلاق تعني الالتزام بعنصر داخلي تلقائي يوجِّه الإنسان نحو الخير ويحول بينه وبين الشر» (1)، أو القول: إن المرء «حين يستثير نزوعه نحو الكمال، بوصفه الوجهة الأساسية في كيانه، فذلك ما يؤدي به إلى الابتعاد عن القبيح والتمسُّك بالحسن من دون الحاجة إلى عامل خارجي، ويقال عن هذا الشخص: إنه يتحلَّى بالأخلاق ويتحرَّك في إطارها»(2)، أو إن «الأخلاق عبارة عن تفتُّق جميع الأبعاد الإيجابية في الإنسان في سياق يتجه نحو الغاية الكبرى من الحياة» (3). وكذلك القول: إن «الأخلاق، بوصفها كمالًا، هي وعي بما ينبغي في سياق بناء الإنسان واستحصال الكمال، إضافة إلى التطبيق العملي لما ينبغي فعله وما يلحقه من قول ونوايا وأفكار» (4). لكي نفهم الأخلاق، بشكل عام، وفي صياغة موجزة من الأفضل القول: «بهجة وازدهار لشخصية الإنسان في سياق الحياة غير المادية» (5). وبكلمة أخرى: «إن الأخلاق هي تحرير الطاقات الإيجابية والحقائق السامية المتعالية في الذات الإنسانية، في سياق تحقيق الكمال والغاية العليا للحياة» (6).
تأمُّل في المصطلح الأخلاقي
يتطلَّب استيعاب الأخلاق بشكل أفضل أن نولي اهتماماً للمصطلحات ذات الصِّلة بالموضوع والمفاهيم المستخدمة في إطاره. يمكن لذلك أن يمنح الموضوع مزيداً من الوضوح والوعي به بشكل أفضل. إن «القيم» و «الفضيلة» و «الواجب» وغير ذلك، من المصطلحات والتصوُّرات الأساسية المتعلقة بالأخلاق، بل هي عنصر منها بشكل ذاتي أو عرضي.
مفهوم «القيم» مصطلح مهم في علم الأخلاق، وهو يمتلك دلالة عامة تشمل القيم الأخلاقية، أي أن القيمة في مفهومها الأخلاقي تنطوي على عناصر مفهوم
________________________________________
(1)جعفري، محمد تقي، أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين). منشورات: تشيع، 1354، ص 62.
(2)م.ن، ص 65.
(3)جعفري، محمد تقي، ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج6. منشورات: فرهنك اسلامي، 1359، ص 239.
(4)م.ن، ج17، ص 194.
(5)م.ن، ج24، ص 307.
(6)م.ن، ج14، ص 75. يلاحظ كذلك: ـ جعفري، محمد تقي، تفسير ونقد وتحليل مثنوي (المثنوي: شرح ونقد وتحليل) ج6، منشورات إسلامي، 1363، ص 14. ـ جعفري، محمد تقي، زيبائي وهنر از ديدكاه اسلام (الجمال والفن في التصور الإسلامي)، منشورات: شركت سهامي. ب.ت.، ص 35. ـ تعريف ديكر (تعريف آخر). ضمن كتاب: ترجمة وتفسير نهج البلاغة. مصدر سابق، ج22، ص 299.

[الصفحة - 245]


القيمة العام، إلى جانب مواصفات وقيود أخرى. «والقيمة، في معناها العام، مفهوم منتزع من الفائدة التي تتَّصف بها حقيقة ما، فالشيء عديم الفائدة لا قيمة له. وفي ضوء ذلك فإن أهمية القيمة في حياة الإنسان تتحدَّد في إطار ما تنطوي عليه من فائدة مادِّية أو معنوية» (7). يمكن تعريف القيمة بأنها أهمية الشيء التي يجري انتزاعها من كونه مفيداً، ورغم أن القيمة في حد ذاتها لا تمثِّل واقعاً موضوعياً، فإنها تعدّ أمراً واقعياً على أساس ما يمتلكه منشأ انتزاعها من واقعية، وهي كون الشيء مفيداً بالمفهوم العام للفائدة (8). يمكن القول بكلمة موجزة: إن القيمة «أهمية يفرزها ما ينطوي عليه الشيء من فائدة» (9).
أما «الفضيلة» فهي بإيجاز حب الكمال للأنا والآخر من خلال دوافع سامية (10). فالحسن والخير هما إرادة الكمال وحبّه (في سياق أداء العمل)، والقبح هو عدم الإرادة (11).
وحقيقة الواجب هي دفع الإنسان بنحو جدي إلى فعل شيء تقتضيه المصلحة الملزمة أو تركه. ويتحقَّق الشعور بالواجب في مستوى أعلى من العوامل الحتمية والدوافع ذات الصلة بالربح والخسارة، ولا يكون الشعور بإلزاميَّته خاضعاً للعوامل المذكورة. وهذا اللون من الوعي بالواجب خاضع لتحفيز الضمير الإنساني وحسب (12).
إن الفعل، أو السلوك الأخلاقي، يعني الإتيان بالأعمال الحسنة واجتناب الأفعال القبيحة، في ضوء توجيهات الضَّمير بتوثُّبه نحو الكمال، وعلى أساس ضرورة فعل الحسن وترك القبيح، بعيداً عن الدوافع التي تقوم على الربح والخسارة الشخصيين (13).
وليس الكمال إنساناً، أو ظرفاً إنسانياً، يستجمع مختلف الفضائل، ويتجرَّد عن مختلف الرذائل، بل هو «وقوع الشيء ـ من قبيل الإنسان ـ في سياق ما ينبغي فعله وما يلزم التحلِّي به، ممَّا له علاقة بالشيء نفسه» (14).
والكمال التكويني هو ما يعبِّر عنه بقولهم مثلًا: «التكامل البايولوجي» أو «الفسلجي». وهذا النمط من الكمال أو التكامل (لو قلنا: إنه داخل في قسم
________________________________________
(7)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج22، ص 289.
(8)زيبائي وهنر از ديدكاه اسلام (الجمال والفن في التصور الإسلامي). مصدر سابق، ص 7.
(9)م.ن، ص 8.
(10)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين). مصدر سابق، ص 122.
(11)جعفري، محمد تقي، بررسي ونقد أفكار راسل. (راسل: دراسة ونقد) منشورات: امير كبير، 1364، ص 230.
(12)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج22، ص 286.
(13)م.ن، ص 67.
(14)زيبائي وهنر از ديدكاه اسلام (الجمال والفن في التصور الإسلامي). مصدر سابق، ص 73 و80 و81.

[الصفحة - 246]


الشرور)، خارج عن نطاق القيم باعتباره حركة حتمية لا إرادية، كما أن تكامل الكون (على تقدير القول: إن ثمة تكاملًا في الكون) خارج عن نطاق القيم أيضاً باعتباره حركة لا واعية وغير إرادية.
ويعني الكمال القيمي انتقاء خيارات أكثر تعالياً وسمواً في ما يتصل بإنشاء الآصرة مع الإنسان والكون وطبيعة الموقف حيالهما، انتقاءً يقوم على الوعي والإرادة. وهذا اللون من الكمال داخل في نطاق القيم، وترتكز مختلف التقديرات القيمية على هذه الإرادة وذلك النمط من الكمال (15).
تستخدم عبارة «العدالة الأخلاقية» في معانٍ متعدِّدة، منها «الحركة على أساس الضمير الذي يقضي بضرورة إتيان الخير وتجنُّب الشر، من دون انتظار أجر أو مكافأة، وبعيداً عن الرغبة في التخلُّص من العقاب»، أي «أن يتحرك المرء في ضوء الضمير خلال ممارسته للفعل الحسن واجتنابه لما هو قبيح، بهدف إرضاء الضمير وحسب». والعدالة الأخلاقية بمفهومها المذكور تمثِّل فضيلة محمودة للغاية، وقد عدَّها الحكماء الكبار في شرق المعمورة وغربها، دليلًا على التكامل الإنساني. ورغم ذلك فإن المرء حين يتولَّى تحليل ما يتحقَّق من إرضاء للضمير بمستوياته العادية، يدرك ما يؤدِّي إليه ذلك من التذاذ وابتهاج. ذلك أن طلب الالتذاذ فيه لون من الأنانية، حتى لو تسامى الالتذاذ هذا إلى ما فوق المستوى العادي. وهكذا فإن اللَّذة تلك تحول بين الغالبية العظمى من الناس وبين ما يفترض بهم أن يستوفوه من كمال. وهذا يعني أنه لا بد من تلافي ما يوجد من نقص في التعريف المذكور، والقول: إن العدالة الأخلاقية بحاجة إلى قيد إضافي علاوة على التحديد آنف الذكر، وينبغي القول في تعريفها: إنها سلوك على أساس ضمير ينزع نحو الكمال، من دون انتظار مكافأة أو محاولة لتجنُّب عقاب.
جدير بالذِّكر أن للعدالة دلالات أو مصاديق أخرى، حيث يعني العدل الإلهي فعله أو قوله سبحانه، الذي يقوم على حكمته البالغة وغناه الذاتي. كما يعني العدل القانوني أن تجري الأفعال أو الأقوال على أساس المبادى أو القوانين المحدَّدة. أما العدل الفلسفي فهو الإرادة العليا التي تتجلَّى في منظومة الكون والوجود (16).
________________________________________
(15)م.ن، ص 79.
(16)جعفري، محمد تقي، فلسفة دين (فلسفة الدين)، تحرير: د. نصري، منشورات: بزوهشكاه فرهنك وانديشه اسلامي، 1378، ص 275. وكذلك: ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج25، ص 99.

[الصفحة - 247]


نطاق الأخلاق وغايتها
تتمتَّع الأخلاق بدائرة واسعة، بنحو يجعلها تشمل أموراً عديدة، من قبيل السُّلوك (أو الفعل الظاهري) والأفكار والميول والنَّوايا والأقوال (17). وفي ما يتصل بغاية الأخلاق فهي وضع الذات (الإنسان) في سياق الحركة نحو الكمال والارتقاء إلى مستوى الأنا الحقيقي (18).
تعدّد الاتجاهات الأخلاقيَّة
نلاحظ، في مجال الأخلاق، بوضوح، تنوُّعاً في المشارب ووجهات النظر، وفي وسعنا تقييم ذلك من جهات كثيرة.
فعلى مستوى المنهج، تنتمي مناهج الممارسات الأخلاقية، أو آلياتها، إلى مستوى واحد معيَّن، بنحو لا يتيح للفعل أن يكتسب الطابع الأخلاقي سوى في إطار ذلك المنهج، أي أنه سيتحول إلى فعل غير أخلاقي حين ينتقل إلى مستوى آخر أدنى من المستوى المحدَّد أو أعلى منه. وللمنهج الأخلاقي مستويات كثيرة كغيره من الشؤون، حتى أن المنهج الواحد ربما يكون أخلاقياً بالنسبة إلى شخص ولا أخلاقياً بالنسبة إلى آخر.
اتضح، حتى الآن، أن التنوُّع ممكن في الأخلاق على مستوى المناهج والمصاديق التي تظل جميعها أخلاقية رغم تنوعها أو تباينها حتى في الشدّة والضعف. وعلى سبيل المثال فلو خصَّص المرء ساعة من وقته للعمل بما فيه صلاح المجتمع، وراح يعلِّم شخصاً جاهلًا، فإن ذلك ولا شك عمل أخلاقي. وهذا ما يقال أيضاً في شأن من ينفق ساعتين من وقته للغرض نفسه، ومن دون سبب قانوني أو إجباري. وفي السياق نفسه يصدق الفعل الأخلاقي على من «يعفو عن عدوِّه حين تتاح له فرصة الثأر، ويكون قادراً على ذلك»، أو من «يتجنّب ارتكاب القبيح مع أنه غير معرّض إلى ملاحقة القضاء وهو لا يخشى العقاب»، وكذلك من «يأتي بالواجب بهدف إنجاز الواجب نفسه، ولا يتوخَّى الحصول على مكافأة على ذلك». ففي سائر هذه الحالات، ثمة فعل أخلاقي قد تحقَّق، ورغم ما يوجد من تنوع في هذه المصاديق فإن ذلك لا يقدح في أخلاقيتها أبداً.
________________________________________
(17)م.ن، ج22، ص 67.
(18)م.ن، ج12، ص 144.

[الصفحة - 248]


كما اتضح من ذلك، أيضاً، أن التنوُّع في الأخلاق قد يتطلَّب أن تكون مختلف الأساليب والخيارات أخلاقية في حد ذاتها وبالنسبة إلى أشخاص معيَّنين، لكنها ليست بأخلاقية بالنسبة إلى شخص آخر سواهم. وبكلمة أخرى: حين يعمد عدة أشخاص إلى إنجاز أفعال متعددة (من قبيل س، ص، ع... الخ) تتناسب مع ظروفهم وحالاتهم، فإن هذه الأفعال والأساليب تتمتع بالطابع القيمي الأخلاقي بالنسبة إلى كلٍّ من هؤلاء، ولكن لو اعتمد أحدهم الخيار (س)، ثم اعتزم اللجوء إلى الخيار (ص) فإن فعله سيتجرَّد عن السمة الأخلاقية (19).
تصوُّرات متعدّدة للأخلاق المثلى
نواجه أنماطاً أخلاقية شتى يعد كلٌّ منها أنموذجاً للأخلاق المثلى، حين نعود إلى آراء المفكِّرين في ما يتصل بذلك. غير أن تأملًا في تلك الآراء سيجعلنا ندرك ما تعانيه من ثغرات وإشكالات. نستعرض في ما يأتي التصوُّرات الآتية:
1 ـ إن الأخلاق هي مرونة الإنسان ولين عريكته حيال ما يجري في المجتمع. أي أن يعتمد الإنسان المرونة حيال مجتمعه، ويمكن أن نسمي هذا بأخلاق المرونة.
2 ـ الأخلاق هي العمل بما تقتضيه مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه الآخرين، ويمكن أن نطلق على هذا النمط اسم الأخلاق العاطفية.
3 ـ إن الأخلاق هي العمل بعدد من المبادى بمعزل عن القوانين الحقوقية، وهي مبادى تنشأ عن اختيار نمط الحياة في مجتمعٍ ما. وهذا اللَّون من الأخلاق خاضع للعوامل التراثية والتاريخية والعرقية والاقتصادية والثقافية الخاصة بذلك المجتمع، (أخلاق التقاليد والمواضعات).
4 ـ إن الأخلاق عنصر احتياطي يعين على إجراء القوانين الحقوقية، ويتولَّى الحد من الجرائم والجنح وتقليص نفقات القضاء والمؤسسات التنفيذية، (أخلاق الاحتياط).
5 ـ الأخلاق هي ممارسات تتم في ضوء جملة من المبادى والقوانين الإنسانية، التي يمكن أن يؤدي التقيُّد بها إلى تلبية مختلف الحاجات العاطفية للإنسان بمستوى أعلى من تقاليد الحياة العادية، (الأخلاق الإنسانية).
________________________________________
(19)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 83 و84.

[الصفحة - 249]


6 ـ الأخلاق هي الحؤول دون أن تغدو النفس خاضعة للشهوات والهوى، (الأخلاق العقلانية المحضة).
7 ـ تعني الأخلاق العمل على أساس الواجب البحت، أي الواجب من أجل الواجب، (نمط آخر من الأخلاق العقلانية).
8 ـ ثمة اتجاه يرى أن وجهات النظر أعلاه تقع بأسرها خارج سياق القيم والأخلاق، أو أنها لم تستوعب ماهية الأخلاق والقيم بالشكل الكافي بحيث أنها تبقى عاجزة عن الارتفاع بمستوى الإنسان إلى الكمال الحقيقي. أما الأخلاق المثالية التي يتبنَّاها هذا الرأي فهي «أخلاق الكمال» أو «الأخلاق بمستوى الحياة غير المادية». ومن دون أن يتجاهل هذا الرأي نقاط القوة في الأنماط الأخلاقية السابقة، فإنه يتقبل العناصر المذكورة في التصورات تلك من قبيل العاطفة والتقوى حيال الشهوات ونحو ذلك، بنحو يسمو بها ويتعالى بمضامينها، ويتولَّى توظيفها في إطار معقول. وبكلمة موجزة: إن الأخلاق التي نؤمن بها تتجاوز اللذة، وتتخطى الاستحقاقات والتوقُّعات كما تتجاهل المكافأة وأي لون من الربح، وهذا التخطِّي لا يقوم سوى على شعور ينزع نحو الكمال (20).
أهمِّية الأخلاق
تتجلَّى ضرورة الأخلاق، أو ضرورة جوانب منها، من خلال النقاط الآتية:
1 ـ إن تاريخ الإنسانية الطويل يدعم القول: إن الأخلاق ظاهرة سجَّلت حضوراً في السياق التاريخي منذ بدء الحضارات الأولى، وتمتلك سابقة تاريخية طويلة. وقد تتابعت هذه الظاهرة حتى يومنا هذا، وهي تواصل تسجيل حضورها في المجتمعات الإنسانية (21).
2 ـ لن يؤدِّي إقصاء الأخلاق وتجريد الإنسان من طابعه الأخلاقي، سوى إلى تجريده من الصّفة التي تميزه من الحيوان، ولو غابت الفضيلة الإنسانية فهذا ما يستتبع غياب الإنسان نفسه (22).
3 ـ نجد أن أولئك الذين لا يتحلَّون بالأخلاق يواجهون الكون بتصوُّرات
________________________________________
(20)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص 245 ـ 247. ج8، ص 237 ـ 239، ج17، ص 193 و194. وكذلك: تفسير ونقد وتحليل مثنوي (المثنوي: شرح ونقد وتحليل) ج17، ص 193 و194. وأيضاً: جعفري، محمد تقي، عرفان اسلامي (العرفان الإسلامي)، منشورات: مؤسسة كرامت، ب.ت.، ص 140.
(21)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 19 و15،
(22)م.ن، ص 104 و105. وكذلك: ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج16، ص 268. فلسفة دين (فلسفة الدين)، ص 270 و271.

[الصفحة - 250]


غامضة وسوداوية عن الوجود والعالم. ذلك أن رؤاهم الداخلية تظل عاجزة عن تشذيب الحقائق التي يدركونها عن الوجود وتنقيتها. إنهم يرون أن مختلف حقائق الكون أوهام لا تقوم على أساس منطقي، لأن الهوى قد استولى على ذواتهم، ولم يتح لهم فرصة لأخذ عالم الوجود على محمل الجد(23).
4 ـ ثمَّة تبعات تترتَّب على غياب أخلاق الكمال، من قبيل الشعور بافتقاد الوضوح في عالم الوجود، واختفاء مشاعر الحب النقية البنّاءة وخلوّ الروح منها، والإحساس بأن مفهوم الحق لا يمتلك قيمة ذاتية، إضافة إلى ما تعانيه الحياة من فراغ مأساوي، والشعور بلا هدفية الحياة وعبثيتها بنحو يسوِّغ للمرء ارتكاب مختلف القبائح. كما يستتبع ذلك تصوُّر المرء بأنه يمثل حالة هادفة ذاتية بينما لا يشكل الآخرون سوى أدوات في إطار ذلك، والشعور بضرورة التواصل مع الأشخاص على أساس الحاجة إليهم، وضرورة القطيعة معهم في ضوء المصلحة الشخصية، ويعاني المرء بالتالي اغتراباً عن أبناء مجتمعه. إن شخصاً كهذا سيندفع نحو الوصول إلى السلطة من أجل تضخيم ذاته وحسب (24).
5 ـ ثمَّة تحوُّلات تطال حياة الإنسان في مجالات العلم والتقنية، ولكن إذا لم يقترن ذلك بتطوُّر في البنية الأخلاقية، فإنه لن تتحقق المكاسب المتوقعة من هذه التحوُّلات. عندما تنهمك جهود التربية في تطوير الجوانب العلمية في الإنسان من خلال تكثيف المؤسسات العلمية والتقنية، بينما تتجاهل البعد الأخلاقي السامي في الإنسان، فإن ذلك لن يعني سوى أن تربية كهذه تتولى إعداد الأرضية المناسبة للصراع من أجل البقاء (25).
6 ـ يقرر مبدأ عام ملموس أن أولئك الذين يتحلَّون بالوازع الأخلاقي الذاتي لا يلحقون الضرر بالمجتمع، فهم يمتلكون ضميراً حياً، ويحبون الخير ويعون الحق. لا شك في أن أشخاصاً كهؤلاء سيتمسكون بالمواضعات الاجتماعية بنحو أفضل من سواهم، ذلك أن مقاييس الضمير جعلت هؤلاء يدركون مصلحة المجتمع بشكل صحيح.
ويدرك هؤلاء، أيضاً، أن المبدأ الأوَّل في مقاييس الضمير الأخلاقية، هو عدم
________________________________________
(23)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج14، ص 53.
(24)م.ن، ج17، ص 197.
(25)نصري، عبد الله، تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، منشورات: بزوهشكاه فرهنك وانديشه اسلامي، 1376، ص 266.

[الصفحة - 251]


التجاوز على حقوق الآخرين، وهو ما يمثل أساساً لسائر الحقوق والقوانين والعلاقات الاجتماعية(26).
علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق
لو كانت الأخلاق عبارة عن تفتُّق الأبعاد الإيجابية وظهور الخصال الحميدة والحقائق المتعالية في الإنسان، في سياق يتجه نحو الكمال والغاية الكبرى من الحياة... فإن علم الأخلاق سيعني فرعاً علمياً يتكفل دراسة الآليات والعوامل التي من شأنها تحقيق ذلك، كما يتولى تحديد المعوِّقات في هذا الإطار. ويمكن تعريف فلسفة الأخلاق بأنها رؤية فلسفية حيال الأخلاق والقيم. يمكن القول، في تعريف الفلسفة: إنها نشاط ذهني فائق يتم من خلال الفكر والتعقُّل وطرح تساؤلات أكثر عمقاً إلى جانب معالجات أشد توغُّلًا ضمن مجالات كثيرة، في سبيل الوصول إلى أسئلة نهائية بالقدر الممكن واستيعاب مبادى الأمور ومناشئها. وفي ضوء ذلك، يمكن بنحو موجز تعريف فلسفة الأخلاق بأنها ممارسة للتعقُّل وطرح تساؤلات متعالية وتقديم تحليل معمَّق في ما يتصل بمبادى الأخلاق والقيم وأسسهما والكشف عما يمكن من أسئلة نهائية في ذلك النطاق (27).
وتتناول فلسفة الأخلاق قضايا من قبيل أن القضايا الأخلاقية والقيمية حقيقية أو اعتبارية خاضعة للمواضعات، والعلاقة بين ما هو موجود وما ينبغي أن يوجد، أو العلاقة بين الأخلاق والفن والدين والعلم والقانون... الخ، إضافة إلى أقسام الأخلاق المثلى لدى المفكِّرين، وأساس القيم ومبادى الأخلاق، الثابت والمتغير في الأخلاق، الضمير الأخلاقي، الفعل واللافعل في الضمير الأخلاقي... الخ.
الأخلاق: إمكان المعالجة علمياً وفلسفياً
لا بدَّ من ملاحظة أن كون الموضوع علمياً أو فلسفياً يؤثر على ما يتخذه الباحث، أو الدارس، من موقف حيال الموضوع. ويخضع البحث العلمي لمؤثرات الموقف الخاص للباحث في ما يتصل بطبيعته تعامله مع حقائق الكون وتحديده لها. أي أن في وسع طبيعة ذلك الموقف أن تحدد نمط المعرفة لدى المرء وطابعه العلمي
________________________________________
(26)بررسي ونقد أفكار راسل، (راسل: دراسة ونقد)، مصدر سابق، ص 439.
(27)جعفري، محمد تقي، تحقيقي در فلسفه علم (دراسة في فلسفة العلم)، مصدر سابق، منشورات: دانشكاه صنعتي شريف، 1372، ص 18 و19. وكذلك: ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج14، ص 73. ج22، ص 299 و300. زيبائي وهنر از ديدكاه اسلام (الجمال والفن في التصور الإسلامي)، مصدر سابق، ص 149.

[الصفحة - 252]


أو الفلسفي وحتى طابعه الخيالي أو الصوفي الذوقي. حيث إن المرء يأخذ في اكتشاف الحقيقة علمياً أو فلسفياً من خلال لون تعاطيه معها، فلو انهمك في ملاحظة العلاقات الظاهرة للأشياء كانت المعطيات التي يتوصل إليها علمية، أما لو اتجه نحو ما يقوم عليه موضوعه من أسس ومبتنيات فإن المعطيات المعرفية التي ستتمخض عن ذلك ستكون فلسفية (28).
يمكن أن نتقبَّل ذلك في ما يتصل بالأخلاق، أيضاً، فنحن نبدأ في هذا المجال على أساس لون من التعاطي مع مستوى عادي من التساؤلات والتفسيرات، كي نصل عبر عملية من التفكيك والتركيب إلى أن الأخلاق الإنسانية السامية تعني امتلاك خصال إنسانية حميدة تنشأ عن حركته في سياق «بناء الذات التكاملي». وهذه هي المرحلة العلمية. ثم في وسعنا تعميق الرؤية الراهنة والتوغل بها نحو المستويات التحتية للموضوع، أي أن يطرأ تغيير على لون معالجتنا للموضوع، وأن يتم الانتقال إلى قضايا أخرى. وعلى سبيل المثال، يمكن لمواصلة الإجابة العلمية المذكورة أعلاه أن نتساءل: ثمة حركة في سياق بناء الذات التكاملي، ولكن هل يدخل ذلك في نطاق ما تقتضيه العناصر الذاتية في شخصية الإنسان أو أنه من الشؤون العارضة؟ ما هي العوامل التي تمتلك أثراً أشد في انتفاء تلك الحركة بوصفها نتيجة ذاتية لشخصية الإنسان؟... الخ (29).
منهج البحث في فلسفة الأخلاق
نحتاج إلى كلٍّ من المنهجين التحليلي والتركيبي في إنجاز البحث الفلسفي والارتفاع بمستواه، أو إننا بحاجة إلى ذلك المنهج التحليلي ـ التركيبي في مختلف ما نبذل من جهود تستهدف اكتشاف الأشياء. والتحليل نشاط ذهني يجري فيه تفكيك الموضوع وفرز العناصر التي يتكوَّن منها وإخضاعها إلى الدرس. كما أن الذهن في عملية التركيب يعمل على جمع تلك العناصر واكتشاف ما يربط بينها من أواصر في إطار التركيب. إن كلا من هذين الأسلوبين ضروري لعملية الاكتشاف (30). ويمكن استثمار ذلك في فلسفة الأخلاق، فنعمد إلى ممارسة التحليل والتفكيك كي نستجمع حصيلة ذلك، ونتولى إعادة تركيبه ضمن مجموعة متَّسقة.
________________________________________
(28)نصري، عبد الله. علم وفلسفة از ديدكاه علامه جعفري (العلم والفلسفة عند العلامة الجعفري)، مجلة قبسات، العدد 8 و9، تابستان وبابييز 77، ص 127.
(29)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج22، ص 300.
(30)نصري، عبد الله، تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 106 و107.

[الصفحة - 253]


ويتطلَّب التحليل النظري والعقلاني، في مجال الأخلاق، أن نتأمل المعطيات الخارجية للأخلاق ومظاهرها في إطار التاريخ وفي أنموذج الإنسان المعاصر، في سبيل الكشف عن المبادى والعناصر النهائية. ولا بد في معالجتنا تلك من أن نوظف منهج القراءة الداخلية والاستكشاف الداخلي ومعطيات الضمير، إلى جانب ممارسة التحليل المنطقي (31).
الأخلاق: مجالات أخرى
الأخلاق والدِّين
يمكن بمستويات متعدِّدة أن نلاحظ علاقة الأخلاق بالدِّين والأواصر التي في وسع الأخلاق تجسيرها مع الدِّين.
أوَّلًا ـ ملاحظة تاريخ الاتجاهات العقيدية والأديان؛ إذ إنَّ ذلك يدلّ على أن الأخلاق والدين امتزجا في العصور الماضية وفي إطار الدِّيانات الأولى، كما أنَّه من الواضح أن الأخلاق قد اكتسبت طابعاً دينياً في الديانات التوحيدية والاتجاهات الدينية المتأخِّرة (32).
ثانياً ـ يتضح، من خلال ملاحظتنا للدين وأركانه، أن الأخلاق جزء من الدين. ويمكن أن نتأكد من هذه الحقيقة حين ندرك أن الدين يقوم على ثلاثة أركان أو مرتكزات هي: العقيدة، والمرتكز القانوني العملي، والمرتكز الموضوعي الذي يشمل الظواهر ذات الصلة بالحياة؛ ذلك أن المرتكز القانوني العملي يتقوم بالقضايا الأخلاقية والواجبات (33).
ثالثاً ـ لو تجرَّدت الأخلاق والشؤون الأخلاقية من صلتها بالله، فإنها ستفقد ما تقوم عليه من أساس، ولن تكون ثمة ضمانة تنفيذية تؤمّن تجسيدها بنحو حقيقي (34).
رابعاً ـ هنالك توحُّد في الهدف يجمع بوضوح بين الأخلاق والدِّين. ليس هدف الدِّين سوى تفعيل العناصر الإيجابية في شخصية الإنسان في مسار الحياة غير المادية، والارتفاع بمستوى الإنسان. وعلى صعيد آخر، تستهدف الأخلاق تحقيق الأمر نفسه بالضبط (35).
________________________________________
(31)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 16. وأعمال من قبيل (الوجدان) والأبحاث الأخلاقية في: ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق.
(32)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 58.
(33)فلسفة دين، مصدر سابق، ص 252.
(34)بررسي ونقد أفكار راسل (راسل: دراسة ونقد)، مصدر سابق، ص 248.
(35)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج24، ص 307.

[الصفحة - 254]


خامساً ـ ينبثق كل من الأخلاق والدين عن بعد واحد في الكيان الإنساني؛ إذ إن الإنسان يمتلك موهبة تدفعه نحو الكمال، وحين تتفتق هذه الموهبة ستتمخض عن الأخلاق والدين (36).
الأخلاق والإيمان
الإيمان هو التَّصديق الفاعل بالوجدان والضمير. وإنما أضيف قيد «الفاعل» إلى التَّصديق لأن مجرَّد التَّصديق والقناعة في مستوى الذهن ربما لا يتركان أي أثر على المرء. أمَّا لو توغَّل التَّصديق هذا إلى قلب الإنسان وضميره فإنه سيترك معطيات واضحة، لأن المرء حينئذ سيرى في ما صدَّق به جزءاً فاعلًا من شخصيته. إن معظم الناس يُقْبِلون على التَّصديق بضرورة العدل في سبيل حياتهم الفردية والاجتماعية. غير أن قليلًا منهم يلتزمون بالعدل في المستوى العملي. ولو آمن الإنسان بأن العدل يمثل جزءاً من كيانه فإنه سيلتزم به بالتأكيد، أي أن ما يترك أثراً عملياً هو التَّصديق الوجداني القلبي الفاعل بالعدل. إن الإيمان يتَّصل بمختلف أبعاد الإنسان وقابلياته، ويؤدي إلى تثوير مختلف ما يمتلك من طاقات ومواهب في مستويات أربع هي: موقف الإنسان حيال الذات وإزاء الله في ما يتعلق بعالم الكون وما له صلة بالآخر الإنساني. وفي ضوء ذلك، يمكن القول: إن الإيمان يؤدي إلى تفعيل الأخلاق، بل إن من أهم معطيات الإيمان البالغة هو الالتزام بالأخلاق (37). ومن جهة أخرى، لو عددنا الأخلاق تفعيلًا للقابليات الإيجابية والحقائق الأكثر تسامياً في الإنسان في سياق الكمال وأهداف الحياة، فذلك ما يسوّغ لنا القول: إن الأخلاق والممارسات الأخلاقية تمثل عاملًا مؤثراً في تعزيز الإيمان (38).
الأخلاق والفقه
الفقه، في مفهومه العام، هو العلم بالأحكام ذات الصلة بمختلف أنماط السلوك والأفعال، في المجالين: المادي والمعنوي، استناداً إلى الله والأدلَّة الرئيسة على شرعه وهي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. وهذه الأدلَّة تتولَّى تحديد المصالح والمفاسد في الحياة غير المادية التي لا يمكن من دونها تحقُّق السعادتين في الدنيا والآخرة. وفي ضوء ذلك يكون موضوع الفقه سائر الأفعال الإنسانية الباطنية
________________________________________
(36)فلسفة دين (فلسفة الدين)، مصدر سابق، ص 263.
(37)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج26، ص 13. وكذلك: تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 133 و134.
(38)م.ن، ج14، ص 75.

[الصفحة - 255]


والظاهرية وما يتعلق بالأقوال والتروك... الخ. وبكلمة أخرى، فإن نطاق حركته يتمثل في بيان الأحكام والحقوق والواجبات ضمن دائرة الحاجات الإنسانية الأصيلة الثابت منها والمتغير، في مخططها الرباعي من حيث ما ينبغي فعله وما يحسن الإتيان به وما يوازيه من مباحات (من دون الحاجات الوهمية). إذن فالفقه يتكفَّل بتنظيم مختلف الشؤون الحياتية وإصلاحها في الحياة غير المادية. وهذا تعريف للفقه العام أو الفقه الأكبر، والفقه، في مفهومه هذا، مساوق للدين في مفهومه ومعناه. وفي ضوء ذلك تكون الأخلاق جزءاً من الفقه، وهي كذلك جزء بالغ الأهمية من رسالات الأنبياء، أي أن فقه الأخلاق سيكون واحداً من الفروع الفقهية.
ثمة مفهوم أقل سعة للفقه، وهو الأحكام التي تحدِّد الواجبات في نطاق البعدين الفردي والاجتماعي من الحياة، وفي مجال الأفعال والتروك. ولا يتكفل الفقه بمفهومه هذا بتنظيم سائر شؤون الإنسان، وهو لا يشمل المخطط الرباعي لموقف الإنسان، كما أنه لا يساوق الدين. ويسمى الفقه بهذا المعنى بالفقه الأصغر، ويطغى على الفقه هنا الطابع القانوني إضافة إلى جانب معنوي محدود. ووفق هذا المفهوم ستكون الأخلاق أمراً آخر مبايناً للفقه، ولن يكون الأخير شاملًا للأخلاق (39).
الأخلاق والقانون
يمكن، تحت العنوان هذا، تسجيل ملاحظات كثيرة، في ما يأتي بعضها:
أولًا ـ تتكوَّن الأخلاق على أساس طاقة داخلية متجذِّرة (الضمير)، بينما لا علاقة لشؤون القانون بضمائر الناس، بمعنى أن القانون لا ينبثق عن مصدر كهذا، كما أنه لا يتوخى تعزيز ذلك البعد في الكيان الإنساني، إضافة إلى أن القانون يتصل بشؤون التحرّي والعقاب والثواب وتحديد المسؤولية في مقابل الأوامر والنواهي القانونية، وهذه أمور لا مكان لها في عالم الأخلاق (40).
ثانياً ـ لم ينجح أي نظام قانوني في الاضطلاع بتطوير الإنسان ذاتياً في روحه وأخلاقه، ولم يحصل ذلك أبداً (41). وهكذا يمكن القول: إن القانون عاجز عن أن يكون بديلًا للأخلاق.
________________________________________
(39)فلسفة دين (فلسفة الدين)، ص 128 و148 و161 و163 و186 و187.
(40)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 24 و52. وكذلك: تفسير ونقد وتحليل مثنوي (المثنوي: شرح ونقد وتحليل)، ج6، ص 22.
(41)وايتهد، ألفرد نورث. سر كذشت انديشه ها (قصة الفكر)، ج1، مع دراسة نقدية كتبها العلامة الجعفري، منشورات: دفتر نشر فرهنك اسلامي، 1370، ص 93.

[الصفحة - 256]


ثالثاً ـ يتجلَّى ضعف الأخلاق بقدر الحاجة إلى حشد كبير من القوانين التي تتولى تنظيم الضوابط الحقوقية المعقدة. وفي ضوء ذلك، سيكون تضخم النظام القانوني في مجتمعٍ ما وتعقيده، واحداً من المسوّغات التي تدلّ على ضعف الأخلاق في المجتمع (42).
رابعاً ـ ليست الأخلاق مجرد ضمانة تنفيذية للقوانين، وهي ليست بديلًا احتياطياً يعزِّز الضوابط الاجتماعية (43)، ولكن وفي الوقت نفسه فإن من معطيات الأخلاق أنها تؤدي إلى نزع دوافع الجريمة القانونية في الذات الإنسانية، وبالتالي فإن ذلك سيعمل على إرساء الأواصر والضوابط الاجتماعية والقانونية وتنفيذها بنحو أفضل (44).
خامساً ـ ليس في وسع القانون، من دون الأخلاق، أن يحقِّق هدفه المحدَّد، وهو تنظيم العلاقات الاجتماعية بالنحو الأمثل. بل سيؤدّي تجرُّده عن الأخلاق إلى إخفاقه وفشله (45).
سادساً ـ القانون القيمي هو قانون لا يتجاهل قيم الإنسان السامية، ومنها الأخلاق (46). لا بدَّ للخبراء، في مجال القانون، من أن يستثمروا الأخلاق والخصال الإنسانية السامية، التي تحتشد أمثلتها في تاريخ الإنسان، وعليهم أن يرفضوا جعل الجانب الطبيعي من الحياة محوراً بحتاً للقانون. ليس القانون الأمثل ذلك الذي يتولَّى تنظيم «ضرورات الحياة الطبيعية»، بل هو قانون ينظِّم تلك الضرورات الطبيعية عبر إدراكه حركة الإنسان نحو الكمال، في سياق خاص ومن خلال منطق صائب وفي ضوء أهداف الكمال. وفي هذه الحالة، سيكون تدخُّل الأخلاق، في تحديد القانون ووضعه، أمراً لا مناص منه (47).
سابعاً ـ حين نتأمَّل بدقَّة، في موضوع القانون، سنرى أن أهم أساس يقوم عليه هو إرساء العدل الاجتماعي والحؤول دون مصادرة حقوق الضعفاء من قبل الأقوياء، وأن ذلك يمثل أكثر أسس القانون مركزية. وفي خلاف ذلك، لا يتوافر لدينا مسوّغ منطقي يتكفل الرد على مقولات نظير: «الحق لمن غلب»، أو «الحق للقوة». لا بد من أن نقرر في ضوء ذلك أن الحقيقة الأخلاقية هي المبدأ الأساسي
________________________________________
(42)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج21، ص 20.
(43)م.ن.
(44)بررسي ونقد أفكار راسل (راسل: دراسة ونقد)، مصدر سابق، ص 439.
(45)م.ن.
(46)جعفري، محمد تقي، حقوق جهاني بشر از ديدكاه اسلام وغرب (حقوق الإنسان في التصورين الإسلامي والغربي)، منشورات: دفتر خدمات حقوقي، 1370، ص 178 و281 فما بعد.
(47)جعفري، محمد تقي، حياة معقول (الحياة اللامادية)، منشورات: سيما، 1360، ص 88.

[الصفحة - 257]


للقانون والقواعد القانونية، وهي حقيقة يحاول علماء الأخلاق وأنصارها الحفاظ عليها حيَّة في قلوب الناس (48).
ثامناً ـ لقد تقبّلت الأخلاق المثلى الحياة الاجتماعية للإنسان، ودعمت القوانين والضوابط القانونية ذات الصلة بهذه الحياة، لكنها أيضاً راحت تتولى الإشراف على هذه الهيكلية القانونية، وهي لا تتردّد في التأثير عليها (49).
الأخلاق والعرفان
إن الأخلاق مقدِّمة ضرورية تمثل مدخلًا إلى العرفان، وهذه هي النقطة الأولى التي لا بد من إدراكها في موضوع الأخلاق والعرفان. يعمد بعض الناس إلى الخوض في العرفان، ويقفزون إلى المستوى هذا قبل الممارسة الأخلاقية وقبل أن يتحلوا بالخصال الفاضلة. غير أن هذا النضج المبكر الذي تحقق في وقت غير مناسب، يؤدِّي إلى تعريض هؤلاء إلى اهتزازات وتحولات موهومة، وبالتالي فإن ذلك سيلقيهم في دائرة اليأس والقنوط والاضطراب، لأنهم لم يحدِّدوا بعد الموقف المبلور حيال الذات وعالم الوجود. وحيث أن العرفان حركة تكاملية في سياق إلهي، فإنه لا يمكن أن يتحقَّق أبداً إلَّا بعد التأهيل الروحي الأخلاقي. سيكون ثمة التذاذ ووجد وأحوال عرفانية، غير أن ذلك سيكون مساوقاً للذة الأبيقورية (50)، لأنه لم يقترن بتطهير الباطن من رذائل الأخلاق. لن تتوافر المصداقيَّة لمن يزعم السلوك العرفاني ويدعي الوصول إلى عرفان حقيقي، طالما ظل أسيراً للحسد والبخل والرَّغبة في الاستئثار بالامتيازات، وعاش الأنانية بمختلف أشكالها وخضع لعواطف عابرة غير بريئة. كما أن ذلك لن يتحقق طالما بقي المرء يعدّ قيمه الشخصية حالة مطلقة ويمتلىء كبراً وغروراً ربما ظهرا على شكل تواضع شديد، وظل يحب الشهرة ويطلب إعجاب الناس. إن زعماً كهذا يمثل بذاته في ظل هذه الرذائل الباطنة، واحدة من أبشع الرذائل تكفي لوحدها في سقوط الروح. لن يحظى بأي مستوى من العرفان ذلك الذي لا يزال «يرضى للآخرين ما لا يرضى لنفسه» و «لا يرضى للآخرين ما يرضاه لنفسه». وبإيجاز فإنه يمكن القول: إن العرفان الحقيقي هو التخلُّق بالأخلاق الإلهية، ولا يمكن أن نترقب تحقيق هذه المرتبة السامية من دون الأخلاق الفاضلة بوصفها الشرط الملزم في ذلك (51).
________________________________________
(48)بررسي ونقد أفكار راسل (راسل: دراسة ونقد)، مصدر سابق، ص 441.
(49)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 127. حياة معقول (الحياة اللامادية)، مصدر سابق، ص 86 ـ 88.
(50)المؤاخذة التي تؤخذ على مذهب أبيقور، في اللذة، هي أنها لذة مادية، أي أنه يدعو إلى طلب الفضيلة بهدف الحصول على حياة لذيذة. أما الاتجاه الأخلاقي الآخر فهو يدعو إلى لذة لا تعني شعوراً مادياً بقدر ما تمثل تجسيداً للقرب من مستويات الكمال العليا (المترجم).
(51)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج14، ص 59 و60.

[الصفحة - 258]


النقطة الأخرى، في هذا المجال، هي أن ثمة تشابهاً على مستويين بين الأخلاق والعرفان: أحدهما هو أن كلًّا من العرفان والأخلاق يبدأ بتخطِّي المرء للغفلة التي يعيشها في حياته الطبيعية المادية المحضة، والآخر أن كلًّا منهما يتحرك ويخوض في مسار الخير والتكامل (52).
وأخيراً، فإن للخلق الفاضل تأثيره الإيجابي على الكشف العرفاني، فكلَّما تقدم المرء في التزكية الباطنية، حقَّق تقدُّماً أكبر في تخطِّيه لمرحلة البوارق المؤقتة التي تطرأ أحياناً، إلى مرحلة يدوم فيها الكشف الرباني، أي تتحول تلك المشاهدات غير الاختيارية إلى فعل اختياري (53).
الأخلاق والفلسفة
الأخلاق والأنطولوجيا
تتَّصل الأخلاق بمجموعة من الأفكار الانطولوجية وموضوعات الفلسفة ضمن آصرة معيَّنة، وذلك من قبيل فكرة غائية الكون ومسألة الأبدية. فلو لم نؤمن مثلًا بوجود غاية للكون لكانت مبادى الأخلاق أمراً ينتمي إلى عالم الخيال (54).
وهذا ما يجري كذلك في ما يتعلق بأبدية الروح وخلودها، أو الإيمان بوجود رقيب متعال (الله). أي أنه ليس في وسعنا التدليل على القيم الإنسانية، ولا أيٍّ من هذه القيم، لو لم نؤمن بخلود الروح أو تجاهلنا ذلك الرقيب المتعالي في حياة الإنسان (55). ومن خلال إدراكنا لهذه الحقائق تقترب الأخلاق من نطاق الانطولوجيا، وتدفعنا تلقائياً إلى الخوض في مباحث من قبيل غاية الكون والخلود والخالق... الخ. يجدر بنا أن نتأمَّل أيضاً في ما طرحته الأخلاق والسلوك الأخلاقي من أسئلة في موضوع آصرة الوجوب والضرورة بين العلة والمعلول أو الحتمية السببيَّة بينهما بوصف ذلك مبدأً يحكم عالم الطبيعة، أو السببية الضرورية الكلاسيكية. بمعنى أن الأخلاق دائرة يصدر فيها المعلول (الفعل الأخلاقي) من الإنسان من دون أن تبلغ علته أو سببه درجة الوجوب والحتمية الكاملة، وهذا ما لا ينسجم مع السببية الضرورية الكاملة في الأشياء الطبيعية المادية التي لا تتنازل عن
________________________________________
(52)جعفري، محمد تقي، عرفان اسلامي (العرفان الإسلامي)، مصدر سابق، ص 21.
(53)م.ن، ص 53.
(54)سر كذشت انديشه ها (قصة الفكر)، مصدر سابق، ج2، ص 397.
(55)م.ن، ص 557 و558.

[الصفحة - 259]


نسبة المئة في المئة (56). كما لا يسعنا أن نتجاهل أن في وسع الأخلاق نفسها أن تكون أساساً للبرهنة على الأفكار الانطولوجية، ويمكن، مثالًا على ذلك، أن نتولّى على أساس الأخلاق إثبات المعاد وخلود الإنسان. ذلك أننا نواجه قضية تفترض الإنسان مجرد ظاهرة مادية تدور في إطار المادة والماديات المحضة بأفعالها وكيانها، وليس فيها أي بعد ميتافيزيقي. غير أن ذلك لا ينسجم مع ما يتملك الإنسان من «اندفاع نحو القيام بالواجبات والشعور بالمسؤولية الأخلاقية»، ونزوعه إلى «القيام بالواجب من أجل الواجب نفسه»، لأن ذلك سيغدو حينئذ أمراً يفتقد المعنى والمضمون، الأمر الذي يعني تفريغ الإنسانية نفسها من مضمونها الإنساني. بيد أننا نقطع موقنين بأن ثمة حقيقة في شعورنا بالمسؤولية الأخلاقية وفي أدائنا للواجب على أساس أنه واجب، وهكذا فلا بد من أن نؤمن بأن شخصية الإنسان تنطوي على بعد متسامٍ لا يخضع لقيود المادة والجسم، كما أن شخصيته هذه تتمتع بالخلود بما تمتلك من بعد غير مادي (57).
الأخلاق واللّاهوت الفلسفي
يمكن للأخلاق أن تكون أساساً للبرهان على وجود الخالق. الخيار الأوَّل هو التدبُّر في قدسية الأخلاق وسموها وجلالها، ما يعني أنها لا تقوم في وجودها على الماديات بل لا بد من القول: إنها تتصل بأمر متعالٍ بالضرورة. وتوضيحه أن ثمة شعوراً بمسؤولية والتزام يتعاليان على ترقب المكافأة والثواب، وفي ضوء ما يتسم به ذلك الشعور من قدسية لا يمكن أن نتصور أنه ناشىء عن الجانب المادي في الإنسان الذي تستغرقه الطبيعة ومادياتها وما يشيع فيها من ميول وأهواء وقيم الربح، الأمر الذي يعني أن لذلك الشعور جذوراً إلهية (58). وبكلمة أخرى، فمن المستبعد أن ثمة من يرتاب في حقيقة الشعور والإدراك المتعاليين بمختلف مستوياتهما، أي الشعور بالمسؤولية في الحياة بعامة. نتقدَّم بعد ذلك خطوة أخرى نحو الأساس الحقيقي لهذا اللَّون من الإدراكات. لا شك في أنه من غير الممكن أن نترقَّب ظهور شؤون متعالية كهذه في نطاق العقل العادي وما يُنشى من مواضعات لتدبير الحياة العادية. ومن هنا يتضح تدخُّل الكمال المطلق الإلهي بشكل مؤكد، أي أن الله هو الذي أوجد في الإنسان هذا النمط من المشاعر (59).
________________________________________
(56)جعفري، محمد تقي، جبر واختيار، منشورات: ولي عصر، ب.ت، ص 189.
(57)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج9، ص 283.
(58)م.ن، ص 357.
(59)جعفري، محمد تقي، فلسفة وهدف زندكي (فلسفة الحياة وهدفها)، منشورات: كتبخانه صدر، ب.ت، ص 106 و107.

[الصفحة - 260]


وفي الخيار الثاني للبرهنة على وجود الخالق، عن طريق الأخلاق، يكتسب الأمر طابعاً إثباتياً، بمعنى أنه لا يمكن إثبات قيم الأخلاق وتفسيرها من دون القول بوجود الله، أي أننا لن نمتلك حينئذ تسويغاً معقولًا منطقياً يفسرها ولا أساساً يجري إثباتها في ضوئه. «فلو لم يكن الله محوراً ترتكز عليه قيم الإنسان العليا من قبيل الخضوع للحق والعدل والتخلِّي عن اللذة في سبيل تحقيق القيم الإنسانية العليا، فإنه لن يتيسر إثباتها أبداً، بل على العكس سيؤدي بنا ذلك إلى تسفيه عمل من يجهدون للتمسك بالقيم العليا وتحقيقها في المجتمع الإنساني، ويتخلون في سبيلها عن الاستحقاقات واللذائذ والأنانية والسلطة، ويدفعنا إلى رميهم بالمرض والاعتقاد بأنهم من الأشقياء» (60).
من المهم، في اللَّاهوت الفلسفي، أن ندرك أن قضايا الأخلاق وقيمها ترتكز على مبادى الميتافيزيقيا، وأن هذه القيم والمقولات الأخلاقية برمتها تستند إلى الله. وهكذا فإن الله هو خالق الأشياء ومبدع القيم في آنٍ واحد (61).
الأخلاق وعلم النفس الفلسفي
في وسع الأخلاق أن تقدم مسوِّغات للتدليل على عدد من المقولات التي يطرحها علم النفس الفلسفي، ومنها موضوع تجرُّد النفس، فلو كان الإنسان مجرَّد مخلوق مادي لما كان بوسعه أن يتخطَّى حسابات الربح والخسارة، وأن يتفادى تضخُّم الأنا المادية، ويتذوَّق ما يكمن من لذة في تجاوزه لقيود عالم الطبيعة والمادة. بينما يشهد تاريخ الإنسان بوجود شخصيات سامية، كالأنبياء والأولياء وأهل الحكمة والعرفان الذين تجاهلوا نزعات الأنا المادية ولم يخضعوا لتأثيراتها. وهذا دليل يثبت أن الإنسان ليس مجرد كتلة من الذرات (62). أمّا الدليل الآخر على ذلك فهو يقوم على الشعور بالمسؤولية الذي مرَّ الحديث عنه. إذ إن إحساساً كهذا لا يمكن أن يصدر عن الغرائز والفعل ورد الفعل الماديين. وتتدخل في هذا الشعور شخصية الإنسان الحرة التي تتحرك من خلال رقابة وسلطة عقلانيين تتحكمان بالسلوك، فهو شعور يرتكز على شخصية مستقلة تخطت الفعل ورد الفعل الماديين في إطارهما المحض، ودلَّت على امتلاكها هوية أفضل تتحرك في أفق أكثر رحابة (63).
________________________________________
(60)ترجمة وتفسير نهج البلاغة. مصدر سابق، ج12، ص 357 و358.
(61)سر كذشت انديشه ها (قصة الفكر). ج2، ص 716 و717.
(62)ترجمة وتفسير نهج البلاغة. مصدر سابق، ج14، ص 161.
(63)م.ن، ص 161 ـ 163.

[الصفحة - 261]


إن اختيار الإنسان وحريته من الموضوعات الأخرى في علم النفس الفلسفي، والاختيار هو ذلك الإشراف وتلك الهيمنة التي تمتلكها الأنا الإنسانية على أفعالها وأحوالها وشؤونها، وبتعبير موجز، فهي الحرية الداخلية. وحين نتدبَّر في الأخلاق ندرك أن الفعل الأخلاقي هو تجاهل الغرائز الحيوانية وتجاوز الميول المادية المحضة في سبيل الممارسة الأخلاقية. وهذا التجاوز القيمي يدل على تجرُّد سلطة الغرائز عن الطابع الحتمي، أي أن الممارسة الأخلاقية تثبت تحرُّر الإنسان من الأنا المادية المحضة وأنه يهيمن على أفعاله النفسية وشؤونه، وهذه هي الحرية الداخلية والاختيار(64).
الأخلاق والابستمولوجيا
تمثل الابستمولوجيا علماً تحليلياً عقلانياً في ما يتصل بالمعرفة والإدراك، من حيث إمكان المعرفة وحدودها وقيمتها وأدواتها ومصادرها. وللأخلاق صلة بالمعرفة والإدراك، ويمكنها من خلال ذلك أن تطرح للابستمولوجيا مسائل جديدة وإثارات مستحدثة.
النقطة الأولى في ذلك أن الأخلاق هي اكتشاف للحقائق. إذ يتاح للإنسان في ما يتصل بالكون أن يدرك مجموعة من الحقائق المتعالية (65)، ففي إطار صلته الأخلاقية بعالم الوجود يبلغ الإنسان مرحلة تظهر خلالها حقائق متسامية في كيانه، وهي أمور لم يكن يحيط بها قبل ذلك. لا بد من أن نتنبَّه طبعاً إلى أن انكشاف الحقائق هذا هو الأخلاق بعينها (66). ويترك التحلي بالأخلاق آثاراً في معرفة الإنسان بالكون، فأولئك الذين لا يتمتعون بالأخلاق ينظرون إلى عالم الوجود عبر رؤية سوداوية يشوبها الغموض، ذلك أن رؤاهم الداخلية تظل عاجزة عن تشذيب الحقائق التي يدركونها عن الوجود وتنقيتها. وبالتالي فإنهم يرون حقائق الكون بأسرها مجموعة من الأوهام والخيالات الجوفاء، لأن الأهواء استولت على ذواتهم ولم تتح لهم فرصة للتعامل مع الكون بنحو جاد. أما من يتعامل مع القيم ويقدِّر التجربة الأخلاقية فإنه ينظر إلى الكون برؤية مشرقة (67).
النقطة الأخرى هي أن المعرفة الأخلاقية تجعل المرء يتقبَّل ما أدرك من حقائق، وهو ما يظهر أثره في تعامله مع الآخرين. إن شخصاً كهذا لن يؤثر استيعابه
________________________________________
(64)جعفري، محمد تقي، جبر واختيار، مصدر سابق، ص 101.
(65)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج6، ص 240.
(66)م.ن، ج14، ص 52.
(67)م.ن، ص 53.

[الصفحة - 262]


لحقيقة معينة، على وعيه بسواها من الحقائق، وهو يمتلك حصانة تحول دون أن تستأثر به حقيقةٌ ما بنحو تجعله يغفل عن الحقائق الأخرى. وعلى سبيل المثال، فهو حين يمارس اكتشاف الأشياء علمياً، ستمنعه الأخلاق عن تجاهل البعد القيمي في الحقائق والتغافل عن أهميتها، أي أن الأخلاق ستحرِّره من أسر هذا اللون المحدود من المعرفة بالكون (68).
الأخلاق والتَّاريخ
يعمد البحث التاريخي إلى تقسيم التاريخ بشكل عام إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل التاريخ الإنساني، ومرحلة تاريخ الإنسان. ولكن ما هو المقياس الذي نعتمده في تجاوز مرحلة ما قبل التاريخ؟ لا يمكن القول: إن بداية التاريخ الإنساني تتصل بما طرأ على الحياة من تحوُّل في مجال الصناعة والفن والاقتصاد والشؤون العسكرية ونحو ذلك. سيتواصل عصر ما قبل التاريخ طالما غاب الشعور بأهمية الأخلاق، وهو في الواقع عصر لم ينته بعد، وليس ثمة خيار آخر يضع حدّاً لذلك العصر سوى ازدهار الأخلاق الإنسانية (69).
الأخلاق والتَّربية والتَّعليم
ترتكز التربية والتعليم على أربعة أركان أساسية هي: 1 ـ مبادى التربية والتعليم. 2 ـ المعلم والكادر التربوي. 3 ـ المتعلمون. 4 ـ المادة التربوية التعليمية.
وتدخل الأخلاق والقيم الإنسانية العليا بوضوح في الأركان: الأول والثاني والرابع. بمعنى أن قيم الأخلاق تمثل قسماً من أهداف التربية والتعليم ومبادئها، كما لا بد من أن يتحلّى الكادر التعليمي والتربوي بالأخلاق والقيم، إضافة إلى ضرورة إدخال قيم الأخلاق في المادة التعليمية والتربوية(70).
الأخلاق والفن
الفن ظاهرة تتكوَّن بشكل رئيسي من أربعة عناصر هي: «الحقيقة» و «الجمال» و «الحسن الأخلاقي» و «الحس الفني المرهف». لا ننسى أن تجريد الفن من الحسن والخير الأخلاقيَّين الإنسانيين (مما يقال أحياناً على هامش شعار: الفن للفن) سيؤدي
________________________________________
(68)تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 260.
(69)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج14، ص 75.
(70)تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 269 ـ 280.

[الصفحة - 263]


إلى حالة تساوق موت الفن في سياق الحياة غير المادية والكمال. وفي ضوء ذلك، تعد الأخلاق، أو التسامي الأخلاقي، عنصراً مهماً في الفن (71).
الأخلاق وفلسفة الجمال
هل في وسعنا أن نحتجز الجمال في نطاق الحسِّيات؟ إن وجود الأخلاق والقيم السامية يحتِّم علينا، في فلسفة الجمال، أن نتقبَّل وجود مفردات للجمال العقلي غير الحسي، إلى جانب مستويات الجمال الحسِّية. والأخلاق وقيمها من هذه النماذج غير الحسية للجمال، إذ إنها تحظى بالجمالية العقلية في مستويين: أحدهما حين يجري الشعور بالأخلاق بوصفها أحاسيس رفيعة وحالات روحية مثلى، والآخر عندما تتطابق حياة الإنسان مع حقائق الأخلاق السامية وتتحلى بها (72).
النقطة الأخرى هي أننا سنعجز عن إدراك مستويات الجمال العالية لو لم نأبه بقيم الأخلاق؛ إذ «لن يكون من الممكن أن نستوعب تجلِّي فكرة المطلق في مصطلح هيغل، أو المعشوق والمحبوب والجميل المطلق في مصطلح مولوي، في مظاهر الجمال الحسي أو القيم العقلية، من دون تنقية الروح من الرذائل الحيوانية الحسِّية والاستغراق في العلاقات والأواصر المحدودة التي تقيد إدراكنا للجمال» (73).
الأخلاق والسِّياسة
يمكن الحديث عن علاقة الأخلاق بالسياسة على مستويين: أحدهما مجرى التاريخ الإنساني أو ما حدث في واقع الأمر، ولا بدَّ من القول هنا: إن ثمة علاقة تبادلية تمثَّلت بالفعل ورد الفعل بين الأخلاق والسياسة. والمستوى الآخر هو مفهوم السياسة كما ينبغي أن يكون في التصوُّر الإسلامي، وفي هذه الفرضية ستكون الأخلاق تابعة للسياسة وقسماً منها. ذلك أننا نلاحظ في مجرى التاريخ الإنساني علاقة تبادلية تفاعلية تعمد فيها السياسة أحياناً إلى خلق الاتجاه الصحيح المنطقي (والأخلاقي) وإرسائه في المجتمع، بينما يحصل العكس حيناً آخر؛ إذ يتولَّى المجتمع القويم الأخلاقي، جعل السياسة ورجالها تابعين له منقادين نحوه. كما
________________________________________
(71)سر كذشت انديشه ها (قصة الفكر)، ج1، ص 710 و711 و714.
(72)زيبائي وهنر از ديدكاه اسلام (الجمال والفن في التصور الإسلامي)، مصدر سابق، ص 33 و49 و50.
(73)م.ن.، ص 25.

[الصفحة - 264]


نلاحظ أيضاً أن الفساد يشيع في المجتمع تارةً بتأثير من النظام السياسي الظالم ورجال السياسة الجائرين، بينما نجد تارة أخرى مجتمعاً فاسداً يصوغ لنفسه سياسة وسياسيين يناهضون القيم والأخلاق.
ولكن ربما كان المراد بالسياسة مبادى وقوانين رفيعة تتولَّى تحديد مسؤولية الفرد الأخلاقية، إلى جانب تكفُّلها بقيادة المجتمع، كما هي الحال في التصوُّر الإسلامي للسياسة، أي أنها ستعني حينئذ إدارة الحياة على صعيد الفرد والمجتمع معاً بهدف بلوغ أرفع الغايات مادياً ومعنوياً، وعندئذ ستكون الأخلاق تابعة للسياسة وجزءاً منها (74).
الأخلاق والتكنولوجيا
يتولَّى هذا العنوان دراسة ما تتركه التكنولوجيا من أضرار على الأخلاق؛ حيث نشهد منذ أن أخذت التكنولوجيا بالشيوع والانتشار، تحوُّلات واسعة في القوانين والأخلاق، بل في الثقافة بمفهومها العام. وفي وقت راحت هذه الظاهرة تحقِّق للإنسان مكاسب جمة، فإنها دفعت الإنسان كذلك إلى التخلِّي عن شعوره بالمسؤولية وإلقاء تبعة ذلك على كاهل التكنولوجيا بطبيعتها غير الواعية وغير المسؤولة. ومن خلال ما أفرزته التكنولوجيا من أواصر قسرية بين أفراد المجتمع الواحد، ظهرت علاقات بالغة التعقيد بين الأفراد في المجتمع وبين المجتمعات المختلفة، ما بات يرتكز مع الأسف على مبدأ السعي من أجل الأرباح. وفي ضوء ذلك، نجد أن تلك العلوم الإنسانية ذات الصلة بالعقائد والأخلاق والتي تكفَّلت في الماضي بتحديد سبل تهدف إلى تعزيز الشعور الإنساني الرفيع وتكريسه، قد باتت مجرد زينة للمؤسسات العلمية (الجامعات ونحوها) (75).
الأخلاق والعلمانية
صحيح أن العلمانية لا تقوم بإقصاء الدين بالكامل، غير أنها في الوقت نفسه تفصل بينه وبين الشأن الدنيوي لا سيما السياسي (76). وينطوي هذا الوصف على المزايا الرئيسة للعلمانية. ولكن لا يمكن في ضوء ذلك الإبقاء على الأخلاق وقيمها، بمعنى أن إقصاء الدين عن الحياة وشؤون الإدارة مادياً وسياسياً، سيؤدي إلى زعزعة
________________________________________
(74)بررسي ونقد أفكار راسل. (راسل: دراسة ونقد)، مصدر سابق، ص 483. وكذلك فلسفة دين، ص 252 و253.
(75)سركذشت انديشه ها (قصة الفكر)، ج2، ص 438 و439.
(76)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج25، ص 51.

[الصفحة - 265]


الأخلاق والقيم الأخلاقية وانهيارها تدريجياً، ومن ذلك أكثر تلك القيم مركزية، أعني العدالة الاجتماعية (السلوك القائم على ما يتطلبه الضمير، واتباع الخير وتفادي الرذيلة، من دون ترقُّب مكافأة على ذلك أو تهرُّب من عقاب) (77). أما القول: من الممكن أن نحتفظ بتماسك الأخلاق والقيم حتى على تقدير تهميش الدِّين وإقصائه عن النطاق السياسي والدنيوي، فهو ليس أكثر من فكرة خيالية.
موضوعات علم النفس الفلسفي في مجال الأخلاق
تجرُّد الأنا والنفس
للإنسان هوية غير مادية هي الجانب الحقيقي من شخصيته الذي يمثل منشأ أفعاله وشؤونه ويشرف ويهيمن عليها. ثمة العديد من البراهين التي أقيمت على تجرُّد النفس وعلى ما يمتلك الإنسان من هوية غير مادية، ويرى بعضهم أن ثمة ستين برهاناً على ما يتَّصل بذلك، غير أننا نتناول هنا اثنين من تلك الأدلَّة.
أولًا: الوعي الذاتي: حين يتوافر للمرء توازن في فكره، فإنه سيعي ذاته وأناه، أي أنه سيدرك ذاته عبر علم حضوري على مستوى شؤونه وأناه. وهذا لون من العلم الذي لا توجد فيه وساطة بين العالم والمعلوم. ولكن ثمة تساؤل عن ذلك، إذ كيف تكون الحقيقة الواحدة عالماً ومعلوماً في الوقت نفسه من دون أن تنقسم أو تتجزَّأ، لأن هذه الحالة تتطلب الإثنينية والتغاير، فكيف يمكن للمرآة مثلًا أن تعكس نفسها من دون أن تنحني أو تتجزَّأ؟ لا يمكن أن يتحقَّق هذا التوحُّد بين العالِم والمعلوم في عالم المادة، بيد أنه أمر يفرضه تجرُّد النفس (78).
ثانياً: ثبات النفس (البعد الثابت في الإنسان): يطال التغيير جسم الإنسان على الدوام، ورغم ذلك فإن هنالك حقيقة ثابتة في الإنسان نفسه تظل بعيدة عن المتغيرات تلك. ومثالًا على ذلك، فإن من يرتكب في شبابه جريمة قتل سيدرك حتى آخر عمره أنه قاتل (79).
نظريَّات عن حقيقة الإنسان
في وسعنا التنويه بنظريَّات أربع في ما يتَّصل بحقيقة الإنسان:
________________________________________
(77)م.ن، ص 97 ـ 98.
(78)م.ن، ج14، ص 147 و148.
(79)م.ن، ص 150 و151.

[الصفحة - 266]


أوَّلًا ـ يرى بعض المفكِّرين أن الإنسان طيِّب في حقيقته، وهو كائن حسن، ويمكن تقسيم هذه النظرية إلى تصورين فرعيين:
أ ـ يؤمن بعض المفكِّرين بأن الإنسان أكثر الكائنات تكاملًا في الطبيعة، أي أنه أشرفها. لكن ثمة مأخذان على ذلك. فنحن لم نستكشف عالم الطبيعة بالكامل كي نحيط علماً بجميع الكائنات والمخلوقات ونقارنها بالإنسان. كما لا مسوَّغ للخلط بين ما يحظى به الإنسان من تعقيد في أبعاده وتنوُّع في مواهبه وبين اتصافه بالأفضلية على غيره من المخلوقات.
ب ـ يتصوَّر آخرون أن الإنسان كائن حسن وعظيم، غير أننا لا نستطيع اعتباره أشرف المخلوقات أو أكثرها تكاملًا. ذلك أن الناس يستغرقون في الأنانية وعبادة اللذة باستثناء عدد قليل من بني البشر.
ثانياً ـ يرى بعض آخر أن حقيقة الإنسان سيئة، فهو كائن أناني لا يتردَّد في التعدِّي على حقوق غيره في سبيل إشباع أنانيته. إننا نواجه «نيرون» الذي كان يقول: «ليت أعناق البشر اجتمعت في عنق واحدة كي أقطعها»، وأمثاله كثيرون. ولكن لا يسعنا تقبُّل هذه النظرية في ضوء المعطيات التي تتوافر لدينا عبر مراجعة التاريخ الإنساني، ذلك أنه يوجد أناس عظام يؤمنون بالقيم إلى جانب أولئك الذين استولت عليهم الأنا والوحشية.
ثالثاً ـ ثمة اتجاه يعتقد بأننا لا ندرك المبادى الأساسية التي تقوم عليها طبيعة الإنسان، غير أننا نعلم أن الإنسان برهن على أنانيته وعبادته للهوى طوال التاريخ، وكان هنالك كثيرون لا يرون في سواهم إلا أدوات لتحقيق مآربهم الذاتية. لكن هذا التصور يواجه مأخذين كذلك، أحدهما: إنه لا يمكن الزعم بأننا لا نمتلك أي تصوُّر عن المبادى الأساسية التي تقوم عليها طبيعة الإنسان؛ إذ إننا اكتشفنا عدداً من جوانب الإنسان من قبيل بعده الفسيولوجي والنفسي والاجتماعي، وليس من المسوّغ أن نتجاهل جهود العلماء في هذا المجال. ولئن شهد التاريخ أناساً اقتصرت دوافعهم على الأنانية وعبادة الهوى والبحث عن المصالح، فإن ثمة غيرهم ممن عاشوا بدوافع إنسانية متسامية. وهذا هو المأخذ الآخر.
________________________________________

[الصفحة - 267]


رابعاً ـ تقرر النظرية التي نعتمدها أن الإنسان يتحلّى بمواهب متنوِّعة للغاية، ولم يظهر منها حتى الآن سوى بعضها، ويمكن ملاحظة ظهور المواهب الإنسانية في مستويين:
أحدهما: ظهور تلك القابليَّات بتأثير من العوامل القسريَّة في الحياة.
والآخر: اندفاع الإنسان بشكل جاد نحو تحقيق كماله.
وقد حقَّقت شريحة من الناس خطوات واسعة في سياق تحرير القابليات والمواهب، وكان الساعون إلى تحقيق الكمال ينقذون القيم الإنسانية على الدوام من خطر الانهيار المؤكَّد. إن هذه النظرية تقرر أن الإنسان ينطوي على جوانب قيمية مشرقة على نحو استثنائي، غير أنه يتصف كذلك بالرذائل والقبائح (80).
التطوُّر التاريخي والعالم المعاصر والثابت الأخلاقي
يمثل الإنسان حقيقة لم يؤد مرور الزمن وتحوُّلات العالم المعاصر إلى تغيير ماهيتها بالكامل، بل بقيت شخصيته تحتفظ بعناصر من قبيل الصِّفات الأخلاقية. وفي الواقع فإن الإنسان استبدل أشكاله وقوالبه نتيجة لمرونته الشديدة، رغم أنه احتفظ بعناصر ثابتة في شخصيَّته.
ومن الأدلَّة التي يمكن إقامتها على ثبات عناصر في الكيان الإنساني، أننا نلاحظ وجود أحكام قيمية وأخلاقية ثابتة في النصوص القديمة والحديثة وكذلك في العالم المعاصر. ونجد ثانياً أن بني الإنسان أعربوا في الماضي والحاصر عن رغبتهم في وضع حقوق عالمية للإنسان، وهذه الفكرة المشتركة تمثِّل دليلًا على ثبات أبعاد من شخصية الإنسان، واشتراك أهل الماضي والحاضر في هذا المورد المحدَّد. كما أننا ندرك ثالثاً الدعم العالمي الذي تلقاه الظواهر الأخلاقية، وتتحدَّث عنه وسائل الاعلام، كما هي الحال مع الترحيب العالمي بفضائل الإيثار والتضحية والاستقامة في سياق القيم... الخ، ما يبادر إليه أشخاص ينتمون إلى مختلف الشعوب. والدليل الرابع أننا نرى، ولا شك، ما تبديه الشعوب والأمم جميعها في الماضي والحاضر، من إقبال على عيون الأعمال الأدبية التي تزخر بالمضامين الأخلاقية
________________________________________
(80)تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 157 و158. ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج12، ص 83 ـ 95.

[الصفحة - 268]


والقيمية الرفيعة، مثل رواية «البؤساء» أو «الحرب والسلم». تدل هذه المؤشرات على وجود أبعاد ثابتة في هوية الإنسان في سياق التاريخ وتحوُّلاته وفي العالم المعاصر. كما يدل بعضها بشكل أكثر تحديداً على ثبات هوية الإنسان الأخلاقية والقيمية (81).
الأخلاق والقيم والقابلية الذاتية للإنسان
ينظر بعضهم إلى الإنسان بوصفه حيواناً في موازاة غيره من الحيوانات، وهم يلاحقون حياته المادية المحضة وحسب. بينما من المؤكد أن الإنسان يمتلك قابلية ذاتية على ممارسة الأخلاق والتكامل القيمي. وتاريخ الإنسان هو الدليل الأوّل على هذه الفكرة، فهو شاهد على ظهور الكثيرين من ذوي الأخلاق، ما يعني أن الإنسان مؤهل لذلك. أما الدليل الآخر فهو التربية والتعليم الأخلاقيين، فلو لم يكن الإنسان ليتقبل القيم، ولم يكن مؤهلًا للتحلي بالأخلاق، لما أمكن للجهد التربوي والتعليمي أن يؤدِّي إلى تحلي المرء بالخصائص تلك. ليست العملية التربوية والتعليمية سوى تفعيل للمؤهلات والقابليات الإنسانية، الأمر الذي يؤكد أن ثمة قابلية ذاتية في الإنسان للتحلي بالأخلاق والتكامل القيمي (82).
مبدأ الأخلاق وأساسها
ثمة نقطتان في هذا المجال، وفي ما يتَّصل بأصول القيم الأساسية:
إحداهما: إن المبادى العامة الأولية للأخلاق تنبثق من أعماق الروح الإنسانية وتنشى منطلقاً للتحفيز والدفع، ومثاله المبدأ الذي يوصي المرء بأن «يرضى لنفسه ما يرضى للآخرين، ولا يرتضي لها ما لا يرتضي لهم» (83).
والأخرى: إنه يمكن أن نتولى تحليل جميع مبادى الأخلاق والقضايا القيمية الإنسانية، إلى عنصرين جوهريَّين، وهي تستند إلى ميزتين أساسيتين في كيان الإنسان. الأول: قابلية الإنسان للممارسة الأخلاقية والتكامل القيمي وبلوغ مرتبة الأخلاق المثلى. والثاني: الولع بالكمال والتقدم، ما يؤدي إلى نتيجة محددة هي «ضرورة الكمال وحتميته»، ونعني بذلك بكلمة أخرى، الاندفاع نحو تحقيق الكمال الذي يتطلب في حد ذاته السعي إلى ذلك التكامل (84).
________________________________________
(81)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 19 و56 و71.
(82)جعفري، محمد تقي، عرفان اسلامي (العرفان الإسلامي)، ص 134 و135.
(83)سركذشت انديشه ها (قصة الفكر)، ج1، ص 57 و58.
(84)ترجمة وتفسير نهج البلاغة، مصدر سابق، ج7، ص 248 و249.

[الصفحة - 269]


الضَّميـــــر
الضَّمير هو أحد الأبعاد المهمَّة في كيان المرء، وهو الذي يسيطر على أساس القيم كذلك، ورغم أن مفهوم الضمير بالغ التعقيد، ولا يمكن أن تتوافر في تعريفه محدِّدات دقيقة يتحقق بفضلها الجمع والمنع وسائر الشروط المنطقية، غير أن في وسعنا تقديم تصور إجمالي يفترض أن الضمير بوصلة دقيقة ورقيب حري بالثقة، يرافق المرء وهو يخوض بحر الحياة المتلاطم (85). ويمكن استيعاب هذا البعد المهم في شخصية الإنسان إلى حد ما وبنحو أكثر دقة، من خلال الاستعانة بشعورنا الداخلي وملاحظة ما انتهت إليه الدراسات الإنسانية إلى جانب الشعور الباطني للآخرين الذين طرحوا ملاحظاتهم في ما يتصل بذلك.
يتَّصف الضمير، بوصفه بعداً خاصاً في الإنسان، بأنه ينطوي على مستويات شتى، وأنه قادر على مواكبة العقل، واستيعاب المبادى العقلية (نظير: أن الكل أكبر من الجزء، والإقرار بوجود الواقع الموضوعي، وأن حركة الإنسان لا بد من أن تتأطر بالعقل). ونلاحظ في ما يتعلق بالضمير أيضاً أن ثمة تساوقاً بين نضج شخصية المرء وتكامل ضميره، وأنه يقدم لصاحبه توجيهات موثوقة، ويقوم بتأنيبه ويؤدي إلى قلقه. إنه يصدر الأحكام ويمنح الطمأنينة، كما يمتلك اليقين الذي يتكون في إطار الضمير قدراً أكبر من الوضوح حين نقارنه باليقين العقلاني، إضافة إلى أن الضمير يمثل صدى يعكس صوت الله، ويدفع الأنا إلى الشعور بالخلود، ويرشده إلى هدفية الحياة (86).
و «الضمير الأخلاقي» من المصطلحات التي نحتت على أساس مفهوم الضمير، وذلك لوضوح حجم حساسية الضمير إزاء قيم الأخلاق السامية أو الوضيعة، فالضمير يتولى التمييز بين ما ينبغي وما لا ينبغي فعله (87).
ملاحظات في موضوع الضَّمير
1 ـ الضَّمير حقيقة يمكن إثباتها عبر الشعور الدَّاخلي للمرء أو للآخرين، أو من خلال الأبحاث العلمية التي تناولت موضوع الإنسان. ثمة منهج بسيط لاستيعاب
________________________________________
(85)أخلاق ومذهب (الأخلاق والدين)، مصدر سابق، ص 55. وكذلك: تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 181.
(86)تكابوكر انديشه ها (الخائض في الفكر)، مصدر سابق، ص 186 و187. وكذلك: محمد تقي جعفري، الضمير، منشورات: انتشارات اسلامي، ب.ت.
(87)وجدان، مصدر سابق، ص 12.

[الصفحة - 270]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف