البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأخلاق العلميّة محاولة لإعادة استحضار القيم الأخلاقيَّة

الباحث :  الشيخ حيدر حب الله
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  29
السنة :  السنة الثامنة ربيع 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 18 / 2015
عدد زيارات البحث :  2124

الأخلاق العلميّة محاولة لإعادة استحضار القيم الأخلاقيَّة في النَّشاط المعرفي

الشيخ حيدر حبّ الله (*)
تمهيـــــد
تمتدّ القيم الأخلاقية إلى مختلف مرافق الحياة لتحكمها، بدرجة من الدَّرجات، وتوجّهها نحو رشدها وصوابها، وتعيدها إلى طريقها القويم المرسوم وفاقاً للسنّة والفطرة، وتعكس القيم الأخلاقية في مظاهرها حقائق أسمى تتصل ليس فقط بما ينبغي وما لا ينبغي، بل بما هو الأحسن كوناً وتحقُّقاً في عالم الوجود ـ ولو الإنساني ـ بمعنى من المعاني.
وتمتدّ درجة تأثيرات القيم والمثل الأخلاقية إلى مجالات في الحياة تؤدِّي هذه المثل دور الإسهام في إصابتها وحقَّانيتها، ومن هنا لم تنحصر الأخلاق بالبعد الاجتماعي بل شملت أبعاداً أخرى أيضاً.
وواحدٌ من هذه الأبعاد هو البعد العلمي، إذ إن التصوّر السائد لدى بعضهم يقضي بوجود قيم أخلاقية تتصل بالحياة العلمية من دون أن يجري فهم كيف تؤثر هذه القيم في ترشيد المعرفة نفسها، أي أن ثمة تصوُّراً بأن القيم الأخلاقية للعالِم ـ أي عالِم ـ قيمٌ تتصل بمرحلة بعدية ثانوية لمرحلة عالميته وفكره وتأمُّلاته، فالعالم في مختبره أو بين كتبه ودفاتره يخضع لقوانين معرفية عليه أن يطبِّقها حتى ينجح في الوصول إلى نتائج سليمة، أما الأخلاق فهي مسائل اجتماعية يتعاطاها هذا العالِم بعد خروجه من المختبر أو عقب طيّه لكتبه ودفاتره في ما بينه وبين الآخرين، ولهذا نجد
________________________________________

[الصفحة - 291]


أن أكثر محتويات كتب الأخلاق العلمية تصبّ اهتمامها ـ في الغالب ـ على علاقات تقع خارج دائرة البحث العلمي نفسه، أي في علاقة الأستاذ بتلميذه أو التلميذ مع أستاذه إلخ...، كما هو الحال في كثيرٍ من فصول كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» للشهيد الثاني، زين الدين العاملي الجبعي (رحمه الله)(م965 هـ)، وغيره من الكتب، لكن التأمل أكثر في هذا الجانب، وما تساعد عليه منجزات العلوم الإنسانية الحديثة، يفضي بنا إلى القول: إنَّ أخلاقية الفرد الباحث لها آثار جدّية على بحثه وفكره وعلمه حتى لو لم يخاطب بهذا العلم أحداً، وهو ما تعرّضت له أيضاً جملة من كتبنا الأخلاقية، فعلى سبيل المثال الشخصية المنفعلة أو الانفعالية، هذه الشخصية إذا دخلت في بحث علمي مثير لانفعالها، غالباً ما تتحكم فيها انفعالاتها، لتسير بها نحو طريق محدَّد، فعندما يدخل المعتزلي، المتّسم بشخصية من هذا القبيل، بحثه في خلق القرآن فإنه لن يقدر بسهولة على قمع ميوله الذاتية التي تجرفه نحو القول بحدوث القرآن...، لأنَّه دخل البحث في حالة غضب من الطَّرف الآخر (الأشعري)، إن تحكُّم حالة الغضب والانفعال هذه بشخصية باحثٍ ما له مردود سلبي للغاية، وهو ما سنلاحظ بعض واقعه، وبإيجاز، إن شاء الله تعالى.
وهذا يعني أن القيم الأخلاقية ـ وكما تشير نصوصنا الدينية ـ ليست معزولةً عن النشاط المعرفي من حيث هو نشاط معرفي، وينجم عن ذلك القول: إن إصلاح مناهجنا المعرفية وأنماط تفكيرنا أمرٌ مرهون، إلى حدٍّ معين، بإصلاح أخلاقياتنا البحثية، فما لم نسع إلى إصلاح تلك الأخلاقيات فإن إصلاح معرفياتنا سيكون أمراً مشوباً بشيء من الخطر.
إنَّ السَّلبيات الأخلاقية تمثل موانع أمام ترشيد نشاطنا الذهني سيما في الدائرة الدينية، فما لم نحز ـ وهو أمرٌ ليس بهذه السهولة ـ على شخصية تتمتَّع بميزات أخلاقية تمس البحث العلمي فلن نقدر على تحصيل أكبر عدد من ضمانات الصحة والصواب في هذا البحث.
ولا نقصد بالبحث العلمي خصوص تلك الحالة المعهودة لباحث، ذلك أن كل إنسان مطَّلع يمكن أن يتمثَّل شخصية باحث علمي، فليس المقصود بالباحث المجتهد في العلوم الدينية أو أستاذ الجامعة أو المفكر أو المنظّر إلخ... فحسب، بل حتى
________________________________________

[الصفحة - 292]


عموم طلبة الحوزات والمعاهد والجامعات الدينية وجميع الجامعيين العاملين في مختلف الاختصاصات، وربما ما هو أوسع من ذلك أحياناً كثيرة.
وعندما يُعَنْوَن هذا المقال بعنوان: «الأخلاق العلمية»، فإن في العنوان عدة إشارات مقصودة:
أولاها: إن هذه الأخلاقيات نابعة من وصف العلم والعالم، وكما كانوا يقولون قديماً: إن الوصف مشعرٌ بالعلّية، أي أن عنوان العلم والعالم يستدعي ـ في اعتقاد كاتب هذه السطور ـ سلسلة من الأخلاقيات، تماماً كما نقول أخلاق الإيمان وأخلاق المؤمن؛ حيث نعني أن إيمان المؤمن يتطلّب منه أخلاقاً خاصةً ويدفعه لتحقيقها، فعلم العالم يتطلّب منه أخلاقيات خاصة.
وثانيتها: لم نخصِّص العلم بوصف الديني أو غيره، قناعةً بأن هذه الأخلاقيات ـ في الأغلب ـ كما سنلاحظ ـ تعود لسمة البحث العلمي مهما كان، ويفترض أن يتحلَّى بها كل باحث بعيداً عن توجُّهه وقناعاته واهتماماته، وإن عنى اهتمامنا ـ بالدرجة الأولى ـ المناخ الفكري والثقافي الديني.
والسَّبب الذي يدفعنا للحديث عن إعادة استحضار مقولة الأخلاق العلمية هو ما نلاحظه اليوم من واقع مأزوم على الصعيد الثقافي ـ الفكري، ومن جزر ثقافية تعيش على قطيعة شبه كاملة في ما بينها، ونرى أن حالتها تعود ـ في ما تعود إليه ـ إلى إشكاليات أخلاقية في النشاط المعرفي نفسه، علاوة على توتّرات في عملية الحوار نفسها، من دون أن نتورّط في الولوج إلى أعماق الأنفس والنوايا التي لا يعلمها إلا الله تعالى لنتجنّب الدخول في عمليات تصنيف اءُتخمت الساحة الثقافية منها، الأمر الذي بات ينادي على القائمين على العمل الفكري والثقافي في الوسط العربي والإسلامي عموماً للإعداد لنُظُم ذات طابع أخلاقي قادرة على الحدّ من تكوين بؤر توتّر، أو إنتاج عناصر موتورة، ومن ثم مجتمع موبوء.
القيم الأخلاقية للبحث العلمي
ليس هناك من قدرة على الإحاطة بجميع القيم التي تحكم النشاط الفكري والعلمي، لكننا سوف نشير هنا إلى بعضٍ منها على الشكل الآتي:
________________________________________

[الصفحة - 293]


1 ـ الأمانة العلميَّة
من أهمِّ أخلاقيَّات البحث العلمي، الأمانة العلمية، ولهذه الأمانة مظاهر عديدة أبرزها:
أ ـ احترام الملكية الفكرية للآخرين؛ إذ إن ما يسمِّيه بعضهم ظاهرة السرقة (1)الفكرية، ظاهرة عامة وواسعة في زماننا وما قبل زماننا أيضاً، فإذا ما راجعنا الكتب القديمة مثلًا سنجد أن هناك الكثير من النصوص، وأحياناً الصفحات، ينقلها المؤلفون عن بعضهم بعضاً من دون أن يشيروا إلى أن هذه النصوص أو المقاطع أو الآراء ليست من ابتكارهم وإنما أخذوها عن غيرهم، وهو ما يوحي أوّلياً للمطالع غير الواسع التتبع بملكية هذا المؤلف لهذه الفكرة والحال أنها ملكٌ لغيره، وهكذا الحال في زماننا المعاصر، ولعله أكثر من الماضي، فهناك مؤلَّفات مستقلة ينسبها أصحابها إلى أنفسهم فيما ترجع هذه المؤلَّفات إلى مؤلّفين آخرين، ولو أنها عبارة عن أجزاء مقتطفة من كتب كثيرة جرت إضافة شكلية عليها لتغيير مظهرها الأوَّلي، بل يوحي الكثير من الأساتذة، في المعاهد العلمية، إلى تلاميذهم أنهم أصحاب فكرة معينة، والحال أنهم قد حازوا عليها من مصادر أخرى لم يطّلع التلاميذ عليها بعدُ أو من كتب ومخطوطات لم تصل إلى أيديهم، أو من مؤلَّفات تعود للغةٍ أخرى لم يعرفها الطلّاب أو لم يسمعوا بها.
إن احترام الملكيات الفكرية والإبداعية للناس ـ وبعيداً عن الجدل الإسلامي الفقهي في هذا الموضوع ـ صار ضرورةً أخلاقية ماسّة تُسْقِط متجاهلها نفسه عن الاعتبار في ما بعد، وتصيّره إنساناً يتاجر بأفكار الآخرين وجهودهم ولو بطريقته الخاصّة، سيما وأن تطور وسائل المعلومات والاتصال قد سهَّل كشف مثل هذه التصرفات لكثير من الناس، ومن هنا تصبح الحاجة ماسَّةً إلى إشاعة ثقافة التوثيق سيما في المعاهد الدينية التي لم تعتد سابقاً ـ كالمناخ الفكري العام قديماً ـ على هذه الظاهرة، فكلَّما نقل الباحث شيئاً عن باحث آخر، وكانت فكرة الثاني مستمدَّةً من الأوَّل، فمقتضى أخلاقية الأمانة العلمية توثيق المصدر بالدقة تحرُّزاً عن التورّط في منافيات أخلاقية.
________________________________________
(1)المقدّمة في نقد النثر العربي، علي حب الله، دار الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص 401 و402.

[الصفحة - 294]


والذي حصل، في الوسط الثقافي العالم ثالثي، في العقود الأخيرة، هو استعارة مفاهيم ومقولات جرى إنتاجها وتصنيعها في مناخات ثقافية وعلمية أخرى ليعاد إنتاجها، أو بتعبير أدق، «تبييئها» في حقل معرفي أو ثقافي مختلف على أساس افتراضها إبداعات أو ابتكارات ذاتية، دونما إشارة إلى المصادر التي استقي منها هذا النِّظام المفاهيمي، وهو أمرٌ إذا دقَّقنا فيه، وفي تجربة العالم الثالث، لوجدنا أحياناً ظلالًا اشتملت طيفاً واسعاً أكثر من حقائق وواقعيات.
لكنَّ ذلك لا يعني إتهام الكتّاب بعدم تقدير الملكيات الفكرية لمجرّد تشابه فكرتهم مع فكرة أخرى، لأن تشابه الأفكار أمرٌ كثير الوقوع، ومن سوء الظن التسرّع في الحكم في أمثال هذه الموارد.
ب ـ الدقَّة في نقل أفكار الآخرين: لقد تميَّز بعض الفقهاء المسلمين بدقته العالية في ضبط الآراء والأقوال لدرجة أنهم كانوا يميزون الأقوال بعبارة دقيقة جداً، فإذا أرادوا نقل كلام لفقيه يقول «الأنسب كذا وكذا» لا يعبرون بكلمة «قوّاه» و...، بل يأخذون تعابير تطابق موقفه ودرجته كقولهم استنسبه، وهكذا يقولون قوّاه إذا قال على الأقوى، واستجوده إذا قال «الأجود كذا...» و...، بل بلغت بهم الدقة أحياناً إلى حدّ تحديد المواضع التي اختار فيها هذا القول، فلو كان له كلامان عن شرطية معلومية العوضين، أحدهما في كتاب البيع وثانيهما في كتاب الإجارة، قالوا: ذهب إليه في إجارته، ولم يقولوا مطلقاً أو سكتوا بما يوحي أن له موقفاً واحداً، وهذا ما يفعلونه مع كتبه فيقولون: اختاره الطوسي في خلافه وعدل عنه في مبسوطه واقتصاده، أو يعبّرون: ذهب إليه أحمد بن حنبل في رواية، وهكذا...
وتعدّ مسألة الدقّة في نقل أقوال الآخرين أو بيانها، قضية حسَّاسة جداً، فقد حصل أن ميّز علماء أصول الفقه المتأخرون تقريرات بعض العلماء ممن سبقوهم، فقالوا: هذا التقرير لدروس الميرزا النائيني مثلًا أدقّ من ذاك التقرير، وتمّ استخدام تعابير تفيد أن هذا القول لعله من اشتباه المقرِّر لا المقرَّر له (2)، وهكذا...
وهذا التدقيق تطوّر أكثر فأكثر إلى حد نقل النصوص الحرفية لمن سبقهم من العلماء، كما هو الحال مع الشيخ مرتضى الأنصاري (م 1281هـ) وغيره، وهو ما
________________________________________
(2)درجت، في القرنين الأخيرين، عادةٌ في الأوساط العلمية الدينية الشيعية، تقضي بأن أكثر الدروس العليا في الحوزات الدينية يجري تدوينها من قبل الطلاب، ومن ثم يقوم أحدهم ـ أو غير واحد ـ بعرضها على الأستاذ (وهو في هذه الحالة المرجع أو أحد المجتهدين المعروفين) لمراجعتها وإعطاء إجازة بنشرها، لتنشر بعد ذلك بقلم الطالب مع الإشارة إلى أنها من دروس الأستاذ الفلاني، وتسمَّى هذه الظاهرة بظاهرة التقريرات، وقد كانت أغلب نتاجات الميرزا محمد حسين النائيني (م 1355هـ) والسيد أبو القاسم الخوئي (م 1413هـ) على هذه الشاكلة، فيما يصرّ أساتذة آخرون على أن يقوموا هم أنفسهم بتدوين أفكارهم بأيديهم، وقد عرف من هؤلاء السيد محسن الحكيم (م 1390هـ).

[الصفحة - 295]


ربما يعده بعضهم اليوم بمثابة تجميع لا فائدة منه. إن التدقيق في مواقف العلماء والمفكرين، من أي اتجاه أو مذهب أو دين أو مدرسة كانوا، صار اليوم علامة الباحث الدقيق والمنصف، بل لم يعد يقتصر هذا الأمر على موردٍ واحدٍ من الموارد التي أثار فيها هذا العالم أو المفكّر هذه النقطة بل صار لا بُدّ من إطلالة على مختلف مصادره أحياناً، سيما إذا كان الموضوع في غاية الحساسية، تماماً كما يراه بعض الباحثين المعاصرين (3)حول نسبة القول بتحريف القرآن إلى الفيض الكاشاني انطلاقاً مما جاء في سلسلة مقدّمات كتابه التفسيري الروائي «الصافي»، حيث إن مراجعة بعض ما ذكره في هذا الموضوع في كتابه «علم اليقين» يفيد في التعرّف على موقفه بدقّة أكر حتى لا يجري نسبة القول بالتحريف إليه اعتماداً على نصٍّ واحد مع تجاهل نصوصه الأخرى في المصادر الأخرى، كما فعل بعض الناقدين من أهل السنّة، وكما يفعل بضعهم في عصرنا الراهن، حيث يجري الاقتصار على نصٍّ واحدٍ لكاتب أو باحث، ليعقب ذلك محاكمته على أساسه بعيداً عن مجموعة النصوص والكلمات الأخرى، بل سرى الأمر في أحايين أخرى إلى استخدام نمط تقطيع النصوص وسلخها عن سياقاتها المحيطة بها كلاماً أو مقاماً.
ومن هنا يمكن أن يلاحظ، على بعض حركات الترجمة التي تحصل، سيما مؤخّراً، ما بين اللغة الفارسية والعربية، حيث يقوم بعض المترجمين بتطعيم ترجمته بما يؤدي إلى إضافة مطالب أو حذف أمور قد يعتقد هو أنها هامشية، فيما الأمر ليس كذلك، سيما إذا كان مصبّ الترجمة شخصيات بارزة يمكن أن تقع محلًّا لدراسة الباحثين وقراءتهم في ما بعد.
إن التَّسامح في نقل أفكار الآخرين وفهمها له مردودات سلبية، وربما تكون أحد أسبابه العجلة واللاتروّي في دراسة الأمور وتهيئة المقدّمات أو اللامنهجية في ورود الأبحاث واستخدام القلم، الأمر الذي يحصل مع بعض الكتّاب حينما يعمد إلى تأليف كتاب أو مقالة دونما اعتماد على ما يسمُّونه منطق تنظيم البطاقات التي تجمع المصادر بدقة وعناية، فنسبة الأفكار بطريقة مشوّشة يؤدي إلى العديد من المخاطر العلمية، ولا فرق فيه بين عالم أو باحث وبين آخر، فبعض الباحثين كثير التشدّد في تحديد مواقف بعض المفكّرين فيما يتساهل في آراء مفكّرين آخرين،
________________________________________
(3)الشيخ الدكتور فتح الله نجارزاد گان، صاحب كتاب سلامة القرآن من التحريف، والنقل معتمد على السماع المباشر والمشافهة.

[الصفحة - 296]


ويكتفي لنسبة قول إليهم بنقل القيل عن القال، وهو أمرٌ يحتوي على نوع من الانتقائية غير المسوَّغة في كثير من الحالات، إذ كيف يحقّ لنا من زاويةٍ أخلاقيّةٍ ممارسة درجة عالية من التحفّظ قبل نسبة مقولةٍ إلى شخص ما، فيما تجري أقلامنا وبسرعةٍ كبيرةٍ حينما يكون الحديث عن شخصٍ آخر لننسب له مقولةً أو فكرة؟!
2 ـ الأفكار أو الأشخاص
يتعاطى البحث العلمي مع الأفكار والمعلومات بوصفها مادةً له، أما الأشخاص فلا علاقة لهم بهذا البحث في غالب الموارد والحالات، وهذا معناه أن البحث العلمي لا يدخل في جدال مع الأسماء والأشخاص بقدر ما تعنيه الأفكار نفسها، فبقطع النظر عن مدى التأييد الذي تحظى به فكرةٌ ما أو مدى الرفض والتقريع الذي تعاني منه فكرة أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي الرسمي أو السياسي إلخ...، فإن البحث الأمين يستدعي التعامل مع الفكرة دونما نظر إلى حجم تأثيرها وشعبيتها إذا ما كان الهدف هو الحقيقة النظرية، وهذا معناه أن الموقف من شخص معيَّن، أو تيار معيَّن، أو فئة معيَّنة لا ينبغي أن يكون أساساً في الحكم على فكره أو رأيه في قضية هنا أو هناك، فإن ذلك نوع من إقحام العناصر النفسية والذاتية في الجهد العلمي والتحقيقي، وهو ما يدفع الباحث ـ لا شعورياً ـ إلى التأثر النفسي من هذا الأمر، ويقود العديد من الباحثين إلى تأييد فكرةٍ لمجرّد أن فلاناً من الناس قد نطق بها، وبقطع النظر عن مدى امتلاك الذي يؤيد هذه الفكرة أدلة كافية على الاقتناع بها، وهو ما يمثل نوعاً من الاستلاب غير المسوَّغ، بل قد يحصل لدى بعض الناس أن يرفضوا فكرةً معينةً لكن عندما ينطق بها شخصٌ من الأشخاص يقدّرونه أو يحترمونه أو يقدّسونه يتحوّلون عن موقفهم السابق وبسرعة لا تكاد تكون مفهومة في بعض الأحيان، والعكس هو الصحيح فكثيراً ما تكون فكرةٌ ما محلًّا لقبول الشخص الباحث أو الناظر، لكن وبمجرّد أن يتبناها شخصٌ أو اتجاه، يسرع إلى رفضها والتنكّر لها..، وهذا كلُّه يعبّر في الساحة العلمية والثقافية عن واقع مأزوم تتحكم فيه الشخصانيات أو الفئويات أكثر مما تحكمه الأفكار أو الرؤى أو التطلُّعات.
إن الثَّقافة القرآنية ـ على ما يفهمه الكاتب ـ ترفض ظاهرة التقليد، وهي ظاهرة
________________________________________

[الصفحة - 297]


تشلّ حركة الإنسان عن رؤية الحق وتجعله أحياناً مصداقاً لقوله تعالى: {وَاءَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون/70]، والرفض القرآني للتقليد وفق هذا الفهم ليس رفضاً جزئياً، وإنما هو تأسيس لأصالة الفكر والعقلانية، أو بعبارة أخرى تأسيس لنوع من أصالة السعي الفردي لكشف الحقيقة والاهتداء إليها، وهي أصالة لها مداليلها ولها عواقبها ولوازمها التي لا بد من الأخذ بأكثرها إن لم نقل بجميعها كي لا نقع في تناقض ذاتي، ومن هنا فإن الثقافة القرآنية ثقافة ترفض الآباء الذين يعبرون عن منهج خاطىء، وتقبل بالآباء الذين يعبرون عن منهج سليم، وهذا معناه ضرورة السعي في المرحلة الأسبق لتحديد الصحة والخطأ، وتبعاً له، تحديد طبيعة الموقف من الآباء، لا اعتبارهم أساساً لتحديد الباطل والحق، أو الحكم السلبي عليهم أو الإيجابي بصورة مسبقة.
إنَّ اللَّاتقليد للآباء تعبير آخر عن اللَّاتقليد للمحيط وللسَّلف، وكسرٌ لمركّب السلف والصالح، لإعادة إنتاج ثنائية جديدة هي: السَّلف الصالح والسَّلف غير الصالح، وإذا ابتعدنا عن كلمة صالح حتى ننأى بأنفسنا عن الإثقال النفسي والخلقي يمكن القول: السَّلف المصيب والسّلف غير المصيب، لا ثنائية واحدة جدلية بين الإصابة والسلفية أو أحادية تبدأ من السلفية وتنتهي بالإصابة.
وما قلناه تعبير آخر عن استبعاد علمي ومدروس للأشخاص عند دراسة الأفكار في مرحلة التقييم النهائي.
لكن هذا الأمر، لا يعني ـ كما هو الحاصل لدى بعضهم ـ نوعاً من ردة الفعل إزاء الأشخاص أو السلف أو التاريخ أو...، ومحاولة للافتخار بنقد السلف وكأن نقد السلف والمشهور تحوّل لدى هؤلاء إلى علامة افتخار أو مؤشرٍ علميٍ للتطور والتخلّف إلى درجة أنه صار يشعر بعيب موافقة الماضين أو الشخصيات، ويشعر أيضاً بذاته وكيانه ووجوده عندما ينقدهم أو يفند جهودهم كلًّا أو جُلًّا أو بعضاً.
والأمر الأكثر غرابةً، على صعيد البصمات الشخصانية في ساحة الفكر والمعرفة، يتمثّل ـ في ما يلاحظ ـ في تمثّل التيار العقلاني التغييري لسلوكيات شخصانية، ففيما يحارب هذا التيار مختلف أشكال الشخصانية والصنمية على الصعد
________________________________________

[الصفحة - 298]


الثقافية والسياسية والاجتماعية إلخ...، تراه ينافح من حيث لا يشعر عن شخصانيات أخرى من طرفه، فنقد بعض المفكّرين الجدد يعبّر دائماً أو غالباً عن تخلّف، والاختلاف في بعض المفردات يسمح ـ لهؤلاء ـ بإجراء عمليات تصنيف مسقطة على الأفراد والاتجاهات، وكأن التغيير والإصلاح والتطوّر والعقلانية إلخ...، أصبحت مفاهيم محتكرة من جانب تيار أو جناح، وهذه في الحقيقة ليست مجرد إشكالية بل تحدٍّ واضح لمدى مصداقية الاتجاه العقلاني الناهض لاختبار مدى جدّيته في السعي لإزالة الظواهر النمطية المتجذّرة في المجتمع.
إن هذه المشاعر والأحاسيس التي تغرق فيها الساحة الثقافية تشل أخلاقيات البحث العلمي، وتبقي الحركة الثقافية في نوع من الجداليات التي غالباً ما تعبّر عن دوَّامات لا مآل لها.
3 ـ الهدف الأخلاقي للبحث العلمي
غرق علم الكلام الإسلامي في النزعة الجدالية التي استنزفته، فيما سعت الفلسفة ـ وفِّقت أم لم توفَّق ـ إلى تفادي هذه النزعة بطرحها البرهانية الفلسفية أساساً للنشاط أو الفعالية، وهذا الفارق ما بين الفلسفة والكلام هو بعينه مشكلة من مشكلات البحث العلمي، إننا نجد أحياناً أن بعض الباحثين لا مشروع لديه سوى النقد، سواء كان نقداً لأشخاص أم لتاريخ... وهو يعمل، ليلًا نهاراً، مخلصاً وجادَّاً، في نشاط النقد هذا، وهدفه تفنيد هذا الشخص أو ذاك التاريخ، وهذا النشاط في حدّ نفسه مفيد جداً، لأن العقلية النقّادة عقلية ناضجة بالأساس ولا ينبغي الحيلولة دون وجود هذه العقلية في المجتمع الثقافي، لأنها تمثل إحدى ضمانات التوازن المعرفي، لكن المشكلة التي تحصل تكمن في تحوّل هذه العقلية إلى مشروع شامل لا يقف إلى جنبه مشروع آخر، فالفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط صاحب ـ ربما ـ أشهر مدرسة نقدية في تاريخ الفلسفة لم يكتفِ بنقد العقل ومن ثمّ أبقى الفكر في اللاشيء أو في الفراغ، وإنما سعى ـ إلى جانب ذلك ـ إلى إيجاد البديل ولو وفاقاً لوجهة نظره التي يحق لمن بعده تأييده عليها أو رفضه، أن تملكُنا عقلية نقدية فهذا خطر، أما أن نملك عقلية نقدية فهذا عين الصواب بل والضرورة، إن
________________________________________

[الصفحة - 299]


بعض الباحثين المعاصرين لا يستهدف من نقده للتراث غير تفنيده، وإذا ما فتّشت في كتبه ونتاجاته عن بديل ما ربما يصعب أن تجد شيئاً من هذا القبيل، وهذه هي نقطة الخطأ، أن لا يعتاد الباحث ـ أي باحث ـ على مجرد أن ينقد فحسب... أن ينقد كل جديد أو فكرة جديدة من دون أن تكون له وظيفة أخرى عدا تتبّع كل ما يقال من جانب فلان أو جماعة أو مذهب... بغية نقده، أو أن ينقد القديم كل قديم بحيث لا همّ له سوى مواصلة الجهد لتنحية هذه المقولة أو تلك... إلى حد وصول الحال إلى أن يقرأ هؤلاء أي كتاب أو مقالة بعقلية يسميها الدكتور نصر حامد أبو زيد، في كتابه دوائر الخوف، «استراتيجية البحث عن العفريت» (4).
إن الهدف الصحيح لحركة البحث العلمي يجب أن يكون الحقيقة، فعندما يشاهد الباحث فكرةً خاطئة عليه أن ينقدها، لكن أن لا يبقى في نقدها.. بل عليه أن يشير إلى الأمام لوضع حل أو صيغة أو بديل آخر لها كما هي عادة الكثيرين من علماء أصول الفقه الشيعي؛ حيث يتعرّضون للآراء واحداً بعد الآخر ثم ينقدونها، وفي النهاية يقومون بتبنِّي رأي معين والدفاع عنه، أو ابتكار رأي جديد والبرهنة عليه، لا أنهم يبقون دائماً في إطار نقد الآراء التي لا يؤمنون بها.
إن هدف الباحث معرفة الحقيقة واتباعها، وهو أمرٌ قد يجعله يمر تارةً على نقد وأخرى على تدعيم وثالثة على تأسيس ورابعة على تأييد وموافقة، وهكذا من دون أن يبقي نفسه في أسار النقد، ويصنع من ذاته شخصية نقَّادة، ونقّادة فقط، سواء لهذا الطرف أم لذاك، لا فرق.
إن النقد ـ من الناحية العلمية ـ أسهل من إعادة الإنتاج والبناء، والشخصيات النقَّادة، والنقَّادة فقط، كثيراً ما تكون شخصيات خائفة ومحجمة، والسبب هو أن هذه الشخصيات تظن أن جميع الناس تفكر وفاقاً لطريقتها في النقد، فلا تتصور أو تترقب إذا ما قدّمت شيئاً سوى النقد في عقول الآخرين لأفكارها وإنجازاتها، لهذا فهي تشعر دائماً بحالة من الإحباط والقلق وربما الهزيمة، وهذه تلك الشخصية نفسها تصبح في ما بعد ـ لو تصدّت لتقديم شيء ثقافي ـ أحد الذين يمارسون الاستبداد والقمع...، لأن الاستبداد أفضل وسيلة لتهدئتها نفسياً.
إن شيوع روح النقد غير المتزاوج مع إعادة الإنتاج، لا يقدّم سوى المزيد من
________________________________________
(4)دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1999م، ص 13.

[الصفحة - 300]


مظاهر الإحباط واليأس والنكوص والردّة إلخ...، سيما لدى العناصر الشابة المثقّفة، وهذا ما يرشدنا إلى مدى الالتحام ما بين هذه الظاهرة الثقافية من جهة ومجمل الحراك الاجتماعي والسلوكي من جهة أخرى.
4 ـ أهليَّة البحث العلمي
موضوع أهلية البحث العلمي موضوع طويل ومتشابك إلى حد معين، لكننا سنشير إلى بعض نقاطه باختصار.
إن هناك مشكلة ثنائية الطرف تعاني منها بعض الساحات الثقافية، وهي مشكلة أهليَّة البحث، فمن جهة هناك حالة من تدخل الذين قد لا تكون لهم أهلية البحث العلمي (خصوصاً الديني) في مباحث الفكر الديني، وهناك من جهة أخرى تشدّدٌ زائدٌ عن الحد من جانب آخر، ويمثِّل الجانب الأول تيار التجديد وكذلك شريحة من الجامعيين المتديِّنين المثقفين وشريحة محدودة من طلاب العلوم الدينية في الحوزات العلمية، أما الجانب الثاني فيمثله التيار الرسمي الديني.
يقول الاتجاه الأوّل: إن التيار التَّقليدي في المعرفة الدينية، المتمثل بالمعاهد والحوزات الدينية الشِّيعية والسنِّية، أخفق في تقديم مشروع فكري ناضج ومتكامل، ولهذا فمن حقِّنا نقده ومن ثم السعي لصنع شيء بديل من هذا القبيل، وقد نما هذا التيار وازداد نموّه في الآونة الأخيرة حتى نجح في صنع روّاد ومفكرين أساسيين ومهمِّين انسحبوا من السلك الديني الرسمي، أو كانوا من البداية قريبين منه...
وفي الحقيقة هناك مسوِّغات ـ قسمٌ منها مقبول ـ أسهمت في تكوُّن هذا التيار الرافض لما يسمى باحتكار المعرفة الدينية من جانب شريحة من الناس، قد تكون أسس تفكيرها خاطئة، مهما بذلت جهوداً في البحث والتنقيب، لأن الخلل المنهجي، أو ما يسمّى اليوم الخلل في العقل نفسه، لا يمكن إصلاحه بترميم فوقاني للفكر، مهما طالت مدّة البحث ومهما أمضى الإنسان عمره في الدراسة والتحقيق.
طبعاً، نحن لسنا في صدد الحديث عن وجهة النظر هذه، لأن كلامنا هنا يدور عن خصوصية من خصوصيات هذا التيار، ألا وهي أن بعض روّاده وبعض المشتغلين
________________________________________

[الصفحة - 301]


فيه لم يهضموا جيداً أصول الفكر الديني وموضوعاته، واتسمت نتاجاتهم بشيء من التسرّع، فكيف يحقّ لشخص أن يلغي كل نتاج علم أصول الفقه على صعيد مباحث الألفاظ (حتى لو كان رأيه صحيحاً) ما لم يكن إنساناً هاضماً خبيراً بهذا العلم حتى يقف على مناهجه وأساليبه في البحث وعلى تياراته ومدارسه إلخ...؟! إن مجرّد قراءة كتاب أو كتابين لا يسوِّغ عادةً ـ على المستوى الأخلاقي العلمي وعلى المستوى المعرفي أيضاً ـ التصدّي لاتخاذ مواقف كبيرة من هذا القبيل، إن هذه اللاأكاديمية في البحث العلمي، أو هذه الارتجالية في استخلاص النتائج، تجر على الجسم الثقافي العام الكثير من النتائج الضارّة، كيف يمكن ويحق لشخص أن يحكم على الفلسفة الإسلامية سلباً أو إيجاباً لمجرّد اطلاعه على نتاج العلامة الطباطبائي فقط أو عمانوئيل كانط وكارل پوپر وميشيل فوكو إلخ..؟! وإنما نقول ذلك لأن النقد الذي يثيره هذا التيار نقد منهجي تأسيسي بنيوي يمس العقل، ولا يمكن لنقد كهذا أن يتجاهل قراءة تاريخية وشاملة... فهذا الدكتور محمد عابد الجابري ـ وافقناه أم عارضناه ـ قرأ العقل العربي أولًا في مجلدات ثم نقده، ولم يكن يحق له أن ينقد هذا العقل من دون أن يدرسه ماراً بالمدارس الفقهية والكلامية والفلسفية وغيرها، ولهذا يمكن القول: إنَّ إشاعة ثقافة التدخّل من جانب بعضهم في قضايا الفكر الديني، وهو ممن لا اختصاص له فيها.. إن إشاعة هذه الثقافة أمرٌ غير سليم على ما يبدو، لكن هذا الأمر شيء وممارسة قمع واحتقار لمن ينقد شيء آخر، فنحن نتكلم في البعدين المعرفي والأخلاقي لا في البعد القانوني والحقوقي، إذ يحق لأي إنسان أن يستفهم ويسأل وينقد، لكننا هنا نطلب منه أن لا يستخلص نتائج من دون شيء من الخبرة والدراية حفاظاً على النمو السليم للمعرفة.
أما الاتجاه الثاني فيقول: إن المعرفة الدينية وعلوم الدين تحتاج إلى تخصص وجهد غير عادي لفهمها وإدراك خباياها، لذلك لا يحق لأي شخصٍ أن يتجرأ ويقحم نفسه في هذه العلوم من دون أن يكون قد طوى المراحل المتعددة التي تؤهله لهذا الأمر. ويضيف هؤلاء: إن السير، ليس وفق المنهج المعهود في المدارس الدينية، أفضى، ولا يزال، إلى مخاطر عديدة، وقد شاهدنا بأعيننا النتائج السلبية لهذا الأمر.
________________________________________

[الصفحة - 302]


وهذا المقدار مما تثيره المعاهد الدينية الرسمية يمكن الموافقة عليه، بيد أن القضية على هذا الصعيد أخذت بالتصاعد إلى حد غير مسوّغ على ما يبدو، ذلك أن هذه الحالة أفضت من جهة إلى قناعة بنوع من الاحتكار في عالم الفكر والمعرفة، وأخذ الدارسون الرسميون ـ طبعاً نحن نتكلم عن بعضهم بالتأكيد، والكلام ليس شاملًا أبداً ـ يتصوّرون أن كل من يكتب أو يتكلم في مجال المعرفة الدينية من دون أن يكون متحرِّكاً في إطار السلك الرسمي فهو معتدٍ ـ علمياً ـ ويتدخل في ما لا يعنيه وأنه متأثر بالأفكار الغربية، أو أنه لا أصالة في فكره إلخ... وساد اعتقاد بلا مشروعية التفكير، أيُّ تفكير لا ينطلق من الخطوط والرسوم التقليديَّة لتسلب بعد ذلك القيمة عنه والاحترام.
وربما تطوّر الأمر، لدى بعضهم، إلى مستوى أعلى حين يضع اللباس الديني جزءاً مكوِّناً للمشروعية البحثية، بحيث لا يحق لمن لا يضع هذا اللباس أن يتكلم باسم الدين والتدين مهما بلغ من العلم بل والإيمان... أو أنه لا يحق له ـ حتى لو كان ملبَّساً بلباس رجل الدين ـ البتّ في شيء والتصدّي له ما لم يصل إلى سنّ معينة بحيث يمكن عدّه مخضرماً حينئذٍ.
لكن هذا الواقع ـ كالواقع السابق ـ يواجه مشكلات لا سيما مشكلات تسويغ، فمن أين لنا أن نجزم بعدم أحقيّة أحد للبحث الديني إلا إذا فكَّر وفاقاً للطَّريقة التي نفكّر نحن بها؟ وكيف عرفنا أن مجرّد صحة طريقتنا تخوِّلنا سلب الشرعية المعرفية عن طريقة غيرنا؟ لا نريد الحديث عن الحق القانوني، وإنما نتكلم عن الحق المعرفي الذي ينتج إمكانية احترام الطرف الآخر معرفياً، فما لم نكن نقرّ بحق الطرف الآخر في النظر والمعرفة بعيداً عن لباسه أو انتمائه الطبقي فمن الصعب احترام قواعد العمليَّة المعرفية حينئذٍ، لأن الأساس الذي نعتمد عليه في عملية التحييد هذه يمكن إذا انسجمنا معه حتى النهاية أن يوسع من نطاقها لتسيطر في ما بعد، فئوية رهيبة ضمن دوائر في غاية الضيق.
والمشكلة الأساس تتمثَّل في أن هذا الموضوع بالخصوص يخلق نوعاً من الطبقية الفكرية، وهي طبقية تتعامل مع الآخر من منطلق فوقي دائماً تماهياً مع
________________________________________

[الصفحة - 303]


مفهومي الحق والباطل وأمثالهما، والحديث عن هذه الطبقية وعن مسوِّغاتها العقلية والدينية من جهة وسلبياتها من جهة أخرى يحتاج إلى مجال أوسع، ويتصل ـ في ما يتّصل ـ بموضوعة التعددية المعرفية بالدرجة الأولى.
5 ـ العنف الفكري/ الاعتدال والوسطية
تعاني الكثير من مجتمعات العالم اليوم من ظاهرة العنف، وقد كثرت الأفكار والآراء المتعلِّقة بهذه الظاهرة، ودرسها الباحثون من زوايا متعدّدة، وأحد أنواع العنف هو العنف الفكري.
ليس هناك نظرية، على ما يبدو، قادرة على ادعاء نبذ العنف بشكل مطلق، وليس هناك تيار ينادي بنظرة واحدة إلى العنف، أي عدم تقسيمه إلى عنف مشروع ومقونن وعنف غير مشروع وغير أخلاقي ولا قانوني، والإسلام كان واحداً من هذه التيارات والاتجاهات التي قسمت العنف إلى قسمين، فرفضت بعضه وقبلت بعضه الآخر، وهو أمرٌ لا يعنينا فعلًا.
الأمر الذي يعنينا، هنا، هو مسألة العنف الفكري عند الباحث، فمن ناحية نفسية وسلوكية هناك أشخاص يفكرون بطريقة عنيفة، وهناك بعض آخر يفكر بهدوء وببرودة أعصاب، وهاتان الشخصيتان قد لا نتمكن من توجيه رفض شامل لهما ممتدٍ في الزمان والمكان والظَّرف والحال، لأن التفكير الذي يتَّصف بنوع من الصخب والعنف والانفعال والإثارة نحوٌ من أنحاء التفكير قد يحتاجه أحياناً شاعرٌ أو سياسي أو زعيم أو عارف إلخ... وقد لا يحتاجونه في حالات أخرى، ومن الخطأ ـ في ما يبدو ـ أن يتصور التفكير الممزوج بالإثارة على أنه تفكير خاطى دائماً، وذلك أن له حالات قد لا ينوب عنه فيها أي نمط آخر من التفكير.
وهكذا الحال في الشخصية الثانية، أي الشخصية ذات التفكير الهادى... إن هذه الشخصية ليست أمراً ثابتاً أو من المفترض أن يتحلّى به جميع الناس، إن بعض الحالات تفرض شخصية لا هدوء في تفكيرها وإلّا لضاعت الفرص، و... فيما تتطلب حالات أخرى تفكيراً هادئاً.
ولا يعني التفكير غير الهادىء التفكير الفوضوي، بل يعني التفكير الممزوج
________________________________________

[الصفحة - 304]


بالإثارة والطابع الانفعالي بعيداً عن فوضويته أو انتظامه، فبعض الأبحاث قد تتحلَّى بنظام شديد وترتيب كامل، بيد أن التفكير الذي أنتجها تفكير غير هادىء، والعكس هو الصحيح.
لكن السؤال الذي يبقى مثاراً هو: ما هو الإطار العام الغالب الذي يطالب الباحث أو المفكر، أو التفكير، بصورة عامة، أن يسير ضمنه؟ وما هو الاستثناء على هذا الصعيد؟ كيف يمكن توزيع الأدوار؟
هل أن التوزيع زماني، أي هل نتحدث عن أزمنة، فنقول: إن هذا العصر يتطلب نمطاً من التفكير، أما ذاك فيتطلب نمطاً آخر؟ أو نجعل التوزيع قائماً على أساس تصنيفي بين الناس بحيث نتحدَّث عن شريحة يملكها نمط تفكير أو فئة فيما شريحة أخرى تحكمها طريقة أخرى؟... أنجعل في كل إنسان أكثر من شخصية دفعةً واحدة يستبدل إحداها بالأخرى عندما يتحقق موضوع كل طريقة وظرفها؟... أم نترك الأمور على رسلها تتحكم فيها التنوّعات الطبيعية في شخصيات الناس التي تختلف باختلاف الوراثة والبيئة و...؟
بحسب العرض المتقدّم، ينفتح هذا الموضوع على غير صورة وشكل، لكن من الممكن هنا إثارة نقاط سريعة وموجزة:
أ ـ إن البحث الذي يستهدف الحقيقة يرجح أن يكون هادئاً، لأن الصخب قد يعوِّق تصاعد التفكير وبشكل منتظم وممنهج، فكلما كان التفكير هادئاً وقادراً على أن يحيط بجوانب الموضوع، كان أقدر على قطع منافذ التوتر والإرباك، فالتفكير ممارسة كباقي ممارسات الإنسان التي يطولها الإخفاق والشلل والخلل عند ارتباك صاحبها أو توتّره.
ب ـ البحث العلمي، داخل الدائرة الإسلامية، من المطلوب أن تحكمه حالة الهدوء والتفاهم والاستقرار، انطلاقاً من القاعدة القرآنية القاضية {رحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح/29]، هذه القاعدة، حسبما يفهم من النص القرآني، لا يخرج عنها سوى في حالة الصراع السياسي المتمثل في مفهوم البغي الذي يستدعي إثارة الهيجان في الدائرة الإسلامية كلِّها، وقد يعثر في النصوص على أمور أخرى كحالات البدعة، أو
________________________________________

[الصفحة - 305]


ما شابه ذلك مما يتوقف عليه أحياناً حفظ الدين، وإلا فالأصل في علاقة المسلم بالمسلم هو علاقة الرحمة، وهي علاقة تجعل من أي نشاط فكري داخل هذه الدائرة نشاطاً هادئاً مستقراً.
والمسوِّغ الذي يقدّمه القائلون بضرورة عدم الرحمة إزاء بعض الخلافات الفكرية داخل الساحة الإسلامية يتمثّل في تطبيق مقولات البدعة وهدم الدين والتآمر على الإسلام إلخ...، ومع التقدير المبدئي لهذه المقولات غير أن التباساً، في التطبيق، أو في تحديد الدوائر، لا يزال متحكّماً بالموقف، فتعريف البدعة، وتقديم تصورات واقعية عن المخاطر التي تحفّ بالدين، ومن ثم تحديد الدين والتدين، أو الضرورة الدينية والثابت الديني...، إلى غير ذلك من المفردات، ذلك كله لا تزال تنتابه درجة من الغموض الذي استجلاه بعضهم عن طريق افتراض مركزية قائمة على تفكيره الشخصي، الأمر الذي ولّد ولا يزال إشكاليات حقيقية.
أمّا الاتجاه الذي ينافح عن التغيير، فيحاول فلسفة ثوريته أحياناً عن طريق إغراق الساحة بسيل من الإحباطات التي تؤدِّي بدورها إلى تفضيل المنطق الثوري على المنطق التوفيقي الإيجابي أو التغييري المرحلي، والشيء الذي يضغط لصالح الموقف الداعي إلى ثورة ثقافية ـ بكل ما تحمله كلمة الثورة من معنى ـ هو وجود المنافس الغربي السريع الخطى، والذي يلاحق أي خطوة تطوير في الواقع الثقافي والعام ليدفعها بقوّة نحو الأمام، الأمر الذي قد يؤدي بها إلى تعثّرات هدّامة أحياناً انطلاقاً من اللاإستحكام في الحركة تماماً كمن يسير في الطريق بخطى تعتمد على دفع غيره باستمرار، وهذه المعضلة، أي معضلة الحركة المبرمجة من جهة وفقدان عامل الزمن من جهة أخرى، لم تحسمها آلية الثورة، لأن تجربة القرن العشرين أكّدت في مجتمعاتنا الإسلامية على السرعة الهائلة واختزال المراحل، ما دفع المنافس الآخر الداخلي (التقليدي) إلى النكوص، وفصل هذا الوضع المثقف المتنور عن واقعه ومجتمعه، الأمر الذي أحال أي عملية تغيير شاملة ربما حتى على الطريقة الغربية، لأن الثورات الفكرية في الغرب تصاحبت وتعاطفٍ جماهيري كبير جداً، ولم يكن الناقدون غرباء في مجتمعاتهم إلى الحد الموجود في بعض مجتمعاتنا الإسلامية.
________________________________________

[الصفحة - 306]


ج ـ من الضَّروري معرفة أن التحرّق على الدين من الهجمات الثقافية التي يتعرّض لها اليوم، لا يسوِّغ استخدام أساليب العنف الفكري في مقام إنتاج الأفكار أو في مقام عرضها، لأن التجارب الواقعية باتت تؤكد ـ وبتواصل ـ أن هذه الأساليب غالباً ما جرّت في الآونة الأخيرة، أي في القرن العشرين، سلبيات على المدافعين عن الدين، لا أقل من أنَّها صنعت شخصيات في الطرف الآخر أثارت تعاطف الشارع عموماً، بدءاً من طه حسين وعلي عبد الرازق، وصولًا حتى نصر حامد أبو زيد وعلي الوردي وعبد الكريم سروش وعلي شريعتي ونوال السعداوي وغيرهم.. وقد أكدت غير تجربة أن العقبة الأساس التي كان يواجهها بعض هذه الشخصيات كانت اللغة العلمية الهادئة التي استخدمها بعض خصومهم ضدهم، كما يقال عن «مطارحات» الشيخ محمد مهدي شمس الدين المخصَّصة للرد على كتاب «نقد الفكر الديني» للدكتور صادق جلال العظم، فقد شكلت هذه اللغة إحراجاً لهذه الشخصيات حتى لو تعرّض أصحاب هذه اللغة أنفسهم أحياناً لغضب التيار التقليدي.
إن هذا الموضوع دخل عملياً دائرة التجاذب حول ما هي الوسيلة الأنجع اليوم في بدايات الألفية الثالثة للدفاع عن الدين؟ هل خلق الإرباك والمنطق الثوري في ردع الآخر أو تهدئة الأمور واستخدام منطق هادى؟ وفي تقدير كاتب هذه السطور أن المنطق الهادى يمكن اعتباره اليوم في الإطار العام ـ وكل شيء له استثناءاته ـ الوسيلة الأنجع في الدفاع عن الدين، فنحن نعيش في عالم بدأ لا يرفض منطق الصخب في المعرفة فحسب، بل أخذ يشعر بحالة من التقزّز إزاءه، وهو ما يؤدي إذا لم نعد إنتاج خطابنا الفكري وفاقاً لضرورات المرحلة إلى المزيد من التراجع على الصعيد الثقافي والفكري عموماً.
إن طفو مظاهر التطرُّف الفكري، على مختلف اتجاهات الثقافة بلا استثناء، وتربُّع المتطرّفين من جميع الاتجاهات على كراسي المعرفة وإدارة الأمور، وانزواء المعتدلين واتهامهم بالجبن أو المهادنة أو المداراة أو الرياء سيكرّس ثقافة العنف في عالم المعرفة، وسيعمد في نهاية المطاف إلى إغراق الساحة الثقافية في عواصف من الإرباك، والتوتر واللاإستقرار، وهي عواصف تعوِّق ـ بالتأكيد ـ عملية التنمية المنشودة.
________________________________________

[الصفحة - 307]


6 ـ النَّظر بعين ناقدة إلى النِّتاج الشخصي/ التَّواضع العلمي
ثمة قصص ومقولات مسجلة أو تتناقل شفاهاً أن بعض العلماء السابقين، أو بعض المعاصرين، يحجم عادةً عن نشر كتبه ومؤلفاته، ويسوِّغ هذا الصنف من العلماء، أو من يؤيد توجههم، هذا التصرّف بتسويغات كثيرة يرجع بعضها إلى القول: إنَّ الإنسان كلما نظر في ما كتبه بعد مدَّةٍ شعر بالنقص فيه.
ولسنا في صدد محاكمة هذا السلوك، لكن أساسه صحيح ودقيق، فكلما تقدّم الإنسان الباحث في العلم وصارت لديه خبرة أكبر في هذا المجال، شعر بالنقص في ما قدّمه سلفاً من نتاجات، وهذا أمرٌ ـ كما اءُلمح ـ إن دلّ فإنما يدل على تقدّم الإنسان نفسه، وإلّا لشعر بعظمة ما كتبه ولو بعد حين.
إن الشعور الدائم بالنقد الذاتي ـ وكذلك تقبُّل النقد الموضوعي من طرف الآخرين ـ يشكل ضمانةً مهمَّة لديمومة الرقي والارتفاع المعرفي، إن الباحث الذي يعيد قراءة ما أنتجه أو التفكير فيه، وبصورة متواصلة، هو باحث متواضع وليس متكبراً، وهو باحث يهدف إلى الحق والحقيقة لا إلى الأنا والذات، كما أنّ الشعور بنقص ما قدّمه الإنسان شعورٌ أخلاقي ينمّ في ساحة التديُّن عن تقوى وتواضع، أما التكبُّر في الحياة العلمية فلا معنى له في ظل وسائل الإدراك المحدودة للإنسان، وهذا التكبر هو اليوم ـ وربما قبل اليوم ـ إحدى آفات الباحثين والبحث العلمي، إن الكثير من مقدّمات الكتب أو في مطاويها لا تزول منها عبارات أن ما أتيت به لم أجده عند أحد قبلي، أو لم يسبقني إليه أحد، أو هو فتح عظيم، أو هو تغيير سيقلب معادلات المعرفة والتفكير، أو هو حل لمعضلات دامت قروناً متمادية... إن هذه الكلمات عندما تصدر، في عصرنا الحديث، عصر التواضع المعرفي، والاعتقاد بضعف قدرة العقل أمام كشف الحقائق إنما تعبر عن دوغمائية وجزم لا موضوعي، فيما المطلوب تقديم نمط تفكير أكثر تواضعاً، أو إذا أردنا أن نعبر بطريقة براغماتية نفعية نقول: نمط تفكير أكثر براعةً وقدرةً على امتصاص أي خطأ في المستقبل.
إن نقد الذات القائم على اعتقاد حقيقي مسبق بمكانتها الواقعية المحدودة في المعرفة، وترويض النفس على تحمل هذا النقد وتقبل اكتشاف الخطأ... ليس أمراً
________________________________________

[الصفحة - 308]


سهلًا أو مجرَّد شعار نطلقه وننضوي تحته، وإنما تربية للنفس صعبة كل الصعوبة تحتاج إلى سلسلة من الأخلاقيات تتضافر لصنع شخصية علمية متواضعة، من جهة، ومتفهمة من جهة ثانية، ومسرورة باكتشاف الخطأ من جهة ثالثة، أما الاعتقاد بالخطأ في الذات وممارسة العصمة فيها فهو مفارقة تجرّ الكثير من السلبيات.
وهذه المشكلة (التكبّر والخوف من النَّقد وإعادة النظر) تظهر في كلمات الباحثين كثيراً وبأساليب متعدّدة، أحدها تعقيد العبارات اللفظية ومحاولة إبهام الأفكار على الآخرين (طبعاً ليس الأمر على نحو إطلاقي بالتأكيد)، إن الحملة العنيفة التي شنَّها التيار الجديد ضد الكتب الدينية ـ والحوزوية بالخصوص ـ في تعقيداتها وأساليب بيانها المبهم وإن كانت صائبة من وجهة نظر، لكن البديل الذي قدّمته النتاجات الجديدة لم يكن دائماً أسهل، فالكتب الجديدة التي تصدر عادت إليها الظاهرة نفسها مع اختلاف الشكل والقالب، وصارت هناك حالة شبه سائدة اليوم مفادها أن الباحث كلما مارس تعقيداً أكبر وإبهاماً أعمق في كلماته وعباراته نمّ ذلك عن عمق معرفي ومستوى علمي أكبر عنده، وكلما بسّط الأفكار ـ لا إلى حد الابتذال ـ كشف ذلك عن نقص علمي عنده، بل يرى بعضهم ـ كما كانت ترى التيارات المدرسية الدينية ـ أنَّك إذا لم تستعمل المصطلحات الخاصة، فإنَّك لم تدخل في المناخ العلمي المطلوب، فسابقاً كان شعار العلمية أن تستخدم تعابير الفلسفة وأصول الفقه، أما اليوم فتعابير جديدة، مشكلةُ بعضِها أنها لم تدخل في صورة رسميّة المعاجم الجديدة إلى حد بلغت فيه الحال أن كل كاتب صارت له مصطلحات خاصة.
إن تطوّر المصطلح أمرٌ في غاية الضرورة، ولا مجال لتجاوزه، ولا نقاش هنا في هذا الأمر، إنما الحديث عما يمكن تسميته بحالة اللاإستقرار في إنتاج المصطلح واستخدامه إلى حد النظر (إضافة إلى من قال...) إلى كيف قال، لا إلى ما قال، وهو أمرٌ يعكس في ما يعكس ـ من وجهة نظر شخصية ـ إشكالية تعود في بعض امتداداتها إلى الجانب الأخلاقي بالمعنى الذي ذكرناه للأخلاقي.
وهذا التعقيد يعبّر، في بعض الأحيان الأخرى، عن محاولة من الباحث لسدّ الطريق على النقد المركّز والواضح، وهي نقطة جديرة بالتركيز عليها والتأمل فيها.
________________________________________

[الصفحة - 309]


إذن الإحساس بثقل النَّقد الذاتي، ومن ثم النقد الموجّه من الآخر، يعبّر عن رغبة في الاستقرار في نقطة محدَّدة علمياً وعدم تخطيها نحو الأمام.
والأمر الذي قد يُجبر الباحث على اتخاذ مواقف متصلّبة أحياناً هو الثقافة والتربية العامة اللتان تنظران إلى من يعترف بخطئه، أو يعدل عن رأيه، بمثابة الضعيف علمياً، صحيح أن المفكّر الناضج أو المجتهد في العلوم الدينية مطالبٌ بالدفاع عن أفكاره لا التخلّي عنها وكأنه لم يتعمَّق فيها، لكن هذا لا يعني خلق مناخ لا يسمح بالتراجع أو التبديل، بل المطلوب عدّ ذلك كرامة ومفخرة تمنح صاحبها وساماً في الأوساط العلمية، فأكثر العلماء عبر التاريخ تغيرت آراؤهم عدّة مرات في حياتهم، فقد عرف ذلك من فلاسفة كبار كابن سينا والملَّا صدرا، كما عرف عن فقهاء أجلَّاء كالعلَّامة الحلّي والإمام الغزالي وغيرهما، بل إن ذلك سنّة الله في خلقه إلَّا من عصم، وهذا ما يجعلنا نضع بعض علامات الاستفهام على المحاولات التي ترمي إلى تصوير بعض المفكرين ـ كالشهيد محمّد باقر الصدر (م 1400هـ) ـ وكأنهم لم تتبدّل أفكارهم منذ نعومة أظفارهم، وعدّ ذلك شاهداً على عبقريَّتهم.
________________________________________

[الصفحة - 310]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف