البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مناهج تحليل حقوق المرأة وتقويمها حقوق المرأة بين الواقع المعيش والمواثيق الدَّوليَّة

الباحث :  أ. محمود حكمت نيا
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  25
السنة :  السنة السابعة ربيع 1423هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 16 / 2015
عدد زيارات البحث :  1550

مناهج تحليل حقوق المرأة وتقويمها (حقوق المرأة بين الواقع المعيش والمواثيق الدَّوليَّة)

أ. محمود حكمت نيا (*)

لم تمض على عناية الأفراد والمؤسَّسات المختلفة بحقوق المرأة، في الغرب، أكثر من مئة سنة. فبعد مدَّة وجيزة من توقيع المعاهدة الدَّولية التي تمَّ بموجبها منع بيع الجنس الأبيض وشرائه، في عام 1910م، انطلقت أوَّل خطوة على هذا الطريق متمثِّلةً بالتَّوقيع على معاهدة إلغاء بيع النِّساء والأطفال عام 1921م، عزَّزتها خطوة أخرى عام 1933م تمثَّلت بتوقيع معاهدة تمنع التعامل بالنساء بيعاً وشراءً.
تصوّر هذه المعاهدات جميعها طبيعة الظلم الذي طاول المرأة حتى فيالقرن العشرين، وبخاصة في العالم الغربي. لكن، وعلى الرّغم من هذه المواثيق والمعاهدات، لا تزال المشكلة قائمة. فمع وجود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تحدَّث عن الحقوق بلغة عامة، بعيداً عن الجنس واللَّون والدِّين والانتماء القومي (1)، ومع استخدامه، على نحو مكثَّف ألفاظاً، من قبيل «كل شخص» (Every one)و «جميع أفراد البشر» All human) (being؛ ومع استخدام هذه اللُّغة العامَّة، وامتلاء وثيقة إعلان الحقوق بمثل هذه الصِّيغ والتعبيرات، وما أعقب ذلك من إعلان عام 1975 عاماً للمرأة، فإن الأوضاع التي تحيط بالمرأة لاتزال غير موائمة.

في عام 1979م، وضمن اعتراف الجمعية العامَّة للأمم المتحدة بالوضع السيِّء الذي يحيط بالمرأة والوقائع المفجعة التي لا تزال تنزل بساحتها، وبخاصَّة في الغرب، بادرت هذه الجمعيَّة إلى إقرار مشروع عنوانه: «ميثاق القضاء على جميع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)باحث إسلامي،من إيران
(1)ينظر البند الثَّاني من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

[الصفحة - 291]


أنماط التمييز ضدَّ المرأة»، ثم تمّ، عام 1980، وعلى نحو مستقل، ولأوَّل مرَّة، تأكيد حقّ المرأة في التعليم والعمل والسلامة العامة. أما في مؤتمر نيروبي الذي عُقد في العاصمة الكينية، عام 1985، فقد انتهى المؤتمرون إلى إقرار استراتيجية تتحرك، حتى عام 2000م، تحت عنوان: «تحسين حقوق المرأة والارتقاء بأوضاعها». بيد أن دوام العنف ضدّ المرأة وتصاعد الأرقام والإحصائيات التي تكشف عن هذه الوتيرة، جعل الأمم المتحدة تبادر، في عام 1994، إلى دراسة السُّبل الكفيلة بالقضاء على هذا العنف المتنامي، الأمر الذي دفع بها إلى عقد مؤتمر عام 1995 تحت عنوان: «الانطلاق نحو المساواة والتَّنمية والسلام».
لكن، وعلى الرُّغم من هذه المبادرات، لا تزال الأرقام والمعلومات تشير إلى أن المشكلة ما برحت تراوح في مكانها، غاية ما هناك أن الأقنعة تبدَّلت، وراح الظُّلم يسفر عن وجهه في بعض الموارد في صيغ أخرى وأشكال جديدة. فعلى سبيل المثال، تتحدَّث الأرقام في أمريكا عن اغتصاب امرأة في كل ثماني ثوان، في حين يسجِّل المشهد الحياتي، هناك، وقوع عملية زنا مصحوبة بالعنف واستخدام القوة (Rape)كل ستّ دقائق، حتى باتت الخسائر الفادحة التي تنزل بالمرأة، في أمريكا، على أثر عمليات الاستغلال والعنف والاعتداء الجنسي، تزيد على تلك الناشئة عن حوادث السير، وعن الموت بمرض السرطان والإدمان على المخدرات. ففي عام 1993 وحده سجّلت الأرقام (2)، الناتجة عن بحوث اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أن عدد الفتيات اللائي وقعن ضحية الاعتداء الجنسي، قبل سنّ السادسة عشرة، وصل إلى 54%، وأن 25% من النساء تعرَّضن للتَّهديد بالموت (3).
على صعيد آخر، نصَّت المادَّة 26، من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، على أن التعليم هو حقٌّ عام للجميع. تأسيساً على هذا المبدأ، أشارت الأرقام الصادرة، عن منظمة اليونيسكو، عام 1994، إلى انخفاض النِّسبة المئوية للأمِّية في العالم، في المدة (1970 ـ 1990)، بيد أنَّها عادت لتقرر أنَّ المرأة تؤلِّف ما نسبته ثلثا عدد الأمِّيين في العالم (4).
إضافةً إلى ذلك، لا تزال قوانين بعض البلدان، في العالم، تدرج المرأة في عداد الأموال والثَّروات، وتعدّ الأذى الذي يلحقها جزءاً من الحقوق العرفية المألوفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) Rebecca Wallace, International Human Rigths, 1997, p 46.
(3) Ibid. p 44.
(4) Ibid. p 43.

[الصفحة - 292]


في المجتمع، حتى أن هذا النَّسق من التَّفكير بلغ حدَّاً من العمق والجذريَّة دفع عضواً (5)، في المجلس النيابي لأحد البلدان إلى ترك الجلسة لمجرد أن المجلس قرّر مناقشة الأذى الذي يلحق المرأة في ذلك البلد، معلِّلًا موقفه بالقول: «إنَّ أذى المرأة هو تعبير عن عرف مألوف، ومن ثم فإنَّ البحث في هذا الموضوع هو إضاعة للوقت» (6)!
علينا أن نعرض، الآن، للأهداف التي يتوخَّاها الخطّ العام للمواثيق الدَّولية وللمسار الذي يتحرَّك فيه المدافعون عن حقوق المرأة في إطار الأنموذج الغربي. نقرأ، على هذا الصَّعيد، ما جاء في مقدِّمة ميثاق عام 1979م: «تحتاج عملية التنمية الشاملة للبلد، وتحقيق الرّفاه والازدهار، وإيجاد السلام؛ إلى مشاركة النِّساء في جميع المضامير كحاجتها إلى مشاركة الرجال تماماً».
وحدَّد مؤتمر الأمم المتحدة، في عام 1995م، عدداً من الموضوعات بوصفها المشكلات الجدِّية التي تعاني منها المرأة في الغرب والشَّرق في نهاية القرن العشرين. هذه المشكلات التي ينبغي العناية بها، هي: المرأة والفقر، تعليمالمرأة (7)، المرأة والسلامة العامة، العنف ضدّ المرأة، المرأة والصِّراعاتالمسلَّحة (8)، المرأة والاقتصاد، المرأة وموقعها في المراتب التنفيذية ودورها فيتدوين القوانين (9)، الآليات الأساسية القمينة بتقدم المرأة، الحقوق الإنسانية للمرأة (10)، المرأة ووسائل الاتصال، المرأة والبيئة، والأطفال البنات (11). كما أشار المؤتمر المذكور إلى مصطلحات من قبيل: مساوٍ (Equal)والمساواة (Equality)، والشرائط المساوية (Equal terms)، والحقوق المساوية (Equal rights)، والحقوق المتشابهة (Some rights)وتساوي المرأة والرجل (on a basis of equality of men and women).
تعيش المرأة الآن حصاراً كبيراً، وهي تتعرَّض إلى أقصى ضروب الأذى، وتعاني من ضغوطات وحشية، حيث لا تزال تنتابها المشكلات، وتنهال عليها من كل حدب وصوب في الشرق والغرب، ولا تزال معاناتها مستمرة في نهاية القرن العشرين؛ حيث يصيبها الظلم مضاعفاً في البلدان التي لا تتبع التشريعات الإسلامية. لكن مع ذلك كله، نجد أنَّ بعض الباحثين يحمل على نظام حقوق المرأة في الإسلام تقليداً للمستشرقين واحتذاءً لهم، بدعوى وجود عدد ضئيل من موارد الاختلاف في قواعد الحقوق بين المرأة والرجل، متخطياً ذلك إلى المناداة ليس بالتساوي بينهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) Ibid. p 50.
(6) Ibid. p 51.
(7) Woman and povetty.
(8) Women Violence against. Women and health.. Education a training of women.
(9) Women and economic. Women and armed confilict.
(10) Women in power and - making. Institutional mechanisms for the advanc ment of Women decision.
(11)Human rights of Women the girl child. Women and environ ment.Women and media.

[الصفحة - 293]


بل إلى المطالبة بالتشابه التام المطلق بين الجنسين في جميع التفاصيل والجزئيات، وذلك على الرَّغم من وجود التفاوت الطبيعي بينهما في عدد من الحالات والموارد.
الطَّريف في ذلك كله أن هؤلاء يلجأون إلى توجيه نصال سهامهم إلى أحكام الإسلام ويستهدفون تشريعات هذا الدّين برميات أقلامهم، بدلًا من أن يتَّجهوا عمقاً ليدرسوا جذور المشكلة ويحلِّلوا الواقع القائم على أسس علمية وموضوعية؛ هذا الواقع الذي يشهد بتضييع حقوق المرأة في الغرب واستهدافها بالعنف الموجَّه على نحو متزايد لا سابق له، كما تدلّ على ذلك الأرقام الموجودة أمام ناظريه.
نقد النِّظام الحقوقي الإسلامي
يكتب أحدهم، في سياق تحليل المادة (1043) من القانون، التي تقضي بلزوم إذن الأب في زواج البنت الباكر، ما نصُّه: «تشهد ألفاظ هذه المادَّة على أن المشرِّع الإيراني قد أولى التفاوت الجنسي، بين المرأة والرجل،في عملية التشريع الحسَّاسة، أهمية تفوق المقتضيات الاجتماعية المعاصرة للبلد» (12). في حين ذهب آخر إلى أن اختلاف الأحكام يتعارض مع حقوق المواطنة، ليقول: «هناك أشكال من عدم التساوي تتعارض مع حقوق المواطنة. هذا التضاد بين الاثنين يمكن أن يعبِّر عن نفسه في حقل المسائل العائلية، أو في مضمار قوانين العمل، أو في مجال السياسة» (13).
كما وصف أحد هؤلاء منظومة الحقوق الإسلامية والنظام المنبثق عنها بأنها «متخلِّفة»! حين كتب ما نصُّه: «إن قوانيننا تتناسب مع ثقافة عصر صدر الإسلام ومجتمعه. ففي ذلك العصر، كان من اليسير على المرأة أن ترضع طفلها اللبن، ثم تطالب الزوج بأجرة ذلك، كما كان مألوفا أن تكتفي بالتمكين الجنسي من دون أن تمارس أيّ عمل آخر. كان ميسورا لها أيضا أن تطالب باستخدام خادم.
على هذا الضوء يتبيَّن أنَّ هذه المنظومة الحقوقية كانت صحيحة بالنسبة إليها، لكن ماذا إذا ما قالت المرأة الآن: إنني أرضع طفلي، وأريد أن أتقاضى على ذلك أجرا؟ ربما يصار إلى وصفها بأنها مجرمة لو فعلت ذلك!
كذلك لو قالت لزوجها: أريد أن أجلس في البيت هكذا من دون أن أؤدّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12)مهرانكيز كار، مجلة زنان (النساء)، العدد 35، ص 12.
(13)فريده فرهي، مجلة زنان، العدد 524، ص 20.

[الصفحة - 294]


أي عمل، اذهب وَأْتِ بخادمة. لو فعلت ذلك لقيل، في وضعها: إنها إنسانة مغرورة وعجيبة» (14).
يضيف الكاتب نفسه: «إن نظامنا الحقوقي هو نظام تمييزي، بل يمكن القول: إنه «متخلِّف» (15).
وسعت كاتبة أخرى إلى أن تُظهر الأحكام ذات الصلة بالمرأة على أنها تعبير عن مظالم تطول المرأة: «تعمل بعض القوانين الموجودة على تأييد المظالم التي تنزل بالمرأة، كما هو الحال في الأحكام التي ترتبط بحق الطلاق وتعدّد الزوجات وغير ذلك».
من جهة أخرى ذهبت الكاتبة نفسها إلى أن المتغيرات العلمية تملي تغييرا مماثلًا في جميع الرؤى والقيم (16).
مثال آخر لهذا النَّمط من الكتابات يستدعي التَّأمُّل، ويتمثل في ما يذهب إليه من توجيه للجهاز التَّشريعي في إيران، على النحو الآتي: «بمقدور المشرِّع الإيراني أن يغيِّر بنية ولاية الأب لصالح الحقوق الإنسانية للأمَّهات والأطفال الإيرانيين، وذلك بمعزل عن الأمزجة والأذواق الشخصية، وبعيداً عن النَّزعة الرجولية التي تجعل الرجل محوراً. بيد أن تحوُّلًا كهذا لم يحصل حتى الآن، فلا تزال بنية الولاية القهرية ترمي بظلالها المفزعة على وجوه الأمَّهات الإيرانيات. ثم إن هذا التركيز على أن «الجنة تحت أقدام الأمهات»، وأن الأم تهزّ بيد مهد الطفل، وتهزّ العالم باليد الأخرى هو كلام لا طائل من ورائه ولا فائدة ترجى منه» (17).
كاتبة أخرى تصف منظومة حقوق المرأة، في إيران، بأنها واقعة في أسر مجموعة من الممنوعات، وهي تزعم: «إذا ما قدِّر لامرأة أن امتنعت عن المشاركة (18)في دفع نفقة الأولاد، بالاستناد إلى هذه المواد القانونية (القوانين ذات الصلة بنفقة الأولاد)، تكون في الحقيقة قد أساءت استخدام القانون، ومن ثم فهي لم تكن قادرة على إدراك المفهوم السامي المتمثل بالمشاركة والمساواة» (19).
وذهبت كاتبة أخرى إلى أن مشكلة عدم تساوي الحقوق ناشئة برمَّتها عن النظام الأبوي، ثم قالت: «القانون هو مظهر يعكس نسق تفكير الهيئة الحاكمة» (20).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)عباس عبدي، مجلة زنان، العدد 33، ص 14.
(15)نفسه.
(16)فاطمة قاسم زادة، مجلة «جامعة سالم» (المجتمع السليم، العدد 28، ص 56).
(17)مجلة زنان، العدد 31.
(18)مهرانكيز كار، مجلة زنان، العدد 34، ص 20.
(19)نفسه، العدد 31، ص 28.
(20)شيرين عبادي، مجلة زنان، العدد 34، ص 14 و15. ويومىء إلى فهم خاطىء للإسلام.

[الصفحة - 295]


تمشِّياً مع الرؤية نفسها سجَّلت الكاتبة نفسها أن أي تفاوت هو تعبير عن الظلم، وراحت تعلن: «ينبغي لنا جميعاً أن نعلن معاً أنَّ مبدأ المساواة بين البشر هو أمر حسن» (21).
مقدِّمات تمهيدية
قبل تناول الادِّعاءات التي تضمها النصوص أعلاه وإخضاعها للدراسة والتحليل، من الضروري الإشارة إلى المسائل الآتية:
المسألة الأولى: يعبَّر عن الحقوق، تارة، بأنها «مجموعة الضوابط التي تهيمن على مجتمع معيّن في برهة زمنية محددة»، كما يُعبَّر عنها تارة أخرى بالقول: «لكي تؤدي الحقوق هدفها النهائي المنشود المتمثل باستقرار العدالة، في نطاق العلاقات التي تنتظم الناس، وعلى مستوى حفظ النِّظام في المجتمع، لا بدَّ من الاعتراف بوجود فروقات في بعض الحقوق والتكاليف بين الناس، فمن خلال وضع تكليف لجماعة تُعطى مزايا وإمكانات لجماعة أخرى. هذه المزايا والإمكانات الحقوقية التي يهبها أي مجتمع منظم لأعضائه هي التي تسمّى حقاً، وجمعها حقوق» (22).
المصطلح الذي يعادل المعنى الأول، في اللغة الإنجليزية، هو: (Law)، أما المصطلح الذي يماثل المعنى الثاني، في اللغة نفسها فهو: (rights). والمقصود بحقوق المرأة والدفاع عنها، في هذا المقال، هو الحقوق بالمعنى الثاني. والمراد من حقوق المرأة تحديدا هو مجموعة الإمكانات القانونية والحريات التي تُمنح للمرأة، وممَّا ينطوي على ضمانة تنفيذية.
طبيعي أن يذهب بعض المدافعين عن حقوق المرأة إلى ضرورة المساواة في الحقوق حتى بالمعنى الأول؛ إذ ينبغي أن تكون جميع المقرَّرات واحدة بين المرأة والرجل.
المسألة الثَّانية: تنطوي قضية الدِّفاع عن حقوق المرأة على بعدين: أحدهما البعد القانوني الذي يدور حول المحور الآتي: ماهو المدى الذي تتحرَّك فيه القوانين لصالح المرأة؟ وكم تهبها من المزايا والإمكانات؟ وإلى أي مدى تنهض بحمايتها؟ أما البعد الآخر، فهو البعد التنفيذي، فمن الممكن أن تتصف القوانين بالعدل، بيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21)نفسه، العدد 33، ص 18.
(22)ناصر كاتوزيان، فلسفة حقوق (فلسفة الحقوق)، 1/33.

[الصفحة - 296]


أنها تخفق في مرحلة التنفيذ، ولا تنجح في مضمار التطبيق؛ حيث يستغلّها الأفراد، بل وتكتسب طابعا عرفيا من خلال التطبيق السيِّى داخل المجتمعات، وربما تخطَّى الأمر هذه التخوم إلى أن تكتسب الحالة ضرباً من القدسيَّة.
لكن ينبغي أن يكون واضحاً أن البُعد الثاني لا صلة له بالنِّظام الحقوقي، ومن ثم فإنَّ عملية معرفة الموانع التي تحول دون تطبيق القوانين، على نحو صحيح، أو تجاوزها وعدم الاعتناء بها، تحتاج إلى تحليل نقدي يُلِم بالأسباب والبواعث، كما تحتاج أيضا إلى بيان وسائل تربوية وتنفيذية وإشاعة جو تثقيفي حول المسألة. وفي هذا السِّياق، تنطوي بعض الوصايا ذات الطابع الدَّولي الصادرة عن أجهزة ومؤسسات ومؤتمرات عالمية على نفع ملحوظ.
إذا أردنا أن تتحسّن وضعية المرأة، فمن المناسب البحث عن الثَّغرات ونقاط الفراغ على هذا المسار، كما ينبغي معرفة السُّبل التي تسمح باستغلال المرأة، ثم ننعطف بعدئذ لعرض برامج الحلول التي تستند إلى الإسلام. لكن مع ذلك كله لا يتَّجه البحث هذه الوجهة، وإنما يتركَّز الاهتمام على الجانب الأول فقط الذي يُعنى بدراسة القواعد والأحكام الإسلامية التي لها صلة بالمرأة وتحليلها.
من الحري بنا الانتباه إلى أننا حين نقول: إن الأحكام الإسلامية ذات الصلة بالمرأة تتصف بالعدالة، فإن ذلك لا يعني أن المجتمعات الاسلامية ملتزمة بإجراء هذه الأحكام عمليا، كما لا يعني أيضا أن الأعراف والسُّنن الاجتماعية الجارية بين المسلمين تتوافق مع أصول الإسلام وأحكامه.
المسألة الثَّالثة: تشمل الحقوق قواعد وضوابط لها ضمانة تنفيذية من قبل الدولة. وهذه الضَّوابط على نوعين: مدوّن وغير مدوَّن؛ حيث ينبغي الانتباه إلى كلا النوعين عند تحليل القواعد. كما ينطوي الجزء المهم، من هذه المقرَّرات والقوانين والضوابط، على رؤى لعدد من الفقهاء تعكس المشهور الفقهي في الأغلب، وإن كان ذلك لا يعني خلوَّ المشهد من نظرات فقهية أخرى تُعدُّ دراستها نافعة على مستوى إغناء المركَّب الحقوقي وبيان حركيَّته.
المسألة الرابعة: إنَّ لكل علم لغة ومصطلاحات خاصة به تؤدّي دوراً مؤثِّراً في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 297]


تحليل مسائله، ولا يشذّ الفقه والمركَّب الحقوقي بعامَّة عن هذه القاعدة. على هذا، ينبغي التزام جانب الدقة لكي تعكس الصيغ العلمية معانيها في أفقها الخاص بها، ولا يصار إلى استغلالها في غير مواردها المحدّدة. على سبيل المثال، نقرأ، في نص المادة (1133)، من القانون المدني: «بمقدور الرجل أن يطلِّق زوجته وقتما يشاء». فإذا ما أردنا أن نفسِّر هذه المادة بصورة عاديَّة، فإن المعنى الذي يستفاد منها هو أن الرجل حرّ في أن يطلِّق زوجته كيفما شاء من دون أي قيود أو ضوابط، ورؤيةٌ مثل هذه للمادة هي ظلم بحق المرأة. لكن إذا ما استبدلنا هذه النظرة العادية بنظرة حقوقية سنجد أن المادة عهدت حق الطلاق إلى الرجل بعنوان كونه إيقاعاً، ثم عاد القانون ليحدِّد، في موارد أخرى، شروط هذه الحالة، ومن ثم حدَّد حق الطلاق في نطاق تلك الشروط.
المسألة الخامسة: ينطوي كل علم على منهج خاص في دراسة قضاياه ومعالجتها، وإنَّ لكل نظام حقوقي أسلوبه المحدَّد في الاستنباط. ففي إطار نظام «كامن لا» الحقوقي، يتعيَّن على القاضي أن يصدر رأيه على أساس أطروحة «الخلفية القضائية». لذلك، قاعدة الخلفية القضائية هي اسم تقني يطلق على القاعدة التي ينبغي للقاضي أن يتبع على ضوئها الأسلوب والقواعد المعلنة من قبل المحاكم العليا (23).
يعمد القاضي، على أساس هذه الأطروحة، إلى دراسة الخلفية القضائية من أجل الكشف عن حكم الموضوع، وبعد أن يميِّز العلَّة الأساسية للرأي (Ratio decidencli)من الأمور الفرعية (obiter dicta)يتبع العلَّة الأصلية، ثم يصدر حكمه على هذا الأساس (24).
أمَّا في النِّظام الحقوقي الإسلامي، فإنَّ علم أصول الفقه هو الذي ينهض ببيان أسلوب استنباط الأحكام، ومن ثمّ فإن إهماله واتباع الأمور الحدسية والذَّوقية يتساوق مع تصدُّع النظام الحقوقي وانهدام أركانه. وما يلحظ، في بعض الكتابات، أنّها تهمل العناية بهذه المسألة المنهجية.
على سبيل المثال، سجَّل القانون المدني ما نصُّه: «يتوقَّف نكاح البنت الباكر على إذن الأب، أو جدِّها من جهة أبيها، حتى لو كانت بالغة. لكن لو حصل واعتذر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23)ينظر: Law made silple, seventh edition, p 26.
(24)نفسه.

[الصفحة - 298]


الأب أو الجد عن إجازتها في الزواج من دون سبب وجيه، فإنَّ إذنهما يسقط، وعندئذ يكون بمقدور الفتاة أن تعلن من دون إذن أبيها عن الشخص الذي تريد الزواج منه، وعن طبيعة شروط النكاح ومقدار المهر المتّفق عليه، ثم تبادر إلى المكاتب الرسمية لتسجيل زواجها بعد أن تحصل على إذن من المحكمة المدنية الخاصة». إزاء هذا النَّص القانوني، بادرت إحدى الكاتبات ممَّن تعنيهن الملاحظة التي تتحدَّث عنها هذه المادَّة، إلى الزَّعم بأن عدم منح مثل هذا الحق إلى الأم هو نتيجة لعدم الاهتمام بالمنزلة الشامخة التي تحظى بها الأم. تسجِّل الكاتبة هذا الرأي في الوقت الذي تتجه فيه المادة (25)لعرض مفهوم حقوقي، ومن ثمَّ فهي ليست في صدد الحديث عن مبادى أخلاقية، مثل المشورة، وإلَّا فإن الواجب الأخلاقي يملي على الأولاد مشورة الأبوين كليهما عند الإقدام على الزواج.
إن بين أيدينا قاعدة حقوقية تقضي بعدم ولاية أي فرد على فرد آخر، وعلى ضوء هذه القاعدة فإن كل إنسان حرّ في اتخاذ القرار الذي يرتبط به، وإذا ما أردنا أن نقيِّد أصل حرية الأفراد في الجانب الحقوقي، فإننا نحتاج إلى دليل. هذا هو ما يقضي به المنهج الاستنباطي العقلاني، وبذلك إذا ما أردنا أن نقيّد حرية المرأة أكثر من مفاد النص (كأن نقول مثلا: إن زواج البنت البكر يكون بإذن أمها) فإننا نحتاج إلى الدَّليل أيضاً.
مناهج تحليل القواعد الحقوقية
المنهج الأول: التحليل المقطعي
القاعدة الحقوقية هي القاعدة التي تسري على أعمال الأشخاص، وتضبطها لجهة كونهم أعضاء في المجتمع، وهي إلى ذلك مضمونة التنفيذ من طرف الدولة (26).
أمَّا الحكم الشرعي فهو قانون صادر من الله (سبحانه) لتنظيم الحياة الانسانية وتوجيهها، وهو ينقسم إلى حكمين: وضعي وتكليفي. فالحكم الوضعي هو الحكم الذي يتعلّق بأفعال الانسان مباشرة، في حين تقع الأحكام الوضعية في الغالب موضوعا للحكم التكليفي (27).
في إطار منهج تحليل القواعد الحقوقية والأحكام الشرعية، تتم دراسة كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25)مهرانكيز كار، مجلة زنان، العدد 25، ص 12.
(26)د. ناصر كاتوزيان، فلسفة الحقوق، ج1، ص 36.
(27)السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، ص 13.

[الصفحة - 299]


قاعدة وتقويمها على نحو منفصل؛ حيث يمكن أن تطوي هذه المنهجية في ثناياها دراسة الآثار الفردية والاجتماعية، فضلًا عن النفسية والاقتصادية أيضاً. وما يلحظ، على هذا الصعيد، أن أكثر المقالات النقدية التي تتجه إلى النظام الحقوقي الإسلامي وضوابطه هي من هذا النَّوع.
يُعدّ هذا المنهج، في التحليل، مناسباً لاستنباط الحكم الشرعي من المصادر الفقهية الأصلية، ويتّصف بالفاعلية أيضاً، بيد أنه لا يعدّ كفوءاً ولا كافياً على صعيد تقويم هذه الأحكام ومعرفة طبيعتها، وفيما إذا كانت تتصف بالظلم والإجحاف أم لا، وبخاصة عندما نركِّز على عنصر اختلاف الحكم بين المرأة والرجل فحسب، ونتصوّر أن صرف وجود مثل هذا الاختلاف يملي التبعيض والظُّلم.
أما سبب ذلك فيعود إلى ما يأتي:
أوَّلًا: لا يُعدّ كل تبعيض ظلما، فما أكثر ما ينطوي عليه اختلاف الحكم من فوائد تصبّ في صالح الأفراد وتأتي لحمايتهم. فعلى سبيل المثال، يلحظ أن قانون العمل في إيران الذي أقرَّه مجلس الشورى الإسلامي، عام 1989م، وأمضاه مجمع تشخيص مصلحة النظام عام 1990م، يتحدَّث، في المبحث الرابع، عن أوضاع عمل المرأة وشروطه، حيث أقرّ بالاختلاف بين عمل المرأة والرجل، ووضع فارقا بينهما، بيد أن أحداً لم يعترض قط، ويرى أن هذا التمييز ينطوي على الظلم؛ وذلك لما يعود به على المرأة من نفع وحماية.
ثانياً: يتألّف أي نظام حقوقي من مجموعة قواعد مترابطة تنتظمها علاقات منطقية، ومن ثمَّ من غير الممكن، ولا المنطقي، تقويم كل قاعدة من هذه القواعد بمعزل عن القواعد الأخرى. وبذلك تملي عملية تقويم القواعد الحقوقية الحاجة إلى الدراسة الشاملة، وإلى بحث للأحكام متعدِّد الأبعاد.
المنهج الثَّاني: التَّحليل البنيوي والمؤسَّسي
المؤسّسة الحقوقية هى مركَّب من القواعد الحقوقية التي تقتضي رابطة معيَّنة وثابتة في الحياة الاجتماعية، من أجل بلوغ هدف خاص. لقد ذكرنا (28)أن القواعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28)د. ناصر كاتوزيان، فلسفة الحقوق، ج1، ص 37.

[الصفحة - 300]


الحقوقية ليست مستقلة ولا ينفصل بعضها عن بعضها، ومن ثم فإن كل مجموعة تنهض بإدارة واحدة من العلاقات الاجتماعية بهدف الوصول إلى هدف خاص. ومن حصيلة هذه المجاميع ينشأ ما يصطلح على تسميته بالمؤسسة الحقوقية التي لها دور مهم في تعيين حقوق الأفراد وتحديد تكاليفهم.
من الضروري الانتباه إلى الأهداف في عملية التحليل البنيوي / المؤسَّسي، فإذا ما أردنا أن ندرس، مثلًا، المؤسسة الحقوقية للزواج، فمن الضروري أن نقوِّم الشروط والموانع، وحقوق المرأة والرجل وتكاليفهما، وكذلك حقوق الأولاد وتكاليفهم. فلهذه العناصر جميعها علاقة بالهدف من الزواج وتكوين الأسرة في نطاق النِّظام الحقوقي الإسلامي، كما لها علاقة بطبيعة صلة الأحكام بالأهداف، ولها علاقة أيضا بصلة القواعد بعضها ببعض.
من الممكن لمنهجيَّة التحليل البنيوي/ المؤسسي للقواعد أن يكون لها أثر حتى في معرفة دقائق الأحكام وماهيتها الحقوقية ومدى القابلية لتغييرها. لكن هذا المنهج، مع جميع المزايا التي يحظى بها، ينطوي على نقص في الجانبين: الثبوتي والإثباتي. فكما أن معرفة أهداف أي مؤسسة على نحو دقيق، وتشخيص قواعدها والأحكام المتوخَّاة منها هي عملية تعتورها المشكلات، فكذلك تعدّ معرفة تأثير كل قاعدة ومقدار ما تسهم به في تأمين ذلك الهدف مشكلة أخرى، وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّه لا يمكن التنبُّؤ بسهولة بالآثار المستقبلية التي تتركها كل قاعدة في الحياة الاجتماعية وعلى العلاقات التي تخضع لسيطرة تلك المؤسسة. فإذا ما أردنا أن نغيّر قاعدة معيَّنة فيالوقت الحاضر، أو نبادر إلى حذفها، ينبغي أن نكون قادرين على التَّنبُّؤ بالنَّسق الذي يبرز فيه النّظام الحقوقي الناشى عن تلك القاعدة، في المستقبل.
على سبيل المثال، يقولون: لماذا يتمركز حقّ الطلاق، في مؤسسة الطلاق، بيد الرجل؟ ألم يكن من الأفضل أن تتمتَّع المرأة بهذا الحق؟ والسؤال: إذا ما كان مفترضا أن نعطي المرأة حق الطلاق، أيضاً، في إطار النظام الحقوقي، فهل بالمقدور التنبُّؤ بما سيؤول إليه وضع الأسرة في المستقبل أم لا؟ لا ريب في أنَّ الجواب عن هذا السؤال صعب جداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 301]


علاوة على الإشكالية الإثباتية هذه يواجه نسق التحليل المؤسّسي/ البنيوي للقواعد إشكالية ثبوتية أيضاً. مردُّ ذلك إلى أن كل مؤسسة ومنظمة حقوقية لها صلة منطقية ببقية المؤسسات الحقوقية. فعلى سبيل المثال، ترتبط مؤسسة الطَّلاق بأنظمة حقوقية أخرى هي الزواج والإرث والنفقة، ومن ثم لا يمكن دراسة كل واحدة من هذه المؤسسات وتحليلها بمعزل عن البؤر الحقوقية والمؤسسية الأخرى.
المنهج الثالث: تحليل القواعد في إطار النِّظام الحقوقي
النِّظام عبارة عن مجموعة من الأجزاء المنسجمة والمترابطة التي تتوخَّى هدفاً واحداً. والنظام الحقوقي هو مجموعة من القوانين المتَّسقة والضوابط المنسجمة التي تنتظم على أساس أصول خاصة لجهة تحقيق أهدافها المحدَّدة. في إطار هذهالمنهجيَّة التحليلية لا تخضع القواعد والمؤسسات للدراسة والتقويم فحسب، وإنما يصار أيضاً إلى التعاطي مع مؤسستها والعلاقات الحقوقية التي تنتظمها من خلال رؤية استراتيجية عامة، أو يصار إلى تقويم الأهداف العامة للنظام الحقوقي والأصول التي يستند إليها وإلى دراسة ذلك كلّه (29).
لو أردنا النظر، مثلًا، إلى الإشكال الذي يتصل بحقِّ الرجال في اختيار الطلاق، لوجدنا أن الإسلام قد أباح تعدّد الزوجات في حين حرم تعدُّد الأزواج، ومنع ذلك مطلقا. من جهة أخرى، يعدّ استقرار العائلة وثباتها من الأصول التي أيَّدها الإسلام وتدبَّر مجموعة مقدمات من أجل تحقيق هذا الاستقرار، منها الاتحاد في الانتماء الديني وأن يكون الزوجان كفئين: أحدهما للآخر، وغير ذلك. على ضوء هاتين القاعدتين لو خوّل الإسلام المرأة حق اختيار الطلاق، أيضاً، لارتفعت معدلات الطلاق بشدَّة، لأن الطريق الوحيد المتبقّي للاقتران بزوج جديد هو الطلاق، الأمر الذي يؤدِّي إلى اهتزاز استقرار الأسرة وزواله.
أما بالنسبة إلى الرجل فإنَّ الطريق إلى الزواج الجديد لا يتمثَّل بالطلاق بوصفه خياراً وحيداً، بل بمقدوره أن يبادر إلى الزواج ثانية في إطار شروط محدَّدة.
على جهة أخرى، نعرف أنَّ مسؤولية حفظ الولد والعناية به والإنفاق عليه تقع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29)د. سيد مصطفى محقق داماد، قواعد فقهية (القواعد الفقهية)، ج2، ص 5.

[الصفحة - 302]


على الأب، بعد السنتين، كما يتحمّل الأب المسؤولية نفسها عن البنت بعد السابعة على ما هو عليه المشهور الفقهي وما تقرّه الموادّ القانونية. على هذا الضوء، إذا ما عهدنا بهذه المسؤولية الجسيمة إلى الأم بالمطلق، فإنَّ ذلك، وإن كان يمكن أن يتوافق مع مقتضيات العاطفة على نحو مؤقت، إلَّا أنَّه يقود إلى تبعات خطيرة. فقد يبادر الرجل الذي يمتلك حق الطَّلاق إلى ضرب استقرار العائلة بسهولة، بعد أن يرى نفسه في أمان من مشكلات ما بعد الطَّلاق ومن تحمّل تبعات قراره، وفي الوقت نفسه لا تكون المرأة قادرة على تأمين نفقات أولادها وما يحتاجونه.
طبيعي، لا يعني هذا الكلام تحرِّي «علة» الحكم التشريعي والعثور عليها حتى يزعم بعض الباحثين أن مفاده لا ينطبق على الأفراد الذين لا أولاد لهم، إنَّما كل ما نبغيه هو التدليل على وجود الصلة المنطقية بين المؤسسات والقواعد الحقوقية والتوفُّر على بيانها إجمالا. أما طبيعة هذه الصلة ومداها فهو أمر بعيد عن متناول هذا البحث.
على أساس هذا الترابط المنظومي للقواعد، يعتقد بعض الحقوقيين: «إذا ما نفذ قانون، أو نظرية حقوقية غريبة، إلى داخل نظام حقوقي معيَّن وبقي، أو بقيت، جزءاً غريباً غير متسق مع ذلك النظام، لا يعدو مصيره، أو مصيرها، إحدى حالتين: إما أن يقوم الجسد الحي بلفظ ذلك النافذ وطرده، أو أنه يبقى لكنه يخلّ بالنظم الموجود فيه ويفضي إلى إثارة الاضطراب. لا يكفي لإدامة الحياة في هذا البدن الحي أن لا يتعارض القانون مع الشرع أو مع الدستور، وإنما ينبغي لهذا القانون أن يكتسب موقعا طبيعيا في إطار النظام الحقوقي، وأن لا يعبِّر عن نفسه على نحو ناشز إزاء بقية القواعد الحقوقية في ذلك النظام» (30).
على هذا، فإن مهاجمة القواعد والمؤسسات الذاتية، والتوصية بوصفات مستوردة من النظم الحقوقية الأخرى، من دون رعاية النظم الحاكمة على نظام الحقوق الإسلامي، لن تكون له نتيجة تُذكر إلا خلط المسائل والإخلال بها وبروز المشكلات.
تتطلَّب منهجية التحليل المنظومي للقواعد الحقوقية، في الإسلام، معرفة النظام الأخلاقي والتَّربوي، علاوة على النظامين: الاقتصادي والسياسي. فهذه النظم هي أجزاء لجسم واحد، وقد استندت إلى مبادى معرفة الإنسان، وإلى التوحيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30)د. ناصر كاتوزيان، الزامهاي خارج قرارداد (تعهدات خارج نطاق الاتفاقية)، ص 26.

[الصفحة - 303]


والمعاد ومعرفة الدين، ومن ثم فإن معرفة كل جزء من هذه الأجزاء وتحليل نطاقه العملي ومجاله الاستعمالي تحتاج إلى معرفة مجالات استعمال الأجزاء الأخرى. فعلى سبيل المثال، أبيحت العلاقات الجنسية في إطار القانون فحسب، بحيث أن هناك عقوبة تترتّب، من الوجهة الحقوقية على الممارسة اللامشروعة. فالأولاد غير الشرعيين يحرمون من بعض الحقوق. على هذا، جاء النظام الأخلاقي ليعنى بهذا البعد، فالنظر المقترن بالشَّهوة المحرّمة إلى غير المحرَّم حرام، وخلوة الرجل الغريب مع المرأة الغريبة واجتماعهما في مكان واحد ممنوع هو الآخر، والحجاب واجب على المرأة، وهكذا إلى بقية العناصر.
على ضوء ذلك كله، إذا ما حدّد النظام الحقوقي عقوبة لفعل معيَّن، فإن النظام الأخلاقي يتحرَّك من جهته للقضاء على أرضية الجرم والحؤول دون مقدماته. ذهب بعض الباحثين إلى أن الجانب «الإمضائي» يغلب على النظام الحقوقي الإسلامي، ولما كانت العادات والتقاليد السائدة في الجزيرة العربية قائمة على أساس النظام القبلي، فقد جاء الإسلام وأمضى ذلك النظام. أما الآن فقد تفسَّخت العلاقات القبلية، وتحلَّلت، واستبدلها المجتمع بثقافة جديدة، وبعلاقات جديدة أخذت مكانها بدلا من علاقات النظام القبلي القديم!
لقد ظنّ هؤلاء أنّ كلّ ما يتَّصل بالقديم هو متخلِّف ورجعي، وقد فاتهم أنّ النُّظم الحقوقية تسعى، بغية إثبات أصالتها، إلى البحث عن جذور لها متوغلة في عمق التاريخ. فعلى سبيل المثال، يتألف القسم المهم من كتب الحقوق المدنية، في فرنسا والسويد، من تحليل الحقوق الرومانية وتجزئتها، أما في أمريكا وبريطانيا فإن الحقوق تدرَّس بالمقارنة مع «تفصيل الدعاوى والمرافعات»، لكي يتوفّر الدارس على معرفة مسار القواعد من خلال آراء المحاكم (31).
ولا تزال الكتابات الحقوقية الإنجليزية تحتوي على عبارات لاتينية كثيرة بعنوان أنها قواعد وأصول حقوقية. كما ليس عبثاً أن يبادر محقق وأستاذ معروف كـ «ريبر» إلى سلخ سنوات مديدة من نشاطه العلمي لكي يثبت أن المصدر الأساسي للقواعد والالتزامات في القانون المدني الفرنسي هو الأخلاق الدينية (32).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31)نفسه.
(32)محمد رضا المظفر، أصول الفقه، ج2، ص 145.

[الصفحة - 304]


بالتزامن مع التقدُّم الحضاري وتحقُّق العلاقات الاجتماعية الحديثة، ينبغي الكشف عن قواعد موائمة وعرضها بطريقة جديدة من خلال الاستفادة من المصادر الأصلية. وفي ما يتعلّق بالإسلام؛ بخاصة، فقد استطاع هذا الدين أن يواجه مسائل العصر على مدار أربعة عشر قرنا على نحو اجتهادي وفعَّال، وأن يبادر إلى توفير الحلول لها. وإذ استطاع الإسلام أن يعالج مسائل النظام القبلي، أيضاً، فذلك لا يصحّ أن يكون دليلا على أن هذا الدين يختصّ بذلك النظام وحده، ولا فاعلية له خارج ذلك النطاق. فمن جهة، لم تكن جميع العلاقات الفردية قائمة على أساس قبلي، ومن جهة أخرى، إذا كانت العلاقات قبلية، وكانت موضوعية، فإن هذه الموضوعية تحتاج إلى دليل وينبغي إثباتها. لهذا السبب لم تبرز الحاجة إلى تغيير الأحكام بالرغم من اتساع رقعة العالم الإسلامي وامتداد الإسلام، وبالرغم أيضا من السيادة التي كانت تفرضها النظم الاجتماعية الأخرى.
ومما قيل، كذلك: إن هيمنة نسق التفكير الأبوي على عملية استنباط الأحكام الفقهية أثّرت لصالح الرجال، واكتسبت عملية كشف القواعد الفقهية وتفسيرها طابعا أبويا رجوليا. يستدعي تحليل هذه الفكرة دراسة منهج الاستدلال الفقهي والوقوف عليه إجمالا لمعرفة المرحلة، أو الدائرة، التي يمكن أن يسود فيها نسق التفكير الأبوي، ثم يصار إلى دراسة الأمثلة التي ذكروها نتيجةً لهيمنة التفكير الأبوي على منهج الاستنباط.
لا تتصف عمليّات استنباط الحكم الشرعي الكلّي من الأدلّة الفقهية المعتبرة بالطابع المزاجي، وليست هي بالظاهرة الذوقية حتى يمكن وصمها بسهولة بالأبوية، أو بالعصبوية النسوية، بل ينتظم الاستنباط مساراً منطقياً محدَّداً يرتكز إلى مبادى ومناهج معروفة بالكامل، يصار الارتكاز إليها في بلوغ الحكم من الأدلة الفقهية المعتبرة. فإذا ما كان الدليل قطعياً، من جهة السند، فهو حجة من جهة الدلالة أيضا إذا ما كان له ظهور معتبر، وإلّا لا يصحُّ الاستدلال به. ثم إن الظهور صفة للَّفظ ولا علاقة له بجنسية الأفراد وانتمائهم النسوي أو الذكوري.

يمكن لبعضهم أن يدَّعي أن الروحية الرجولية تحوَّلت إلى باعث لتحقُّق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 305]


الإجماع وقيامه في بعض الموارد. وهنا ينبغي أن يلحظ أن صرف الإجماع لايكفي عند الشيعة، وإنما سيرة المعصوم هي ملاك الإجماع، وهذه السيرة لا يمكن حملها على النزوعات السلوكية الجنسية.
أمَّا لو كان مستند الحكم هو دليل العقل، فهنا لا يمكن أيضا ربط هذا الدليل بالانتماء الجنسي؛ حيث ينبغي أن يكون الدليل العقلي دليلًا قطعياً حتى يكون مرجعاً للحكم، والأحكام العقلية القطعية لا علاقة لها بالانتماء الجنسي، وفي ما إذا كان الذي يمارس الدليل رجلًا أم امرأة.
بهذا ليس هناك موقع لهذه الشبهة في هذه المرحلة أيضاً.
وقد يقال: إن الاستفادة من عنصر روح القانون، أو ما يطلق عليه «شمّ الفقاهة» هو أمر ذوقي، إذن فهناك أثر للنزعة الرجولية في هذا المجال! لكن ما ينبغي أن يُلحظ أن هذا العنصر ليس هو الآخر بالأمر الذوقي المحض، وإنما يتمُّ التوفر على أصول كلية عامة من خلال مجموعة من القواعد والمؤسسات الحقوقية وحسب، ثم يُصار للاستفادة منها في الموارد التي يسكت فيها القانون.
من الأدلَّة الأخرى التي يمكن توظيفها، في عمليات استنباط الحكم الشرعي، الاستناد إلى «الشهرة». والشهرة على ضربين هما: «الشهرة الروائية» التي تعني نقل الخبر بوساطة عدد من الرواة، لا يبلغ حدّ التواتر، ثم «الشهرة في الفتوى» التي تعني شيوع فتوى عند الفقهاء بحكم شرعي لدرجة لا تبلغ به حدّ الإجماع.
من الواضح أنه لا مكان لتدخل ذاتيات الأفراد في الشهرة الروائية، لأنها تقتصر على نقل الرواية فحسب. أمّا الشهرة في الفتوى فهي على قسمين أيضا، فأحيانا يكون مستند الشهرة هو الخبر والرواية التي وصلتنا، وهذه يُطلق عليها الشهرة العملية (33). وما دامت هذه الشهرة مرتكزة إلى الروايات، فلا أثر فيها لذوقيات الأفراد. لكن هناك شهرة أخرى لانعرف مرتكزها، فلا نعرف ما إذا كان خبراً لم يتمّ الاستناد إليه أو أنه لا وجود للخبر والرواية أساساً. يطلق على هذه الشهرة عنوان الشهرة في الفتوى، وأقصىما يمكن أن يقال: إن روحيات الأفراد وذاتياتهم قد تؤثر أحيانا في هذا النمط من الشهرة (34).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33)نفسه.
(34)نفسه.

[الصفحة - 306]


إن هذا الاحتمال، وإن كان ممكناً عقلًا إلَّا أنه يبدو مستبعداً جدَّاً من الوجهة العمليَّة والواقعيّة بحكم ملاحظة دقة الفقهاء وتكوينهم النفسي في إسناد الحكم إلى الله، سبحانه وتعالى، ومع ملاحظة قيد العدالة أيضاً. والمؤكَّد أن العثور على حكم يكون دليله الشهرة فقط هو أمر صعب بل متعذر. والأهمّ من ذلك أنّه ليس هناك دليل على حجية مثل هذه الشهرة وقيمتها فقهياً (35).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35)نفسه.

[الصفحة - 307]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف