البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدِّين والسِّياسة

الباحث :  عبَّاس علي عميد زنجاني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  25
السنة :  السنة السابعة ربيع 1423هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 16 / 2015
عدد زيارات البحث :  1202
الدِّين والسِّياسة

الشيخ عبَّاس علي عميد زنجاني (*)

مقـدِّمـة
يطرح البحث، في بدايته، عدَّة آراء في شأن علاقة الدِّين بالسِّياسة، وينتقدها بصورة إجمالية، ثم يحاول، بعد ذلك، وبعيداً عمَّا وقع في التأريخ، أن يعرض لعلاقة الدِّين بالسِّياسة بوصفهما معرفتين سيَّما من وجهة النظر الإسلامية، ويخلص إلى الاستنتاج بأن لهذين الموضوعين، على أساس ماهيتيهما، منطقيّاً، نوعاً من التلازم بغضّ النظر عن التلازم المفهومي لمقولتي الدِّين والسياسة. ثم ينتقد الرَّأي القائل: «إن جميع الأمور في المجتمع الديني، بما فيها السِّياسة، ستصبح دينية شئنا أم أبينا، وإن هذا التلازم قضية طبيعية تماماً»، ويفنّده.
ثم يتناول مسألة أخيرة، تتمثَّل في السؤال الآتي: هل السياسة، من وجهة النَّظر الدِّينية، وسيلة أو غاية، ويرى أن هذين التعبيرين يمكن اعتبارهما مسوَّغين ومنطقيين من الناحية الدِّينية.
أوَّلًا ـ علاقة الدِّين بالسِّياسة
يمكن دراسة علاقة الدِّين بالسياسة في إطار بعض النَّماذج النَّظرية:
1 ـ إن المفاهيم والتَّعاليم الدِّينية مختصَّة بالآخرة ومصير الانسان بعد الموت، أما دائرة علم السياسة فهي تختص بحياة البشر الدِّنيوية وما يتعلق بكيفية العيش في هذه الدنيا. وبناءً على هذه النَّظرية والاستنتاج، فإنَّ نطاق كلٍّ منهما وسيادته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)أستاذ في الحوزة و الجامعة،و رئيس مرکز البحوث الثقافية الإسلامية في طهران ترجمة:أ.عبد الرًّحيم الحمراني

[الصفحة - 9]


منفصلان تماماً عن نطاق الآخر وسيادته، ما يجعلهما مقولتين متمايزتين. ولئن كانت هذه النَّظرية صائبة في شأن السياسة فهي خاطئة تماماً في مجال الدِّين. وذلك أن الدِّين يمثل مجموعة التعاليم المرتبطة بالإنسان على نطاقي الحياة: الدنيوي والأخروي.
2 ـ إنَّ الدِّين ومبادئه جميعها وقيمه أمور مقدَّسة، سماوية، ثابتة، تأبى النَّقد والاعتراض والتغيير. بينما السياسة خليط من القضايا البشرية التي تضاد الأخلاق أحياناً، ويشوبها الفساد والتَّلوُّث، وليس لها من ثبات واستقرار قط. وهي معرَّضة على الدَّوام للنَّقد والرَّدّ والتطوُّرات السريعة، حسب الظروف السائدة. وبالنتيجة فإنه يتعذَّر الجمع بينهما دائماً. وهذه النَّظرية ليست مستهجنة في شأن الدين فحسب، بل هي فاحشة الخطأ في شأن السياسة أيضاً. فليست جميع الأسس والأطر المرتبطة بالدين ثابتة، ولا كافة الأصعدة السياسية ومبادئها ملوثة وفاسدة وبعيدة عن القدسيَّة والقيم السماوية.
لا تصدق على السياسة حالات عدم القدسية، وعدم الارتباط بالسماء، ومناهضة الأخلاق، والفساد والتلوُّن الزماني المستقر إلّا إذا غيَّبت القيم الدِّينية الإلهية، وأثارت بعض الفتن وصبَّت نشاطاتها في خدمة الشيطان. أمَّا السياسة القائمة على المبادىء والقيم الإلهية المقدسة فإنها لن تنطوي على أي صفة من هذه الصفات والحالات الشاذَّة أبداً.
3 ـ إن أهداف الدِّين لا تنسجم وأهداف السياسة على الرُّغم من أنَّ بعض تعاليمه تعالج مشاكل الحياة في هذه الدنيا، وتتكفل ببيان تنظيم شؤونها وأمورها. فهي تشتمل على التَّربية العلمية الأصيلة والمهذَّبة للناس والتي تسلك بهم سبل التكامل المعنوي وتجاوز القضايا المادِّية للحياة نحو قمة السمو والتعالي الأخلاقي المنشود. والحال أن هدف السياسة هو إدارة الشُّؤون المادية القائمة من دون الالتفات للقضايا المعنوية والأخلاقية.
هدف المتديِّن هو التَّسامي المعنوي والأخلاقي له وللآخرين، وبذلك فهو لا يولي القضايا المادية السائدة أية عناية تذكر، أما السياسي فهدفه الانتصار وهزيمة الآخرين وبلوغه وأتباعه الأهداف السياسية المادية المنشودة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 10]


فالخطَّان لا يلتقيان أبداً ما دامت أهدافهما مختلفة، بعضها عن بعضها الآخر. وهذا ما كان عليه شعار حزب الشَّباب الأتراك في عصر الامبراطورية العثمانية، فكان أتاتورك، زعيم هذا الحزب، يصرح قائلًا:
«لقد بُعِث نبيُّ الإسلام لنقوم نحن، بوصفنا أمَّته، بهداية الدنيا نحو الله والخير والسعادة، ولم يُبْعث ليمنحنا سيفا نسلُّه لإبادة الأمم!».
وكان من آثار هذا الشعار ونتائجه سقوط الامبراطورية العثمانية، وانهيار الثَّقافة الوطنيَّة، وفصل السياسة عن الدين، وظهور الوطنيين الرادكاليين المفرطين والمصطبغين بالثقافة الغربية. وفي الواقع فإنَّ هذا الرأي لم يكن سوى شعار سياسي قمعي ضد الحكومة العثمانية وتحريف لأهداف الدين والسياسة. لقد أقصى أنصار هذه الأطروحة حقلًا عظيماً من التعاليم الدينية عن مسرح الحياة من خلال جعلهم المعنوية هدفا للدِّين، ثم حملوا ما بقي من دويلة الأمبراطورية العثمانية تلك الحالة من الفساد والانحراف ومناهضة القيم باسم السياسة، من خلال إقرارهم للمادية هدفاً للسياسة. والحقيقة أن للسياسة والدين أهدافاً مشتركة، وكلاهما يعتمد إلزامياً على بعض المبادىء والقيم والمعايير المطلوبة.
4 ـ لم يتناول القرآن، بوصفه المصدر الرائد والأكثر اعتباراً في معرفة جوهر الإسلام وأحكامه، موضوع سياسة الدولة والحكومة، ولم يرد فيه نصّ بهذا الشأن. لقد ألَّف الدكتور علي عبد الرَّازق كتابه: «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925م على أساس هذه النظرية، وادّعى أنه لم يشاهد في القرآن حتى شبه دليل على وجوب إقامة الحكومة والتَّصدِّي للقضايا السِّياسية.
ويعتقد علي عبد الرَّازق بأنَّ الشيء الوحيد الواجب والثابت، في الشَّريعة الإسلامية، هو إجراء أحكام الله. وإذا ما اتفقت الأمَّة على إجراء الأحكام الإلهية فليس هنالك من حاجة لنصب الإمام أو الخليفة، أو أي فرد آخر ينهض بمسؤولية إدارة الشؤون السياسية والحكومة (1).
ويزعم، أيضاً، أن اختلاف المتكلِّمين، في مسألة الإمامة والخلافة، وكون وجوب تنصيب الإمام والخليفة قضية عقلية أو شرعية، وكذا اكتفائهم بوجوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عبد الرزَّاق، علي، الإسلام وأصول الحكم، بيروت: مكتبة الحياة، 1978، ص 39.

[الصفحة - 11]


تنصيب الإمام والخليفة بالإجماع ليفيد ضعف أسس دينية الدَّولة والسياسة ومبانيها وتخلخل هذه الأسس والمباني (2).
ويستند في تسويغه لنظريته على ثلاثة مطالب:
1 ـ الآيات والرِّوايات الدَّالة على إثبات وجوب تنصيب الإمام والخليفة، والتي اعتقد من خلالها بشرعية علاقة الدين بالسياسة، تمكن مناقشتها، وإن كلًّا منها يمكن تفسيره وتأويله، أما بعضها فهو ضعيف من حيث الدلالة، وبعضها الآخر ليس له سند يمكن قبوله (3).
2 ـ بعض المصطلحات التي استعملت، في الآيات والروايات من قبيل: الإمامة، الخلافة، بيعة أولي الأمر، الأمة والجماعة، لم يكن يقصد منها المعنى المطروح اليوم، والذي يفسرها على أساس مفاهيم السياسة والدولة المعاصرة.
إنَّ المعاني والتفاسير السياسيَّة التي تطرح في شأن هكذا مقولات شرعيَّة (الإمام والخليفة بمعنى رئيس الدولة، وأولو الأمر بمعنى الساسة والحكام، والبيعة بمعنى الانتخابات، والأمة والجماعة بمعنى الشعب والدولة والبلد الإسلامي) هي معانٍ حديثة، وإن إطلاق تلك المفردات على هذه المعاني يتوقَّف على استنباط هذه المعاني واستعمالها إبان نزول الآيات وصدور الروايات، والواقع أنه لا يمكن البرهنة على هذا الأمر (4).
لقد وردت كافَّة النُّصوص الشَّرعية، في مجال قضايا الدَّولة الحكومة، على غرار قول نبي الله عيسى (عليه السلام): «دع ما لقيصر لقيصر». لا شك في أن عيسى (عليه السلام)لم يقصد أن قيصر الجائر والسفاك كان على الحق وأن حكومته شرعية وإلهية.
وهكذا الحال في الأحاديث المرتبطة بالإمامة والخلافة، أو البيعة، والتي تدل على الوفاء بالعهد للكفار، أي أنه ليس هنالك من دلالة لأي منها على شرعية حكومة الكفر (5).
4 ـ كيف يمكن ان يكون الأمر بطاعة السَّاسة والحكَّام في الآية: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم} كاشفة لشرعية أعمال الخلفاء الظلمة والحكَّام الفسقة؟ (6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)نفسه، ص 38.
(3)نفسه، ص 44.
(4)نفسه، ص 45.
(5)نفسه.
(6)نفسه، ص 46.

[الصفحة - 12]


كان علي عبد الرَّازق يشغل منصب أستاذ لمرحلة الدكتوراه في كليَّة الحقوق، في جامعة الأزهر المصرية، وقاضيا لإحدى المحاكم الشرعية في القاهرة في أثناء تأليفه لهذا الكتاب. وقد فقد المنصبين وتقوقع في جامعته بعد تكفيره، على أثر جرحه (7)لمشاعر الرأي العام، ومخالفته لفقهاء جامعة الأزهر وأساتذتها الذين عدّوا وجهة نظره تهمة وافتراء يستهدفان هدم الإسلام، لقد كان هدفه مساندة أطروحة فصل الدِّين عن السياسة ودعمها من خلال اتجاه يخلص لنسخ خلافة بني عثمان، إنه ينسب نظرية نفي السياسة والدولة الدينية لأحد زهاد القرن الثالث الهجري المشهورين، وهو «حاتم الأصم» الذي كان يعتنق المذهب المعتزلي، وكان يعتقد أن الخوارج يرون هذا الرَّأي أيضاً.
لقد سعى جاهداً، في كتابه المشتمل على 120 صفحة، إلى أن يردّ على كتاب الكاتب المصري المعروف رشيد رضا الذي يحمل عنوان: «الخلافة أو الإمامة العظمى». وفي الحقيقة فإنه انتهج سلوكاً تفريطيّاً إزاء الأسلوب الإفراطي لرشيد رضا الذي كان يستشهد بمئات الآيات والأحاديث، ليعلن عن مساندته المطلقة للخلفاء والحكام. ثم يرى الانفصال التَّام بين الدِّين والسياسة، ويرفض بصورة قاطعة الشواهد القرآنية والرِّوايات الواردة في شأن المسائل السِّياسية.
لا شك في أن رأيه القائل بعدم الشرعية الدينية لحكومة الخلفاء، في التَّاريخ السِّياسي للإسلام، مقبولة تماماً، ولعل قصده كان تلك الحكومات التي لم يكن لأوامرها أي انسجام مع الشريعة وأعمالها وأفعالها التي لا تتلاءم والسيرة النبوية، إلّا أن أقواله ونظريَّاته في إنكار عشرات الآيات ومئات الروايات المعتبرة غير مقبولة، والأدهى من ذلك نفي الثقافة السياسيَّة والعرف السياسي للمسلمين، والسيرة السياسية للرَّسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) في إقامة الدَّولة وتأسيس المؤسسات والمراكز السياسية وقراراته في شأن العلاقات مع الأقليات والشعوب والبلدان الأخرى وقيادته لـ 27 غزوة، وتعبئته أكثر من أربعين سرية وبعثة وتكليفه عشرات الهيئات الدبلوماسية بتنفيذ المهمَّات السياسية والاقتصادية وحتى الحربية (8)... هذه الأقوال جميعها هي أقوال لا ينبغي صدروها من محقِّق، فهي لا تتناسب وشأنه البتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7)حقي ممدوح، مقدمة الإسلام ونظام الحكم، بيروت: مكتبة الحياة 1978، ص 4.
(8)نفسه، ص 62.

[الصفحة - 13]


وفي الكلام على التَّرابط الجدلي بين الدين والسياسة، نكتفي، هنا، بالإشارة إلى مسألتين هما:
أ ـ لقد قال أغلب منتقدي كتاب: «الإسلام وأصول الحكم»: إن دوافع تأليفه كانت سياسية ومناغمة للغرب والوطنيين الساعين إلى الإطاحة بالخلافة العثمانية، إلّا أنه من المسلَّم به هو أن أفكار علي عبد الرَّازق كانت تشتمل على تصوُّر خاص عن السِّياسة والدولة بمفهومها المتداول آنذاك، وهو مفهوم يتكوَّن من عناصر محدَّدة ومؤسسات معينة وأطر خاصة لعالم السياسة المعاصرة. فقد طالعتنا أغلب مباحث الكتاب بنفي الرابطة بينهما على أثر عدم عثوره على مثل تلك المميزات في القرآن والسنة العملية للرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) وكذلك مشاهدته لبعض الخصائص والأسس في الرسالة الدينية التي لا تمت بصلة للسياسة بمفهومها المعاصر.
ب ـ اعتقاد طائفة من علماء العامَّة ببراءة الخلفاء والحكام والسلاطين، والملازمة بين وجوب الخلافة والتسليم والطاعة لحاكمية أدعياء الحكومة، كان قد اضطره لإنكار الأصل بدلًا من الخوض في الفرع.
5 ـ عقيدة الخوارج في شأن نفي الحكومة البشرية، والقائمة على أساس أنَّه ليس لأحد الإرادة في حكومة الناس سوى إرادة الله. فالنَّاس لا تطيع سوى أوامر الله الذي لا شريك له في حكمه، ولا تمتثل إلا لها، ولم يمنح الإسلام أحداً ممارسة الحكومة والقيام بشؤونها، وهنا يكمن شعارهم المشهور الذي رفعوه في وجه الإمام علي (عليه السلام)قائلين: «الحكم لله لا لك، يا علي».
وقد رفض بعض المتكلِّمين الإسلاميين أن تكون كلمة الخوارج جميعهم قد اتفقت على هذا الشعار فنسبوا لهم النظريات الآتية (9).
أ ـ تجب إقامة الدولة وتشكيل الحكومة الإسلامية، وعلى الأمة أن تنهض بها بقصد حفظ أساس الدين والنظام والمصلحة العامة في الشرائط المعقدة التي يخشى فيها الفتنة على المجتمع الإسلامي.
ب ـ تجب على عامة الناس إقامة الدَّولة في حالة استتباب الأمن والسلام وعدم وجود خطر يهدِّد أمن الأمَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9)الگستلاني، الحاشية على كتاب العقائد النفسية بالنقل عن المصدر نفسه، ص 38.

[الصفحة - 14]


ج ـ لا تجب إقامة الدولة تحت أي شرائط في الشَّريعة.
6 ـ لقد ورد المنع عن أية نهضة لإقامة الحكومة في غيبة ولي العصر(عج) (10).
ثانياً ـ تلازم مفهوميّاً
ينبغي هنا أن نتناول رابطة هذين النَّوعين من المعرفة البشرية بالدِّراسة والتحليل ـ في أنهما يشتملان على قاعدة إلهية وعقلانية ـ بغض النظر عن السيرة التأريخية في الغرب القائلة بفصل الدِّين عن السياسة (العلمانية)، ونتعرَّض للآراء النَّظرية للأديان سيَّما الإسلام بعيداً عما كان قد حدث وحصل في التأريخ.
وستبدأ دراستنا التَّحليلية لهذه العلاقة من خلال تعريف كلٍّ من الدِّين والسياسة لنرى مدى العلاقة المنطقية القائمة بينهما، من حيث المضمون والهدف:
أ ـ تعريف الدِّين: يمكن تعريف الدِّين بأنَّه مجموعة من العقائد المترابطة والأفكار المستقاة من الوحي الإلهي في ما يتعلَّق بالعالم، والإنسان، والمجتمع والإنسانية في ما بعد الموت، وهدفه هداية الإنسان للعيش بصورة أفضل وأكمل.
وينسجم هذا التَّعريف والتَّفسير الذي ورد في شأن الإيمان في بعض الروايات والكتب الكلامية: «اعتقاد بالجنان وعمل بالأركان وإقرار باللسان»، كما يتناسب أيضاً والتَّعريف الجامع الذي قدَّمه بعض علماء الاجتماع المعنيِّين بالأديان، مثل: نيل جسملسر وفلورانس كلاكون وفرد استراديت بك (11). فقد عدّوا الدين ضمن مقولة التحمس للقيم التي عدوها عبارة عن بعض المبادى الصعبة، وفي الوقت نفسه المنظمة والمرتبة تماماً والتي تبلور الأفعال والأفكار الإنسانية في ما يرتبط بحل القضايا الإنسانية المشتركة وتنظمها.
وبهذا يرتسم التحمُّس للقيم في الدين بشكل أطر مقدسة وما وراء الطبيعة. وتظهر بعض الأفكار كـ «الأومانيزم» (Huomanism)، أي تأليه الإنسان، بالشكل الذي يفقد معه كل قداسة. المبدآن الرئيسان للدِّين هما: العقائد والرؤية العالمية، المقررات والأحكام والأخلاق والسير التكاملي للإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10)لقد تعرَّضت براهين هذه النظرية للدراسة والنقد، بشكل مفصل، في كتاب: «النظام السياسي والحكومة في الإسلام»، المجلد الثاني، الفقه السِّياسي.
(11) P Felorance Neil Jsmeiser p Fred Stro ditbeck P Kluckhon.

[الصفحة - 15]


ويرى القرآن صراحة أنَّ الشريعة جزء لا يمكن فصله عن الدين في جميع الأديان السماوية، ولا يعدّ الاعتقاد المجرَّد تديُّناً، وإن كان صواباً ما لم يرافقه عمل بالأحكام والمقررات الدينية. فقد جاء في سورة الأعراف، الآية 173: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك...} . فالمنحنى البياني الدائمي الماهوي،كما جاء في سورة النور، الآية 62: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} . للدِّين أفكار منظَّمة ومرتَّبة في مجال الرؤية العالمية الشاملة والشَّريعة، وليس هدفها الغائي سمو الإنسان وتعاليه في هذه الحياة الدنيا فقط.
لا شك في أن جزءاً من الإنسان هو حياته الجماعية والسياسة، والحكومة هي أيضاً جزء لا يتجزأ من أجزاء المجتمع. فكيف وأنَّى للدِّين، طبق هذا التعريف والهدف، أن يغفل عن هذا الجزء المهم من حياة الإنسان، ويزعم هدايته، والأخذ بيده لمصير ومستقبل أفضل في الدّنيا والآخرة؟ وقد أذعن جميع من تناول تعريف الدِّين لهذه الحقيقة، وهي أن هدفه وغايته تنظيم حياة البشريَّة.
ب ـ تعريف السياسة: على الرُّغم من أنَّ تقديم تعريف جامع ومانع للسياسة أمرٌ معقَّد، وهو في الحقيقة سهل وممتنع. ولكن، وكما أوردنا في موضع آخر من هذا المقال، فإنَّ السياسة تعني الإدارة الفائقة للدَّولة وتفعيل الشُّؤون العامَّة باتجاه المصالح الجماعية وانتقاء الأساليب الناجعة في إدارة شؤون البلاد، أو إنها علم إدارة شؤون المجتمع، أو هي فن تسيير شؤون الناس في ما يتعلَّق بالدَّولة، والذي يتعامل دائماً مع حقل وجزء من حياة الإنسان. وحيث أنَّ لها علاقة بعمل الإنسان، كان لا بدَّ من أن تحتكّ بالدِّين الذي تكفَّل ببيان طرق العيش وأساليبه؛ ولذلك فهي تقوم بأعمالها متَّفقة أو متضادَّة معه، وفي كلا الحالتين فإنَّ للدِّين تعلق بالسياسة، والسِّياسة تعمل بدورها هي الأخرى ضمن نطاق الدين وإطاره أيضاً.
والآن، وبالنَّظر لما ورد، في مفهوم الدين والسياسة، يمكن أن نستشف بجلاء أنَّ القضية المنطقية، في عدم انفصال الدين عن السياسة هي من المصاديق الواضحة للقاعدة المنطقية والفلسفية القائلة: إن «القضايا قياساتها معها» (12).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12)يستعمل هذا المصطلح حين يكون هناك التفات وتطوُّر لموضوعين في قبولهما لملازمة وعلاقة منطقية. ويمكن تقديم مثال رياضي لهذه القاعدة: فإذا عرفنا العدد «10» والعدد «20»، فإن فهم أن العدد «10» أصغر من العدد «20» لا يحتاج إلى برهان واستدلال. وهكذا القاعدة الرياضية: «إن الكل أكبر من الجزء».

[الصفحة - 16]


ج ـ ماهيَّة علاقة الدِّين بالسِّياسة في الإسلام: ناهيك عن الملازمة المفهومة لمقولتي الدين والسياسة، فإنَّ الأهمية التي أولتها التعاليم الإسلامية لثلاثة مجالات مبدئيَّة، وهي: الأيديولوجية والتشريع والأخلاق، لتكشف وتبين هذه العلاقة العميقة والرَّاسخة، والتي تأبى الانفصال بينهما، وبالالتفات إلى المضمون والقضايا الماهوية للدين والسياسة، فإنه سوف لن يبقى هناك من تردُّد في أن علاقة الدِّين بالسياسة في الإسلام هي علاقة منطقية وجوهرية، وإن كلًّا منهما لازم وملزوم لصاحبه، ويأبى الانفكاك عنه. وبعبارة أخرى: إنَّ هذه العلاقة تمثل أساساً ومبدأً كلِّياً وبنية تحتية في التفكير الإسلامي يتعذَّر إنكارها.
ويمكن طرح هذه القضيَّة وجوهرية هذه العلاقة المنطقية في عدَّة صور:
1 ـ ففي المجال السِّياسي ونطاق الدِّين، هناك مشتركات تربطهما معاً في الأهداف، وفي مجموعة من القضايا ذات الأهمية بالنسبة للحياة الاجتماعية. ولكن، وفي الوقت نفسه، فإن لكلٍّ منهما مميزاته وصفاته الخاصَّة به، وهذا ما يؤدِّي إلى فصل أحدهما عن الآخر في بعض الظُّروف والحالات الخاصة، كأن ينتهج الدِّين سبيل العزلة والانطواء على نفسه داعياً أتباعه إلى اعتزال التلوُّث بالسّياسة إذا ما ساد الفساد أجهزة الدَّولة وطاقمها السياسي الحاكم، وأغلق الطريق أمام أية إصلاحات أو تغيير، وهكذا يفعل السَّاسة إذا ما ساد الاستبداد الديني، واستولى الفساد على أهل الدين، فلعلّهم يلجأون إلى طرد الدِّين، وإن كانوا أنفسهم من أهله وأصحابه.
وهذا الأمر نفسه دعا بعض الباحثين، في دراستهم لأفكار الإسلام السياسية، إلى أن يسلِّموا لعلاقة الدين بالسياسة في إطار تلك الحدود المشتركة لهاتين المقولتين، ويلتزمون بصورة مشروطة بهذه العلاقة ولا يرون مفرَّاً من الانفصال النِّسبي بينهما.
ويبدو أنَّ هذا النَّوع من الاستنتاج الخاصّ، بعلاقة الدِّين بالسياسة، قد نشأ من أنَّ بعض الباحثين نظروا إلى أن كلًّا منهما يمثل المفهوم العيني للآخر. وفي هذه الحالة، يمكن فرض أن أحدهما، أو كلاهما، قد انحرف عن مساره وهدفه، والحال أن الغرض المسبق كان على أساس أن يفسر مفهوم كل منهما بتفسير صحيح، وبذلك سوف لن يكون هنالك إمكان لقبول فرض الانفصال بينهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 17]


2 ـ إن قسماً عظيماً من القضايا الدِّينية واقع ضمن إطار السياسة ونطاقها، وبالمقابل، وفي مجال السياسة، فإن أغلب قضاياها مرتبط بالأطر الدينية أيضاً.
بعبارة أخرى: لا مناص لكلِّ منهما من أن يقع في دائرة الآخر سواءً من حيث الأبعاد النظرية أم التطبيقية، وعليه فإن السياسة لا تستغني عن الدِّين، ولا يستغني الدِّين عن السِّياسة.
وهنا يمكن مناقشة هذا الاستنتاج، وهو أنّ دائرة الدِّين، بما عليه من جامعية، تشمل الأصعدة السياسية كافة، وليس هنالك من رأي أو فعل سياسي لم يتناوله الدِّين حتى في الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ شرعي (أي المباحات التي ليس فيها إلزام شرعي)، فإن الدين أمر الإنسان بأن يعمل بحسب ما يقتضيه العقل، ويمكن القول: إن هذه الموارد ليست بخارجة عن دائرة الدين أيضاً.
3 ـ لقد فسَّر بعض الباحثين علاقة الدِّين بالسِّياسة بأنَّ جميع الأشياء، في المجتمع الديني، بما فيها السياسة، تصبح دينية شئنا أم أبينا، وأن هذا التلازم أمر طبيعي ونوع من الإجبار، فإذا ما عاشت الأمة فى مجتمع متديِّن فإن السياسة ستكون هي الأخرى دينيَّة، وهذه صفة مميزة للأمة حين تلتزم بدينها، ولا يمكن الحيلولة دون وقوعها. ولفصل السِّياسة عن الدِّين لا بدَّ من فصل الأمَّة عن دينها بادى ذي بدء، وآنذاك سيفقد المجتمع دينه، وتصبح السياسة غير دينية أيضاً.
لا شك في أنَّ هذا التفسير لعلاقة الدِّين بالسِّياسة لا يمكن له أن يكون بمعنى العلاقة الماهوية بينهما، والتي ستتبع النهج الدِّيني للمجتمع، فضلًا عن مقتضى الدين نفسه، بحيث إذا افترضنا أنَّ المجتمع الدِّيني لم يشأ أن يمزج الدين بالسِّياسة، فإن السياسة، في هذه الحالة، ستكون لا دينية. وكذلك إن كان هذا الفرض يمكن تحقّقه في ما إذا أراد المجتمع اللاديني أن يعمل بالدين، فإن السياسة ستكون دينيَّة. وبعبارة أوضح، فإنه، وطبق هذا التفسير، ففي الواقع أن التلازم ليس بين الدين والسياسة، بل بينها وبين إرادة الأمة التي تعيّن اتجاه السياسة، وتنبغي إضافة هذه النقطة لتسويغ هذا الرأي وذلك التفسير، وهي أنه إذا لم يكن هناك من ملازمة ماهوية بين ، وأن الدين لا يجر السياسة إليه، فإن المتديِّن لا يتطلَّع أبداً إلى أن تكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 18]


سياسته دينية. فإن سيّس المجتمع الدِّيني الدِّين، فإن ذلك يعود لأن الدِّين قد اقتضى ذلك، وليس هنالك من سبيل أمام المتدين والمجتمع الدِّيني للهروب والفرار من ذلك.
ثالثاً ـ الأهداف السِّياسية للدِّين ورسالة الأنبياء
لقد سطَّر فكر الأنبياء السِّياسي فصولًا بارزة وجليَّة في تاريخ الأفكار السِّياسية، وإنجازاتهم هذه تعد من العناصر المهمَّة والمصيرية في التاريخ السياسي العالمي، كما أن هنالك إنجازات خاصَّة بالأنظمة السياسية القائمة على أساس مبادى الدِّين والأنبياء في تاريخ الأنظمة السياسية العالمية، وهي جديرة بالدِّراسة والتأمل... وقد سعى كتَّاب تاريخ الأفكار السياسية، في الغرب، لتمييز علم السياسة والأفكار السياسية عن الأفكار الدينية، ولذلك أقدموا تاريخيّاً على تجاهل تلك الإنجازات، وهذه جريمة لا تغتفر دينيَّاً ولا علميَّاً. وقد ظلّت أقوال هومر وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وسيسرون هي السَّائدة، في تاريخ الأفكار السياسية، حتى القرن الخامس الميلادي وبعد گوستين حتى القرن العشرين، إلا أنه ـ وكما ذكر سابقاً ـ لم يشاهد فصل باسم الأفكار السياسية للأديان والأنبياء في أية زاوية من زوايا هذا التأريخ السياسي الشامل والواسع. ورغم الدّور التأريخي الذي اضطلع به الفكر الديني للأنبياء، لم يرد ذكر لأسمائهم، لا في تاريخ الأنظمة السِّياسيَّة ولا في تاريخ الأفكار السِّياسية.
حصيلة أعمال موسى (عليه السلام)تمثل إنقاذ القوم مما عانوه من ظلم وعذاب؛ فهي، وبغضِّ النظر عن كونها عملًا لنبي ورسول من رسل الله إلَّا أنها كانت عملًا سياسيَّاً وسنداً لتلك النهضة العملاقة، فممَّا لا شك فيه أنها كانت تيَّاراً سياسيَّاً ومدرسة عميقة متجذِّرة لم يرد ذكرها قط في التأريخ الغربي للأفكار السِّياسية.
لقد قارع إبراهيم (عليه السلام)، المؤسِّس العظيم لمدرسة التَّوحيد، وبطلها السياسي لعشرين قرناً خلت، قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام)، السُّلطة السِّياسية الغاشمة الحاكمة آنذاك، من خلال إيجاده لأسسٍ رصينة متينة ومذهب ذي جذور عميقة، وقد سطَّر أوراقه بأحرف من نور في عمق التأريخ السِّياسي للأفكار العالميَّة، ولم يتمكن، من خلالها، من الإطاحة بتلك السلطة الحاكمة، وينقذ شعبه فحسب، بل فتح الباب على مصراعيه للأمم، ملقِّناً إيّاها دروساً في النضال ونهج الخلاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 19]


وقد قاد نبي الله موسى (عليه السلام)، هذا النَّبي المجاهد الدؤوب، قبل اثنى عشر قرناً خلت قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام)، الكفاح والجهاد ضدّ أعتى سلطة في التاريخ، ثم تمكَّن من الإطاحة بتلك الأفكار السياسية السائدة، وتزعَّم نضال شعبه وفق الأسس السِّياسية المستندة للتوحيد، وقد كتب لها النّصر، وبذلك فقد تلألأت مرّة أخرى الأفكار السياسية التوحيدية لتبيين الانتصارات والهزائم.
وقد عزّز الأنبياء من بعد موسى (عليه السلام)، وحتى ظهور السيد المسيح (عليه السلام)، نهجه، فأصبحت الأفكار السِّياسية القائمة على التَّوحيد معالم على طريق العمل السياسي لعدة قرون. وقد مضى عيسى (عليه السلام)في هذا الجهاد الذي لا يقهر، وواصله حتى انتهى بصلبه وصعوده حبل المشنقة. إن هذا الاتصال التأريخي للسُّنن الإلهية، منذ بعثة نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله و سلم) ثم إلى يومنا المعاصر، وعلى امتداد التاريخ، قد خلّف أعظم الوقائع السياسية التأريخية، وسجّل أروع الأفكار السياسية المشرقة.
إلّا أنّه، ولأنَّ الأقلام التي تكتب التاريخ وقعت بيد الغرب، فإنها اقتصرت على تسطير ما يختصُّ به فقط، وركَّزت على بعده المادي التاريخي، مغفلةً التاريخ السياسي لحركة الأنبياء وتاريخ الأفكار التوحيدية، وأزالتهما عن مسرح التاريخين: السياسي والعلمي. وقد عمدت العلمانيّة إلى فعل ذلك بعدما نشأت في الغرب، وعمل هذا على تعميمها على كافَّة الأزمنة والقرون الماضية، وأودع جميع الآثار الرائعة للإنجاز الديني في زوايا النسيان.
فلم يرد الكلام على تاريخ الأنبياء في التاريخ السِّياسي وفي تاريخ العلوم بصورة عامة. إن المقصود من التاريخ السياسي الغربي هو النفوذ الفكري للغرب لا جغرافيته المكانية، التكنولوجية، والتي ليست من نتاجات سكان الغرب بمعناه الجغرافي بل هي خلاصة الفكر البشري في التاريخ: «العلم هو الميراث المشترك للبشرية جمعاء».
لا يرد لأفريقيا اليوم ذكر في التأريخ، وهذا لا يعني أنه ليس لها من دور يذكر، فالعالم ليس وطنيّاً ولا جغرافيّاً. وذلك أن العلم هو الذي يمنح التكامل لكافة الجهود والمحاولات البشرية في جميع المناطق الجغرافية. وبناءً على ذلك، فإن العلم لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 20]


يمكنه أن يكون تابعاً للجغرافية والوطنية والقومية، وتكامل العلوم حلقات يتَّصل بعضها ببعضها الآخر ويتشابك، وللعلم ارتباط كامل بكافة هذه الحلقات التي تأبى إحداها الانفكاك عن الأخرى.
إنّ المقصود من الأهداف السياسية للأنبياء هو تلك الأهداف المرسومة مسبقاً والتي جاهد الأنبياء، وعلى أساس الوحي الإلهي لتحقيقها، ولم يألوا جهداً، في السّعي الحثيث بغية تحقيقها والتضحية بالغالي والنفيس من أجل ذلك. وفي الحقيقة، فإن هذه الأهداف مبيِّنة لأفكار الأديان العظمى المطروحة في التأريخ، والتي كانت عنصراً مهماً في بعض التطورات الشاملة في التأريخ، وكان لها دور تاريخي وبالغ الأهمية في الحضارة والثقافة العالميَّتين. إن دراسة الأهداف السياسية للأنبياء، في تحليل المباني الفكرية السياسية الإسلامية، يمكنها أن تكون من أهم المباحث في تبيين علاقة الدِّين بالسياسة. ويمكن القول: إن هنالك ثلاثة أهداف رئيسية للأديان الإلهية، وهي:
الأول: بسط القسط والحق، وهداية المجتمعات البشرية وتوجيهها باتجاه العدالة.
الثاني: الدعوة إلى الحق وخلق علاقة بنَّاءة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى.
الثالث: التطوُّر والنهوض على مسير التكامل: {لَقَدْ اَرْسَلْنَا رُسُلَنا بِالبَيِّنَاتِ وَانْزَلْنَا مَعهُمْ الكِتابَ وَالمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ} [الحديد/25].
ولكل من هذه الأهداف السامية الثلاثة ارتباط وثيق بالقضايا السياسية، ولا يمكن تحققها من دون توافر فكر سياسي مناسب ومنظّم وفلسفة سياسية واضحة. وهنا يطرح سؤال نفسه في شأن أهداف الأنبياء، وهو: إذا كان هدف الأنبياء والأولياء جميعهم هو إقامة العدل وبسط القسط، في المجتمع، فكيف يمكن أن يكون عمل الأنبياء وفكرهم منفصلًا عن السياسة؟
ومن المفروغ منه أن بسط القسط والعدالة يتطلب قانوناً، والقانون بدوره لا يتبلور، أيضاً، من دون وجود نظام حقوقي واضح، ولا يمكن تطبيق هذا الأخير من دون وجود نظام سياسي، وكذلك لا يمكن تحقق حكومة ونظام سياسي بمعزل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 21]


عن فكر سياسي، وبالنتيجة ما لم تتوافر سلسلة المراتب هذه لا يمكن بلوغ الحق والعدالة.
إن من أبرز تعاليم الأنبياء وأهمها التشريع الذي يتكفَّل ببيان النظام الحقوقي المحدَّد والمتمايز، نظام حقوقي يمثل، من جهة، الأرضيَّة الخصبة وليس القوانين والمقررات الحاكمة فحسب، ومن جهة أخرى يطالب بتشكيل سلطة سياسية تنفيذية تنهض بمسؤولية ضمان تنفيذ تلك القوانين. الهدف الثاني لرسالة الأنبياء هو دعوة الناس لله وهدايتهم المعنوية وتمهيد السبيل أمام تعاليهم ورقيهم، وهذا لا يتيسر إلَّا في ظل خطّة عمل سياسية وحكومة بشرية. فأول عمل قام به إبراهيم (عليه السلام)هو دعوة الناس للإيمان بالله، وكانت أولى مجابهاته تلك التي كانت مع نمرود الذي ضرب أمامه طوقاً من حديد. وأوّل إجراء اتخذه في تلك المجابهة إعلانه للجهاد الشامل بكافة أبعاده. وكان أساس هذا الجهاد الفكر السياسي، فالدعوة تتطلب خطَّة مبرمجة وتنظيمها، وإن كل تنظيم أو برمجة هو عمل سياسي. وإن الهداية تعني القيادة وتمحور فئة حول أيديولجية ذات أهداف معينة مدروسة، وهذا يعني اقتحام العمل السِّياسي بكلِّ ما يتمخَّض عنه من معان. وعليه، فإن هداية الأنبياء تعني الزَّعامة والقيادة، وهما عملان سياسيان.
الهدف الثالث للأديان هو تحرير الإنسان من كافة القيود التي تحول دون تكامله، والتي تمثل عقبةً كؤوداً أمام قربه من الله، ولا يمكن لهكذا هدف يتضمَّن تحقيق الحرية، في المجالات الفردية والاجتماعية والدولية، أن يتحقّق بمعزل عن نضال سياسي دؤوب.
إن الحرية، في منطق الدين، تعني العبودية لله وعدم عبودية ما سواه. وقد جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أمَةٍ رَسُولًا أَنْ اعْبُدوا الله وَأجتَنِبُوا الطاغُوتَ فَمِنْهُم مَنْ هَدى الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلِيهِ الضَّلالَة} [النحل/36].
إنَّ المفهوم الديني للعبودية ليس إلا التحرر المطلق من كافة العوامل غير الإلهية والخلاص من جميع عقبات التعالي والتكامل، وكذلك التحرر من قيد الشهوات النفسانية وغير العقلانية. ولا شك في أنَّ الحرية، بهذا المفهوم الشامل، تتمتع برؤية فلسفية وسياسية عميقة تضاعف علاقة الدِّين بالسياسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 22]


إن التَّعاليم الدينية في شأن موقف الإنسان بالنسبة من الله والشيطان لتمثِّل الخط الفاصل بين حرية الإنسان أو أسره من جهة: {مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أطاع الَ} [النساء/80]. ومن جهة أخرى، فإن أي اتباع وإذعان لحاكمية غير الله يعد حركة شيطانية: {وَقَالُوا: ربَّنا إنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلُّونا السَّبيلا} [الأحزاب/67].
إن المنطق الديني يرى أن التعلُّق بالدُّنيا والأهواء هو تعلُّق بمعسكر الطاغوت، ويحتاج الفراعنة لبسط سيطرتهم وبسط نفوذهم إلى قواعد في باطن الناس المقيَّدين، ولا تكمن هذه القواعد إلا في وسط تلك الحاجات، وإلَّا إذا عاش الإنسان في أسر الشَّهوات..
إن الفرعنة تنبثق من ذلك التعلّق بالدّنيا، وهو التوق للسلطة الآيل للزَّوال، إلَّا أنَّ هؤلاء التوَّاقين قد يستندون، من جهة أخرى، إلى قواعد مستقرة تلتمس مواضعها في بواطن الناس المقيدة الأسيرة، ولذلك فهم باقون ويتزايدون قدرة وسلطة.
واليوم، فإن تبعيَّة الأمم المستضعفة، فضلًا عن خضوعها لحاجاتها المادية وشهواتها الرَّذيلة المؤدِّية إلى وقوع الخسائر، لتمثِّل أهم قواعد التسلُّط الشيطاني الاستكباري لأمريكا.
وإنَّ السّبيل الوحيد للتخلُّص من هذه القواعد الدَّاخلية للاستبداد والاستكبار الخارجيَّين والتخلُّص منهما ليكمن في الحرية وفق المفهوم المتمثل في هدف الدين ورسالة الأنبياء. لا شك في أنَّ طرح النضال والجهاد ضد الاستبداد والاستكبار فكرة سياسية، على الرغم من أن رفض الاستبداد ومناهضة الاستكبار يعد مزية أخلاقية ناشئة من تهذيب النفس، ومن ثمَّ فهي حركة أخلاقية، إلّا أن هذه المزية الذاتية للدِّين لا تفصل قضايا الحياة إحداها عن الأخرى، بل تجعلها مترابطة متماسكة. هذا ما يستفيده الإنسان من نتائجها في مساره ونهجه التَّكامليَّين. ولذلك، فقد ورد ما لا يستهان به من القضايا والأفكار السياسية الإسلامية الأصيلة خلال المباحث العرفانية والأخلاقية، فكان العرفاء هم أغلب زعماء نهضتنا وحركاتنا الثورية في تاريخنا الإسلامي وقادتها.

لقد صنَّف علماء الأخلاق بث الرعب والخوف في الآخرين ضمن الصِّفات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 23]


الرَّذيلة والذنوب الكبيرة، ثم قالوا، وبالاستناد للروايات: «من أرعب بريئاً جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله». وفحوى هذا الحديث الأخلاقي مسألة سياسية كاملة تتصدَّى بوضوح لبيان أهمية القضية الأمنية في المجتمع وخطورتها.
لقد قال أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام): «إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخشون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»، أي انتقوا سبيل الأحرار، أي التفكير المتعقل والحر. يعني التفكير والحركة على أساس العقل.
رابعاً ـ الدَّور السياسي للأديان
لقد أقْصِيت التعاليم السياسية للأديان الرئيسية، كالمسيحية واليهودية عمليَّاً عن المسرح السِّياسي على المستويين: الوطني والدولي. وإن كان هناك ثمة دور للأديان والمذاهب، في السياسات الدَّولية، فإن ذلك يعود لاستغلال نفوذها المعنوي في تمرير مخطَّطاتها ومشاريعها السياسية، وقد استُغلّ هذا النُّفوذ للأديان استغلالًا بشعاً، وهذا ما فعله سماسرة السياسة على مدى التاريخ في لجوئهم لكافة الوسائل، بغية تحقيق مآربهم وأطماعهم.
إذا ما شوهد دور للمسيحية واليهودية، في الأحداث السِّياسية الدَّولية، فإنَّ ذلك يعزى إلى أنَّ دورهما يوظّف في السياسة.
وقد سلَّمت المسيحية العالمية المعاصرة، بعد عصر مديد من النزاع التاريخي، للعلمانية، بينما ابتعد اليهود غير الصَّهاينة عن السياسة. وهنا يطرح سؤال نفسه، وهو: هل القرب من السِّياسة أو البعد عنها جزء من تعاليم الدِّينين المذكورين ونابع من طبيعتهما أو أنَّه كسائر الظَّواهر التأريخية التي تنشأ على أثر مجابهة بعض العوامل المختلفة التي تمثِّل أسبابها الخاصة؟
يعدّ الإسلام العلمنة وفصل الدِّين عن السّياسة انحرافاً عظيماً خطيراً يتنافى وطبيعة الأديان، ويرى أنَّ ابتعاد الأديان عن السياسة هو انعكاس لهزيمة المتدينين أمام الغزو الإلحادي التأريخي الذي يشن ضد حاكمية الأديان. وقد أشار القرآن صراحة إلى هذه المجابهة التاريخية المستمرة، مادحاً استقامة حماة مدرسة الأنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 24]


وثباتهم قائلًا: {وَكَأيِّنْ مِنْ نَبيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِما أَصَابَهُمْ فِي سَبيْلِ الله} [آل عمران/146].
ووفاقاً لوجهة نظر القرآن الكريم، فإنَّه يعدّ الضّعف، في هذا المجال، غير جائزٍ كما أنه يدين الصلح المصحوب بالذلة من موقع الضعف، وهذا ما تقوله الآية الكريمة: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلى السَلْمِ وَأَنتُمُ الَاعْلَوْنَ} [محمد/35].
إنّنا نشاهد، من خلال مطالعتنا لسير الأنبياء، أن أبرز فعالياتهم وأنشطتهم قد تركَّزت في الجانب السياسي، وهذه الحقيقة تُرى بوضوح في القرآن الكريم، حين يصف حياتهم الاجتماعية.
إن كانت القدرة تعدّ المحور الأساسي للسياسة، فإنَّ الأنبياء كانوا يتحدَّثون دائماً من موقع القوة، وهذا ما نلمسه في المفردة «النذير» [هود/25] التي ورد استعمالها، في آيات كثيرة، وفي عدة صور في شأن الأنبياء، لتكشف بوضوح عن ذلك الموقع. وإن الوعد بالنصر النهائي للأنبياء وأنصار مذهبهم قد تبيَّن بالمفردة «ليظهره»[التوبة/33] وعدة آيات أخرى، وهي تفيد القوة التي كان يسعى الأنبياء للظفر بها، وقد يعبر عن ذلك بـ «السلطان المبين» الذي يبين تلك الحقيقة أيضاً.
إن عددنا النَّهج والأيديولوجية ملاك الأحزاب السياسية، فإنَّ الأديان الإلهية هي أول مؤسس الأحزاب، وإن رأينا أن التنظيمات هي معيار وجود للأحزاب، فإن أقوى التنظيمات وأعظمها، طوال التاريخ، تعود للأنبياء. يعتقد بعض الباحثين بأن المفهوم السياسي للحزب يعني وجود الأعضاء والأنصار الذين يؤمنون بأهدافه ومبادئه، وحسب هذا الفرض لا بدَّ من القول: إن الأسباط والحواريين وجميع الأتباع الأمناء والمؤمنين بمدرسة الأنبياء كانوا يشكلون لبنات الأحزاب السياسيَّة.
وإن كان فتح جبهة جديدة، في الجهاد الاجتماعي، يعد من أنشطة العمل السياسي للأحزاب، فإن أبرز مظاهر ذلك يمكن مشاهدتها في الحياة الاجتماعية والسياسية للأنبياء. وعلى سبيل المثال، فقد فتح موسى (عليه السلام)جبهة متراصة في وجه فرعون وملئه (أي حاشيته ورجال سلطته) [الشعراء/16] و [الأعراف/103] وبعض الآيات الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 25]


وكذلك فعل عيسى (عليه السلام)أمام قيصر. ويأتي في طليعة المجاهدين إبراهيم (عليه السلام)ضد نمرود (13).
ولم يأل أهل الدنيا، من محبّي الرئاسة والتسلُّط، والذين كانوا يقفون بقوَّة في وجه الأنبياء ونهضتهم التي كانت تحول دون بقاء دولهم، جهداً بغية القضاء على رسالتهم وعلى أتباعهم، ولم يتورّعوا عن اللجوء إلى ممارسة أقذر الأساليب بحقهم، من عنف وقتل واغتيال وتشريد وما شابه ذلك.
وعادة ما كانت تسفر مجابهة الأنبياء لطواغيت عصورهم عن انقسام المجتمعات البشرية إلى قطبين، ولم تكن هذه التجزئة السياسية لتتم بإرادة التيار الثوري الملتزم بتعاليم الوحي، بل كانت قضية فرضها التيار الغاشم الذي كان يعرِّض الأمة للظلم والجور ويهضم حقوقها.
ولو لم ينوِّه القرآن بهذه الحقبة السياسية، من ذلك التأريخ، ولو لم يعرض لهؤلاء الثوار الذين صنعوا التأريخ، والذين كان لهم بالغ الأثر على الصعيدين: السياسي الديني، فمما لا شك فيه أن التاريخ السياسي العالمي ذا النَّظرة الآحادية كان سيعمد إلى طمس أسماء أولئك الأنبياء العظام وآثارهم، فضلًا عن إنجازاتهم وأنصارهم وحوارييهم. إلا أن القرآن الكريم أيقظ ضمير التاريخ وحفظ للأنبياء جهادهم ونضالهم المرير، وفضح سياسة التاريخ آحاديّة القطب، فكان القطب الأوَّل يمثّل بالملأ والمتكبِّرين والمسرفين والمترفين، والقطب الآخر بالمستضعفين، وكان الصِّراع قائماً على قدم وساق بين هذين القطبين؛ حيث كان أنصار القطب الأول هم الكفار والمشركون والمنافقون والفاسقون والمفسدون، بينما كان أنصار القطب الثاني يمثلون الموحدين والمؤمنين والمتقين والصالحين والمجاهدين والشهداء.
والتصنيف القائم يفيد بوضوح أن لكلٍّ من القطبين: المستكبر والمستضعف قواعد عقديَّة معينة، فقاعدة عقائد القطب الأول كانت الشرك والكفر والنفاق والفسق والفساد، وقاعدة القطب الثاني كانت الإيمان والتوحيد والصلاح والإصلاح والتقوى.
ومطالعة آيات سورة الأعراف، من 50 إلى 137، في شأن تأريخ الأنبياء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13)يراجع: الفقه السياسي، المجلد 1، ص 83. [الطور/38] و [الدخان/19] .

[الصفحة - 26]


كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى (عليه السلام)تكشف عن صراع قطبي الاستضعاف والاستكبار وعن أسلوب تفكير حماتهما في المجتمع والدولة. إن العنصر الأساسي للمجتمع والدولة هو الناس الذين يمثلون السند الرئيسي لدعوة الأنبياء. وقد خاطبهم القرآن، على لسان أنبيائه، بالناس، وفي طليعتهم الأنبياء أنفسهم، وبصورة عامة، فإن إرادة الناس تمثل إرادة الله {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُّنَ عَلى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوارِثِين} [القصص/5].
كانت وظيفة موسى (عليه السلام)، في أوائل دعوته، أن يتجه صوب فرعون، ويطرح قضية الحكومة: {إذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تتزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات/17 ـ 19]، {اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى فقولا له قولا ليِّنا لعله يتذكَّر أو يخشى} [طه/43 و44]ثم يزف للمتقين، في الختام، البشارة بوراثة الحكومة: {قالَ موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يُوْرِثُها من يشاءُ من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف/128]. وكذلك بشَّر داود قومه بأن الحكومة للصلحاء، وهكذا طرح الأنبياء من قبل حكومة العدل وسيادة القانون الإلهي: {ولَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُور من بعد الذِّكر أنَّ الأرض يرثُها عبادي الصَّالحون} [الأنبياء/105].
إن القرآن الكريم، وهو يطرح اتجاه فرعون الاستكباري يرفض الحكومات الاستكبارية ـ الذين كانوا يقيمون حكمهم على هذا الأساس، ويدّعون أنهم يمثلون البلاد والدولة والقانون، ويستبدلون المنظمات السِّياسية الصالحة بأساليبهم الشخصية القائمة: {إنَّ فرعون عَلا في الأرض، وجعل أَهْلَها شِيَعاً يستضعفُ طائفةً منهُم يَذْبَحُ أبناءَهُم ويستحيينساءهم إنَّه كان من المفسدين} [القصص/4].
لقد استضعف فرعون قومه واستعبدهم وأذاقهم الذِّلَّ والهوان من خلال حكومته الاستكبارية الجبارة وبثِّه للتمييز العنصري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والعقدي في صفوفهم. ويتابع القرآن وصف ماهية الحكومة الاستكبارية وآثارها الوخيمة على الأمة متحدِّثاً عن الإرادة الحاكمة للتاريخ التي تناهض على الدوام إرادة الأجهزة الاستكبارية الفاسدة، وتقارع إرادة الجبابرة المتغطرسين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 27]


ولا شك في أن هذه هي إرادة الله التي كانت تتجلَّى في حركة الشعوب والأنبياء وفي إرادة المستضعفين الجماعية التي كانت تدفع عجلتها باتجاه السيادة والحاكمية: {نريد أن نمنَّ على الذين استُضْعِفُوا في الأرض ونَجْعَلَهم أئمَّةً ونجعلَهم الوارثين ونُمكِّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يَحْذَرُون} [القصص/5 و6].
لقد أشار القرآن الكريم إلى هدف الأنبياء المتمثِّل في إقامة النظام العادل، وقد جعل الحديد، بوصفه رمز الحركة المسلحة، أداة ووسيلة لاستقرار هذا النظام السياسي ـ الاقتصادي. وإن اقتران كلمات الميزان والحديد، في الآية القرآنية المباركة، لتبين المحاور الأصلية لتنظيم سياسي وإقامة حكومة الأنبياء. إننا نرى، على مدى التاريخ، ادعاء السلاطين والهيئات الجبارة الحاكمة والمتسلطة قضية السلطة وسيادة الأمة، وقد مارس هؤلاء كافة أنواع الدكتاتورية والاستبداد والتعسف، وعملوا على أن تكون إرادتهم وأهواؤهم هي القانون، وفرضوا نزعاتهم الشخصية والفئوية على الأمة بالحديد والنار.
لقد تعامل كافة الأنبياء مع هذه الحكومات، بجميع أشكالها وألوانها، بطريقة واحدة، فأدانوها جملة وتفصيلًا، ولم يقرّوا بشرعيتها؛ وقد تأثرت نهضات الأنبياء وحركاتهم ومدارسهم ومذاهبهم بالشروط السياسية والاجتماعية التي كانت تسود مجتمع كل منهم. فإذا ما رأينا بعض الاختلاف بين حركة هذا النبي وذاك، كالحركة الجماهيرية الغاضبة العارمة لموسى (عليه السلام)، فإن هذا لا يعني تمتع تلك الحركة بمضمون ومفهوم خاصين، وذلك لأن المشروع المشترك الذي كان يحكم حركة الأنبياء هو إقامة حكومة الله المتمثلة بإرادة الجماهير وعزمها ورفض حاكمية غيره واستنكارها. فإذا ما كان هنالك اختلاف في النهج والأسلوب فلا بد من البحث عن أسباب ذلك في الشُّروط الزمنيَّة والمكانيَّة والمقتضيات السائدة آنذاك.

فحتى أسلوب عيسى (عليه السلام)لم يكن بعيداً عن الحلقات المتماسكة لحركات الأنبياء. فلم يكن أسلوبه ونهجه يشملان بعض الأمور، من قبيل: الانعزالية والرهبانية والانطواء عن المسؤوليات الاجتماعية والحياد وعدم الاكتراث والمبالاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 28]


التي تنسب اليه بالنسبة للتيار الحاكم آنذاك وترك قيصر لنفسه. فقد عدّ القرآن الكريم الرهبانية بدعة في دين عيسى (عليه السلام): {ورُهْبانيَّةً ابتدعوها} [الحديد/27].
لقد ورد، في إنجيل متى ولوقا، أنه (عليه السلام)ولد أيام حكومة هيرود، ذلك الجبار السفَّاك المشهور، وهو الذي أعدم زوجته وأمها وابنيه بتهمة التآمر، ولمّا لم يستطع إخماد ثورة شعبه المظلوم بالتعذيب والقتل والتنكيل، عمد إلى شراء ضمائر بعض الكهنة، ودفعهم إلى بث البدع والخرافات والأباطيل، ليجبر الأمة على تقديم عروض الانحناء الذليل ومراسم الطاعة له، وإذ حقق له الكهنة هذه الأمنية القديمة مارس سلطته كسائر الجبابرة والطواغيت سابحاً في مستنقع وحل التكبُّر والغرور والعنجهية والغطرسة.
لقد قام هذا الحاكم الغاشم بإلقاء القبض على يحيى (عليه السلام)، وأودعه السجن على أثر انتقاده له واعتراضه على فساده وانتهاكه للعفة، وقد استشهد (عليه السلام)في عهد رسالة عيسى (عليه السلام).
لقد سجلت الأناجيل، بما فيها إنجيل مرقس ـ الباب الأول، وإنجيل متى ـ الباب الرابع، وإنجيل لوقا ـ الباب الرابع، بعض الخطب الحماسية التي كان يلقيها عيسى (عليه السلام)في النَّاس ومنها: «إن الله بعثني لأبشر المساكين المظلومين وأكون أنيسا للمحزونين، واصدع برسالة الأحرار والعبيد وأحرر الأسرى».
لقد ألَّب عيسى (عليه السلام)بخطبه النَّاس ضد الوضع القائم. ومن جهة أخرى، فقد بثَّ الذعر في جهاز الدَّولة الحاكم من خلال عباراته الغاضبة الحادة التي كان يهاجم فيها حب الأموال والدنيا والجاه والمقام والرئاسة، والتي كانت تنال من القيم والمثل والأسس التي شيد عليها هيرود صرح حكومته. وبذلك فقد تزعم (عليه السلام)جبهتين في مجابهته لطاغوت عصره تزامنا مع حملته الشاملة التي شنها على أحبار اليهود الذين كانوا يظهرون النفاق في اتّباعهم لموسى (عليه السلام)من جهة، ومن جهة أخرى كانوا يُسْدُون الخدمات للفراعنة، بغية تحكيم أسس حكومتهم القائمة ضد الله والأمة، ثم فضح فسادهم وكفرهم وشركهم وكشف زيفهم أمام الرأي العام.
إن تعليمات عيسى (عليه السلام)، التي مهَّدت السبيل أمام انهيار الطغمة الفاسدة التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 29]


كانت تحكم الروم، عرَّضته أوَّلًا إلى هجوم المدافعين عن نظام هيرود، أي كهنة اليهود وأحبارهم، وثانياً إلى غضب حراس الامبراطور الذين تآمروا، بكل خبث، على قتله على أثر اطلاعهم على مواقفه من الامبراطور (14).
إن الحركة التحررية للأنبياء لمن أوضح الأنشطة السياسية للرسالات والنبوات، ولذلك كان أول مخاطبي الأنبياء هم جبابرة التأريخ؛ والطلائع الملتزمة بحركة الأنبياء هم محرومو التاريخ ومظلوموه ومستضعفوه.
ويبين القرآن الكريم شعار الأنبياء، في هذا البعد من الحركة السياسية، قائلًا: {أَنْ أدُّوا إليّ عِبَادَ الله إنِّي لكُم رسولٌ أمين} [الدخان/18].
ورسالة موسى (عليه السلام)كانت: {فَأَرْسِل معنا بني إسرائيل ولا تُعَذِّبهم} [طه/47] {أَنْ أرْسِل معنا بني إسرائيل } [الشعراء/17].
واستعمال المفردة «أرسل» يفيد أنَّ موسى أراد أن يفهم طاغوت عصره أنه لا ينوي البقاء ضمن دائرة حكومته، وهذا يعني معارضة نظامه، إنه يريد أن يحرِّر الأمة مما تعانيه من ظلم وعذاب.
خامساً ـ السياسة من وجهة نظر الدِّين هدف أو وسيلة
كان الكتاب الإسلاميون يرون أن الاقتصاد، من وجهة نظر الإسلام، بنية فوقية مقابل شعار الماركسية القائم على أساس أن الاقتصاد بنية تحتية، والمقولات الأخرى بنى فوقية. أما قصد الكتاب المسلمين من كون الاقتصاد بنية فوقية فهو أن الأصل في الإسلام الفكرة التوحيدية، وأن الفكرة الاقتصادية تنشأ من الفكرة التوحيدية، فلم يكن مفهوم هذا الأصل هو أنه يحد من تأثير الاقتصاد بوصفه عاملًا اجتماعياً متيناً ذا دور بالغ الأهمية في أغلب قضايا المجتمع. ويمكن طرح نظير هذا البحث في شأن السياسة من وجهة نظر الإسلام، فهل هي هدف أو وسيلة؟ أصل أو فرع؟ بنية تحتية أو فوقية؟ ولما كانت القوَّة تعد من أبرز عناصر السياسة، فهل القوة هدف أو وسيلة؟
يعتقد أغلب العلماء أن القوة السياسية هي وسيلة فقط لإقامة الحق وبسط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)جاء، في الباب 22، من إنجيل متى، أن حراس الامبراطور سألوا عيسى (عليه السلام) : أمن الصواب أن نعطي الامبراطور الضرائب؟ لم تكن نهضة عيسى (عليه السلام) سلمية أبداً وإلا لما تمكَّن من إنهاء امبراطورية الروم بتلك القوة وذلك الاقتدار.

[الصفحة - 30]


العدالة وتنفيذها، فهي مهمة لهذا الغرض لأنها تصب في خدمة الأمة، وإلا فإن السعي إليها وطلبها مناهض للقيم والمثل، وقد امتلأ نهج البلاغة بالتعابير التي تتحدَّث عن هذه القضيَّة.
ويرى بعض المفكرين الإسلاميين أن القدرة أو القوة هدف، ولا بد من الاستعانة بها بغية استتباب حاكمية الدين وسيادته. فالقوة بكونها صفة إلهية مقدسة هي من المبادى العقدية للإسلام، وإن الاقتدار قيمة ومثل، ولذلك وردت الروايات بذم الإنسان الضعيف ـ وإن كان مؤمناً ـ وانتقاده، كالحديث النبوي الذي يقول: إن الله لا يحب المؤمن الضعيف. قيل: من هو المؤمن الضعيف؟ قال: الذي لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
أمّا أن الإمام علي (عليه السلام)قال بعدم أهمية الحكومة وعدم قيمة القوة في موضع من نهج البلاغة: «والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين»، وامتنع بشدة في موضع آخر عن تفويض السلطة والقوة لمعارضي حكومته؛ أي القاسطين والناكثين والمارقين؛ وذلك لما تتعرض له هذه القيمة من استغلال أحياناً وتسخير بصورة سلبية، وواضح أن إمكان هذا الاستغلال لا يقوم دليلًا أبداً على سلبية قيمة القوة والقدرة. وذلك أن كافة القيم السامية حتى العلم والحياة وسائر الفضائل والمناقب معرضة للاستغلال. ويبدو أن الرأيين جديران بالاهتمام، وكلاهما قد أقر من حيث منطق الدين. وأن هذا المطلب ليصدق في شأن الاقتصاد أيضاً، بالإضافة إلى أنه حتى على الفرض الأول فإنه يمكن القول: إن كون السياسة من وجهة نظر الشريعة وسيلة لا يحد ويقلل من أهميتها من الناحية الدينية.

والقضية ليست بهذا الشكل في أن ما كان وسيلة فهو فرع قليل الاعتبار، بل إن هذه الوسائل لتشكل أولى أهداف كل أمر.

وبناء على ما تقدَّم، فإن السياسة تمثل عنصراً حيويّاً مرافقاً للإنسان في حياته وشؤونه على الدوام، وإن العمل السياسي وتنقية السياسة كان دائماً من أهداف الدين بالغة الأهمية. وهذا ما يمكن التوصل إليه من خلال النظر إلى أهداف الأنبياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 31]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف