البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

بين عَوْلمة قيم الاستهلاك وعالميَّة القيم المتعالية

الباحث :  أ. محمد دكير
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  24
السنة :  السنة السادسة شتاء 1422هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  1271

بين عَوْلمة قيم الاستهلاك وعالميَّة القيم المتعالية

أ. محمد دكير

«إنَّنا قومٌ تعساء لإنَّنا ننحطُّ أخلاقيَّاً وعقليَّاً.. إنَّ الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصِّناعية أعظم نمو وتقدُّم هي, على وجه الدِّقَّة, الجماعات والأمم الآخذة في الضعف والتي ستكون عودتها إلى البربريَّة والهمجيَّة أسرع من عودة غيرها إليها...» ألكسيس كاريل .
العَوْلَمَة تفجِّر الأزمة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في العالم
الموقف العام الذي عبَّرت عنه غالبيَّة المثقَّفين، في العالمين: العربي والإسلامي, وغيرهم، في العالم الثَّالث على وجه الخصوص، يتمثَّل في أنَّ العولمة ليست مرحلة جديدة من مراحل الرَّأسماليَّة، وإنَّما هي مرحلة لها سِماتها المميَّزة عن المراحل السَّابقة التي مرَّت بها الرَّأسماليَّة في الغرب.
أمَّا حجَّتهم، في ذلك، وفي نظر منير شفيق، فتتمثَّل في ما يأتي: صحيح أنَّ العولمة تحمل في الجوهر السِّمات الرئيسة للرأسمالية، وهي السَّيطرة على الشُّعوب الآخرى وامتصاص ثرواتها وجهودها ووضعها في حالة التَّبعيَّة المقيمة، والمضي في الاستغلال، في جمع الثَّروات من الدَّاخل في بلدان المتربول، أي مراكز الرأسمالية العالميَّة (1). لكن ما يميِّز المراحل السَّابقة (مرحلة الاستعمار المباشر وما بعده) عن هذه المرحلة الجديدة يكمن، أوَّلاً، في الآفاق الواسعة لهذا الاستغلال الشَّامل للعالم عبر شركاتٍ عالميَّةٍ عابرة للقارات والقوميات والدُّول الوطنيَّة، يساعدها في ذلك التَّطوُّر التَّكنولوجي الذي ألغى المسافات والحدود الجغرافية، بحيث تتمكَّن أي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)في الحداثة والخطاب الحداثي، بيروت: المركز الثَّقافي العربي، ط‏1، 1999م، ص 71.

[الصفحة - 331]


شركة داخل الولايات المتَّحدة الأميركية، عبر شبكات المواصلات السَّريعة وشبكات الاتّصال الإلكترونيَّة العالميَّة،(الإنترنت أو قنوات الاتّصال الفضائيَّة الأخرى) من الاستفادة من أي خبرة علمية، أو ثروة طبيعية، في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا من دون الحاجة للخضوع إلى الإجراءات أو المعوِّقات التي كانت تحول في الماضي دون هذه الاستفادة المباشرة، أو على الأقل تجعلها صعبة ومكلفة.
وقد برزت مفارقات جديدة على السَّطح بفعل العولمة الاقتصاديَّة خصوصاً، فبعض دول العالم الثَّالث قد استفادت إلى حدٍّ ما من إيجابيَّات هذه العولمة عندما افتتحت الشَّركات الصِّناعيَّة الكبرى مصانع ملحقة لها في هذه الدُّول، ما ساعد على تحريك سوق التَّشغيل وإدخال بعض التَّحسينات على البنية التَّحتية (تطويرشبكات المواصلات البرِّية والجويَّة والاتصالات الفضائية).
لكنَّ هذه الإيجابيَّات لا توازي حجم السِّلبيَّات المدمِّرة في مجالَي البيئة وحقوق الإنسان، فهذه المشروعات الصِّناعية والإنتاجية لا تلتزم، أمام قوانين دول العالم الثَّالث، بأيِّ شروطٍ لحماية البيئة والإنسان. فغالبيَّة هذه المشاريع تستفيد من انخفاض الأجور من دون أن تهتمّ بالرِّعاية الصِّحية أو الضَّمان الاجتماعي للعمَّال، بالإضافة إلى أنَّ من بين أهم شروط دخول هذه الاستثمارات الأجنبية إلى دول العالم الثَّالث، هو التزام هذه الدُّول الفقيرة أو السَّائرة في طريق النموّ- كما يحلو للصَّحافة المحلِّيَّة وصفها- بقانون السُّوق الرأسمالية، أي تحرير الأسواق الاقتصادية من طريق إلغاء الحواجز الجمركيَّة وتقليص تدخُّل الدُّول في رسم السِّياسات الاقتصادية: على مستويي التَّنمية والحماية. وهكذا دخلت جلّ دول العالم الثَّالث في سباقٍ محمومٍ لإعادة هيكلة اقتصادها بما يتماشى مع اقتصاد الدُّول الصِّناعيَّة القويَّة، متَّبعة نصائح صندوق النَّقد الدُّولي والبنك العالمي، ولم تنتظر هذه الدُّول عقوداً من الزَّمن لقطف ثمار هذه العولمة الاقتصاديَّة، بل ما فتئت نتائجها السِّلبية والمدمِّرة تتكشَّف بوضوح، يوماً بعد يوم، عن طريق انهيار الاقتصاد المحلِّي وإفلاس عدد من الصِّناعات المحلِّية التَّقليديَّة خصوصاً، والتي كانت تشغِّل نسبةً مقبولةً من اليد العاملة، وانخفضت قيمة العملات الوطنيَّة بشكلٍ كارثي، وارتفعت نسب العجز في ميزانيَّات الحكومات، لأنَّ زيادة حجم الصَّادرات التي حققتها الاستثمارات الأجنبيَّة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 332]


تبعها ارتفاع هائل في حجم الواردات، فأغرقت أسواق بلدان العالم الثَّالث بالبضائع ذات الجودة العاليَّة من جهةٍ والأسعار المنخفضة من جهةٍ أخرى، وهذا ما لم تتحمَّله الصِّناعات المحلِّية، فانهارت تباعاً، ووجد الآلاف من العمَّال وأسرهم التي يعيلونها أنَّ أبواب الرِّزق والمستقبل قد سدَّت في وجههم فجأة، ما تسبَّب في اختلالات اجتماعية كارثية، فارتفعت نسبة البطالة المرتفعة أصلاً، وكثرت حركات الاحتجاج والإضرابات التي عمَّت مختلف القطاعات، لأنَّ عدداً من المصانع، وبحثاً عن تحقيق شروط أفضل للمنافسة، اتَّجه، أوَّلاً، إلى تخفيض الأجور وزيادة المَكْنَنَة واعتماد التَّكنولوجية المتطوِّرة في إنتاجه، ما اقتضى تسريح عدد من العمَّال.
وهكذا وجدت دول العالم الثَّالث، ومن بينها دول المعسكر الاشتراكي التي انهارت فجأة، وطُلب منها أن تركب القطار السَّريع للالتحاق باقتصاد السُّوق نفسها أمام أمرين: أوّلهما إعادة هيكلة اقتصادها ليتماشى مع قوانين اللِّيبراليَّة الجديدة، أو الرأسمالية المُعَوْلَمَة، وثانيهما إعادة هيكلة البنى الاجتماعية والثَّقافية والسِّياسية، والقيمية بشكل كامل، لأنَّ التَّمكين للعولمة الاقتصادية لا يتحقَّق إلاَّ باستيعاب وتمثُّل قيم السُّوق والخلفيات الفكرية والفلسفية للِّيبرالية المنتصرة التي يراد تعميمها وعولمتها، وهذا ما يفسِّر لنا تلك العولمة الثَّقافية التي واكبت، جنباً إلى جنب، العولمة الاقتصادية يساعدها التَّطوُّر الهائل في وسائل الاتصال عبر الأقمار الصِّناعية التي بدأت توجِّه وترسل طوفاناً من الرسائل الحيَّة بالصُّورة والصَّوت، وتقدِّم ملامح الحياة الغربيَّة وتفاصيلها الحميمية وتروِّج للقيم التي تقف وراء هذا الرَّفاه الاقتصادي الذي تنعم به المجتمعات المتقدِّمة صناعياً، وتدعو، ليل نهار، وبكلِّ ما أوتيت من وسائل تقنيَّة متطوِّرة وأساليب خداع ماكرة إلى تمثُّل هذه القيم واعتناقها والسَّير على هداها، بوصفها:

أوَّلاً: القيم التي ستحقِّق الرَّفاه الاقتصادي وتضمن حقوق الإنسان في باقي بقاع العالم، على غرار ما تحقَّق في العالم الغربي وما سلك سبيله من دول آسيا المتقدِّمة صناعياً. وثانياً: القيم التي تمثِّل، في الحقيقة، نهاية ما توصَّل إليه الإنسان خلال مسيرة تطوّره الطَّويلة، كما عبَّر عن ذلك المفكِّر الأميركي (فوكوياما) في أطروحته حول «نهاية التَّاريخ»، بعد انهزام الفكر الاشتراكي وانتصار النِّظام الرأسمالي وفلسفته الاقتصادية والسِّياسية والاجتماعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 333]


لكنَّ الحقيقة والواقع يكذِّبان هذه الادِّعاءات، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، لأنَّ الاقتصادات الرَّأسمالية في أوروبا وأميركا تضرَّرت هي الأخرى من جرَّاء هذه العولمة الاقتصادية، ولم يتمثَّل حذرها في تقليص الأرباح التي تجنيها المؤسَّسات والشَّركات الصِّناعية والإنتاجية داخل الدُّول العربية، بل على العكس حقَّقت مجموعة من الشَّركات العالميَّة أرباحاً طائلةً من جرَّاء العولمة الاقتصادية، لأنَّها استفادت بشكلٍ كبيرٍ من الأجور الزَّهيدة التي تدفعها لعمَّال الدُّول الفقيرة ومن الضَّرائب المنخفضة التي تؤدِّيها لحكومات هذه الدُّول على نشاطها الاقتصادي، لكنَّ الضَّرر تمثَّل في انخفاض حجم الإيرادات من الضَّرائب لدى الدُّول الصِّناعية الكبرى وضياع فرص العمل لعددٍ كبيرٍ من الأوروبيين والأمريكيين، فارتفعت بذلك معدَّلات البطالة إلى درجاتٍ لم تشهدها هذه الدُّول من قبل.
والنَّتيجة أنَّ العولمة الاقتصادية في طريقها إلى إحداث أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية داخل الدُّول المسؤولة فعلاً عن هذه العولمة، ويظهر هذا في مايقوله مؤلِّفا كتاب (فخ العولمة): «لقد صار جليَّاً الآن استحالة الاستمرار في السَّير على هدى التَّوجُّه السَّائد الآن، فالتَّكيُّف الأعمى مع الضَّرورات التي تفرزها السُّوق العالمية يقود المجتمعات- التي تتمتَّع بالثَّراء الآن- إلى فوضى لا مناصّ منها، إنَّه يقود إلى هدم البنى الاجتماعية، هذه البنى التي تشكِّل سلامتها ضرورة حتميَّة لهذه الدُّول» (2).
وهذا الهدم، أو الاختلال الاجتماعي، لم يعد تنبُّؤاً مستقبليّاً، يحذِّر منه المؤلِّفان، وإنَّما هو حقيقة في طريقها إلى الاستفحال والانفجار، فقد ذكر المؤلِّفان أنَّه «في المدّة الواقعة بين عام 1979 وعام 1995م خسر 43 مليون مواطن فرص عملهم» (3). وهناك عشرات الألوف مهدَّدون بالبطالة في هذه الدُّول.
ومع انخفاض المخصَّصات الحكومية للرِّعاية الاجتماعية وتقليص النَّفقات على قطاعَي الصِّحة والتَّعليم، لم يعد مستقبل الطبقة الوسطى مضموناً كما كان، أمَّا الرَّفاهية فإنَّ الكثير الآن في أوروبا وأمريكا لم يعد يحلم بها (4), و«الفئات الدُّنيا من الطَّبقة المتوسطة تزداد فقراً بخطى وئيدة» (5), أمَّا المستفيد الحقيقي من العولمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)فخ العولمة: الاعتداء على الدِّيمقراطية والرفاهيَّة، هانس بيتر مارتين, وهارالد شومات، سلسلة عالم المعرفة،الكويت، عدد 238، ط‏1، 1998م.
(3)م.ن، ص 220.
(4)من السويد مروراً بالنَّمسا وحتى إسبانيا فإنَّ جوهر المنهج المتَّبع هو واحد، تخفيض الإنفاق الحكومي والأجور والمساعدات الاجتماعية، انظر: فخ العولمة، م. ن، ص 31.

(5)م.ن، ص 304.

[الصفحة - 334]


الاقتصادية فهو ما بدا يُطلق عليه في الغرب مجتمع الـ20%، اي اصحاب رؤوس الأموال ومدراء الشَّركات وكبار المضاربين في أسواق المال والبورصات العالميَّة، فهناك «358 مليارديراً يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه (5 ,2) مليار من سكّان المعمورة، أي أنَّها تضاهي مجموع ما يملكه نصف سكّان العالم» (6). وهؤلاء، ومن يحيط بهم ممَّن هم أقلّ ثراءً، بدأوا ينعزلون اجتماعياً في مناطق سكنية مغلقة، ممنوع على الفقراء الاقتراب منها إلاَّ للضَّرورة،أي للعمل داخل هذه المناطق، أو الجزر المغلقة والمستقلَّة، خدماً في المنازل أو سائقي سيَّارات، وبذلك لم يعد الفقر والبؤس الاقتصادي والاجتماعي حكراً على الغالبيَّة في دول العالم الثَّالث، وإنَّما أصبحت الغالبيَّة داخل دول الرَّفاه الاقتصادي المعروفة مهدَّدة بالتَّهميش والفقر، وهذا ما يؤكِّده (جون غراي) بقوله: «في الولايات المتَّحدة أسهمت الأسواق الحرَّة في انهيار اجتماعي على نطاق لم يُعرف في أي بلدٍ متقدِّمٍ آخر، فالأسر الأمريكية أضعف منها في أي بلد، وفي الوقت نفسه يجري دعم النِّظام الاجتماعي بسياسة قوامها فتح أبواب السُّجون على مصراعيها... وليس هناك بلد صناعي آخر- دعك من روسيا ما بعد الشِّيوعية- يستخدم السِّجن وسيلة للضَّبط الاجتماعي على النِّطاق الموجود في الولايات المتَّحدة، فالأسواق الحرَّة، وخراب الأسر والمجتمعات المحلِّية، واستخدام العقوبات الجنائيَّة ملاذاً أخيراً ضدّ الانهيار الاجتماعي، تتقاطر بعضها في أثر بعض» (7).
وقد بدأ الخبراء الاقتصاديون وعدد من المنظَّمات الحقوقيَّة بدراسة ظواهر الفقر والجريمة التي أخذت في الانتشار والاتِّساع بسرعة العولمة نفسها، وراحوا يحذِّرون من عواقبها الوخيمة، وينذرون قومهم قبل حلول الكارثة!
إنَّ الأزمة الاقتصادية، في الغرب الرأسمالي، لم تعد تخميناً مستقبليّاً أو تنبُّؤاً قد يخطئ أو يصيب، وإنَّما أثبتت الدِّراسات العلميَّة الغربيَّة التي قام بها غير مركز بحث، في أوروبا وأمريكا، أنَّ المجتمعات الغربيَّة في طريقها نحو تحوُّلات ليست في صالح الاستقرار الاجتماعي والسِّياسي، وأنَّ المكاسب الاقتصادية (الرَّفاه) والسِّياسية (الدِّيمقراطية وحقوق الإنسان)، في طريقها للتآكل إن لم تتَّخذ الإجراءات التَّقويمية والإصلاحية العاجلة، وإلاَّ فلا أحد بمقدوره تصوُّر حجم الكارثة التي بدأت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6)م.ن، ص 60.
(7)الفجر الكاذب، أوهام الرأسمالية العالمية، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، القاهرة: مكتبة الشروق، ط‏1، 2000م، ص 10.أمَّا بخصوص السجناء فقد ذكرت بعض التَّقارير الصحفية الغربية أنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية تضمّ أكبر عدد من‏السجناء في العالم،وجاء في تقرير جديد أعدَّته وزارة العدل الأمريكية أنَّه تمّ بناء أكثر من 200 سجن بين عامي 1990و1995م، لاستيعاب سجناء زاد عددهم بمعدل 43% خلال هذه المدَّة، وقد ارتفع عدد السجناء من 715649 إلى‏02/1 مليون. انظر: عالم غريب، قصي الحيدري، ص 158.

[الصفحة - 335]


ملامحها بالتَّشكُّل، وبدأت في الوقت نفسه التَّحرُّكات الاجتماعية ضدَّها، مثل مظاهرات عنيفة ضد أي اجتماع أو مؤتمر اقتصادي، ارتفاع درجة الكراهية للعمال والمهاجرين الأجانب، لأنَّ بعض سياسيِّي اليمين المتطرِّف يحمِّل هؤلاء المهاجرين قسطاً من المسؤوليَّة عن ارتفاع معدَّلات البطالة، خصوصاً في أوروبا. وهذا يؤدِّي إلى أن يتَّجه النَّاخبون إلى دعم الأحزاب اليمينيَّة في محاولةٍ لرأب الصَّدع الذي أحدثته العولمة (8), وإذا ما تسلَّمت هذه الأحزاب اليمينيَّة المتطرِّفة السُّلطة، فإنَّ الخوف من النَّازيَّة والفاشيَّة يصبح له فعلاً ما يسوِّغه. وهذا ما يحذِّر منه المدافعون عن الدِّيمقراطية ويتخوَّفون منه، زد على ذلك ارتفاع معدَّلات الجريمة المنظَّمة بشكلٍ مهول وتحقيقها لأرباح تفوق ميزانيَّات عدد كبير من دول العالم الثَّالث، ما جعل عدداً من المسؤولين الأمنيِّين في أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية يعتقدون باستحالة القضاء عليها، وهي تستفيد بدورها من العولمة الاقتصادية وتشابك الأسواق العالمية، وتطوُّر وسائل الاتصال والمواصلات.
والخلاصة، بالنِّسبة للُّدول الغربيَّة الصِّناعية المتقدِّمة، وكما يقول مؤلفا (فخّ العولمة) هي «أنَّ الرأسمالية تحمِّل الجميع ما لا يطاق... إنَّ هذا ما يودّ المرء أن يقوله بأعلى صوته» (9).
أمَّا في الضَّفَّة الأخرى، ضفَّة دول العالم الثالث، فإنَّ إخفاق الخطط التَّنموية جميعها دفع بالكثيرين للدَّعوة إلى رفض الأنموذج الغربي اللِّيبرالي ونصائح صناديقه المالية، والمطالبة بابتكار سياسات اقتصادية جديدة تنسجم مع المعطيات الموضوعية لهذه الدُّول إلاَّ أنَّ العولمة الاقتصادية جرفت هذه الدَّعوات في طريقها.
والآن، نجد أنَّ الخبراء الغربيين الذين دعوا إلى اقتفاء خطى الأنموذج الغربي قد تخلّوا عن صلاحيَّة هذه الدَّعوى، فهؤلاء لم يعودوا قادرين- حتى في بلدانهم نفسها، في الولايات المتَّحدة الأمريكية وأوروبا- على الوفاء بما تعهَّدوا به، ولم يعودوا قادرين على التَّحكُّم في التَّفاوت الاجتماعي المتزايد... (10).
وهكذا، فقد بدأ الحديث، منذ مدَّة طويلة، عن تفشِّي مظاهر أزمة قيم عميقة تعمّ العالم، بعدما كادت تكتسحه قيم الغرب وثقافاته، على غرار الأمراض المعدية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8)المفارقة العجيبة أنَّ غالبية هؤلاء المهاجرين هم كذلك هاربون من الفقر والجوع في بلدانهم، وهم ساخطون على‏الرأسمالية العالمية التي يتهمونها باستغلال ثروات بلدانهم ونهبها بالتواطؤ مع البورجوازية التجارية المحليَّة والطَّبقة‏ السياسية الحاكمة.
(9)فخ العولمة، م.س، ص 323.
(10)م.ن، ص 69.

[الصفحة - 336]


التي تصدِّرها هذه الحضارة الماديَّة، مثل: الإلحاد، الإيدز، الانتحار، جنون البقر، الحمَّى القلاعيَّة.. وغيرها من الظواهر الوبائية التي شملت عالمي الإنسان والطَّبيعة، لدرجة قد يصبح معها الحديث عن هذه الظَّواهر المرضيَّة ونتائجها المستقبليَّة، في أوروبا والولايات المتَّحدة، بلدان حرِّية البحث العلمي والإعلام، نوعاً من «التابو» الذي يمنع الخوض فيه، أو إعلان نتائج الدِّراسات التي تقوم بها مؤسَّسات ومراكز البحث المختصَّة عنه، لأنَّ ذلك ربما يشكِّل خطورة على الأمن الاجتماعي والسِّياسي، ما يؤدِّي إلى أن يتعامل السِّياسيون مع هذه المعطيات بوصفها أسراراً تمسّ الأمن القومي لبلدانهم!
فمعدَّلات اليأس والإحباط والقلق والتَّوتُّر النَّفسي، المؤديَّة إلى الاكتئاب والانتحار وفقدان الرَّغبة في الحياة، في ارتفاع مستمر، يغذِّيها اختلال التَّوازن الاجتماعي الذي تسبِّبه البطالة أو التَّفكير في المستقبل الغامض. فالإنسان الغربي، الآن، أكثر قلقاً على مستقبله المادِّي من أيّ وقتٍ مضى، وقد ذكرت بعض الاستطلاعات الصَّحفية أنَّ متابعة أخبار البورصات العالميَّة هو أكثر شيء يستحوذ على اهتمام غالبيَّة النَّاس في أوروبا وأميركا، فقسم منهم بسبب دخوله في مضاربات الأسهم رغبة في تحقيق ربح سريع يركن إليه في المستقبل، وقسم آخر لارتباط هذه البورصات بسوق الأجور داخل الشَّركات، فأي خسارة تعني خفض الأجور أو التَّسريح من العمل. وهكذا يجد الإنسان الغربي مستقبله على كفِّ عفريت، تتحكَّم به قيم السُّوق وظلمات المضاربات والقمار، وحركة ارتفاع العملات والأسهم وانخفاضها. أمَّا السِّياسيون فإنَّهم يتفرَّجون، وقد تحوَّلوا إلى ممرِّضين في ساحة حرب ينتظرون سقوط الجرحى والقتلى لنقلهم إلى المستشفيات والبدء بمحاولات علاجهم. لقد قلَّصت العولمة الاقتصادية من نفوذهم وحركتهم في اتِّخاذ القرارات السِّياسية والاقتصادية الحمائيَّة، لأنَّهم خسروا القوَّة الاقتصادية التي كانت بيد الحكومات والتي عن طريقها كان بإمكانهم التَّحكُّم سياسياً في توجيه الاقتصاد واستشعار المخاطر والقدرة على الحدِّ منها.

ليس أمام السِّياسي إزاء الاقتصاد المعولم، إلاَّ مراقبة مؤشر (داو جونز)، أو (وول ستيرت)، ومتابعة أسواق المال في آسيا وأميركا، لأنَّ هؤلاء المضاربين، هناك في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 337]


طوكيو ونيويورك ولندن، بإمكانهم أن يشيعوا الفوضى الاقتصادية في أي بلدٍ خلال دقائق، ومن ثمَّ سيجد السِّياسي نفسه أمام تحدِّيات أفضلها الاستقالة من منصبه أو الانتحار، أو ضرب مصالح من انتخبه بعرض الحائط، وهذا ما يؤكِّده (أدوارد كلودسميت) صاحب مجلة (The Ecologist) , بقوله : >ليست الشَّركات العابرة للقارات مسؤولة إلاَّ أمام مساهميها، فليست إلاَّ آلة لتنميَّة أرباحهم الآنيَّة. غير أنَّها تستطيع إجبار كلّ حكومة، إذا اقتضت الحال، على الدِّفاع عن مصالحها ، ولو كان ذلك ضدّ مصالح الشَّعب الذي انتخب تلك الحكومة» (11).
إنَّ العولمة الاقتصادية في طريقها إلى تأزيم العالم كلّه، وما وقع في المكسيك والبرازيل يمكنه أن يتكرَّر في أي لحظةٍ في غير منطقة معولمة، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدلّ على أنَّ الرأسمالية قد بلغت من التَّطوُّر مرحلة الأزمة الحقيقيَّة، فأصبح انفجارها الدَّاخلي قاب قوسين او أدنى. لقد استطاعت، فعلاً، في الماضي،أن تقف أمام الأعاصير التي اجتاحتها، وذلك عندما عمد أصحابها والمؤمنون بها إلى التَّخفيف من غلوائها بتطعيمها بقيم إنسانية، مثل تحمُّل قسط من الإنفاق على الرِّعاية الاجتماعية، (في التَّعليم والصحَّة وعدد من المرافق الاجتماعية) التي كانت تضمن لفئات واسعة من المجتمعات الغربية عيشاً كريماً إن لم نقل مرفَّهاً إلى حدٍّ كبير، ففرص العمل متوفِّرة بنسب جيدة والأجور محترمة والمرافق الاجتماعية الضَّرورية متوفِّرة وتعمل بكفاءة جيّدة بسبب الدَّعم الحكومي. لكنَّ هذا الزَّمن قد ولَّى إلى غير رجعة، فاستغلال ثروات العالم الثالث لم تعد تكفي لإثراء رأسماليِّي الغرب وشعوبه، بالإضافة إلى تحقيق الكفاية المعيشيَّة لشعوب هذا العالم المُستغَل. وقد ظهر أنَّ المترفين من أغنياء الغرب لم يكونوا يدفعون من جيوبهم لمجتمعاتهم، أو يتقاسمون معها الأرباح بطريقة عادلة، وإنَّما كان العالم الثالث المستغَل، هو الذي يتحمَّل تكاليف الرَّفاه الاقتصادي والاجتماعي في الغرب، لذلك فبمجرد أن خسرت المجتمعات الغربية الرأسمالية عدداً من فرص العمل لصالح دول العالم الثالث حتى اختلَّ توازنها الاجتماعي، وبدأت تئن تحت وطأة البطالة.
والخلاصة التي نتوصَّل إليها، انطلاقاً من عشرات الدِّراسات التي أجريت عن آثار العولمة على الدُّول الصِّناعية، أوَّلاً، هي أنَّ أزمة الرأسماليَّة، أو اللِّيبرالية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11)د. رشيد أبو ثور، العالم الإسلامي والتَّحديات الحضارية، مجلة الكلمة, عدد 22، سنة 1999م، ص 55.

[الصفحة - 338]


الحديثة، كشفت هذه المرَّة عن سوأتها وأمراضها المزمنة، لذلك لن تجدي معها جميع الأصباغ الرَّامية إلى تجميل صورتها القبيحة، أو علاجها بالأدوية المسكِّنة، فمرضها عضال ووباؤها مُعدٍ، وبما أنَّها قد أصبحت رؤية كونية، أو أيديولوجية لها مرتكزات قيمية وثقافية تدعمها وتقف وراء تماسكها وقوَّتها، فإنَّنا نعتقد أنَّ أزمتها هذه قد كشفت عن الأزمة العميقة والكامنة في هذه القيم أو الرُّؤية الكونية، كما أشار إلى ذلك عدد من المفكِّرين والفلاسفة الغربيين قبل غيرهم (12).
لذلك، فالقيم التي يراد لها، الآن، أن تنتشر وتعولم لتصبح قيم العالم، ليست سوى وباء يراد له أن يّعُمّ هذا الكوكب الصَّغير لإيصاله في أسرع وقت ممكن إلى حافَّة الهاوية. فالإنسان الأخير الذي تصنعه الرأسماليَّة وتروج لأنموذجه عبر العالم ليس سوى «حيوان مستهلك» ليس له دين أو قيم متعاليَّة، أو هدف في الحياة يعمل من أجل الوصول إليه سوى الاستهلاك، فالتَّعالي هو الاستهلاك أكثر فأكثر، بحثاً عن لذَّة حسيَّة وهميَّة، وإذا ما تحقَّق له هذا الإشباع وأصيب بالملل وفقدان الشَّهية والرَّغبة في الحياة، ما عليه إلاَّ أن يضع حدّاً لهكذا حياة لا معنى ولا هدف لها، بالانتحار الذي هو حقّ من حقوق الإنسان الغربي، وقد هيأ له التَّطوُّر العلمي بعض الوسائل للتَّخفيف من الألم لجعل انتحاره رحيماً ومن دون ألم. لكن، وقبل أن ينتحر سيكون قد أسهم في تدمير البيئة من حوله وتسبَّب في تدمير عددٍ كبيرٍ من مظاهر الحياة على هذا الكوكب.
إنَّ انتصار الرأسمالية لا يعني، كما يدَّعي بعضهم، «نهاية التَّاريخ»، التي تحدَّث عنها المفكِّر الأميركي (فرنسيس فوكوياما) سنة 1989، بعد انهيار المعسكرالاشتراكي، وإنَّما يعني نهاية ذلك المشروع المسمَّى بكلِّ جرأة وغرور «الحداثة»، فثمَّة تحوُّل تاريخي بأبعاد عالميَّة، لم يعد التَّقدُّم والرَّخاء، بل صار التَّدهور الاقتصادي والتَّدمير البيئي، والانحطاط الثَّقافي. هذه الأمور هي التي تخيِّم بطابعها على الحياة اليومية للغالبيَّة العظمى من البشرية، وهذا ما يقوله مؤلفا كتاب (فخّ العولمة) (13). لذلك على البشريَّة ألاَّ تحاول من جديد تزويد الرأسمالية بأمصال حياة جديدة، لأنَّ ذلك لا يجدي نفعاً، إذ لا يمكن أن نجني من شجرة الزقُّوم سوى مرّ العلقم، وقد قال نبيّ الله عيسى(عليه ‏السلام): «من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12)لقد انهارت التَّجربة الاشتراكية، لكن الانتقادات الكثيرة التي وجِّهت للراسمالية لا تزال صحيحة وقائمة باعتبارها أمراضاً كامنة في جسد الرأسمالية، لم تُعالج بعد، بغض النَّظر عن صحَّة النَّظرية الاشتراكية أو عدم صحَّتها، وهذا مايجعل عدداً من المفكِّرين والفلاسفة الغربيين يكرِّرون هذه الانتقادات ويعدّونهابؤراً متأزمة في الرأسمالية!
(13)فخ العولمة، م.س، ص 70.

[الصفحة - 339]


الشوك عنباً أو من الحسك تيناً، هكذا كلّ شجرةٍ جيدة تصنع ثماراًجيّدة، وأمَّا الشَّجرة الرديَّة فتضع ثماراً رديَّة..» (14).
لذلك لا بدَّ من مراجعة نقديَّة قيميَّة للرَّأسمالية أو اللِّيبرالية، بغية نقض أسسها الفكرية من الدَّاخل، لبيان تهافتها وخطرها على مستقبل الإنسانية، وتوجيه الإنسان المعاصر من جديد إلى القيم الدِّينية المتعاليَّة والمنقذة، التي حدَّدت الأهداف الحقيقيَّة للإنسان في هذه الدُّنيا، ورسمت له طريقاً وسطاً ليسلكه، موازناً بين احتياجات جسده وروحه، من دون إفراط أو تفريط في أي منهما، وأمدَّته بالرؤية الكونية الشّمولية لكيفيَّة التَّعامل مع ذاته ومع غيره من بني نوعه، ومع باقي مظاهر الحياة من حوله من كائناتٍ حيَّةٍ ومن طبيعة بشكل عام.
العلم الغربي والبعد الواحد
1- عقلانيَّة ذرائعيَّة وتقنيَّة
حقَّق العلم الغربي انتصارات مهمَّة على مستوى اكتشاف القوانين الطَّبيعية والاستفادة منها في خدمة التَّمدُّن والتَّقدُّم الإنسانيين، لكنَّ هذا العلم لم يكن بمنأى عن الأزمات التي فجَّرها، داخل كيانه، تطوُّره المستمر واستفادته من اكتشافاته على المستوى التَّطبيقي؛ حيث ظهر ذلك جليّاً في تطوُّر مناهجه العلمية من جهةٍ، وظهور مشكلات جديدة لم تكن موجودة من قبل من جهةٍ أخرى. وهكذا سرعان ما بدأ العلماء يتخلُّون عن الكثير من المفاهيم التي عدّت منطلقات أساسية للعلم، فالوثوقيَّة مثلاً، أو التَّأكيد على أنَّ العلم وعبر مناهجه العقلانيَّة والتَّجريبيَّة، قادر على اكتشاف الحقائق المتعلِّقة بالطَّبيعة والوجود الإنساني، لم تعد حقيقة يمكن الرُّكون إليها والتَّرويج لها بديلاً للمعرفة الدِّينيَّة.
فعلم القرن التاسع عشر، كما يقول د. عبد الوهاب المسيري، كان منطلقاً من إيمانٍ بالسَّببيَّة البسيطة وإمكانية التَّحكُّم في الواقع، وبأنَّ رقعة المجهول تتناقص نتيجة لتزايد رقعة المعلوم. لقد تحطَّمت السَّببيَّة تماماً، ولم يعد أحد يحلم بالتَّحكُّم، بل لم يعد أحد يحلم بإمكانيَّة استيعاب المعرفة المتاحة كلّها، أي أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)من أقوال نبي اللّه عيسى (عليه ‏السلام) في إنجيل متّى.

[الصفحة - 340]


عملية التَّراكم قد وصلت إلى درجة أصبح من المستحيل معها على عقل الإنسان استيعابها. وهذا يعني، في ما يعني، أنَّ الإنسان أدرك حدوده من خلال انتصاراته، كما أنَّ وهم تناقص المجهول، وتزايد المعلوم سقط تماماً، فالمعلوم يتزايد، ولكن بتزايده يتزايد المجهول وهذه مفارقة أخرى، وقد تجلَّى هذا في المفاهيم والفرضيَّات والنَّظريَّات، بل والقوانين العلمية الحديثة، وتحوَّلت العلوم الطَّبيعية إلى علوم إجرائية تطمح إلى تفسير بعض جوانب الظَّاهرة لا جميع جوانبها (15).
وبشكلٍ عام، حلَّت النِّسبيَّة محل الحقائق المطلقة أو النَّهائية، فكلّ اكتشاف جديد يقلب موازين العلم رأساً على عقب. أمَّا على المستوى المنهجي، فهناك أزمة حقيقية، خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، التي تأثَّرت بالاتجاهات الوضعية التي كان لديها طموح للوصول إلى تحقيق العلميَّة والعقلانيَّة في هذه العلوم على غرار العلوم الطبيعيَّة. لكنَّ النَّتائج كانت محبطة بالرّغم من تحقيق بعض التَّقدُّم والتَّوصُّل إلى عدد من الحقائق والنَّظريَّات العلمية المفيدة في هذه المجالات، لكنَّ كثرة النَّظريَّات والتَّفسيرات المتناقضة واعتماد المعطيات الموضوعيَّة والذَّاتية والخصوصيَّات الزَّمكانيَّة والحضارية يجعل من نتائج هذه العلوم محطّ خلاف دائم داخل المدرسة أو الاتجاه الواحد. وهذا ما يضفي ظلالاً من الشَّك حول علميَّتها، ومن ثمَّ عالميَّتها أو اتِّصافها بالحقيقة المطلقة. وقد دفع هذا الوضع المعرفي المتأزم الكثيرين في الغرب إلى المطالبة بمراجعاتٍ جديدةٍ لمناهج هذه العلوم.
إنَّ الأزمة التي يتخبَّط فيها العلم الغربي يقف وراءها المفهوم الذي تبنَّتْه الحداثة الغربية للعقل، فالعقل، في هذه الحداثة، «أداتي» والمعرفة الحداثيَّة معرفة تقنيَّة،بمعنى أنَّها إضفاء للطابع التَّقني على العلم، لكنَّها في الوقت نفسه، ومن حيث هي إضفاء للطَّابع العلمي على العلوم الإنسانية والاجتماعية على وجه الخصوص،إضفاء للطَّابع التَّقني على الثَّقافة كلّها. في هذا السِّياق تصبح أشكال المعرفة غير المنطبعة بالطَّابع العلمي التَّقني، أشكالاً دُنيا من المعرفة، ومن هنا تصدر الهجومات المختلفة، ذات النفس الوضعي التَّقني، كما يقول د. محمد سبيلا، على الفلسفة مثلاً بوصفها معرفة متجاوزة، فالمعرفة الحقَّة هي المعرفة العمليَّة الاختباريَّة لا النَّظرية التَّأمليَّة.. (16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15)الفكر الغربي، مشروع رؤية نقديَّة، مجلة إسلامية المعرفة، السنة 2، عدد 5 ,يوليو 1996م، ص 135.
(16)التحولات الفكرية الكبرى للحداثة، مجلة فكر ونقد، عدد 2,السنة الأولى، اكتوبر 1997م، ص 37.

[الصفحة - 341]


لقد استبعد العقل التَّقني المصادر الأخرى للمعرفة، وخلع عنها طابع العلمية، فطالها التَّهميش في الوقت الذي لم يتمكَّن هذا العقل التَّقني من تقديم معرفة علمية لعدد من الظَّواهر الطَّبيعية والإنسانية، واكتفى بالرَّفض فقط. مثلاً، لماذا يُصنع، أو يُهمَّش، التَّفكير في علل الظَّواهر الطَّبيعية والحياتية المختلفة وغاياتها ؟! لماذا لايحقّ للعالِم أن يفكِّر في تفسير علل الأنظمة الكونية التي تحكم الموجودات أو أن يتساءل عنها، وهي غاية في الدِّقَّة والنِّظام بحيث لا يمكن بتاتاً أن نتحدَّث عن مصادفةٍ أو عبثٍ، أو مجرَّد تطوُّر أعمى لا تقف وراءه غاية أو هدف، أو قوَّة وقدرة خالقة ومدبِّرة وموجِّهة، لماذا لا يتمّ البحث عن الحقائق الكبرى في الكون واكتشاف الغايات والعلل، ومن ثمَّ البحث في الأبعاد الأخرى غير الماديَّة للظَّواهر الكونية ؟
إنَّ الحجَّة التي يروِّج لها الوضعيون هي أنَّ البشريَّة لم تحقِّق شيئاً من وراء طرح هذه الأسئلة، وقد أضاع العقل الإنساني قروناً من التَّفكير في العلل والغايات من دون أن يتوصَّل إلى معرفة علميَّة عقلانيَّة في هذه المجالات، وحتّى إذا افترضنا أنَّ هذه الحجَّة لها نسبة من الصحَّة، فهل من المنطق أن نمنع العقل الإنساني من التَّفكير في هذه المواضيع ؟ هل من العقلانيَّة أن نمنع العقل الإنساني من التَّساؤل عن كينونته والهدف من وجوده فوق هذا الكوكب، وحول الغاية والهدف من وجود هذه الكائنات، وهذا النِّظام الكوني الفريد في إبداعه وقوانينه.
إنَّ أزمة العقل التَّقني تكمن في اكتفائه بوصف الظَّواهر وتحويلها إلى كميَّات حسابيَّة وأرقام لإنتاج «معرفة حسابيَّة وكميَّة وأداتيَّة همَّها النَّجاعة والفعاليَّة، وغايتها السَّيطرة الدَّاخلية والخارجية على الإنسان وعلى الطَّبيعة» (17).
إنَّه الهدف الذي نادى به (فرانسيس بيكون) عندما أعلن أنَّه «يتوجَّب على العلم أن يتخلَّى عن حلم اكتشاف الحقيقة، ويتوجَّه لاكتشاف السُّلطة والفوز بها» (18). لقد تخلَّى العلم الغربي عن الحقيقة، ورفض البحث عنها، وركَّز اهتمامه على السُّلطة، أي السَّيطرة على الطَّبيعة والإنسان، وهذه الأهداف هي التي جعلت الإنسان، كما يقول (محسن الميلي) في كتابه (العلمانيَّة أو فلسفة موت الإنسان): «في ما يُسمَّى بعلوم الإنسان في الغرب مجرَّد ذرَّة اجتماعية، وليس حقيقة متعاليَّة متفرِّدة بخصوصيَّات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17)م.ن، ص 36.
(18)د. علي شريعتي، الإنسان والإسلام، دار الرَّوضة، بيروت، ط‏1، 1992م، ص 163.

[الصفحة - 342]


أخلاقية، فليس للإنسان طبيعة وإنَّما له تاريخ (19)من التَّطوُّر والارتقاء إلى أن وصل إلى ما وصل إليه الآن كغيره من باقي الكائنات الحيَّة في الطَّبيعة. إنَّ البحث عن السُّلطة شعاراً للعلم الغربي بدل البحث عن الحقيقة، هو الذي يفسِّر لنا عمق الأزمة الوجوديَّة التي يتخبَّط فيها الإنسان الغربي،الذي يغادر موطن الحداثة والعلم والعقلانية والتَّقدُّم التَّقني، ليجلس بين يدي زعيمٍ روحي أو ديني في أدغال آسيا أو إفريقيا يأخذ عنه الحكمة وبعض حقائق الوجود بعيداً عن أيَّة عقلانيَّة أو حداثة أو علميَّة (20).
لقد تحدَّث العلم، في الغرب، عن تهافت العقيدة المسيحية وعدم انسجامها مع العقل وحقائق العلم، فرفض كلّ معرفة دينيَّة، قياساً على ذلك، وهذا خطأ فادح وقصور معرفي كبير، يجد مسوِّغه في ردة الفعل العنيفة وغير العقلانيَّة تجاه الدِّين بشكل عام. وهذا الخطأ نجده يتكرَّر عندنا في العالمين: العربي والإسلامي، فالفئات العلمانية المتعلِّمة في أوروبا أو الولايات المتَّحدة الأمريكية، والتي لا تعرف عن قيم الإسلام شيئاً سوى أنَّه مجموعة من التَّقاليد الاجتماعية والأسرية البالية التي تربَّت عليها، تقف من الإسلام موقف الغربيين من الدِّين المسيحي، فتقع في الخطأ نفسه، وتنقل الأزمة الوجودية إلى العالمين العربي والإسلامي من دون أن يكون هناك مسوِّغ عقلاني أو واقعي لذلك.
إنَّ الرؤية الكونية التي يقدِّمها العلم والعقل التَّقني للإنسان الغربي، ليست أقلّ تهافتاً من الرؤية الدِّينيَّة التي تمَّ رفضها. وهنا يمكن الحديث عن الرؤية الكونية الإسلامية المغايرة، والتي تنطلق من عقيدة إيمانيَّة توحيديَّة، تتجلَّى في عالمَي الغيب والشَّهادة، وتؤكِّد عظمة الخالق وقدرته وإرادته وإبداعه، وخضوع الكون لتدبيره. وقد اقتضت حكمته، سبحانه وتعالى، أن يجعل هذا الإنسان مخلوقاً متميِّزاً في خلقه المادِّي ونفحته الرُّوحية التي أكسبته إنسانيَّته، فهو والكون معه مخلوقان لغايات محدَّدة بعيدة عن المصادفة أو العبث، يقول تعالى: {أفحسبتُمْ أنَّما خلقناكُمْ عبثاً وأنَّكُمْ إلينا لا تَرجِعون } (21). لقد خُلق الكون لخدمة الإنسان وباقي الكائنات الحيَّة، وخُلق الإنسان للمعرفة المؤدِّية لتحقيق العبودية والعبادة، وأمدَّه خالقه بالوسائل المؤدِّية والمساعدة على هذه المعرفة أي العقل والوحي، يقول عزَّ من قائل: {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبدوُن } (22).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19)محمد محفوظ، النِّظام التربوي الغربي/ قراءة نقدية، مجلة الكلمة، عدد 16، سنة 1997م، ص 66.
(20)في أمريكا وأوروبا هناك إقبال على اعتناق المذاهب الآسيوية الروحية خصوصاً، لذلك انتشرت المعابد البوذية ‏هناك وروادها في ازدياد.
(21) سورة المؤمنون، الآية: 115 .
(22) سورة الذاريات، الآية: 56 .

[الصفحة - 343]


إنَّ الإيمان بالله، سبحانه وتعالى، وقاعدة التَّوحيد يؤسِّسان في الرؤية الكونية الإسلامية لوحدةٍ تنتظم فيها الحياة بأشكالها وأبعادها المعرفيَّة والقيميَّة جميعها،هذه الوحدة التي تتجلَّى كذلك في وحدة الحقيقة المطلقة؛ حيث يقوم العقل بوظيفة المهيِّئ لها في عالم الشَّهادة. فموضوعه الوجود الكوني المادِّي بأكمله بالإضافة إلى الوجود البشري المحكوم بالسُّنن والقوانين الإلهية، يبعثه ويكتشف قوانينه ويستفيد من معطياتها، وصولاً إلى الحقائق الكونيَّة الكبرى، التي يدعمها الوحي مصدر المعرفة «بوصفه موجوداً موضوعيّاً خارج الذَّات الإنسانية، وقابلاً ليكون مرجعيَّة يعتمد عليها الإنسان في أحكامه؛ حيث يصل إلى الحق في الإلوهية والنُّبوَّة والوحي... » (23), كما تبرز أهميَّة الوحي الإلهي في قدرته على الإجابة عن التَّساؤلات الكبرى التي يترنَّح العقل الإنساني، المحكوم بالزَّمان والمكان، في الوصول إلى إجابات حاسمة فيها خلال تطوُّره الطَّويل. هذا من دون أن يلغي الوحي العقل البشري، لأنَّ موضوع هذا الأخير يظلّ دائماً مفتوحاً وقابلاً للبحث والتَّنقيب واكتشاف الجديد.
فالعقل والوحي معاً مصدران رئيسيَّان للمعرفة في الرؤية الإسلامية الشَّاملة، أمَّا الحديث عن تناقض في النتائج التي قد يصل إليها كلّ واحد منهما على حدة ، فإنَّ ذلك مردَّه في الغالب إلى اختلاف الوسائل المؤدِّية إلى معرفة الحقائق أو التَّقصير في الإحاطة المتكاملة بموضوع الحقيقة أو إلى أسبابٍ منهجيَّة أخرى، لأنَّ الحقيقة تظلّ واحدة يفرضها منطق الوحدة والتَّوحيد الإلهي، وليس هناك خلاف بين ما يتوصَّل إليه العقل وبين ما يأتي به الوحي، إنَّما هناك خلاف بين الخطأ والصَّواب، سواء عند البحث أو عند التَّفسير أو التَّأويل. وهذه الفكرة تظهر جليَّة عندما نراجع تاريخ العلم البشري واكتشافاته المستمرة، فالأخطاء أو الأغلاط التي قد تعدّ حقائق تدفع بنا إلى القول بوجود تناقض واختلاف بين حقائق الوحي والعقل، سرعان ما تفضحها الحقائق الجديدة وتنسف بناءاتها الأوَّليَّة، ومعها اعتقاداتنا الخاطئة، وهكذا دواليك في حركةٍ تصاعديةٍ نحو تحصيل المزيد من المعرفة واكتشاف الحقائق.
على أنَّ وحدة الحقيقة لا يكتمل طرحها إلاَّ إذا أضفنا لها وحدة القيم، من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23)محمد دكير، الإسلام والغرب/ قراءة في الأسس المعرفيَّة والفلسفية ومستقبل العلاقة، مجلة الكلمة، عدد15، سنة‏1997م، ص131و132.

[الصفحة - 344]


حيث مصدرها، ومن حيث تطبيقها والالتزام بها، وما ينجم عن ذلك سلباً أو إيجاباً تبعاً لدرجة هذا الالتزام، أو التَّحرُّر من هذه القيم، سواء أكانت قيماً معرفية أم سلوكيَّة. فالحقّ والعدالة في الحياة الإنسانية وغيرهما من القيم لا يمكن فصلهما عن قاعدة التَّوحيد الشَّاملة وربطهما بنسبيَّةٍ زمكانيَّةٍ!إنَّ المتتبِّع لتطوُّر العلم وسيرورته خلال الخمسة قرون الماضية يكتشف حقيقة رهيبة وجَّهت حياة الإنسان الغربي، وتحكَّمت به، وجعلته لا يقف عند اكتشافٍ ما أو إنجاز ما بوصفه حقيقة مطلقة؛ وذلك لأنَّ فلسفة التَّطوُّر التي أصبحت عقيدة علمية، سرعان ما سادت مناحي الحياة الغربية جميعها، فلا حقيقة مطلقة، وإنَّما تطوُّر دائم واكتشاف مستمر تتراكم فيه النَّظريات والحقائق النِّسبية إلى ما لا نهاية! وهذا الوضع نجم عن هالةٍ من الضَّياع والتَّيه الوجداني والرُّوحي لدى الإنسان الغربي، وكانت النَّتائج سلبية، بل مدمِّرة، فالإنسان في الغرب فقد استقراره الدَّاخلي، ما جعله ينشد هروباً أو استقراراً وهميّاً في المخدِّرات والمسكِّنات، أو الانغماس في العمل والبحث في الطَّبيعة وجمع الثَّروة، ما أوصله إلى الاستلاب والاغتراب عن نفسه، وهذا ما يفسِّر لنا انتشار ظواهر الانتحار والاكتئاب وعدد من الأمراض النَّفسية المستعصيَّة داخل المجتمعات الغربيَّة. بالإضافة إلى أنَّ التَّقدُّم العلمي، رغم إنجازاته، ظلَّ يحبو ويتخبَّط في النَّظريَّات النِّسبيَّة والمفرطة في التَّناقض والاختلاف على مستوى العلوم الإنسانية وعالم الإنسان الروحي الذي لم يتمكَّن العلم- الذي قدَّم نفسه بديلاً من الدِّين وحقائقه- من نفيه او إثباته بالطّرق والمناهج التَّجريبيَّة التي اعتمدها أداة وحيدة ونهائيَّة لمعرفة حقائق الإنسان والطَّبيعة لدرجة «مسخ المنفعلون به- أي المنهج التَّجريبي- الوجود إلى طبيعة محسوسة فحسب ممَّا أخفق إلى درجة التَّجاهل اعتبار ما وراء الطَّبيعة من غيبيَّات وقيم» (24).
2- العقلانيَّة التَّقنيَّة: تدمير الطبيعة بعد القضاء على الإنسان
إنَّ التَّقدُّم العلمي وسيطرة العقلانيَّة الذَّرائعية التَّقنية، المتحرِّرة من قيم الدِّين المتعالية، والتي لا هدف لها سوى استغلال الطَّبيعة والاستهلاك الجنوني لثرواتها، أوشك أن يدمِّر الطَّبيعة، فمعدَّلات التَّلوُّث بلغت حدّاً ينذر بالكارثة ويهدِّد حياة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24)م.ن، ص132و133.

[الصفحة - 345]


الكائنات جميعها على وجه هذا الكوكب، وقد تراكمت في أرجائه النِّفايات النَّووية والكيماوية، وارتفعت درجة الحرارة فيه لكثرة الغازات المنبعثة في الجوّ، ما يهدِّد بحدوث عواصف وفيضانات مدمِّرة، علاوة على انتشار موجات الجفاف في عدد من المناطق (25). كما أصيب تركيب الهواء بالخلل الشَّديد، فالمصانع ووسائل المواصلات المختلفة تدفع إلى الفضاء كميَّات هائلة من أوكسيدات الفحم والكبريت وغيرها، إلى الحدِّ الذي ادَّى إلى تمزيق الغلاف الأوزوني حول الأرض، وأخذ يعرِّضها للأشعة ما وراء البنفسجية الضَّارَّة (26). وقد ضاعفت قيم الاستهلاك المعولمة وعقلنة وسائل الإنتاج الكثيفة، نهش الأرض.. وقريباً سنجد أنفسنا أمام أرض منهكة مقشوطة، صلعاء مجرَّدة من غطائها النَّباتي، بل ومن الأحياء الدَّقيقة التي تعيش عليها، حيث ترى دراسة معاصرة أنَّ كلّ انقراض لنوعٍ حي إنَّما يقلِّص الحياة البشرية (27).
إنَّ هذا التَّدمير المكثَّف والحثيث للطبيعة سبَّبه الإيمان بقيم الاستهلاك وانتشارها على نطاق عالمي. هذا الاستهلاك المرتبط أساساً بالرؤية الكونية الغربية، التي لاتؤمن بالآخرة أو هدفيَّة الحياة، لذلك فليس أمام الإنسان، هذا «الحيوان المستهلك»، إلاَّ الجري وراء تحقيق أكبر قدر من اللَّذة، ومن ثمَّ يصبح الاستهلاك هدفاً رئيسيّاً للحياة يتطلَّب مزيداً من الإنتاج واستنزاف الثَّروات الطَّبيعيَّة من دون مللٍ أو كللٍ. وهذا ما تؤكِّده الدِّراسات الإحصائيَّة حول حجم ما تستهلكه البلدان الرأسمالية المصنَّعة، أو 20% من دول العالم التي تستحوذ على 85% من الاستهلاك العالمي للخشب وعلى 75% من الحديد والصُّلب وعلى 70% من الطَّاقة (28).
لقد استطاعت حضارة الاستهلاك هذه أن تجعل الكثير من البضائع الكماليَّة ضرورية بفضل وسائل الدّعاية الماكرة التي يصرف العالم الغربي عليها ما يقارب 250 مليار دولار (29). وأصبح النَّاس يتعرَّفون إلى أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سياراتهم وأجهزتهم التَّلفزيونية دقيقة الاستقبال، وفي بيوتهم الأنيقة وأدوات طبخهم الحديثة، وهذا الاستهلاك المتصاعد ليس دليل رخاء بل دليل بؤس، لأنَّه كما يرى (يونيفر) متَّصل مباشرة بالخشية والحرص،بالحاجة والكدح والتَّقنين (30). وبذلك بلغ الإنسان الغربي المعاصر أقصى درجات الاستلاب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25)فخ العولمة، م.س، ص 320.
(26)د. محمد طي ، الإسلام وقوانين البيئة، مجلة المنهاج، عدد12، سنة‏3 ,شتاء 1998م، ص 128.
(27)د. تركي علي الربيعو، مدخل لدراسة أزمة النَّمط الحضاري المهيمن، التقدُّم التَّكنولوجي على الطَّريق المسدود ، مجلة منبر الحوار، عدد 30، خريف 1993م، ص 30.
(28)فخ العولمة، م.س، ص 70.
(29)م.س، ص 46.
(30)تركي علي الربيعو، م.س، ص 36.

[الصفحة - 346]


والاغتراب والضًّياع، وهذا ما تريد العولمة الثَّقافية تسويقه ونشره عبر الفضائيَّات والسِّينما ووسائل الدِّعاية والإعلان.
لقد اتَّضح، على نحوٍ متزايد، أنَّ أزمة الخواء الوجودي واليأس- مثلما صُوِّرت في روايات (كافكا) ومسرحيَّات (سارتر)- لا تدلّ! على علاقة بين اناس من مختلف الطَّبقات الاجتماعية فقط، ولكنَّها عبارة عن مرض متأصِّل داخل الإنسان الغربي. وفي مجتمع معقَّد تتحكَّم به قوى السُّوق، تطغى على شخصية الفرد قيمة مايملك من سيولة نقدية، كأنَّه ليس أكثر من سلعة، لا شعور له ولا نفس ولا ذاتية فريدة ولا كرامة شخصية (31). وبعبارةٍ موجزة: لقد أدَّت الرُّؤية الماديَّة والإلحادية التي حلَّت في الغرب محلّ الرُّؤية الدِّينية الكنسيَّة، وأصبحت الخلفية الفكرية والفلسفية للنُّظم السِّياسية والاقتصادية والثَّقافية، إلى تدمير البيئة والإنسان معاً. وهكذا، وبعد مرور قرون على انتصار هذه الرُّؤية الماديَّة نرى، كما يقول د. علي شريعتي، أنَّ جميع الفلسفات والمدارس والفنون في القرن العشرين وصلت إلى لا شيء، إلى التَّفاهة، والرُّوح السَّائدة الآن هي روح التَّفاهة، روح القشور (32). ما دامت الحياة في الرُّؤية الماديَّة للكون هي كذلك تافهة ولا معنى لها (33).
الرُّؤية الإسلاميَّة
أمَّا الرُّؤية الإسلاميَّة فهي على العكس تماماً، كما قلنا سابقاً، لأنَّ الإنسان فيها لم توجده المصادفة، وإنَّما خلقته الإرادة الإلهيَّة وجعلت منه خليفة لله في الأرض، وأمدَّته بالعقل والوحي ليصل إلى كماله الرُّوحي والجسدي والمعرفي عبر العلم بحقيقة وجوده وقدراته ومآله الأخير. لذلك فالاستهلاك ليس هدفاً، وإن كان بإمكانه أن يتنعَّم بخيرات الكون التي وُجدت ليتنعَّم بها، لكن من دون إسراف أو تبذير، يقول تعالى: {وَكلُوا واشرَبوُا ولا تُسرفوا إنَّه لا يُحبُّ المُسرفين } (34).
إنَّ الرؤية الغربية الماديَّة لم تحدِّد للإنسان كمالاً معيَّناً يعمل كادحاً للوصول إليه، وإن كانت اللِّيبرالية قد عدَّت تحقيق الحرِّية الفردية من أهم الأهداف، لكنَّ هذه الحرِّية الفردية التي لا تعرف ضوابط أو حدود هي جذر الأزمة الاقتصادية والأخلاقية الآن في الغرب، لأنَّ المفهوم المغلوط للحرِّية المبني على نسبيَّة الأخلاق وتطوُّرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31)جوزيف أ. كاميللي، أزمة الحضارة، ترجمة فؤاد الخوري، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط‏1، 1983م، ص 27.
(32)د. علي شريعتي، م.س، ص 35.
(33)م.ن، ص 36.
(34) سورة الأعراف، الآية: 31 .

[الصفحة - 347]


هو الذي يجعل الشّذوذ الجنسي، مثلاً، الذي كان إلى وقتٍ قريبٍ في أوروبا عملاً لا إخلاقيّاً مُستقبَحاً ولا عقلانيّاً، يصبح فعلاً مشروعاً وحقّاً من الحقوق الإنسانية المعترف بها قانوناً؛ بحيث لا يجد وزير أوروبي أي حرج في الاعتراف أمام شاشة التّلفزيون بأنَّه شاذ جنسيّاً وأنَّه يرغب في الزَّواج من رجلٍ آخر ؟! هذه الحرِّية الجنسيَّة هي التي هدمت نظام الأسرة في الغرب، وارتفعت بذلك معدّلات الإصابة بوباء الإيدز، واستهلاك المخدِّرات، فقد أكدَّت الإحصائيَّات أنَّ «حجم المبيعات في السُّوق العالميَّة للهيرويين، حتّى عام 1990م، قد ارتفع إلى عشرين ضعفاً خلال العشرين سنة الماضية، أما المتاجرة بالكوكايين فقد ارتفعت إلى خمسين ضعفاً (35). وهذا ما دفع بعض الدُّول الأوروبية، وأمام تزايد الطَّلب على المخدِّرات، إلى إعادة النَّظر في تجريم تناول المخدِّرات، في محاولةٍ لإصدار تشريعاتٍ جديدةٍ تبيح بيعها وشراءها بطرق قانونية. بالإضافة إلى ارتفاع معدّلات إنتاج المواد الكحولية المشروعة أصلاً واستهلاكها.
أمَّا الرؤية الإسلامية فإنَّ هدفيَّة الخلق تحرِّم أي انحراف إنساني نحو الشّذوذ الجنسي، أو تعاطي المخدِّرات والكحول، لأنَّ الكمال الإنساني لا يتحقَّق إلاَّ بالحفاظ على الجسد وملكاته وقدراته جميعها، سليمة تعمل وفق نظام الخلق العام الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى.
الحلّ: عولمة القيم الدِّينيَّة والإنسانيَّة المتعالية
لقد كشفت عولمة اللِّيبرالية الاقتصادية عن أزمة هذا النِّظام الاقتصادي الذي يؤمن بحرِّية السُّوق والمنافسة والمضاربة والصِّراع من أجل ربح أكبر، والدَّليل حجم الكارثة التي ألحقها بهذا المجال على المستوى العالمي، بل وعلى المستوى الأوروبي والأميركي أيضاً، كما ذكرنا من قبل، من هنا بدأت الدَّعوات لإعادة النَّظر في هذا النِّظام الاقتصادي المأزوم، وهذا ما يسوِّغ لنا، في الجانب الإسلامي، حجم الكتابات الإسلامية الكثيرة عن الاقتصاد الإسلامي ومزاياه وخصوصيته ووسطيته بين النِّظامين المأزومين الرأسمالي والاشتراكي، وقد انطلقت بعض التَّجارب لوضع النَّظريات الاقتصادية الإسلامية موضع التَّطبيق رغم التَّحديات والمضايقات الكثيرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 348]


فقد بدأت المصارف الإسلامية بالعمل في غير بلد، وبدأت الأنظار تتوجَّه إليها لدراسة طرق عملها، وهل بإمكانها فعلاً أن تحلّ محل المصارف الرأسمالية الربويَّة. وبالتَّالي فخيار التَّنمية الاقتصادية يمكنه أن يسلك هذا الطَّريق الجديد.
لكنَّ تطبيق النِّظام الاقتصادي الإسلامي لن يُكتب له النَّجاح المطلوب، بمفرده، أي بمعزلٍ عن باقي المنظومة القيميَّة والتَّشريعية الإسلامية، لأنَّ النِّظام الاقتصادي جزء من رؤيةٍ كليَّةٍ للإنسان ووجوده. وقد مرَّ بنا كيف أنَّ الأزمة في الحضارة الغربية أزمة شاملة وجوديَّة وقيميَّة وأخلاقيَّة، بالإضافة إلى الأزمة التي تطول الاقتصاد والسِّياسة والاجتماع والتَّربية إلخ.. لذلك لا يمكن الحديث عن الحلول الاقتصادية فقط وإهمال المجالات الأخرى، فالاستهلاك بوصفه قيمة ليبراليَّة له خلفية فكرية إلحادية لا ترى للإنسان من هدف في الحياة سوى إشباع الرَّغبات والشَّهوات وتلبية المنافع الخاصَّة، وبالتَّالي فليس أمام الإنسان إلاَّ الجري وراء تحصيل شهواته ورغباته، وإن كان ذلك على حساب تدمير الطَّبيعة واستغلال بني جنسه أو تجويعهم. أمَّا الرُّؤية الإسلامية فتضع الاستهلاك في موضعه الحقيقي، أي في سدِّ الحاجة الإنسانية، ومن دون أن يكون ذلك هدفاً أساسياً، وإنَّما حاجة وضرورة في طريق الهدف، لذلك حرَّم الإسلام التَّبذير والتَّرف والاستهلاك أكثر من الحاجة، وهذه سُنَّة كونية نلاحظها في عالم الحيوان مثلاً؛ حيث نرى كيف أنَّ الحيوان المفترس يصطاد لتلبية حاجته، وعندما يشبع لا يعتدي على باقي الحيوانات.
كما حرَّم الإسلام الاحتكار، أو ما تقوم به الرأسمالية العالميَّة التي ترمي آلاف الأطنان من المواد الغذائية الصَّالحة في البحر أو تحرقها للحفاظ على معدَّل الأسعار أو رفعه، في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من الأطفال والنِّساء والرِّجال جوعاً في إفريقيا وآسيا وغيرهما من بقاع العالم. يعدّ هذا العمل، في نظر الإسلام، فساداً لا يمكن أن يكون له أي مسوِّغ عقلاني أو ذرائعي، بل إنَّ الإسلام لا يعدّ الإنسان مؤمناً إذا بات شبعاناً وجاره جائع.
كذلك لا يمكن الحديث عن مخاطر الاستهلاك كما تروِّج له اللِّيبرالية المعولمة وقيمها، من دون توجيه النَّقد إلى مفهوم العلم وهدفه وغايته، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، لأنَّ العلم عندما يكون هدفه السَّيطرة والاستغلال بغية الرِّبح، فإنَّ القوَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 349]


تتمثَّل عندئذٍ في تحقيق أكبر قدر من الرِّبح، وبذلك فليس هناك من طريق سوى المزيد من الإنتاج لمزيد من التَّسويق والاستهلاك. وهكذا دواليك إلى أن تقع الكارثة، أي نضوب الثَّروات الطَّبيعية وتدمير التَّوازن البيئي، وبالتَّالي تهديد مستقبل الأجيال البشرية القادمة، بل مستقبل جميع الكائنات الحيَّة على وجه الأرض. من هنا فعولمة قيم اللِّيبرالية مثل الاستهلاك، المنافسة، الحرِّية من دون قيود،الصِّراع والبقاء للأقوى والأغنى، الطَّبقيَّة واللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، تحرُّر العلم من الأخلاق وعدم مراعاته للقيم المتعالية، ذلك كلُّه يعني نشر الأزمة على نطاق عالمي، ومن ثمَّ فالكارثة ستكون عالميَّة كذلك. لا بدَّ إذاً من إعادة النَّظر في هذه القيم، وقد تبيَّن إفلاسها وانحطاطها، والعمل على اكتشاف القيم الدِّينيَّة والإنسانية المتعالية وتعميمها. القيم التي تُعيد للإنسان توازنه الجسدي والرُّوحي، وتوجِّه العلم والعقلانيَّة التَّقنيَّة باتِّجاه الأعماق والعلل والغايات لأنَّها أبعاد أساسيَّة في الوجود، بدل الاقتصار على الظَّواهر والمحسوسات فقط. والنَّظر إلى الطَّبيعة نظرة تكامليَّة بدل العدائيَّة والاستغلاليَّة.
وهاهنا، كذلك، يمكن للإسلام أن يؤدِّي دوره المغيَّب، فقيمه الإنسانية والعالميَّة يمكن إذا ما أُتيحت لها الفرصة للانتشار من دون انحراف أو إفراط أو تفريط أن تنسخ قيم اللِّيبرالية التي جعلت العالم يشارف حافَّة الانهيار والهاوية وأن تُعيد للعالم توازنه وللإنسانية الأمل في المستقبل.
وإذا كان انتشار الإسلام في العالم يسير بخطى حثيثة، كما تؤكِّد الدِّراسات الإحصائيَّة في أوروبا وأمريكا، فإنَّ ذلك لا يحدث بفضل «تأييده المطلق للمقهورين والمظلومين» فقط، كما يقول الخبير الأمريكي في شؤون العالم الثَّالث روبرت د. كابلان (36), فهذا جانب من جوانب الإسلام فقط، لأنَّه دين العدل والمساواة، فكلّنا من آدم وآدم من تراب وأكرمنا عند الله أتقانا، وقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون للبشريَّة جمعاء، ولم يجعل ثرواته حكراً على 20% فقط من النَّاس، زِدْ على ذلك عقيدته التَّوحيديَّة القويَّة والمتماسكة، وشريعته الصَّالحة لكلِّ مكان وزمان، وهذا ما يُكتشف يوماً بعد يوم، رغم الحرب المعلنة عليه وعلى جغرافيَّته وعلى المؤمنين به لصرفهم عنه وتوجيههم نحو عقائد وأيديولوجيات متهافتة ومتهالكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 350]


لكن البقاء ليس للأقوى ولكن للأفضل وللحقّ، وقيم الإسلام ليست نظريَّات أو فرضيَّات ينقض بعضها بعضاً، وإنَّما حقائق مُنزلة من لدن عليمٍ حكيمٍ، يدعمها ويؤيِّدها العقل السليم، وإذا كانت هذه القيم تتعرَّض الآن لتحدِّيات العولمة الغربية وقيمها الماديَّة، فإنَّ أمامها كذلك فرصاً كثيرة للانتشار والعالميَّة والانتصار على قيم العولمة اللِّيبرالية، إذا ما استطاع الفكر الإسلامي أن يستفيد من ثورة المعلومات وتطوُّر وسائل الاتِّصال المختلفة، واستخدامها في الدَّعوة والتَّبليغ، وتقديم الأنموذج والمثال الذي تطمح إليه البشرية وتنتظره للاقتداء به. وتفعيل العقل الإسلامي للانخراط في علاج المشكلات التي تتخبَّط فيها البشرية، وتقديم رؤية جديدة، وحلول تنطلق من قيم الإسلام (عقيدةً وشريعةً).

أمَّا إذا أخفق الفكر الإسلامي والقائمون عليه في ذلك، فإنَّ الجهود الكبيرة التي تُبذل الآن ليتَّخذ العالم صورةً واحدةً وشكلاً واحداً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ستكون في المجال الثَّقافي، كما يتنبأ ابن نيويورك الفنان (كورت رويسون)، سيادة الصّراخ والزَّعيق الأمريكي (screen ) بمفرده في العالم أجمع (37), وقد يكون هذا الصّراخ والزَّعيق نشيد الكارثة الذي ستعزفه البشريَّة مستقبلاً بقيادة زعيمة العالم الحر واللِّيبرالية المحدثة وقيم السُّوق!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 351]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف