البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العولمة دكتاتوريَّةٌ تعارض حقوق الإنسان

الباحث :  أ د قدير اميريار
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  24
السنة :  السنة السادسة شتاء 1422هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  1071

العولمة دكتاتوريَّةٌ تعارض حقوق الإنسان

(حوار مع الأستاذ الدكتور قدير أميريار)الأستاذ في جامعة جورج واشنطن

ترجمة: حيدر حبّ الله
- من وجهة نظركم، بوصفكم أستاذاً في الحقوق الدَّولية، ما هي المشكلات الحقوقيَّة التي تخلقها مسيرة العولمة للبلدان الفقيرة ؟
* مصطلح العولمة عامٌّ جدّاً، إذ أنَّه يشمل النُّفوذ الإقليمي والعالمي، وكذلك النُّفوذ الاقتصادي والسِّياسي والاجتماعي والحقوقي والثَّقافي، وفي ما يأتي سوف نسلِّط نظرنا على الجانب الحقوقي منه.
إنَّ أوَّل قضيَّة تثير الاهتمام والتَّركيز، في مسألة العولمة، هي قضيَّة السُّلطة الوطنيَّة والسِّياسية للدُّول والبلدان، فالعولمة حتّى الآن كانت تنشط بشكلٍ أكبر على الصَّعيد الاقتصادي، لكنَّها- ورويداً رويداً وبعد الحرب الباردة- أخذت تنفذ إلى القضايا الاجتماعية والسِّياسية والثَّقافية.
تطرح، في الموضوعات المتعلِّقة بالمسائل الحقوقية، قضايا من قبيل الحاكميَّة الوطنيَّة والسِّياسيَّة، وحقوق الإنسان، وحقوق العمل والعامل، وكذلك التَّوزيع العادل للثَّروة ما بين البلدان والفئات والقوميَّات المختلفة، وهكذا الحال في ما بين البلدان الغنيَّة وتلك النَّامية، مجموعة السَّبع دول التي أصبحت اليوم بعد انضمام روسيا مجموعة الثَّماني، ومجموعة السَّبع والسَّبعين التي تشارك فيها اليوم مئة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 354]


وسبعون إلى مئتي بلد، تلك الدُّول والمجموعات جميعها تسعى، أيضاً، إلى تحقيق سيادتها الوطنية ومساواتها السِّياسية في العالم.
وتتمتَّع السِّيادة الوطنية بأهميَّة بالغة من النَّاحية الحقوقية، فطبقاً لإعلان الأمم المتَّحدة تحظى كافَّة البلدان- التي تتمتَّع بسيادة وطنية- بالحقوق والامتيازات المتساوية على صعيد المعاملات الدَّولية، وبناءً عليه فالحقّ المتطابق والإعلان العالمي والعناوين السِّياسية والدَّولية جرى الاعتراف بها، لا سيَّما في عصرنا الحاضر؛ حيث تؤكِّد عليها البلدان والحكومات تأكيداً شديداً.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، وحيث إنَّ بعض الدُّول لا تمثِّل إرادة شعوبها، فإنَّها تقع من حيث لا تشعر تحت تأثير النُّفوذ الاقتصادي، أو السِّياسي، للدُّول الكبرى العالمية، أو للدُّول ذات النُّفوذ الشَّديد، كما توقِّع على بعض الاتفاقيَّات أو المعاهدات التي لا تؤمِّن المصالح الوطنية لبلدانها، ومن هنا يظهر هناك نوع من الخلوّ والفراغ مابين الزَّعامة أو الحاكمية الوطنية وما بين أفراد الشعب.
ومن جهةٍ ثالثةٍ، وبسبب وقوع الاقتصاد الضَّعيف عادةً تحت تأثير نفوذ الاقتصاد القوي، فإنَّ ما يبدو ظاهراً حينئذٍ هو وجود مساواة ما بين السُّلطات الوطنية للدَّولة كلّها ؛ بيد أنَّ القضية مختلفة عمليّاً، ذلك أنَّ هذه المساواة سرعان ما تتبدَّد، إذ يُضعِّف الاقتصاد القوي تدريجيّاً الاقتصاد الأضعف، ما يعيد إلى الواجهة حالة الاستعمار السَّابقة.
وعلى خطٍ آخر، تطول العولمة مسألة حقوق الإنسان، فقد تمَّ اليوم الاعتراف بالكرامة الإنسانية، وبالحقوق والامتيازات المتساوية، وحقّ الحياة، وحقّ السَّفر والعمل والعامل، والحصول على أجور متساوية للعمل في ما بين الرَّجل والمرأة، لكنَّ هذه المسائل تتعارض أحياناً مع العولمة، ذلك أنَّ العولمة- من الزَّاوية الاقتصادية- تتقدَّم بسرعةٍ كبيرةٍ وفي الوقت نفسه تسعى بعض المؤسَّسات الدَّولية لمراقبة مدى نفوذ العولمة في البلدان النَّامية وشعوبها حتى لا تتعدَّى الحدّ الطَّبيعي لها. وفي هذا المجال كان مؤتمر التِّجارة والتَّنمية للأمم المتَّحدة ومنظَّمة التِّجارة العالمية (WTO) ، ومؤسَّسات أخرى موظَّفة لوضع أطر وللحيلولة دون حصول النَّتائج والآثار السِّلبية التي لا حدَّ ولا حصر لها والتي تتركها العولمة في مسيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 355]


البلدان النَّامية، وذلك حتّى يتسنَّى لهذه البلدان المحافظة على استقلالها السِّياسي والاقتصادي والثَّقافي والأمني.
لا يجوز ترك العولمة تحت سيطرة قواعد السُّوق الحرَّة، ذلك أنَّ قواعد السُّوق الحرَّة مختلفة اختلافاً تامّاً عن حقوق الإنسان، والمائز الرَّئيسي بين العولمة من المنظور الاقتصادي من جهة والمنظور الحقوقي من جهةٍ أخرى، يكمن في هذه المسألة بالذَّات، وهي أنَّ أصول العولمة من الزَّاوية الحقوقية مغايرة تماماً لأصولها من الزَّاوية الاقتصادية، فالأصول والقوانين الحقوقية تمثِّل معايير معيَّنة فيما تعبِّر الأصول والأسس الاقتصادية عن معايير أخرى. وعلى سبيل المثال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والبروتوكولان المنضمَّان إليه، أي بروتوكول الحقوق الفرديَّة والحقوق المدنيَّة، وكذلك البروتوكول الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتَّحدة (وهي- أي الثلاثة- المعبَّر عنها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، هذا الإعلان مغاير للأصول والقواعد الاقتصادية، فأصول حقوق البشر مبنيَّة على الحقوق الطَّبيعية للبشر التي تشمل جميع أفراد البشر، سواء كانوا في شمال الكرة الأرضية أم في جنوبها، في شرقها أم في غربها، ذلك أنَّ جميع أفراد البشر وُلدوا مع هذه الحقوق وهذه الامتيازات الطَّبيعية، ولذلك فلا يجوز التَّعامل مع هذه الحقوق وفاقاً للمعادلات الاقتصادية. أمَّا قوانين الاقتصاد فهي قائمة على العرض والطَّلب، وهذان: العرض والطَّلب يخضعان للتَّغيُّر يوميَّاً، ومن ثمَّ فإذا ما نقص الإنتاج أو الطَّلب في السُّوق فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى تغيُّر القيم، وهي أمور مرتبطة بالموارد الطَّبيعية الموجودة في البلد الذي تقع فيه، وهو أمر يختلف عن موضوع حقوق الإنسان التي تبقى متَّحدة وعلى ما هي عليه بشكلٍ دائمٍ وفي كلّ زمان ومكان، وتكون ضمانة تنفيذها ومسؤوليَّة تطبيقها في عهدة الدُّول والسُّلطات الوطنيَّة.
المسألة الأخرى التي تتغاير فيها الزَّاوية الحقوقية للعولمة عن الزَّاوية الاقتصادية هي الموارد الطَّبيعية للكرة الأرضية، ذلك انَّ هذه الموارد- من حيث الأساس- متعلِّقة بملكيَّة البشرية كلّها، ولا يمكن وضعها تحت تصرُّف مؤسَّسة واحدة، او عدَّة شركات متعدِّدة الجنسية، حتّى تقوم هذه الشَّركات نفسها بتعيين القيم وتوزيع هذه الثَّروات الماديَّة التي تعود إلى البشرية قاطبةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 356]


ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى الثَّروات البحرية وبقيَّة الأحياء، وكذلك الغابات الطَّبيعية، إذ أنَّنا نعرف انَّ 75 إلى 80 في المئة من سطح الكرة الأرضية يقع تحت سيطرة الحكومات الوطنيَّة. والمحيطات والقطبان: الشّمالي والجنوبي هما فقط خارجان عن تصرُّف أيَّة سلطة وحكومة.
إنَّ الموارد الطَّبيعية، والبيئة الطَّبيعية للبشر، وحماية الأوضاع الطَّبيعية، والجمال الطَّبيعي، وضبط الغاز والكاربونات التي تلوِّث الهواء، وكذلك الغازات والتلوُّثات النَّاشئة عن المصانع وفضلاتها التي يجري صبّها في البحار لتلويث البحار بها، وتلويث المحيط الطَّبيعي لحياة الأجيال القادمة... ذلك كلّه يؤدِّي إلى مشكلاتٍ كثيرةٍ، فالموارد الطَّبيعية لا تتعلَّق بكافَّة أفراد البشر المعاصرين فقط، بل بالبشرية القادمة أيضاً.
وكما تلقَّينا من الجيل السَّابق أرضاً ومحيطاً طبيعيَّين لا بدَّ لنا من أن نسلِّم هذه الأمانة وبشكلٍ أمين للجيل اللاَّحق، ولا يجوز لنا مضاعفة خرابه وفساده وهلاكه، ولا يحقّ لنا إفناء الغابات أو الاستهلاك الزائد للموارد الطَّبيعية أو إفراغ النّفط واستهلاكه بأجمعه، لنترك الأجيال اللاَّحقة في فضاءٍ ملوَّث ومياهٍ قليلةٍ وكميَّات محدودة من الأوكسجين، ذلك أنَّ ذلك كله بعيد عن العدل والعدالة، وبناءً عليه تتَّصل القضايا الحقوقية للعولمة بالعدالة الاجتماعية والسِّيادة الوطنيَّة والتَّوزيع العادل للموارد الطَّبيعية، وهو ما يؤدِّي إلى انتفاع البشرية منها انتفاعاً كافياً.
وتتحمَّل المؤسَّسات الدَّولية، كالأمم المتَّحدة ومنظَّمة التِّجارة العالمية واليونيسكو، وكذلك المؤسَّسات والمنظَّمات الإقليمية، مسؤولية مهمَّة على هذا الصَّعيد، وهكذا الحال في الزّعامات والسّلطات الوطنيَّة والقوميَّة، فهي الأخرى تتحمَّل مسؤوليَّة في هذا الإطار أيضاً، بحيث يتوجَّب عليها تنظيم حقوق مواطنيها بصورةٍ تضمن منفعة الأكثرية وتجعل المواطنين يتمتَّعون بوضعيَّات اقتصادية أفضل، وبمزايا طبيعيَّة وصناعية وتكنولوجية كذلك.
ومن هنا فإنَّ المشكلات التي تخلقها العولمة، من زاويةٍ حقوقيَّةٍ، مرتبطة أوَّلاً بالتَّوزيع العادل للموارد الطَّبيعية التي تمثِّل ملكاً ومالاً مشتركاً للأجيال كافَّة، الماضية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 357]


والحاضرة والمستقبلة، وثانياً الحاكمية الوطنية المسؤولة عن إدارة مجتمع من المجتمعات وتنظيمه، والتي لا يجوز الإخلال بالنِّظام الموجود فيها وإشاعة حالة الهرج والمرج والفوضى، أمَّا ثالثاً فبهروب رؤوس الأموال، إذ لا يجوز خلق أوضاع تؤدِّي إلى هروب الاستثمارات ورؤوس الأموال، ذلك أنَّ هروب رؤوس الأموال أصبح اليوم أمراً في غاية السهولة، إذ تقوم الشَّركات بنقل ملايين الدُّولارات من بلدٍ إلى آخر، بحيث أنَّ البلد الأول لا يطَّلع على هذا الأمر إلاَّ بعد إنجازه وتحقُّقه. وبسبب هذا الأمر تمَّ وضع قواعد وقوانين في الأنظمة الاقتصادية الدَّولية الجديدة، عام 1987م، يجب على العالم الالتزام بها، فأوَّلاً: لا بدَّ من أن تكون مُراعية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وثانياً: لا بدَّ من مراعاة موازين البروتوكولات السِّياسية والمدنية، وثالثاً: تنبغي مراعاة البروتوكول الاقتصادي والاجتماعي الملحق بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في كافَّة هذه المعاملات.
لا يجوز نسيان الحقوق المتساوية للبلدان، ولا بدَّ من التَّعاون المتبادل بغية رفع الاختلافات، كما لا بدَّ من تقوية المعاملات التِّجارية وتحكيمها، ولا بدَّ لأيِّ نوع من التَّشكيلات الدَّولية والعالمية التِّجارية والتَّعامل، سواء على صعيد الخدمات أم السِّلع والاختراعات والامتيازات العلميَّة..، لا بدَّ له من العمل والثَّبات وفق مبدأ التَّساوي والدَّولة الوطنية والقومية، وكذلك الحال في تنمية التَّعاون الدُّولي في الأمور التِّجارية لا بدَّ له من أن يكون متوازناً أيضاً، ومنظَّمة الأمم المتَّحدة مسؤولة عن وضع المعايير التي تساعد على رفع مستوى الحياة والعيش والاقتصاد وتنظيمها بغية تحقيق تنمية أكبر اقتصاديّاً واجتماعيّاً، فمثلاً مجموعة الدُّول السَّبع الصناعية، التي أصبحت ثماني دول ٍبإضافة روسيا، وكذلك مجموعة الـ77 لا بدَّ لها من حلِّ المشكلات عن طريق التَّعاون المتبادل، ولا يجوز وضع العولمة في تصرُّف قواعد السُّوق الحرَّة.
وتتحمَّل البلدان الكبرى مسؤولية التَّعاون مع البلدان النَّامية، فمن النَّاحية التَّكنولوجية لا بدَّ لها من إشراك الدُّول النَّامية في استخدام التَّكنولوجيا الجديدة، ولا بدَّ من أن تكون التَّشكيلات الدَّولية الجديدة مطابقة لهذه المعايير.
وفي الآونة الأخيرة، صارت المؤسَّسات والمنظَّمات الجديدة غير الحكومية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 358]


(NGO ) تطالب، تدريجيّاً، بنشر القيم الدَّولية والعالمية وأداء دور في هذا المجال،وقد ادَّت فعلاً دوراً كبيراً في هذه الآونة، ففي مؤتمر (ديو) وكذلك في مؤتمر (كيوتو) اللَّذين تركزا حول تنظيم الموارد الطَّبيعية والهواء والتَّلوُّث كان لهذه المنظَّمات تأثير كبير، كما أدَّت دوراً مهمّاً أيضاً، لكن مشكلة هذه المنظَّمات غير الحكومية هي عدم انبثاقها وانتخابها من طرف الشعوب والأمم. ومن ثمَّ فلايمكنها تمثيل شعوبها وبلدانها، لكنَّها مع ذلك تمثِّل فئات أصغر، ومن الممكن أن يكون لها، في المستقبل، وبمساعدة الأمم المتَّحدة والمجتمع الدَّولي، دور أكبر وأقوى من ذلك، حتّى توصل صوت الأكثرية المكتوم إلى أسماع أصحاب القوى والنُّفوذ والمال وراسمي العولمة.
- يرى بعضهم أنَّه بإمكان العولمة توجيه ضربة متعدِّدة الجهات للبلدان الضَّعيفة، وقد ضاعف الأداء الأمريكي من هذا الوضع إلى حد أن أخذ بعضهم يطرح مفهوم «الأمْرَكة» بدلاً من مفهوم «العولمة»، ما هو تقييمكم لهذا الأمر ؟
* نعم، لا يمكن الحيلولة دون الدِّعاية السِّياسية والتِّجارية، فأمريكا تأمل في فرض نظريَّاتها على العالم وعلى الدُّول النَّامية، وهذه البلدان لديها هي الأخرى حاجات عند أمريكا، من بينها الحاجة إلى استثمار الشَّركات الأمريكية وإلى التَّكنولوجيا الأمريكية، وكذلك هي بحاجة إلى تعاون علمي وثقافي معها.
لكن لا يصحّ الاستغراق في هذه الأمركة، فواحدة من فوارق العولمة الاقتصادية عن العولمة الحقوقية هي أنَّ العولمة الاقتصادية عولمة دكتاتورية، تزدهر فيها الأنشطة الدكتاتورية، وهو ما يخالف العولمة الحقوقية التي تنادي بالدِّيمقراطية وحقوق الانسان والامتيازات الفردية، وتلعب دوراً مهمّاً فيها.
- يصبُّ المناهضون للعولمة انتقاداتهم الحادَّة على الآثار الضَّارة والخسائر غير القابلة للتَّعويض التي تتركها العولمة في ثقافة البلدان الفقيرة والنَّامية... إلى أي مدى ترون هذا الأمر واقعيّاً ؟
نعم، ومع الأسف الشَّديد، للعولمة تأثير سلبيّ على البلدان الضَّعيفة، وهذه حقيقة ثابتة، لكنَّ هذه المسألة ليست مسألة جديدة. ومع الأسف، فقد تمَّ هدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 359]


وقت الكثير من العلماء للتَّوصُّل إلى هذه النَّتيجة، وهي أنَّ حال الأمم السَّابقة لم تكن بأفضل من الحال القائمة فعلاً، فالامبراطوريَّة العثمانية والسَّاسانية وغيرهما كانت تمارس هذا العمل أيضاً، لكن الفارق هو أنَّ هذه الأعمال كانت تتمّ من خلال القوَّة العسكرية، والنُّفوذ الثقافي كان يجري عبر هذه القوَّة، أمَّا اليوم فإنَّ هذا النُّفوذ أصبح يجري عن طريق وسائل الاتِّصال العامَّة، وبثّ البرامج المختلفة، وما أكثر ما يكون علماء تلك البلدان بأنفسهم وسيلة لنقل الثَّقافة الجديدة.
- من الطَّبيعي أنَّ المسؤول الأوَّل عن هذا الأمر هي (اليونيسكو) التي تعدّ مؤسَّسة دولية مكلَّفة بحماية الثَّقافة العالميَّة، وثقافة البلدان الأعضاء في الأمم المتَّحدة.
* نعم، فقد سعت البلدان القويَّة إلى ترويج ثقافتها عن طريق التَّعليم والمؤسَّسات التَّعليمية والجامعات، بل إنَّ بعض البلدان هي نفسها وافقت على بعض القيم كقيم حقوق الإنسان، وحرِّية التَّعبير والبيان وغير ذلك.
لا يمكننا أن نقول: إنَّه لم تكن هناك أخطاء، ذلك أنَّ هذا الأمر مستبطن في السُّلطة نفسها، فلو لاحظتم الاتِّحاد السوفياتي السَّابق، فسترون أنَّه أخضع- ليس على صعيد الدِّين فحسب، بل من النَّاحية الثَّقافية أيضاً ولمدَّة سبعين سنة- خمسة عشر بلداً نال استقلاله في ما بعد، مثل طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان و...، بل إنَّه أقفل أبواب المساجد أيضاً، ولهذا فإنَّ هذه المسألة ليست جديدة، ولدينا في ذكرياتنا الماضية نماذج شبيهة لها، غاية الأمر أنَّ القضية في الإسلام والامبراطورية الإسلامية كانت أكثر حرِّية، ولهذا السَّبب كانت الامبراطوريّات الإسلامية سريعة الانتشار والاتِّساع.
إنَّ الإجراء الحازم اليوم للحاكمية الوطنية والتَّشدد في الحدود السِّياسية من جانب القوى الأمنية لم يكن على هذه الشَّاكلة في الماضي بل كان أكثر يسراً وسهولة، ففي ذلك الزمان لم تكن المعايير سياسية وإنَّما عقديَّة، وقد كان لدى المسلمين إمكانية السَّفر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر.
أمَّا اليوم، فبدلاً من أن تسهل الأمور صارت أكثر صعوبة وتعقيداً، فلدينا اليوم حوالى مئتي بلد مستقل يتَّجه عددها إلى الازدياد أيضاً، وكلَّما كانت أعداد البلدان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 360]


المستقلَّة أكبر كانت الرَّقابة على نفوذ الثقافات أكثر أيضاً، وهذا النُّفوذ قد يتحقَّق أحياناً من خلال المعاملات الاقتصادية وأحياناً أخرى عن طريق البرامج والدِّعايات، وثالثة عن طريق الرؤى الدِّينية والعقديَّة، وهو أمر غير قابل للإنكار.
أظن أنَّ هذا الأمر يسير بشكل طبيعي، وكلّ بلد لديه حقّ في التَّرويج لثقافته بأي شكل من الأشكال في البلدان الأخرى، لكن البلدان التي يتمّ تصدير هذه الثقافة إليها مسؤولة هي الأخرى عن إبداء المقاومة قبال هذه الثقافة الأجنبية عنها، ومطالبة بعدم السَّماح- وحتّى الإمكان- بإخماد شعلة ثقافتها وحريتها، فإنَّ الثقافة الخارجية إنَّما تصل إلى النَّجاح عندما تُوفَّق في كبح حرِّية التَّعبير والبيان، إذ عند ذلك يتسنَّى لهذه الثَّقافة تحقيق أهدافها وبسهولة، ذلك أنَّه ليس ثمَّة منافسة في البيِّن، والأجانب سيكونون أكثر توفيقاً عندما لا تكون هناك منافسة ومباراة حرَّة.
- يرى بعض مناهضي العولمة أنَّ الوضع الحالي للعولمة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأداء الأمريكي، يمثِّل نوعاً من الاستعمار، ما هو تقييمكم لهذه الرؤية ؟
* من الطَّبيعي أنَّ ذلك مرتبط بتعريفنا للاستعمار، فمع أنَّني أرى في هذه العولمة جوانب سلبية، وأرى فيها نوعاً جديداً من الاستعمار، لكنَّها من جهةٍ أخرى تمثِّل مظهراً للمعايير الأفضل لحقوق الإنسان والتَّوزيع الأكثر عدالة للثروة، وللصِّناعة الارقى كيفيَّة ونوعيَّة، وحقوق العمل والسَّفر، وحقوق البيان والتَّعبير وغيرها. ومن هنا فإنَّ العالم اليوم حامل لثقافة عالمية مقدّمة على العولمة، فإذا فصلنا العولمة الاقتصادية عن العولمة الحقوقية سنرى بشكل أفضل أنَّ عالم اليوم يمنح اهتماماً كبيراً لبلورة الدِّيمقراطية والمشاركة الشَّعبية في إعادة الأحياء المجدّد للحقوق الطَّبيعية وحقوق التَّعبير والسَّفر والعمل والحرِّية الاقتصادية والتَّعليم والتَّربية والتَّوزيع الأكثر عدالة والأمن البيئي والصحّي والمساواة والعدالة الاجتماعية في توزيع الأدوية وضمان العمل وغيره...
فعلى سبيل المثال، تعدّ النَّظرية المعاصرة القائلة: إنَّ الموارد الطَّبيعية للكرة الأرضية تعود لكافَّة أفراد البشر لا لسلطة محدَّدة... تعدّ هذه النَّظرية طرحاً جديداً، فلم تكن هذه الموضوعات مطروحة سابقاً، أمَّا اليوم فقد تولَّدت قضايا التَّنظيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 361]


الجديد للبيئة، وتنقية الهواء، واستخراج المواد المعدنية، والحفاظ على الحياة الإنسانية، وتحسين أحوال الحياة والعيش... تولَّدت على أثر التَّرابط الحاصل دوليّاً بين الأمم والبلدان، وإذا ما كانت هناك بلدان تعيش في حالة انزواء فإنَّها سوف تبقى على وضعها السَّابق حينئذٍ.
لكن للعولمة نقائص وعيوب، وهي كبقية الأمور لا تخلو من نقص، فواحدة من نواقصها إيلاؤها الأهمية الأكبر للأمور الاقتصادية، وبالتَّالي تقدّم جوانبها الاقتصادية على جوانبها الحقوقية والإنسانية، فالاقتصاد فيها يُخضع- وبشكل دائم- كلّ شيء لسلطته ونفوذه، وهو ما يؤدِّي إلى أفول أسواق البلدان الضَّعيفة، ومن ثمَّ تمكّن البلدان ذات المعرفة الأكبر بالتَّكنولوجيا الجديدة من تسخير الأسواق العالمية لها، ومن خلال ذلك تعيينها القيم وأجور العمل والعمَّال تبعاً لذلك،ومن ثمَّ وتدريجيّاً جلبها العمَّال الماهرين نحوها وتشجيعها الأشخاص على الهجرة إلى الدُّول الصناعية، وهو ما يؤدِّي إلى رجوع البلدان الأخرى وتدريجيّاً إلى حالتها السَّابقة، وهذه هي حالة هروب رؤوس الأموال وهجرة الأدمغة.
وترتبط هذه المسألة بالأمم المتَّحدة ومنظمة التِّجارة العالمية، ذلك أنَّهما وضعتا قواعد وقوانين تلزم البلدان بمراعاتها، فمثلاً لا بدَّ لهما من تنظيم القيم والتَّعرفات الجمركية ومعدَّلات الأجور بحيث لا تتضرَّر جراء ذلك البلدان الأعضاء فيهما.
وعمليّاً، تمَّت حماية بعض الصناعات التأسيسيَّة الجديدة للبلدان النَّامية، فبعضها، مثلاً، تمَّ إعفاؤه من التعرفة الجمركية، أي أنَّه صار بإمكان هذه البلدان عرض سلعها في أسواق البلدان النَّامية من دون الحاجة إلى تعرفة جمركية.
إذن فقد أعطوهم امتيازات، أمَّا في هذا الزمان فالمشكلة تكمن في تحكّم الاقتصاد القوي بالآخر الضَّعيف، ولا ينحصر هذا النُّفوذ بالاقتصاد، وإنَّما يسري إلى جوانب أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية.
- وهل يترك ذلك تأثيراً سلبيّاً على الاستقلال السِّياسي للبلدان ؟
نعم، إنَّ الأمر كذلك، ولهذا السَّبب فإنَّ السَّعي الأساسي والتَّام للبلدان النَّامية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 362]


هو في الحيلولة دون هذه العولمة، أو على الأقل خلق عقبات في طريقها، كما هوالحال داخل أروقة الأمم المتَّحدة ؛ حيث تقف هذه البلدان قبال الدُّول السَّبع الصناعية التي أصبحت اليوم ثماني دول.
لقد تمَّ إنشاء مجموعة الـ77 التي ناهز عدد أعضائها اليوم المئة والستين، وذلك لكي تدافع هذه البلدان عن حقوقها وامتيازاتها قبال النفوذ الزائد عن الحدّ للدُّول الصناعية، ولكي تحقِّق لنفسها دائماً استقلالها السِّياسي وتدافع عنه.
والأمر الآخر هو أنَّه عندما تنفذ الشَّركات والدُّول الكبرى في البلدان الضَّعيفة فإنَّ السُّلطات الوطنية لا تقدر على مقاومتها، وعندما تفقد قدرة المقاومة ستفرّ رؤوس الأموال حينئذٍ، وحيث أنَّ هذه السلطات تتحمَّل المسؤولية أمام شعوبها، فإنَّها لا تقدر على تأمين احتياجات هذه الشعوب، وهو ما يؤدِّي إلى خلق عدم استقرار سياسي في هذه البلدان، فعندما تفرّ رؤوس الأموال وكذلك الأدمغة المفكِّرة، إلى البلدان الاقتصادية القوية، فإنَّ البلدان النَّامية سوف تضعف تدريجيّاً،وهو ما يفضي في النهاية إلى ضعف السُّلطات الوطنية نفسها، وعندما تصبح السُّلطات الوطنية ضعيفة فإنَّها لن تقدر على تلبية احتياجات مواطنيها، وينجم عن ذلك تحول الاقتصاد إلى اقتصاد حصري احتكاري بدلاً من صيرورته اقتصاداً حرّاً، وهذا الاقتصاد يملك نفوذاً مباشراً على مستوى السُّلطة نفسها، ما يؤدِّي إلى إضعافها.
ولهذا السَّبب تسعى بلدان العالم الثالث إلى الدِّفاع عن نفسها عن طريق المؤسَّسات الدَّولية، من قبيل منظَّمة التِّجارة العالمية (الغات) وكذلك مؤتمر التِّجارة والتَّنمية التَّابع للأمم المتَّحدة، وجهد هذه البلدان ينصبّ حاليّاً على تشكيل نظام اقتصادي جديد قائم على أساس المساواة في الحاكمية الوطنية واحترام هذه المساواة والمحافظة على الحقوق السِّياسية للبلدان، والتَّوزيع الأكثر عدالة للموارد الطَّبيعية، وفي الوقت نفسه امتلاك مسؤولية المشاركة الفاعلة في اتِّخاذ القرارات، ذلك أنَّ المؤسَّسات الدَّولية انتظمت وحتّى اليوم على عدم وجود تأثير فعَّال وحازم لقرارات العالم الثالث فيها، فيما تنبع القرارات عادة من الدُّول الصناعية السَّبع الأوروبية أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 363]


بعض البلدان الصناعية، وفي نهاية المطاف يتمّ إجراء هذه القرارات وتطبيقها- ومع الأسف- على بلدان العالم الثالث سواء أرادت ذلك أم لم ترده، وهذا واحدٌ من النَّقائص العامَّة الكلية.
ولهذا السَّبب، تسعى بلدان العالم الثالث، والدول النَّامية، لتقويَّة نفسها بتفعيل دور التَّعاون في ما بينها من خلال المؤسَّسات التي أقامتها، أو من خلال الأمم المتَّحدة ونحوها، وذلك حتّى تتمكَّن من الدِّفاع عن نفسها بشكلٍ أفضل، أو تسعى للدِّفاع عن بعضها بعضاً- وبالاتِّحاد- قبال الدُّول صاحبة النُّفوذ، وهو ما يشكِّل أملاً من آمال هذه الدُّول التي ترغب في الوصول إليه عن طريق هذا النِّظام الاقتصادي الجديد، وهو عمل شاق ومعقَّد، لكن الأمل غير مفقود فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 364]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف