البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الواقع الحضاري الاسلامي الراهن

الباحث :  نبيل علي الصالح
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعة ربيع 1420 هجـ 1999 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1817

الواقع الحضاري الإسلامي الراهن‏ تحدّيات الواقع وآفاق المستقبل‏

الأستاذ نبيل علي صالح‏ (*)

نواجه، في لحظتنا الراهنة، حضارة عملاقة غالبة وقاهرة هي الحضارة الغربية بكلِّ ما فيها من منظومات تفكيرية وأنساق معرفية، تريد إظهار جدارتها (استعلائيتها) على النماذج الحضارية المستضعفة الأخرى..
في هذا السياق نتساءل: كيف يمكن لمجتمعاتنا العربية والإسلامية أن تستنهض ذاتها في ظلِّ الخلافات السياسية والأزمات الاجتماعية والثقافية القهرية السائدة التي تحكم العالم من خلال ما اصطُلِح على تسميته بـ «النظام العالمي الجديد»؟
ما هو الدَّور الهام الذي يجب أن تضطلع به ثقافتنا الإسلامية في مواجهة أزمة القيم الحادة التي بدأت تنشر روائحها عبر أنظمة الإعلام وشبكات الاتصالات الحديثة التي تحاول فوقد نجحت إلى حدٍ ما في محاولتها هذه ـ تعميم نظام قيم غربي (عصري) يتَّخذ من غرائز الإنسان وشهواته الدنيئة هدفاً له في حجم الحياة كلها؟!
في الواقع قدَّم الغرب‏ (1) ، في هيئته الجديدة، إلى البشرية رؤية ونظرة كونية جديدة للعالم، ونمطاً للحياة حديثاً.. ولقد ظهر ذلك على هيئة مذاهب وتيَّارات فلسفية واجتماعية واقتصادية كالليبرالية والاشتراكية.. لقد حفلت ظروف الغرب وأحواله، خلال الحقبة التاريخية الممتدة من القرن السادس حتى الثامن عشر (2) ، بالكثير من الصور والتَّغيُّرات والمشاهد التي تستحقُّ الوقوف عندها والتأمل بها ودراسة بعض مواقعها التاريخية:
________________________________________
(*)باحث وکاتب من سورية.
(1)الغرب: مفهوم يشير إلى فضاء جغرافي مشحون بدلالة حضارية تستند إلى التراث الإغريقي الروماني المسيحي، ثم إلى تراث النهضة الأوروبية ومختلف مكتسبات الحضارة التي تولدت في قلب الحضارة الأوروبية منذ عدة قرون، ثم شملت بعد ذلك قارات أخرى تغرّبت بفعل تاريخ قسري إكراهي، تمثّل في الهيمنة الإمبريالية بمختلف النتائج التي ترتبت عليها.
(2)أي من عصر النهضة حتى الثورة الفرنسية.

[الصفحة - 208]


1 -تمَّ التخلُّص من قيود الكنيسة الدينية وتسلُّطها على حياة الناس الاجتماعية، وبنتيجة ذلك بُويع العقل الإنساني مصدراً وحيداً لتشخيص المعرفة والقيمة والحقيقة...
2 -حَلَّ العلم التجريبي محلّ الدين في أذهان الناس، وبات هو الأساس في تفكيرهم وحَلِّ مشاكلهم المادية وحتى النفسية، فأصبحت اللذة والترف المادي مصدر السعادة والمنى للإنسان وهدفه الأساسي في هذه الحياة.
3 -ونتيجة طبيعيةً لذلك أصبح اللَّه تعالى فكرة مجرّدة وخالية من أيِّ معنى في أذهان النَّاس وحياتهم، وأصبح التمتُّع بالملَّذات الحسية والثروات المادية، من أقصاها إلى أقصاها، أهم حافز وباعث للنشاط والحراك البشري.
لقد وصل الإنسان إلى درجة من الاعتقاد هي أنَّه، وبفضل جهده واعتماده المطلق على عقله، يستطيع أن يبني جنَّة أرضية فيها ما لذَّ وطاب من الرَّفاه والمتع واللذات. ومن الطبيعي أن تُقدَّم، في مثل هذه الأجواء النفسية والمادية، الاحتياجات المادية على غيرها، وأن تكون هي الأصل وغيرها الفرع. وبتعبير أدق أن تصبح رغبات الإنسان أساس الأفكار والأخلاق والقيم في الغرب الحديث.
في مثل هذا المناخ نشأت فكرة الليبرالية الغربية؛ حيث أتاحت الظروف المادية الجديدة بروز علاقات اجتماعية حديثة كان من أمرِّها فعلى حد تعبير أحد الباحثين الغربيين ـ إنتاج فلسفة جديدة أخذت على نفسها مهمة تحسين الدنيا الجديدة، وكانت الليبرالية هي تلك الفلسفة (3) ، التي تحاول الآن ـ جاهدة ـ أن يكون لها واقع حضاري فكري وسياسي عالمي يفرض نفسه بقوَّة على المجتمعات الإسلامية في سياستها وثقافتها واقتصادها وإعلامها، بما يتعارض ـ كلياً وجوهرياً ـ مع الأصول والمباني الاعتقادية والفكرية والقيمية الإسلامية..
إنَّ هذا التعارض القائم ليس مشكلة بحدِّ ذاته، لكن هناك مجموعة عناصر وعوامل جانبية تعمل على إذكاء الصراع وتصعيد التضاد، نشير إليها كما يلي:
العامل الأول: يتمتَّع العالَم الغربي بنظام فكري وسياسي عريق ومستحكم البنى والعلائق ـ كما ذكرنا سابقاً ـ وقد اكتسب هذه البنى.. عبر ممارسة تجريبية دقيقة
________________________________________
(3) (Harold J. Lski, The rise of European liberalism,)p: 31 - 41.

[الصفحة - 209]


امتدَّت قروناً طويلة، وتم عرضها ونقدها وإظهارها واختبارها فبجوانبها المختلفة ـ من قبل مئات العلماء والمفكرين..
العامل الثاني: يُعْرض النظام الفكري والقيمي السياسي الغربي بطريقة يساير، من خلالها، الرغبات الأولية للبشر.. أي الميول التي تجعل الإنسان يدافع عنها ويسعى إلى تحقيقها بكل قوة وعزيمة، وبخاصة ميل الإنسان بطبعه الذاتي نحو «الحرية» التي يزعم الغرب أنها أساس نظامه السياسي والفكري.. وما لها من هالة وسحر مقدّسين عند أيِّ إنسان.
وبمقابل ذلك، نجد أنَّ الفكر الإسلامي يدعو الناس إلى إقامة نظام أساسه الأخلاق والفضائل التي يحصّلها الإنسان بالمجاهدة والمثابرة والكدح الارتقائي نحو اللَّه.
بناءً على ذلك، فإن ما يقترحه الغرب فصاحب القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية الطاغية ـ يماشي رغبات البشر الأولى وأمانيهم وطموحاتهم.. وهنا تكمن الأزمة؛ حيث إنَّنا ندعو إلى قيمنا ونظامنا الأخلاقي العام فالذي يقوم على الزهد وضبط النفس وتقوية الملكات الروحية والأخلاقية عن طريق الجهاد الأكبر (جهاد النفس)ف في ظل أجواء التَّحلُّل من الأخلاق والمبادى والأصول العامة، يمتلك فيها (في تلك الأجواء) عدوُّنا القدرة على السيطرة والتحكُّم بميزان القوى في جميع الأحوال‏ (4) ، الأمر الذي جعلنا نعيش، حضارياً وإنسانياً، على هامش الحضارة الغربية التي تريد تعميم ذاتها الحضارية على الشعوب المقهورة والمستضعفة جميعها لتمارس، من خلال ذلك، غريزتها «القديمة فالجديدة»، وهي غريزة السيطرة والاستحواذ التي تمظهرت منذ عصر الاكتشافات الكبرى في عهد البرتغال والأسبان.. والآن تتمظهر مرة أخرى، بلباس جديد، في الامبريالية العالمية بشعاراتها الخادعة والمزيفة (رسالة الرجل الأبيض) التي دمَّرت‏ (5) جميع الإنجازات الثمينة للفكر الإنساني وللروح الإنسانية وللذوق الإنساني.. وحتى للبيئة والطبيعة الأرضية (6) من خلال حروبها (7) وجرائمها البشعة التي كشفت عن حقيقة تلك الشعارات وتلك القاعدة التي ترتكز عليها مصالح الغرب وشعاراته الحضارية والأخلاقية النفعية..
________________________________________
(4)وبخاصة أن واقع الاتصالات العالمي الراهن (والمستقبلي)، الذي يمسكه الغرب بقوة، يزيل كلَّ الحدود ويلغي كافة الحواجز.. بحيث انك إذا استطعت فمن حيث المبدأف أن تراقب الإنسان وتمنعه من التعامل مع وسائل الإعلام حالياً (مع تحفظنا الشديد على سياسة المنع هذه) فإن ذلك لن يحصل في المستقبل القريب أبداً..
(5)أي التدمير الشامل لحضارات الأنكا والأزتيك.. وقد حصل الأمر نفسه بالنسبة إلينا نحن في العالم الإسلامي، وبالنسبة إلى شبه القارة الهندية.
(6)أصبحت قضية التلوث البيئي من أخطر الكوارث التي تهدِّد وجود الإنسان والحياة على الأرض.. وعند الفحص والتدقيق نجد أن المسؤولية الكبرى فعن هذا الوضع البيئي الخطير والمأساوي ـ تقع على عاتق العالم الصناعي الغربي، وعلى هؤلاء الذين يمثلون الحضارة الغربية.. لقد أنتج هؤلاء حضارة كبيرة من الدبوس إلى الأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية المسافرة إلى المشتري والمريخ وغيرهما.. حضارة غالية الثمن وُضعت تحت تصرف الذين يتمكَّنون من الاستمتاع بهافقط وشراء منتجاتها. فكانت المحصلة أن 4/5 البشرية يدفعون ثمن إنجاز حضاري مادي لا يستطيعون شراءه أو التمتع به... بينما خمس البشرية على الأكثر يستمتعون بكل المنتجات لمجرد أنهم يستطيعون شراءها..
(7)نعطي مثلاً قريباً جداً عن عقلية هذه الحضارة، وهي تشن الحروب وتنشر الدمار والخراب والخوف والرعب حفاظاً على مصالحها.. أعني به حرب الخليج الثانية.. التي شنها الغرب للسيطرة على منابع الطاقة النفطية والغازية في الخليج.. في الوقت الذي نلاحظ فيه أن شعوباً بكاملها تفتقر إلى أبسط كمية من الطاقة لتشغيل معمل أو تسيير باخرة.. بينما نجد بعض الدول الغربية تنفق مقادير ضخمة من النفط لتدفئة أحواض السباحة في بلاد باردة لمجرد الاستمتاع بالسباحة في أحواض دافئة.. في حين أن ملايين البشر يموتون برداً لأنهم لا يجدون ما يتدفأون به أو يموتون جوعاً لأنهم لا يجدون وسيلة نقل تنقل الطعام من مكان الوفرة إلى مكان الحاجة.. هذه هي بعض ملامح هذه الحضارة التي تزعم أنها عالمية.. أو تريد أن تجعل نفسها أساساً لنظام العالم..

[الصفحة - 210]


نعم، إن الغرب ونعني به الإدارات السياسية الغربية ـ استعماري وحاقد ولا يفهم بغير لغة المصلحة والمنفعة المادية، ولا مكان للأخلاق والقيم في قاموسه السياسي والفكري، لكن المشكلة، بالدرجة الأولى، ليست في الغرب، بل عندنا نحن.. لماذا؟! لأننا نحن الذين سمحنا، من خلال عقدة النقص في داخل ذاتنا ونسيجنا الحضاري الراهن، أن يمتد الغرب في جميع أوضاعنا ومواقعنا.
صحيح أنه (الغرب) يمتلك إمكانات وطاقات هائلة، لكنني لا أفهم كيف نسمح للغربيِّين ونمضي على أوراقهم (في سياستنا واقتصادنا) بأن يفرضوا إرادتهم على إرادتنا.. وأن يقهروا وجودنا ويستغلوا ثرواتنا وينهبوا خيراتنا.
نحن قد نفهم أنَّ مصالح الغرب تقضي ببناء استثمارات إعمارية وإنشائية مختلفة في بلداننا (فنادق خمس نجوم)، لكنني لا يمكن أن أفهم، ولا أوافق أبداً، أنْ يتحمَّل المجتمع كل المظاهر السلبية التي تترتب على هذا العمل.. لأنهم يريدون أن يجعلوا، من تلك الفنادق والاستراحات، محطات لهو وترف لهم.. الغرب يلغي لهونا الخاص الذي يعبّر عن فكرنا، يلغي موسيقانا الخاصة ونحتنا وتصويرنا وأناشيدنا وشِعْرنا وحتى ألعاب أطفالنا.. ويريد تقديم نموذجه لنا.. وليس ذلك أن نكون مثل الغربيين وإنما من أجل أن نكون أداة لاستمتاعهم أو لاستثمارهم‏ (8) .. إنهم يعمِّمون نموذجهم الذي يلغي الآخر ولا يسمحون للآخر بأن ينمو ويمتد من خلال إيجابيات نموذجهم نفسه، بمقدار ما يدفعون الآخر إلى الضمور من خلال سلبيات نموذجهم..
والآن يقوم هذا الغرب مع بعض «ممثليه؟!» (9) في منطقتنا العربية والإسلامية بالتسويق لنغمة «قديمة ـ جديدة» تقول بأنه لا يمكن اللحاق بركب التقدم الغربي إلا بالمحاكاة والتماهي.. سواء في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية. ونحن نرى أنَّ إصرار الغرب على ضرورة محاكاته (دون التماثل معه وعدم الانسياق خلفه في كل شي‏ء) يعني أن نقلِّده ونبقى في حاجة ماسّة له.. لأنه لا يريدنا أن نحقق استقلالنا طالما أن التماثل يعني الاستقلالية، والمحاكاة تفرض التبعية والاستلحاق. والسؤال المطروح ـ في ظل نمو مشاريع السيطرة الاقتصادية والسياسية {مشروع التسوية (السلام المنتظر) وسوق الشرق الأوسط والمتوسط.. وما إلى ذلك‏} (10) ـ
________________________________________
(8)العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مقدمة كتاب الحضارة والنظام العالمي، أصول العالمية في حضارتي الإسلام والغرب للدكتور علي الشامي، صحيفة السفير، 20/1/1995..
(9)أقصد به ذلك الحشد الهائل من الشخصيات السياسية والاقتصادية والأمنية التابعة لأنظمتنا العربية والإسلامية ممن تربّوا في أحضان أصحاب المؤامرات والدسائس الدولية، وعاشوا أجواء المخابرات المركزية الأمريكية وتربوا سياسياً من خلال تربية الغرب لهم ورعايته لهم، وتحمّله مسؤولية وصولهم إلى هذا الموقع أو ذاك... أي هناك أنظمة تسيطر على شعوبنا تمارس دور الحرس الاحتياطي للسياسات الغربية والأمريكية بالذات..
(10)تهدف هذه المشاريع كاملة إلى تكريس واقع الهزيمة والهيمنة والانكسار في عالمنا الثالث... في أن يستورد ويستهلك حضارة الآخر ومنجزاته... وباختصار شديد: دفن أي أمل بإمكانية نشوء مشروع نهضة عربية وإسلامية..

[الصفحة - 211]


هو: كيف نحتفظ بذاتنا الحضارية ونستعيد ونطور حقيقتنا الخاصة التي تجعلنا متماثلين وندِّيين فإذا صحَّ التعبير في سلوكنا ووعينا للآخر.. في علاقات المجتمع وفي أنظمته السياسية وعلاقاته الاقتصادية؟!
إنه سؤال إشكالي مركَّب وليس بسيطاً.. نواجهه جميعاً مثقَّفين ونخبة واعية وملتزمة... تحتاج، في ما تحتاج، إلى مراجعة ذاتها.. وتغيير كثير من حساباتها الفكرية والعملية... وبخاصَّةٍ أننا نعيش حالة ضياع وغربة كاملة لأننا خسرنا المشروع التحديثي برمته وبكل مواقعه وتفاصيله.. وأفلسنا فيه بالكامل‏ (11) ..
في الحقيقة نريد أن نؤكد، بدايةً، على أننا، نحن المسلمين، أصحاب مشروع وأطروحة ربَّانية، نتطلع إلى ممارسة دور حضاري فاعل في الحياة الإنسانية المعاصرة.. في أن نكون منفتحين على الآخر لا لافتراسه أو لاستغلاله وإنما للتكامل به ومعه، أن نحافظ على هذا وفي الوقت نفسه نعمل على تطوير نموذجنا الخاص في الاجتماع والاقتصاد والسياسة في ذاتنا وفي العلاقة مع الآخرين.. حتى مع هؤلاء الذين يحملون هذه النزعة أو الطبيعة الافتراسية الفاوستية (12) ..
نحن لم (ولن) نسعى فحسب وعينا لحركة الإسلام الروحي والمفاهيمي ـ إلى الاستحواذ على الآخر وإلغائه، بل إلى الانفتاح عليه والتعاون معه واحترام خصوصيته الحضارية. والشاهد الحي على ذلك هو بقاء اليهودية وكذلك المسيحية وازدهارها في ديارنا الإسلامية.. في مقابل أن الغرب التاريخي المعاصر ينظر إلى الإسلام نظرة الشك والريبة والعداء.. ويمارس ضده حرباً سياسية وإعلامية لا هوادة فيها.. ينزع فيها إلى إرادة الاستحواذ وغريزة السيطرة وليس إلى إرادة المشاركة والمساهمة والتعاون..
إننا ومن خلال مراقبتنا وملاحظتنا لواقع الحال العربي والإسلامي والعالمي، نقترح ففي إطار حركية الصراع واللقاء بين الإسلام والغرب كواقع قائم وأفق يستشرف بعض معالم مستقبل الحوار لا الصراع ـ نقترح بعض المبادىء العامة لإجراء أي حوار لاحق بين الإسلام والغرب، مع تشكيكنا فمسبقاً ـ بحدوث أي حوار صادق معه‏ (13) :
________________________________________
(11)حيث إنَّنا نجحنا، بخاصة على صعيد أنظمتنا الحاكمة، في شكل التحديث وإطاره.. أي ربما نجح السياسيون، بهيئاتهم المختلفة، في أن ينقلوا لنا فنادق خمس نجوم، وشوارع معبدة، وأبنية جامعية ومدرسية حديثة، ومختبرات ومنشآت وإعمارات مختلفة فإذا صحَّ التعبير ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في تكييف روحنا وثقافتنا مع ما يلائمنا... بل على العكس لقد حاربوها ولاحقوها وصادروا كلمتها وموقفها... كما وحاولوا المجي‏ء بنسخة وجَعْلنا صورة سيئة (مشوّهة) عنها... وقد فشلنا والفشل يمتدُّ إلى كل مواقع العرب والمسلمين.
(12)الشيخ محمد مهدي شمس الدين.. م.س.
(13)لأن الغرب يقود ضد العالم الإسلامي حرب مصالح ومكاسب مادية لا حوار حضارات.. أي مسألة المصالح الغربية التي تعيش الصراع مع مصالح العالم الثالث.. إنها حرب مصالح حقيقية.. إن العالم الثالث، بما فيه العالم الإسلامي، يعمل على أن يملك حريته السياسية وإمكانات تطوير موارده الاقتصادية، والحصول على استقلاله الاقتصادي والأمني.. لكن الغرب لا يوافق على ذلك، إنه يريد أن يبقى أمن العالم الثالث على هامش أمنه، وسياسته على هامش سياسته، واقتصاده على هامش اقتصاده.

[الصفحة - 212]


خصائص الحضارة الإسلامية
1 - في المجال السياسي والاقتصاديّ‏
عدم استخدام القوَّة لفرض الإرادة والرأي السياسي أو الاقتصادي، والسعي باتجاه إيجاد حلول جذرية لقضية فلسطين والقدس، وإلغاء الخطاب العدائي والاستعدائي‏ (14) فإذا صح التعبيرف الذي يمارسه الغرب إعلامياً ونفسياً ضد الإسلام والمسلمين‏ (15) .. وبناء شراكة عملية في المجال الاقتصادي والاستثماري تقوم على أساس التكافؤ والعدل والندَّية وتلغي التبعية والتماهي والاستلحاق..
2 - في المجال الحضاري والثقافي‏
من المعروف أنَّ الغرب يلتزم ثقافته ونمطه السلوكي الحضاري معياراً حقيقيّاً في أيِّ مجال من مجالات العمل والابداع، وبذلك فهو يلغي دور الثقافات الأخرى ومنها الثقافة الإسلامية ولا يفسح لها المجال للانفتاح والتفاعل والتواصل مع الآخر (16) بثقافته ونظامه المعرفي على قاعدة التماثل، ووفقاً لقوانين التكامل الخاصة بحضارة الإسلام وثقافته.. الأمر الذي يمكن أن يفتح سبلاً للتعاون مختلفة فإذا ما أثمرت جهود التفاعل والتلاقح الفكري ـ في مجال تصحيح الوضع الإنساني والأخلاقي بخاصة وأن الحضارة الغربية تنطلق من جذور مادية في ثقافتها وليس من جذور مسيحية.. وذلك بالعودة إلى الفطرة الإنسانية النقية والطاهرة في مسألة الإيمان الديني.. في إعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية في مجال الأسرة والمجتمع والاقتصاد والعلاقة مع الذات ومع الطبيعة.
ولا شك في أن هناك صعوبات كبيرة تقف عائقاً أمام البدء بحركة حوار حضاري مع الغرب، وبخاصة على الصعيدين التاريخي والواقعي (العصري)..
فعلى الصعيد الأول (التاريخي): نلاحظ أن هناك تاريخاً تصادمياً مروّعاً بيننا وبين العالم المسيحي لا سيما في أعقاب الحروب الصليبية حيث نشأت، بعدها، ونمت حالة من الشك وعدم الثقة بين المسيحيين والمسلمين، تحولت عبر الزمن إلى ترسّبات وكتل جامدة سادت الأذهان في كلا العالمين (الإسلامي والمسيحي) ساهم حشد كبير من المستشرقين في تعميقها وترسيخها في حركة الواقع آنذاك..
________________________________________
(14)لا يستطيع الغرب أن يحتفظ بمصالحه إلا إذا استطاع أن يستثير الرأي العام في داخله إلى درجة متقدمة حادة من التوتر، بحيث يملأ ذهنية مجتمعه ورأيه العام بالإحساس بخطر عدو قادم، لكي يملك حرية الحركة في سياسته واقتصاده وأمنه كما لو كان يدافع عن شعبه. وهذا ما لاحظناه قبل حرب الخليج الثانية وأثناءها، عندما أثارت أمريكا الرأي العام الأمريكي والأوروبي ضد العراق، بينما نجد أن الكويت لا تمثِّل أي موقع يثير الاهتمام لدى الشعوب الغربية.. ولكن المسألة أنه استطاع أن يثير مسألة آبار النفط وسيطرة صَدّام عليها وما إلى ذلك... بحيث أصبح يفكر جميع الأمريكيين وجميع الأوروبيين بأنهم سوف يفقدون لقمة عيشهم.. من هنا وبعد سقوط الإتحاد السوفييتي لم يبق للغرب أي عدو، وهو بحاجة دائمة وماسة إلى عدو حتى يستطيع أن يسوِّغ، لشعوبه، سياسته ضد العالم الثالث حتى يستطيع أن يحتفظ بمواقعه داخل هذا العالم.. لذلك بات الإسلام حالياً عدو الغرب (بشهادة كبار سياسييه ومفكريه ونخبه)، وهو يحاول تضخيم الحركة الإسلامية كما لو كانت تستطيع، الآن وفي إمكاناتها الحالية، إسقاط الحضارة الغربية.
(15)بدأت نظرية العدو البديل (والعدو الأخضر في إشارة إلى الإسلام، كما قال ليفي كلاسي أمين عام حلف شمال الأطلسي) في الغرب، حيث بدأ برنار لوسي يتحدَّث عما أطلق عليه «صراع الثقافات، المسيحيون والمسلمون واليهود في عصر الاكتشاف».. وهو كتاب صادر عن جامعة إكسفورد.. ثم نشر صموئيل هنتغتون أطروحته «صدام الحضارات» Clash of civilzation في دورية: Foriogn affairs.. ثم طور هذه الأطروحة في كتاب صدر مؤخراً.. ويذهب هنتغتون إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل، ويشير إلى أن خطوط التقسيم الحضاري تحلُّ محل الحدود السياسية والايديولوجية للحرب الباردة، ويتحدث عن احتمال تحالف «كونفوشيوسي ـ إسلامي» في مواجهة الحضارة الغربية.
(16)لا نقصد من مصطلح الآخر هنا فالذي بات له استخدام واسع في بعض خطابات التطبيع الراهنة مع الكيان الصهيوني ـ إسرائيل وحركتها الصهيونية العنصرية، لأنها لا تمثل واقعاً حضارياً متميزاً يمتلك خصائص ومحددات ثقافية وتاريخية متراكمة كمياً وكيفياً.. كما أنني لا أقصد من هذا المصطلح الايديولوجية الصهيونية.. لأننا نعلم جميعاً أنها ايديولوجية القهر والاحتلال والاغتصاب والقتل والطرد والترحيل والتفوق العنصري والتوسع والاستيطان والاستعمار الاقتلاعي وحقن الأطفال بالايدز.

[الصفحة - 213]


أما المعوق الثاني (العصري الراهن): فيتمثَّل ـ كما ذكرنا ـ في الاستعمار الجديد الذي انطلقت جحافله لتغزو العالم كله، تحقيقاً لمصالحها الاقتصادية والسياسية، ولبلوغ ذلك الهدف أباحوا لأنفسهم استخدام جميع السبل والوسائل والأدوات، ومنها إثارة تعقيدات التاريخ في الأذهان، ليس فقط للابقاء على الخلافات والأحقاد بين المسلمين، بل أيضاً لإثارة هذه الخلافات من زوايا عدة على نطاق واسع ليتمكن المستعمرون، في ظل الخلافات والنزاعات، من الوصول إلى مصالحهم غير المشروعة (17) . ولا ننسى، ونحن نتحدث عن معوقات حوار الحضارات، أن نمرَّ بالحرب العالمية التي تقودها دول الاستكبار العالمي، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، ضد الإسلام الحركي التحرري.. حيث تعمل (تلك الدول) على محاصرة معتنقيه في مواقعهم ومواقفهم بمختلف السبل، المباشرة وغير المباشرة، من أجل إضعافهم وتقييد حركتهم وإسقاط مصداقيتهم.. ومصادرة حرياتهم وتشويه معالم صورتهم‏ (18) بمختلف الأساليب الإعلامية والأمنية والثقافية والدينية (19) .
إزاء هذه التحوُّلات السريعة والمتلاحقة في واقع الحياة المعاصرة نتساءل: كيف يجب أن يتعامل الفكر العربي والإسلامي الراهن مع هذا الواقع الموضوعي؟ وما هي آليات تطويره كي يصبح قادراً على مواكبة قضايا العصر ومسايرتها؟!
مما لا شك فيه أن العالم يشهد تحوُّلات جذرية بدأت تأخذ، منذ مدّةٍ، أبعادها السياسية الواقعية.. على صعيد الأسس التي تتحرك من خلالها القضايا والأمور في مختلف الدول، وخصوصاً دول العالم الثالث، ومنها بلداننا العربية والإسلامية.
يجب أن نعترف، أول الأمر، أن واقعنا الحالي هو واقع الهزيمة.. وأن آخر تجليات هذه الهزيمة يتجسَّد في ما يُفرض على الأمة من مسارات تفاوضية استسلامية مع عدوها التاريخي اللدود ضمن موازين قوى ذاتية وإقليمية ودولية تميل لصالح العدو الصهيوني وستنتهي حكماً إلى الاستسلام والإذعان لهذا العدو.. لا على النحو الذي تكون حصيلته خسارة معركة واحدة مع العدو.. ثم ينتهي الأمر «وكفى اللَّه المؤمنين شر القتال».. بل على النحو الذي يفتح مساراً جديداً ولا يتوقف في تقديم التنازلات والتراجعات التي ستمكّن هذا العدو من التحكم، مستقبلاً، بكل موازين
________________________________________
(17)السيد محمد خاتمي، حوار الحضارات وصعوباته، صحيفة الحياة اللندنية، 11/7/1997.
(18)ساهمت ممارسات كثير من تلك الحركات المسماة (إسلامية؟!) في مسخ صورة الإسلام وتشويهها في المحافل الدولية.
(19)سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل اللَّه، الحركة الإسلامية أمام تحدي المتغيرات، صحيفة السفير: 13/4/1994.

[الصفحة - 214]


القوى الضامنة لاستمرار الخلل في مشروعه، وبما يضع عقبات وعراقيل حقيقية في مواجهة أي مشروع نهوض للأمة (20) قد ينطلق لمواجهة هذا المشروع وغيره من مشاريع التفتيت والهيمنة المؤطَّرة بزخارف الإنسانية وحقوق الإنسان والحداثة والتحضر والعصرنة والكوننة والعولمة إلخ.. وطالما أننا نقر جميعاً، تيَّاراتٍ ونخباً فكرية وسياسية متعددة المشارب والانتماءات، بوقوع تلك الخسارة.. وأننا نعيش الآن في قلب الهزيمة الفعلية.. فالسؤال المطروح هو: هل يمثِّل هذا الواقع الانهزامي القضاء والقدر الذي يجب أنْ نسلّم بنتائجه وانتهى الأمر؟ أي هل ما يجري على الصعيد الإقليمي والدولي من حقائق ومتغيرات، وما انتهت إليه موازين القوى السياسية الراهنة، قد أغلق علينا باب التغيير التاريخي بعد أن توزعت الأقدار على الشعوب والأمم؟! وهل، حقاً، أن هذه المصائر التي آلت إليها أمورنا وأوضاعنا قد جاءت كلها من الخارج ومن دون إرادة منا، ولا يد أو مسؤولية لنا في مآلها؟!
نؤكد في سياق إجابتنا، أن ما يحصل ليس قضاءً وقدراً مفروضاً على أمتنا.. إننا نتفق على ذلك مع الجميع.. ونتفق أكثر على أن الهزيمة واقع مفروض.. لكن هذا الاتفاق لا يكفي وحده.. لأنه، ومن أجل الخروج من وادي الهزيمة، لا بد من أن يكون لدينا قدر مشترك وإرادة واعية من الاتفاق على عناوين رئيسية تقع في صلب الأسباب التي أدّت إلى إلحاق الهزيمة بنا.. سنختلف، منذ البداية، في توزيع الاتهامات وإلقاء مسؤوليات الهزيمة على هذا الطرف أو ذاك.. أكثرنا قد يحمِّل الأنظمة السياسية غير الشرعية القائمة والتابعة للغرب، المسؤولية عن كل هذا التفسُّخ السياسي والاقتصادي والتاريخي.. وبعضنا الآخر قد يلقي أسباب الخسارة والهزيمة على الأمة نفسها في بنية تفكيرها وإرادة شعوبها.
إننا نتحمَّل جميعاً المسؤولية التاريخية عن واقعنا المفكَّك... وحتى نستطيع امتلاك الإرادة القوية الواعية التي تمنحنا الفرصة الأكبر للسير في عملية التغيير النوعي والنهوض بواقع الأمة.. علينا أن نعي الحقائق الثلاث التالية:
الحقيقة الأولى: يشكّل الإسلام، ببعديه الروحي والمفاهيمي، منظومة عقائدية تشريعية تلزم المؤمنين بها العمل في إطار الضوابط والموازين الشرعية الربانية، لذلك يجب فهم طبيعة المشاعر الحية للإنسان المسلم، ونفسيته العامة، ونسيجه العقائدي
________________________________________
(20)العلامة السيد محمد حسن الأمين، أزمة الآخر في الانشطار بين المجتمع ومؤسساته الحاكمة، مجلة البلاد، عدد: 58، ص 46.

[الصفحة - 215]


الإسلامي، وتركيبته التاريخية والمعرفية، لأن المقاصد والغايات الإصلاحية للتنوير والنهوض قائمة، أساساً، في عقيدة الأمة.. والتأسيس (البناء) العملي على هذه العقيدة أكثر انسجاماً مع الفطرة البشرية عموماً والهوية الحضارية والفكرية للأمة خصوصاً وأكثر ضماناً لتشكيل الشرط الضروري لحشد طاقات مثقفي الأمة وجماهيرها من أجل المساهمة في تحمّل مسؤولية العمل الاستنهاضي، وكسر حلقة التبعية التي لا نزال ندور حولها.. ولا تزال تحول دون إنجاز الأولويات الضرورية للتحرر والتقدم والبناء وإطلاق مواهب وطاقات الإبداع الأصيل والمنفتح لدى الأمة(21) والتجربة الإسلامية في إيران خير دليل على ذلك على الرغم مما تواجهه من تحديات ومخاطر ممثلة في الاستكبار الأمريكي الذي يعمل على فرض الحرب عليها، وآخرها الحرب مع العراق التي دمرت منشآتها الحيوية وكثيراً من مشاريعها التنموية، كذلك محاولات فرض الحصار الاقتصادي والسياسي عليها في ظروف بالغة القسوة.. استفردت فيها أمريكا بزعامة العالم، وباتت القطب الأوحد المتربّع على رأس السلطة العالمية فإذا صح التعبيرف لكنّ إيران لا تزال صامدة.. وهي تحاول فونحن نعتقد أنها ستنجح في ذلك ـ كسر حلقات التبعية والاستلاب لإنجاز مشروعها الإسلامي الطموح، ليس لأنها تتمتع بخيرات اقتصادية وافرة ولا لما يتمتع به قادتها من حنكة ودراية ومهارات سياسية فحسب.. ولكن لأنَّ النظرة العقائدية والقيمية متجذّرة في العمق الواعي للإنسان المسلم هناك.. ولأنها تختلف جذرياً عن نظرة الخصوم ما يسمح لها ألاّ تدخل في الصراع معهم على المضمار الذي يتفوقون فيه، هذا شرط لازم يحتاج إلى شرط كافٍ ليكتمل البنيان.. ربما تكون توجُّهات الحكومة الإيرانية القادمة (22) قد وعته تماماً في ظل أجواء التحدِّي ورد التحدِّي.
إذاً لا يمكن للأمة الإسلامية أن تحوّل مخزونها الحضاري والثقافي المتراكم إلى فعل وتأثير في واقعها المضطرب، وواقع العصر القلق الذي تعيش فيه‏ (23) ، بعيداً عن التوازن النفسي والمادي الذي لا يتوفر إلا ثمرة لتحقيق الحدّ الأدنى من هذا الكيان... أي بأن يكون كيان الأمة السياسي والتنظيمي انعكاساً وتجلّياً لعقيدة التوحيد التي تشكّل أساس البنيان العقيدي للمسلمين‏ (24) .
________________________________________
(21)لا أريد أن أتحرك مع أولئك الذين يفكرون ببساطة وسذاجة بأنه يكفي الأمة أن تنطلق من عقيدتها ومخزونها التراثي كحل ومفتاح سحري لِتَبْني طموحها ومشروعها التنموي المتقدم.. بل أؤكد ففي هذا السياق ـ أن الأمور ليست بهذه البساطة بل هي على درجة من التعقيد.. لذلك وصفت وقلت بأن هذا الانطلاق نحو مواقع البناء والتحرر شرط ضروري لازم ولكنه ليس كافياً.
(22)أعني بها حكومة السيد محمد خاتمي.
(23)السيد محمد حسن الأمين، م.س.
(24)لا يمكن لعملية النهوض والتغيير أن تنجح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من دون أن تكسب إطاراً ومضموناً يعبّر عن طموحات وآمال الأمة كلها في أن يركّز طاقاتهاويحشد إمكاناتها وقدراتها وفقاً لمناهجها الأصيلة ومتطلباتها النفسية والسلوكية وسياقاتها التعبيرية الحيوية.. لأن مواجهة الواقع الحالي المتخلِّف بكل مواقعه وامتداداته، والتخطيط للمستقبل الواعد لا يمكن أن يتم بإطارها العام الهادف والمثمر إلا إذا شاركت الجماهير، كل الجماهير، والأمة، كل الأمة، في عملية صنع حقيقية عميقة وبنيوية للمستقبل، واستنفرت كل مواهبها في هذا الاتجاه، من خلال شعورها المتحرك بضرورة التغيير ضمن المركب الواعي الذي تؤمن به وتلتزمه في حركة الحياة.

[الصفحة - 216]


صحيح أن صلة الأمة عموماً والمؤمنين بتلك العقيدة خصوصاً قد تراخت نسبياً مع الانفتاح على الغرب، ومع سيادة أنماط حياته السياسية والتربوية والتنظيمية والإدارية والحقوقية، إلاّ أنّ هذه الصلة عادت من جديد لتقوى بعدما لمست جماهير الأمة كلها نتائج مسيرتها الطويلة نسبياً في هذا المجال، والتي أحالتها إلى مزيد من الخوف والبؤس والشعور بالضعف والحرمان في الحاضر والإحساس المتزايد بالخوف من المستقبل..
الحقيقة الثانية: استكمالاً لما ورد في الحقيقة الأولى، وفي ظلِّ الإنشطار الكامل في البنى المختلفة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية بين ما هو سياسي وثقافي ومؤسسات قائمة تحكم، وبين ما هي عليه هذه المجتمعات من هوية ومعايير مغايرة لواقع الحال السائد.. تداعت الأزمات وراء الأزمات، وضعفت روح المبادرة والمقاومة (52) والإبداع وخاضت شعوب المنطقة حروباً متعددة؛ حيث دفعت، تلك النتائج، الأمة باتجاه المفصل الخطير الراهن المتمثّل فكما تحدّثنا سابقاً ـ في مسيرة التسوية المزعومة بهدف إدخال ذلك الكيان في هيكلية المنطقة، وإعطائه المزيد من الفرص في الهيمنة والتوسُّع والنفوذ عبر مشاريع اقتصادية وثقافية وأمنية في مقابل إلغاء شبه كامل للمنطقة، وتجاهل حتى لهويتها القومية وما تنشئه هذه الهوية من حقوق فضلاً عن هويتها الإسلامية الأصيلة..
في هذه الأجواء الملبَّدة بالغيوم السوداء يجب أن يتحمّل المثقف العربي مسؤوليته، ويراجع تعبيراته ومشاريعه والتزاماته في أن لا ينهمك في السجال والميدان السياسي اليومي للحدث فقط.. فيما تكمن الأزمة فجوهرياً ـ في كيان الأمة الثقافي. إذاً على المثقف أنْ يُحوّل عمله وإنتاجه إلى قرار وسلوك وعمل وأخلاقيات تعامل.. في ممارسته لسلوكية الحوار الشامل والسجال الموضوعي في جدية طرحه لأسئلة النهضة، يُبْرز فأكثر من أيِّ وقت مضى ـ محتوى الهوية الإسلامية للمنطقة ومضمونها بصورة أكثر فاعلية وأصالة وواقعية.. وهل الهوية الإسلامية لمجتمعاتنا، في جوهرها، سوى التطلُّع الدائم للبناء المستمر والمتواصل للشخصية الثقافية الإسلامية؟!
________________________________________
(25)باستثناء بعض المواقع المضيئة والنيّرة.. وفي مقدمتها المقاومة الإسلامية الجهادية والفكرية والسياسية في لبنان التي تشكل أحد أبرز وأقوى وأطهر وأصدق الممانعات الإعتراضية في تاريخ العرب الحديث والتي يمكن أن تكون أساساً واعياً لإنشاء المجتمع المقاوم وتأسيسه.

[الصفحة - 217]


الحقيقة الثالثة: علينا أن نفهم ففي إطار علاقتنا مع الآخر فأن الغرب بالنسبة إلينا هو جزء من العالم، وطرف من أطراف البشرية الأكثر تطوُّراً من الناحية التكنولوجية والاقتصادية، وحتى الثقافية والعلمية (في طبيعة التنظيم والنظام القائم وليس في البنية والمحتوى والمخزون)، وهو الطَّرف الذي يسيطر فإلى حد كبيرف على مصير البشرية، ولكن هذا لا يعني سيطرة أبدية، كما لا يعني أن هناك فوارق وقطيعة مطلقة بين الغرب والبلدان الأخرى، فنحن جزء من عالم إنساني كبير يشهد تحوُّلات جذرية، والصراع القائم بين الشرق والغرب على شي‏ء واحد هو الرأسمال الحضاري أي التراث الحضاري المعنوي والمادي، والتحدِّي الحقيقي الذي يواجهنا هو كيف يمكن لنا أن نسيطر على وسائل هذه الحضارة ونستوعبها حتى يكون لنا مكان إلى جانب الغرب، لا خاضعين له ولا مسيطرين عليه، وإنما نعيش إلى جانبه، وأن ننجح بالسيطرة على التكنولوجيا، وأن نكون فاعلين ومبدعين ومساهمين أيضاً في إنتاج هذه الحضارة وصنعها، شركاء غير متساوين في إطار أو بعد أو دائرة حضارية واحدة.
________________________________________

[الصفحة - 218]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف