البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التشيّع المفترى عليه (3) مداخلات وهوامش نقديّة على كتاب: «تطوُّر الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ من الشُّورى إلى ولاية الفقيه» لأحمد الكاتب‏

الباحث :  الشيخ خالد العطية
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  18
السنة :  السنة الخامسة صيف 1421 هجـ 2000 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2015
عدد زيارات البحث :  2103
التشيّع المفترى عليه (3)
مداخلات وهوامش نقديّة على كتاب: «تطوُّر الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ من الشُّورى إلى ولاية الفقيه» لأحمد الكاتب‏

الشيخ خالد العطية

مناقشة الشُّبهة الثَّانية:
( إن الوصيَّة المرويّة عن النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لعليّ(عليه السلام) وصيّة شخصية لا علاقة لها بالإمامة والخلافة الدِّينية). قال «الكاتب»: «ويقول الكليني في «الكافي»، نقلاً عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق: إنه لما حضرت رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين، فقال للعباس: يا عم محمَّد.. تأخذ تراث محمَّد وتقضي دينه وتنجز عداته؟.. فردّ عليه فقال: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي، إنِّي شيخ كبير كثير العيال قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح!؟ قال: فأطرق هنيهة، ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث محمَّد وتنجز عداته وتقضي دينه؟.. فقال كرد كلامه.. قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها. ثم قال: يا علي، يا أخا محمَّد، أتنجز عدات محمَّد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟.. فقال: نعم بأبي أنت وأمي ذاك عليَّ ولي.
وهذه الوصيَّة، كما هو ملاحظ، وصيَّة عادية شخصية آنية، لا علاقة لها بالسياسة والإمامة، والخلافة الدينية، وقد عرضها الرسول في البداية على العبّاس‏بن عبد المطلب، فأشفق منها، وتحمّلها الإمام أمير المؤمنين طواعية.
وهناك وصيَّة أخرى ينقلها الشيخ المفيد في بعض كتبه عن الإمام أمير
________________________________________

[الصفحة - 190]


المؤمنين(عليه السلام) ويقول: إن رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) قد أوصى بها إليه قبل وفاته، وهي أيضاً وصيَّة أخلاقية روحية عامة، وتتعلَّق بالنظر في الوقوف والصَّدقات.
وإذا ألقينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرها أقطاب الشيعة الإمامية، كالكليني والمفيد والمرتضى، فإننا نرى أنها تكشف عن عدم وصيَّة رسول اللَّه للإمام عليّ بالخلافة والإمامة، وترك الأمر شورى»‏ (1).
تجدر الإشارة، قبل البدء بمناقشة هذه الشُّبهة، إلى أنّ «الكاتب» سيؤسِّس عليها، في الفصل الثاني من كتابه، نظريته، أو بالأحرى نظريَّة خصوم الشيعة التقليديَّة المعروفة، في تفسير نشأة التشيُّع وبروزه على المستوى التاريخي بالمعنى الذي يتجاوز حدود الولاء لشخص الإمام عليّ‏بن أبي طالب(عليه السلام) والقول بتفضيله على سائر الصحابة إلى القول باستخلاف النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) له من بعده وفرض إمامته، وهو ما أسماه «الكاتب» «المعنى السِّياسي» للتشيّع. وأعني بهذه النظرية: ما زعمه هؤلاء، بناءً على ما رواه سيف‏بن عمر، الراوي الذي أجمع علماء الحديث والرجال على تضعيفه واتّهمه أكثرهم بالزندقة، من أنَّ التشيّع اخترعه شخص اسمه عبداللَّه‏بن سبأ غلا في عليّ‏بن أبي طالب أيام خلافته، وقال فيه بأنه وصيُّ النبيّ محمد(صلي الله عليه و آل و سلم) كما كان لكلّ نبيّ وصيّ‏ (2).
وسنرى، عند مناقشتنا لهذه النظريَّة في حينه، كيف تلاعب «الكاتب» بأقوال بعض مؤرِّخي الشيعة وحرّفها على نحو مفضوح ليدعم بها نظريَّة سلفه الكذَّاب سيف هذه، لكن ما أريد قوله الآن: إنّ «الكاتب» قد ربط مصير هذه النظرية التي تشكل حجر الزاوية في مشروع كتابه بمضمون هذه الشبهة، ولهذا يتحتَّم علينا أن نناقشها بشي‏ء من التحقيق والتوسّع، وذلك من خلال توضيح عدة أمور:
دليل إمامة علي وخلافته عند الشيعة هو النصوص وليس الوصية عند الموت‏
أوَّلاً: إنَّ «الكاتب» قدّر أنَّ الطريق الوحيد المتصوّر لتعيين النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) عليّاً(عليه السلام) خليفةً وإماماً من بعده هو أن يوصي له بالخلافة ويعهد بها إليه قُبيل وفاته على نحو ما كان يعهد، مثلاً، «الخلفاء» والسلاطين في عصور الأمويين والعباسيين
________________________________________
(1)تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 19 و20.
(2)تاريخ الطبري: 4/340، ط 6، دار المعارف، مصر: د.ت. وانظر أيضاً: تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي، لصائب عبد الحميد: ص 456، مركز الغدير، بيروت: 1417ه - 1997م.

[الصفحة - 191]


بالخلافة أو الملك لأحد أبنائهم أو أقربائهم، أو على نحو ما عهد الخليفة الأوَّل أبو بكر قبيل وفاته بالخلافة لعمربن الخطاب، أو على نحو ما عهد عمر، وهو على فراش الموت، بالخلافة لواحد من الستة: أعضاء الشورى. ولهذا نجده يعمد إلى انتقاء بعض النصوص التي تتحدَّث عمَّا أوصى به النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لعلي(عليه السلام) عند حضور وفاته، ليقول لنا: إنَّه إن كان ثمّة وصيَّة من النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لعليّ(عليه السلام) فهي هذه الوصيَّة، وهي: «كما هو ملاحظ وصية عادية شخصية آنية، لا علاقة لها بالسياسة والإمامة والخلافة الدينية»، وهي بما أنَّها تمثل كل ما لدينا من نصوص في هذا المجال «تكشف عن عدم وصيَّة رسول اللَّه للإمام عليّ بالخلافة والإمامة وترك الأمر شورى»!‏
ولكنَّ هذا التقدير، بكل حيثياته ومسوّغاته، خاطى تماماً؛ لأنّ الخلافة أو الإمامة التي نتحدَّث عنها لعلي(عليه السلام) منصب ينوب فيه الإمام عن النبي في جميع شأنه الإلهي ما عدا الوحي والنبوَّة، أي أنه منصوب من قبل اللَّه ورسوله‏(صلي الله عليه و آل و سلم) حجَّة على الناس وإماماً لهم ووصيَّاً على حفظ الرسالة والبلوغ بها إلى أقصى غاياتها من بعد الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، ومن مقتضيات هذا الشأن الإلهي الذي ينوب فيه الإمام عن الرسول ومن لوازمه خلافته في حكم أمته وسياستها. وبناءً على هذا المعنى للخلافة، تكون الخلافة جزءاً من الرسالة الإلهية وحكماً أساسياً من أحكام دين الإسلام يجب على الرسول إعلانه وتبليغه لا لمن استخلفه فحسب، وإنما للأمّة التي استخلفه فيها وعلى نحو علني، ولا شك في أنَّ هذا النحو لا تناسبه طريقة الوصيَّة بالمعنى الذي طرحه «الكاتب»، وقدَّر أنه هو الطريق الوحيد المتصوَّر لذلك؛ لأن الخلافة بالمعنى الذي ذكرناه ليست شأناً شخصياً من شؤون الرسول العادية والآنية، كديونه وممتلكاته الخاصة، التي يصحّ أن ينتظر في توريثها والإيصاء بها إلى من يشاء من أقربائه وخاصّته حين حضور وفاته، وفي غيبةٍ ممّن عدا الموصى إليه، وإنما الذي يناسبه هو طريقة النصّ والتعيين العام على مرأى ومسمع من الناس؛ ولهذا لا نجد واحداً من متكلّمي الشيعة يستدلّ في إثبات إمامة عليّ‏بن أبي طالب وخلافته للنبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بالوصيَّة بمعناها الفقهي والتقليدي الضيِّق هذا، أي ما يعهد به الإنسان ويوصي به أهله أو أحداً من خاصّته عند حضور موته، ولا نجد نصّاً واحداً من بين
________________________________________

[الصفحة - 192]


عشرات النصوص التي يستدلّون بها على مدّعاهم يتحدَّث عن وصيَّة النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بالخلافة لعلي عند وفاته إلاّ نص «الكتف والدواة» (3)المتّفق عليه عند السنّة والشيعة والذي أراد فيه النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، حسبما يعتقد الشيعة، أن يحسم أيَّ نزاع محتمل حول خلافة عليّ من بعده، ولكنه مُنع من ذلك. وحتى هذا النصّ فإنّما يستدلّون به لتعزيز ما لديهم من نصوص أخرى، وليس هو النص الأساسي الصريح والمباشر في قضيّة إمامة عليّ(عليه السلام) وخلافته للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) عندهم.
نعم، تتحدَّث نصوص كثيرة عند الشيعة، وبعضها عند السنّة أيضاً، عن وصيَّةٍ ما للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بمعناها المشار إليه آنفاً (الوصية عند الموت) خصّ بها عليّاً(عليه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة غير هذه الوصية التي تضمّنها النص الذي ذكره «الكاتب»، فتذكر أنّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) في تلك اللحظات «أكبّ على عليٍ(عليه السلام) وجعل يسارّه ويناجيه، ثم قبض‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من يومه ذلك، فكان عليّ(عليه السلام)أقرب الناس به عهداً» (4).
ولكنّ الشيعة لا يدّعون أنَّ هذه الواقعة كانت بلاغاً من الرسول للناس بخلافة عليّ وإمامته من بعده، بل ولا حتى بلاغاً لعليّ نفسه بذلك؛ لأنهم يعتقدون أنَّ النصوص قد سبقت من النبي بذلك في مواقف ومناسبات متعددة، وأنّه قد فرغ من بيان هذا الأمر وإبلاغه للأمة ولعلي على حدّ سواء قبل حضور أجله.
وصفوة المعنى الذي قصدت إلى بيانه في هذا الأمر: إنّ الشيعة لا يستندون في ثبوت إمامة عليّ‏بن أبي طالب(عليه السلام) وخلافته للرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، إلى واقعة الوصيَّة عند الموت، وإنما إلى النصّ والتعيين الصَّادرين من النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) قبل حضور أجله والثَّابتين عنه في نصوص وأحاديث كثيرة، منها نصوص الوصيّة، ولكن ليس بهذا المعنى الشخصي الضيّق الذي يزعم «الكاتب» أنَّ الشيعة يبنون اعتقادهم في إمامة عليّ‏بن أبي طالب(عليه السلام) وخلافته للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) على أساسه، وإنّما بمعنى أعمّ وأشمل من ذلك، كما سوف نبيِّنه في الفقرة اللاحقة. فلماذا أغفل «الكاتب» ذكر هذه النصوص ولم يبحثها في كتابه واقتصر على ذكر بعض نصوص الوصيَّة عند الوفاة من دون سواها كأنها كلّ ما يستند إليه الشيعة من نصوص في ثبوت خلافة علي(عليه السلام) للرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم)؟!
________________________________________
(3)أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها: في كتاب العلم باب (40) كتابة العلم، ح‏114، وفي كتاب المرضى، باب (17) قول المريض: قوموا عنّي، ح 5669، كما أخرجه مسلم في كتاب الوصية من صحيحه باب (5)، ح‏1637.
(4)المستدرك على الصحيحين، للحاكم، 3/149، ح‏4671، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1411ه - 1990م.

[الصفحة - 193]


موضوع الوصية في حديث النبي(صلي الله عليه و آل و سلم) ورواياتها وزمن صدورها
ثانياً: إنَّ نصوص الوصيَّة، كما هي مذكورة في مصادر الشيعة والسنّة على حدٍّ سواء، لا تنحصر موضوعاً ولا روايةً ولا زماناً في النطاق الجزئي المحدود الذي ذكره «الكاتب».
أمّا موضوعاً؛ فلأنها تتضمن ما هو أكثر من مجرد الوصية ببعض الأمور الأخلاقية والروحية، أو الوصية ببعض الأمور الشخصية كقضاء الديون وإنجاز العدات والنظر في الوقوف والصدقات وما إلى ذلك.
فالوصيَّة بهذه الأمور في بعض النُّصوص - على رغم دلالتها الضمنية المهمة على ما يتمتَّع به عليّ(عليه السلام) من أهليَّة ومن مكانة خاصة عند النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لا يتمتع بمثلها غيره من الصَّحابة - لا تشكِّل إلاّ مفردة جزئية إذا ما قيست بغيرها من المفردات الأخرى ذات الدلالات الدينية الكليَّة والسياسيَّة العامة التي تضمّنتها نصوص الوصيَّة واستحقَّ بسببها عليّ(عليه السلام) لقب الوصيِّ الذي ذاع واشتهر في أقوال الصحابة والتابعين وفي أشعارهم، وسجَّلته معاجم اللغة عَلَماً عليه بالخصوص‏ (5)، وعلى سبيل المثال لا الحصر سوف أستعرض في ما يأتي بعض تلك النصوص ممَّا اشتمل على المفردات المشار إليها:
1 - حديث يوم الدَّار
قال رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بعدما نزلت آية {وأنذر عشيرتك الأقربين} ، وقد جاء في آخره: «يا بني عبد المطَّلب: إنّي واللَّه ما أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال (عليّ(عليه السلام) والرواية عنه) فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت، وإني لأحدثهم سنّاً..: أنا أكون وزيرك، فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع».
________________________________________
(5)من الصحابة الذين أطلقوا على عليّ لقب «الوصي»: عبداللَّه بن عباس، ومحمدبن أبي بكر، وأبو ذر الغفاري، وحذيفة بن اليمان، وعمروبن الحمق الخزاعي، وخزيمةبن ثابت ذو الشهادتين، وحجر بن عدي، وأبو الهيثم بن التيهان.. وغيرهم.انظر: المراجعات للعلامة شرف الدين، ص 297 - 304، تحقيق حسين الراضي، نشر المجمع العالمي لأهل البيت، إيران، د.ت، تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي، لصائب عبد الحميد، ص 182 - 185، شرح النهج لابن أبي الحديد، 1/143 - 150. وممن وصفه بذلك أيضاً ابنه الحسن السبط في خطبته التي أبَّن فيها أباه بعد وفاته ووصفه فيها بأنَّه: «خاتم الأوصياء ووصي الأنبياء»، مجمع الزوائد، 9/146. ومن المعاجم التي سجّلت اختصاص عليّ بلقب الوصي: لسان العرب لابن منظور (مادة: و ص ي): «وقيل لعلي‏(عليه السلام): وصي».وفي تاج العروس: «والوصي كغني: لقب علي رضي اللَّه عنه» [مادة: و ص ي‏].أما الأشعار التي وُصف فيها(عليه السلام) بلقب الوصي فقد أحصى ابن أبي الحديد منها أربعة عشر شاهداً في حرب الجمل، قال في ختامها: «ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل. وأبو مخنف من المحدّثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها».ثم أحصى بعد ذلك تسعة شواهد وردت في كتاب صفين لنصر بن مزاحم، وقال في ختامها: «والأشعار التي تتضمّن هذه اللفظة كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل، فأمّا ما عداها فإنّه يجلّ عن الحصر ويعظم عن الإحصاء والعدّ، ولولا خوف الملالة والإضجار لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقاً كثيرة»، شرح النهج، لابن أبي الحديد، 1/143 - 150. وانظر أيضاً: المراجعات، ص 297 - 304.

[الصفحة - 194]


وقد روى هذا الحديث بألفاظه السابقة بعينها الطبري في «تاريخ الأمم والملوك» (6)عن ابن إسحاق، كما رواه أيضاً، نقلاً عن تاريخ الطبري أو عن سيرة ابن إسحاق، جماعة من المؤرِّخين والمفسّرين والحفاظ، منهم: ابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن عساكر، والبغوي والخازن‏ (7)، كما رواه الطبري أيضاً في تفسيره‏ (8)غير أنّه هو أو الناسخ حذف قوله‏(صلي الله عليه و آل و سلم) فيه: «ووصيّي وخليفتي فيكم» ووضع مكانه كلمة «وكذا وكذا»، ولعلّ احتمال كون ذلك من عمل الناسخ هو الأرجح كما ذهب إليه بعض الباحثين‏ (9)، وإلاّ فلماذا فعل الطبري ذلك في تفسيره ولم يفعله في تاريخه؟
كما أن ابن مردويه رواه - كما في كنز العمال ‏ - (10)بلفظ: «ويكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي» ، وهو لفظ قريب من اللفظ السابق.
وقد حاول ابن كثير الطعن برواية ابن إسحاق لهذا الحديث بدعوى أنّ في سندها أبا مريم عبد الغفاربن القاسم، قال: «وهو كذّاب شيعي، اتّهمه عليّ‏بن المديني بوضع الحديث، وضعّفه الباقون»(11).
لكن اتهام الرواة الذين يروون في عليّ وأهل البيت ما يخالف عقيدة «أهل السنّة» بالكذب عادة مألوفة عند ابن كثير وغيره من المحدّثين والرجاليين الذين هم على شاكلته في التعصّب لمذهبهم والتحامل على من يخالفهم.
وليس من العلم ولا من الإنصاف في شي‏ء أن يُعمد إلى جرح الرُّواة المعروفين بالتديّن والعدالة والضبط واتّهامهم بالكذب والوضع بمجرد الدَّعوى من دون ذكر أسباب ظاهرة تخلّ بوثاقتهم.
والعجيب - كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين‏ - (12)أنّ ابن كثير نفسه قد شهد بوثاقة أبي مريم في موضع آخر من كتابه «البداية والنهاية».
وممّن شهد لأبي مريم بالعلم والوثاقة، من المحدّثين، شعبة، قال: «لم أرَ أحفظ منه» (13)، ولا شكّ في أن شعبة ممَّن لا يُتّهم بالتشيّع.
ويمكن الوقوف على مكانة أبي مريم في الحديث ودرجته في الوثاقة فيه من خلال شهادة ابن عقدة - وهو من كبار المحدّثين الثقاة في القرنين الثالث و الرابع‏ -
________________________________________
(6)تاريخ الطبري، 2/319 - 321.
(7)الكامل في التاريخ، 2/62 و63، شرح النهج، 13/210، 244، ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر، للمحمودي، 1/85، ح‏2139، 140، 141، تفسير البغوي، 4/287، دار الفكر، بيروت، 1405ه. تفسير الخازن، 3/371 - 372، 390، دار المعرفة، بيروت.
(8)تفسير الطبري، 19/121 و122.
(9)السيد سامي البدري، شبهات وردود، 3/25، وانظر أيضاً: هوامش الشيخ حسين الراضي على كتاب المراجعات، هامش (459)، ص 317، نشر المجمع العالمي لأهل البيت، قم، د.ت، معالم المدرستين، للسيد مرتضى العسكري، 1/404 طبعة مدبولي.
(10)كنز العمال، 13/149 ح‏36465، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413ه - 1993م.
(11)البداية والنهاية، 3/53، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1413ه - 1992م.
(12)صائب عبد الحميد، تاريخ الإسلام السياسي والثقافي، ص 169، وانظر أيضاً، البداية والنهاية، 5/228.
(13)لسان الميزان، لابن حجر، 4/42 ترجمة رقم (123)، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1406ه - 1986م.

[الصفحة - 195]


التي نقلها ابن عدي في حقّه وأوردها ابن حجر العسقلاني في «لسان الميزان»، قال ابن عدي: «سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه، وتجاوز الحدَّ في مدحه حتى قال: لو ظُهر على أبي مريم ما اجتمع الناس إلى شعبة» (14).
وبطبيعة الحال لم ترق هذه الشهادة لابن عدي، ولذا قال معقّباً عليها: «وإنما مال إليه ابن عقدة هذا الميل لإفراطه في التشيّع» (15).
وهكذا تسقط كرامة الرجال، ومعها حقائق التاريخ بسبب سقوط الموضوعية والنزاهة واختلال المعايير!
2 - حديث بريدة الأسلمي عن رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم): «لكل نبي وصيٌ ووارث، وإن عليّاً وصيّي ووارثي»
ومن رواته: ابن عساكر في «تاريخ دمشق» والذهبي في «ميزان الاعتدال»، والخوارزمي في «المناقب»، وابن المغازلي في «مناقب عليّ‏بن أبي طالب»، والمحب الطبري في «ذخائر العقبى»، والمناوي في «كنوز الحقائق»، والكنجي في «كفاية الطالب» والقندوزي في «ينابيع المودة» (16).
قال العلامة شرف الدين: «هذا الحديث أورده الذهبي في أحوال شريك (أحد رواة الحديث) من ميزان الاعتدال وكذّب به، وزعم أنّ شريكاً لا يحتمله، وقال: «إنّ محمدبن حميد الرازي (أحد رواة الحديث) ليس بثقة»، والجواب: إنَّ الإمام أحمدبن حنبل والإمام أبا القاسم البغوي، والإمام ابن جرير الطبري وإمام الجرح والتعديل ابن معين وغيرهم من طبقتهم، وثّقوا محمدبن حميد ورووا عنه، فهو شيخهم ومعتمدهم كما يعترف به الذهبي في ترجمة ابن حميد في الميزان، والرجل ممن لم يتهم بالرفض ولا بالتشيّع، وإنما هو من سلف الذهبي، فلا وجه لتهمته في هذا الحديث» (17).
3 - حديث سؤال سلمان النبي عن وصيّه‏
وقد رواه أحمدبن حنبل عن أنس في كتاب «المناقب» حسبما ذكر ذلك المحب الطبري في «الرياض النضرة» (18)قال:
________________________________________
(14)لسان الميزان، 4/43.
(15)المصدر نفسه.
(16)ترجمة الإمام علي‏(عليه السلام) من تاريخ دمشق، 3/5 ح‏1021، 1022، ميزان الاعتدال، 2/273 المناقب، للخوارزمي، ص 42، ابن المغازلي، ص 200، ح‏238، المحب الطبري، ص 71، المناوي، ص 130 ط بولاق، الكنجي، ص 620 ط الحيدري وص 131 ط الغري، القندوزي، باب (15).
(17)المراجعات، ص 425، تحقيق الشيخ حسين الراضي، نشر المجمع العالمي لأهل البيت.
(18)الرياض النضرة، 3/138، مجمع الزوائد، 9/113.

[الصفحة - 196]


«عن أنس، قال: قلنا لسلمان: سل النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من وصيُّه؟ فقال سلمان: يا رسول اللَّه من وصيّك؟ قال: يا سلمان، من كان وصي موسى؟ قال: يوشع بن نون، قال: فإنّ وصيِّي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي عليّ‏بن أبي طالب».
وفي رواية الطبراني في المعجم الكبير (19)عن أبي سعيد الخدري عن سلمان «قال: قلت يا رسول اللَّه لكل نبي وصي فمن وصيُّك؟ فسكت عنّي، فلما كان بعدُ رآني، فقال: يا سلمان، فأسرعت إليه، قلت: لبَّيك، قال: تعلم من وصي موسى؟ قلت: نعم، يوشع‏بن نون، قال: ولمَ؟ قلت: لأنه كان أعلمهم، قال: فإنّ وصيّي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي ينجز عدتي ويقضي ديني عليّ‏بن أبي طالب».
وقد عقَّب الطبراني على هذا الحديث بقوله: «قال أبو القاسم: قوله «وصيِّي» يعني أنه أوصاه في أهله لا بالخلافة، وقوله «خير من أترك بعدي» يعني من أهل بيته‏(عليهم السلام)» (20).
وهذا التَّعقيب لا يخرج عن كونه محاولة تأويل متعسّفة وغير مبنيَّة على قرائن صحيحة لحصر معنى وصاية عليّ(عليه السلام) الثابتة في هذا الحديث في نطاق خاص محدود، وهي تشبه في أهدافها محاولة «الكاتب» التي نحن بصدد الحديث عنها لحصر وصاية عليّ(عليه السلام) في نطاق قضاء ديون النبي وإنجاز عداته وما إلى ذلك من شؤون شخصيَّة، وإلاّ فما شأن سلمان بالسؤال عمَّن يكون وصيَّاً للنبيِّ في أهل بيته؟ وهل كان يوشع‏بن نون وصياً لموسى في أهل بيته فحسب أو في قومه وأمته؟ ومن قبل يوشع كان هارون الذي أوصاه موسى بنص القرآن بقوله:{اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [الأعراف/142]، وهل كان يوشع أعلم أهل بيته فحسب أو أعلم قومه؟
أسئلة نضع الإجابة عنها في عهدة «أبي القاسم» وحده الذي أسند إليه الطبراني هذا التعقيب.
4 - حديث اختيار اللَّه تعالى لعلي‏(عليه السلام) بعلاً لفاطمة ووصيّاً للنبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم)
وهو حديث أبي أيوب الأنصاري الذي رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (21)عن رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، قال: «يا فاطمة، أما علمت أنّ اللَّه عزّ وجلّ اطّلع على أهل
________________________________________
(19)المعجم الكبير، 6/221، ح 6063، دار إحياء التراث العربي، ط2، بيروت، د.ت.
(20)م.ن.
(21)المعجم الكبير، 4/171 ح 4046، مجمع الزوائد، 8/253.

[الصفحة - 197]


الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبياً، ثم اطّلع الثانية، فاختار بعلك، فأوحى إليّ، فأنكحته، واتخذته وصيّاً».
قال العلامة شرف الدين في المراجعات: «انظر كيف اختار اللَّه عليّاً من أهل الأرض كافة بعد أن اختار منهم خاتم أنبيائه، وانظر إلى اختيار الوصي وكونه على نسق اختيار النبي، وانظر كيف أوحى اللَّه إلى نبيّه أن يزوّجه ويتخذه وصيّاً..» (22).
5 - حديث أول الداخلين من الباب‏
وهو حديث أنس بن مالك الذي أخرجه الحافظ أبو نعيم وغيره‏ (23)عن رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) قال: «يا أنس أوَّل من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين، وسيد المسلمين، ويعسوب الدين، وخاتم الوصيين، وقائد الغرِّ المحجَّلين، قال أنس: فجاء عليّ، فقام إليه رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) مستبشراً فاعتنقه، وقال له: أنت تؤدِّي عنِّي، وتسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه من بعدي».
6 - حديث المنزلة والوراثة
وهو حديث زيد بن أبي أوفى الذي ذكر قصَّة مؤاخاة النبي بين أصحابه والذي رواه عنه أحمد بن حنبل في كتاب «المناقب» حسبما ذكره الحاكم في «المستدرك»، ورواه أيضاً ابن عساكر في تاريخه‏ (24)قال: «فقال عليّ: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، غيري، فإن كان هذا من سخطك عليَّ فلك العتبى والكرامة. فقال رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) : والذي بعثني بالحق ما أخَّرتك إلا لنفسي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيَّ بعدي وأنت أخي ووارثي. قال: وما أرث منك يا نبي اللَّه؟ قال: ما ورَّثت الأنبياء من قبلي. قال: وما ورَّثت الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي. ثم تلا رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم):{إخْواناً على سُرُرٍ مُتَقابلين} المتحابين في اللَّه ينظر بعضهم إلى بعض».
7 - حديث علّمني ألف باب‏
وهو حديث عبداللَّه بن عمرو الذي أخرجه الحافظ ابن عدي وذكره ابن عساكر وابن كثير (25)، قال: «قال رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) في مرضه: ادعوا لي أخي، فجاء أبو بكر،
________________________________________
(22)المراجعات، ص 215.
(23)حلية الأولياء، للحافظ أبي نعيم، 1/63، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.
(24)مستدرك الحاكم، 13/105 - 106، ح 36345، مختصر تاريخ دمشق، 10/42 - 43.
(25)الكامل في ضعفاء الرجال، 2/450 رقم 562، البداية والنهاية، لابن كثير، 7/396 حوادث سنة 40ه، ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر، 2/484 و485، ح‏1012.

[الصفحة - 198]


فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي، فجاء عثمان فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي: فدعي له عليّ‏بن أبي طالب، فستره بثوب، وانكبّ عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال النبي لك؟ قال: علّمني ألف باب يفتح كلُّ باب ألف باب».
ولهذا الحديث شواهد من أحاديث أُخَر كثيرة تعضده وتؤيده موجودة في كتب الفريقين منها، عند السنّة: ما رواه الفخر الرازي في التفسير الكبير (26)في تفسير قوله تعالى: {إن اللَّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال: «قال علي(عليه السلام): علمني رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب... الحديث».
ومنها: ما رواه ابن عبد البرّ في «الاستيعاب»، وابن الأثير في «أسد الغابة» (27)بسنديهما عن عبداللَّه بن عباس، قال: «واللَّه لقد أعطي عليّ‏بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيمَّ اللَّه لقد شارككم في العشر العاشر».
ولهذا لا قيمة لقول ابن عدي الذي نقله عنه ابن عساكر بعد أن ذكر الحديث المتقدِّم: «وهذا حديث منكر، ولعل البلاء فيه من ابن لهيعة (أحد رواة الحديث)، فإنه شديد الإفراط في التشيّع، وقد تكلّم فيه الأئمة ونسبوه إلى الضعف» (28).
فالحديث ليس بمنكر، كما أنّ عبداللَّه‏بن لهيعة الذي هو من رجال الصحاح، قد أثنى عليه أحمدبن حنبل بقوله، كما في تهذيب التهذيب: «ومن كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه واتقانه» (29). «وقال الحسن بن علي الخلال عن زيد بن الحباب: سمعت الثوري يقول: عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع، قال: وسمعته يقول: حججت حججاً لألقى ابن لهيعة، وقال أبو الطاهر بن السرح: سمعت ابن وهب يقول: حدّثني واللَّه الصادق البارّ عبداللَّه‏بن لهيعة، وقال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمدبن صالح، وكان من خيار المتَّقين، يثني عليه» (30).
ولكن مشكلته، في ما يظهر، عند من تكلّم فيه أنه متَّهم بالتشيّع لأهل البيت، وهذه تهمة ردّت لأجلها أحاديث أئمة أهل البيت أنفسهم أمثال الباقر والصادق. فكيف بابن لهيعة وأمثاله!
________________________________________
(26)التفسير الكبير، للفخر الرازي، 8/21.
(27)الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البرّ، 3/207، دار الكتب العلمية، بيروت 1415ه - 1995م، أُسد الغابة، لابن الأثير، 4/96، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415ه - 1994م.
(28)ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر، 2/485، ح‏1012.
(29)تهذيب التهذيب، لابن حجر، 3/242 و243 ترجمة عبداللَّه لهيعة.
(30)م.ن.

[الصفحة - 199]


8 - حديث المسارّة والمناجاة عند حضول أجل رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم)
وهو حديث أمّ سلمة الذي أخرجه الحاكم في «المستدرك» واعترف بصحته الذهبي في تلخيصه، وأخرجه أيضاً ابن عساكر في تاريخه، وابن حجر الهيثمي في «مجمع الزوائد» وغيرهم من الحفاظ (31)، وقد سبقت الإشارة إلى قسم منه:
قالت (رض): «والذي أحلف به أن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ، عدنا رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) غداة وهو يقول: جاء عليّ، جاء عليّ مراراً، فقالت فاطمة - (رض): كأنَّك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد، قالت أم سلمة: فظننت أنّ له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) وجعل يسارّه ويناجيه، ثم قُبض رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من يومه ذلك، فكان عليّ أقرب الناس عهداً».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» (32)وقال الشيخ المفيد في (الإرشاد) بعد الإشارة إلى مضمون هذا الحديث: «فقال له الناس: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟ فقال: علّمني ألف باب، فتح لي كلُّ باب ألف باب، ووصّاني ما أنا قائم به إن شاء اللَّه» (33).
9 - ما عهد به النبيّ إلى عليّ وأطلعه عليه من علوم الغيب‏
قال عليّ(عليه السلام) في خطبة له في «نهج البلاغة» (34): «واللَّه لو شئت أن أخبر كلَّ رجلٍ منكم بمخرجه ومَوْلِجِه وجميع شأنه لَفعلتُ، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) . ألا وإنِّي مُفضيه إلى الخاصّة ممَّن يُؤْمَنُ ذلك منه، والذي بعثه بالحقِّ، واصطفاه على الخلق ما أَنْطِقُ إلاّ صادقاً، وقد عهد إليَّ بذلك كلِّه وبمهْلِك من يَهْلِك ومَنْجَى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمُرُّ على رأسي إلاَّ أفرغه في أذني، وأفضى به إليَّ».
وممّا يشهد لما ذكره عليّ(عليه السلام) في خطبته هذه ما روي عن ابن عباس، قال: «كنا نتحدّث أنّ النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) عَهِد إلى عليّ سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره» (35).
كما تشهد له وتصدّقه أحاديث نبوية صحيحة كثيرة أخبر فيها النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم)
________________________________________
(31)المستدرك، 3/149 ح‏4671، تلخيص المستدرك، للذهبي، 3/138، ترجمة الإمام علي‏(عليه السلام) من تاريخ ابن عساكر، 3/16 ح‏1029 و1030 و1031؛ مجمع الزوائد، 9/112.
(32)المستدرك، 3/149، ح‏4671.
(33)الإرشاد، للشيخ المفيد، 1/186، مؤسسة آل البيت، بيروت، 1416ه - 1995م.
(34)نهج البلاغة، خطبة 175.
(35)حلية الأولياء، 1/68، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.

[الصفحة - 200]


عليّاً(عليه السلام) بما سوف يقع له ولأمته من حوادث، منها، ما رواه الحاكم بسنده عن عليّ(عليه السلام) قال: «إنّ مما عهد إليَّ النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) أنَّ الأمة ستغدر بي بعده».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» (36).
ومنها، ما رواه الحاكم بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: «كنّا مع رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) فانقطعت نعله فتخلّف عليّ يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله»، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو، قال: لا، قال عمر: أنا هو، قال: لا، ولكن خاصف النعل، يعني عليّاً، فأتيناه فبشّرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنه قد كان سمعه من رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم)».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» (37).
إلى غير ذلك مما يصعب حصره ويدلّ في جملته على أنَّ النبي قد عهد إلى عليّ بما سوف يجري من حوادث بعد وفاته وأوصاه بما يتعيّن عليه عمله في مواجهتها.
10 - حديث الوصية بالتمسّك بالثقلين وولاية علي(عليه السلام)
ولعلّ من أبرز ما ينبغي عدّه من أحاديث الوصيّة أيضاً الحديث المعروف بحديث «الثَّقلين» الذي تضمّن وصيّة النبيّ لأمّته بالتمسّك من بعده بكتاب اللَّه وعترته أهل بيته، وهو من أشهر الأحاديث، وقد ذكر ابن حجر في «الصواعق المحرقة» أن له «طرقاً كثيرة وردت عن نيِّف وعشرين صحابياً» (38).
وقد روي أنَّ النبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ذكره في عدّة مواطن: بعد انصرافه من الطائف، وفي مسجد الخيف بمنى، وفي حجة الوداع بعرفة، وفي غدير خم قريباً من الجحفة، وفي حجرته قبل وفاته‏ (39)، ما يشهد بأهمية غير عادية لهذه الوصيَّة، وعناية خاصّة بتبليغها للأمّة.
ومن رواياته: ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم، قال: «قام فينا رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال:
________________________________________
(36)المستدرك، 3/150 ح‏4676.
(37)م.ن.
(38)الصواعق المحرقة، ص 148.
(39)مذهب الإمامية، للدكتور عبد الهادي الفصلي، ص 291، نشر مركز الغدير، بيروت.

[الصفحة - 201]


«أمّا بعد ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربِّي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثَّقلين: أولهما كتاب اللَّه، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به.. وأهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي» (40).
وغنيٌّ عن البيان أنّ مراد النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من أهل بيته كان محدّداً واضحاً لدى أصحابه عند مخاطبتهم بهذا الحديث، وذلك لنزول آية التطهير وتطبيقها على عليّ وفاطمة والحسن والحسين‏(عليهم السلام) قبل ذلك في حادثة «الكساء» المشهورة التي روتها عائشة وأم سلمة - (رض) (41)، وتكرار هذا التطبيق مدة طويلة بعد هذه الحادثة، كما ورد في عدّة روايات، منها: رواية عبداللَّه‏بن عباس، ورواية أبي الحمراء، ورواية أنس‏بن مالك، قال ابن عباس في روايته:«شهدنا رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب عليّ‏بن أبي طالب(عليه السلام) عند وقت كلّ صلاة، فيقول: «السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته أهل البيت{إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} » (42).
والظاهر من بعض الرِّوايات الصحيحة عند أهل السنّة أنّ حديث «الغدير» المشهور والمنصوص فيه على ولاية عليّ(عليه السلام) وخلافته للنبي قد نطق به الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم) في سياق واحد مع حديث الثَّقلين.
ومن تلك الروايات، ما رواه الحاكم النيسابوري بإسناده عن زيدبن أرقم، قال: «لما رجع رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن فقال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثَّقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض، ثم قال: «إنَّ اللَّه عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن»، ثم أخذ يد عليّ رضي اللَّه عنه، فقال: «من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه» ، وذكر الحديث بطوله.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله» (43).
________________________________________
(40)صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب (4)، ح‏2408.
(41)سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، ح‏3129، مستدرك الحاكم، 3/146 ح‏4705، سنن البيهقي، 2/169، الدرّ المنثور، 5/198. وانظر أيضاً، الإمامة وأهل البيت، للدكتور محمد بيومي مهران، 1/17 - 26، دارالنهضة، بيروت، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 149 وما بعدها، دار الأندلس، بيروت.
(42)الدرّ المنثور، 5/199، أسد الغابة، 7/223، تحفة الأحوزي، 9/67 و68، ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر، 1/272 - 274 ح‏320 و321 و322.
(43)مستدرك الحاكم، 3/118 ح‏4576.

[الصفحة - 202]


فهذه النصوص الصادرة عن النبي بخصوص الوصيَّة وغيرها الكثير، مما استفاض نقله واشتهر عند السنَّة، وتواتر عند الشيعة، من الواضح أنها - من حيث المجموع‏ - تضمّنت عدة مفردات أو بنود شملتها تلك الوصية:
أ - تعيين عليّ وصيّاً على حفظ الرسالة وتوريثه علوم النبوة.
ب - تعيينه وليّاً لأمر الأمة من بعد الرسول وحاكماً عليها.
جـ - الوصية إليه بما يتعيّن عليه عمله في مواجهة الأحداث الطارئة بعد وفاة الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم).
وجميع هذه المفردات أو البنود السالفة تشكِّل قضايا دينيَّة وسياسيَّة عامة تتصل برسالة الإسلام وحياة المسلمين من بعد الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، ولا يمكن وصف أيٍّ منها بأنّه شأن شخصي أو آني يختص بالرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم) أو بعلي.
وبهذا يتبيّن أن ما ذكره «الكاتب» من أن وصيّة النبي لعلي كانت «وصية عادية شخصية آنية لا علاقة لها بالسياسة والإمامة والخلافة الدينية» لا يتفق مع الحقيقة التي عرفناها في ضوء النصوص السابقة.
هذا كلُّه من حيث موضوع نصوص الوصيَّة.
أمّا من حيث رواية تلك النصوص فإنَّ نصوص الوصية مستفيضة، بل متواترة معنىً عند السنّة، كما هو واضح من النماذج والأمثلة التي سبق عرضها، ومتواترة معنىً ولفظاً عند الشيعة، وليست محدودة برواية واحدة أو روايتين كما حاول «الكاتب» أن يوهم القارى.
وأما من حيث زمان صدور نصوص الوصيَّة فقد لاحظنا من النصوص السابقة - وهي كانت مجرَّد أمثلة - أنَّها لم تصدر في زمان واحد محدّد وإنما صدرت في أزمنة مختلفة من حياة الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بدءاً من بداية الدعوة (حديث يوم الدار) وانتهاءً بأيَّام مرضه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ويوم حضور وفاته‏(صلي الله عليه و آل و سلم).
وجود وصيّة شخصية من النبي لعلي لا ينفی وجود وصية له أخری
ثالثاً: إنَّ الوصية لعلي من النبيّ بأمور أخلاقية عامَّة أو بأمور شخصية تتّصل بتركة النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) وقضاء ديونه وإنجاز عداته لا تعني بالضرورة عدم وجود وصيّة
________________________________________

[الصفحة - 203]


غيرها له بأمور أخرى، ولا تتنافى في حدِّ ذاتها مع تلك الوصيّة، اللهم إلاّ إذا كانت هذه الوصيَّة وحدها هي الصادرة عن النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) والثابتة عنه. وهذا ما تبيّنا خلافه في ضوء النصوص التي تمّ عرض نماذجَ منها في الفقرة السابقة.
كما أنّ الوصيّة ليس من المفروض دائماً أن يتأخّر صدورها من صاحبها إلى اللحظات الأخيرة من حياته، وإنّما يمكن أن تصدر خلال حياته العاديَّة وأن يتكرَّر تأكيدها منه في أوقات متعدّدة، لا سيما إذا كانت في أمور غير آنيّة قابلة موضوعياً للتغيّر.
هذا بالنسبة لوصايا الأشخاص العاديين الذين ليست لهم صفة استثنائية فوق صفات البشر العادية، فكيف بوصايا الرسل والأنبياء الموحى بها إليهم من اللَّه والمعدودة جزءاً لا يتجزأ من رسالتهم إلى الناس.
مناقشة رواية عرض الوصية علی العباس بن عبد المطلب
رابعاً: إنَّ نصَّ الوصيَّة الذي نقله «الكاتب» عن الشيخ الكليني رغم أنّ ثبوته أو عدم ثبوته لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً ما دام أنَّ الاعتقاد بإمامة عليّ(عليه السلام) وخلافته للنبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم) عند الشيعة لا يستند في الأساس إلى وصيّة النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) عند موته في ضوء ما عرفناه في الفقرات الثلاث السابقة، إلاّ أنَّ الشكوك تحيط به من كلِّ ناحية سنداً ومتناً:
أمّا سنداً؛ فلأنّ فيه سهل بن زياد، ومحمد بن الوليد شباب الصَّيرفي، وكلٌّ منهما ضعيف، لا يعوِّل المحقِّقون من علماء الشيعة على ما ينفردان بروايته‏ (44).
وأمّا متناً؛ فلأنّ فيه أنّ الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم) قد عرض على عمِّه العباس أوّلاً أن يأخذ تراثه في مقابل قضاء ديونه وإنجاز عداته، فلمّا أشفق العباس من ذلك عرضه النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) على عليّ(عليه السلام)، فقبله.
وهذا أمر يصعب فهمه في ضوء النصوص الكثيرة التي صدرت عن النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) في وقت سابق على وقت مرضه الذي توفي فيه ونصّ فيها على أنّ عليّاً هو من يقضي دينه وينجز عداته بعد وفاته. وقد تقدّم عرض بعض تلك النصوص في الفقرة الثانية، ومنها، قوله‏(صلي الله عليه و آل و سلم): «فإن وصيِّي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب».
________________________________________
(44)معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي، 8/337 - 341، 17/313 - 315. وانظر أيضاً في أحوال سهل بن زياد، الرسائل الرجالية، للسيّد محمّد باقر الشفتي، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، نشر مكتبة مجد السيّد بأصفهان، 1417ه.

[الصفحة - 204]


فهل نسي النبي ما صدر عنه في هذا الشأن؟ أو تراجع عنه؟ أو أنه أراد أن يجامل عمّه العباس لعلمه المسبق بموقفه؟ أو أراد أن يظهر للناس بخله وحرصه على المال وعدم استعداده لتحمّل مسؤولية أي غُرْم تجرّه عليه هذه الهبة المشروطة بقبول الوصيَّة؟ أو أنّه أراد أن يفوّت عليه فيما بعد أو على أولاده من بعده أي فرصة لادّعاء وراثة النبي من بعد وفاته لما سبق في علم الغيب الذي أَطْلعه اللَّه عليه من أنّه سوف يرفض ما يعرضه النبي عليه من ذلك الأمر إشفاقاً من تبعاته، ولما سبق في هذا العلم أيضاً من أن بني العباس سوف يدّعون في يومٍ ما وراثة جدّهم للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم)؟
احتمالات بعضها مقطوع بعدم صحته، وبعضها الآخر بعيد جداً في ضوء الفهم العرفي والاعتيادي للأمور. وأظن ظنّاً غير محقَّق في ضوء هذا الفهم لمتن الرواية، وفي ضوء ضعف سندها واشتهار بعض رجاله بالوضع، أنّ الرواية في مجملها ليست بعيدة عن أجواء الصراع السياسي والعقدي الذي كان ناشباً أيام العباسيين بينهم وبين معارضيهم، وأنّ لها صلةً وتعلّقاً بفكرة وراثة العباس‏بن عبد المطلب للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) التي قالت بها فرقة «الراوندية» وادّعى العباسيون على أساسها أحقيَّتهم بالخلافة (45).
فهذه الرواية بناءً - على هذا الاحتمال المظنون‏ - تحاول أن تفنِّد هذه الفكرة وتبطلها موظِّفةً بعض ما كان مشتهراً ومعروفاً من نصوص في حقّ عليّ(عليه السلام).
وعلى أيّ حال، فسواء صدق هذا الظن أم لم يصدق، وسواء صحّت هذه الرواية أم لم تصح فإنها - كما أسلفت‏ - ليس لها أي مغزى في سياق نفي إمامة عليّ(عليه السلام) وخلافته للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم).
تزيّد «الكاتب» وافتراؤه في حكاية ما أوصى به النبيّ عند وفاته‏
خامساً: ذكر «الكاتب» - في ما تقدم نقله عنه‏ - أنّ الشيخ المفيد «ينقل في بعض كتبه وصية عن أمير المؤمنين يقول: إنّ رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) قد أوصى بها إليه قبل وفاته، وهي أيضاً وصية أخلاقيَّة روحيَّة عامة، وتتعلَّق بالنظر في الوقوف والصدقات».
ولدى مراجعة المواضع التي أحال عليها في كتابي «الأمالي» و«الإرشاد» للشيخ المفيد في الهامش، وجدت في كتاب «الأمالي» (46)الوصيّة التي أشار إليها،
________________________________________
(45)المقالات والفرق، للأشعري، ص 65، مركز انتشارات علمي وفرهنگي، إيران، 1360ه.ش. وانظر أيضاً: جواب أبي جعفر المنصور على رسالة محمد ذي النفس الزكية، يردّ بها عليه ويدّعي فيها وراثة العباس للنبي وأحقيّة أولاده بولايته على الأمة، في تاريخ الطبري، 7/568 - 571، دار المعارف، ط5، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(46)أمالي الشيخ المفيد، ص 220 - 223، المجلس (26)، دار المفيد، بيروت، 1414ه - 1993م.

[الصفحة - 205]


ولكني لم أجد في هذه الوصية أي إشارة للنظر في الوقوف والصدقات. أما كتاب «الإرشاد» فإني لم أجد في الموضع الذي أحال إليه منه إلاّ الوصية التي نقلها الشيخ الكليني في كتابه «الكافي» وسبق الحديث عنها، ووجدت في موضع آخر من الجزء الثاني من الكتاب ما يمكن أن يكون إشارة إلى ما ورد في «الأمالي»، قال المفيد في «الإرشاد»:
«وكان الحسن بن علي وصيَّ أبيه أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليهما على أهله وولده وأصحابه، ووصّاه بالنظر في وقوفه وصدقاته، وكتب له عهداً مشهوراً ووصيّة ظاهرةً في معالم الدين وعيون الحكمة والآداب، وقد نقل هذه الوصيّة جمهور العلماء، واستبصر بها في دينه ودنياه كثير من الفقهاء» (47).
وعلى أيّ حال، فليس في هذا الذي ذكره المفيد في «الإرشاد» ولا في ما ذكره في «الأمالي» ما يفيد بأنّ النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) قد أوصى علياً بالنظر في وقوفه وصدقاته، وإنَّما هو محض تزيّد وافتراء عليه.
وهذه ملاحظة قصدت أن أضيفها إلى ما سبق ذكره في أوائل هذا البحث من ملاحظات منهجيَّة تتعلّق بطريقة تعامل «الكاتب» الخاطئة وغير الأمينة مع النُّصوص.
مناقشة الشبهة الثالثة:
إحجام الإمام علي(عليه السلام عن قبول البيعة من العباس‏بن عبد المطّلب وأبي سفيان حينما عرضاها عليه بعد وفاة النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لمخالفة ذلك، في رأيه، لمبدأ الشورى). قال «الكاتب»: «وإذا ألقينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرهاأقطاب الشيعة الإمامية كالكليني والمفيد والمرتضى، فإننا نرى أنَّها تكشف عن عدم وصية رسول اللَّه للإمام عليّ بالخلافة والإمامة، وترك الأمر شورى، وهو ما يفسِّر إحجام الإمام علي عن المبادرة إلى أخذ البيعة لنفسه بعد وفاة الرسول، بالرغم من إلحاح العباس‏بن عبد المطلب عليه بذلك، حيث قال له: «امدد يدك أبايعك، وآتيك بهذا الشيخ من قريش - يعني أبا سفيان‏ - فيقال: «إنّ عمَّ رسول اللَّه بايع ابن عمه» فلا يختلف عليك من قريش أحد، والناس تبع لقريش». فرفض الإمام عليّ ذلك.
________________________________________
(47)الإرشاد، 2/7.

[الصفحة - 206]


وقد روى الإمام الصادق عن أبيه عن جده: أنَّه لما استُخلف أبو بكر جاء أبو سفيان إلى الإمام علي وقال له: أرضيتم يا بني عبد مناف أنْ يلي عليكم تيم؟ أبسط يدك أبايعك، فواللَّه لأملأها (كذا) على أبي فصيل خيلاً ورجلاً، فانزوى عنه وقال: ويحك يا أبا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على أبي بكر. ما زلت تبغي للإسلام العوج في الجاهلية والإسلام، وواللَّه ما ضرَّ الإسلام ذلك شيئاً حتى ما زلت صاحب فتنة» ‏ (48).
إنَّ هذه الشبهة التي تعلّق بها «الكاتب»، شأنها شأن غيرها من شبهاته، ليست بدعاً من عنده وإنَّما هي مطروحة في كتب المتكلمين منذ عصور التنظير الكلامي الأولى التي احتدم فيها الجدل بينهم حول إمامة عليّ(عليه السلام) وخلافته للنبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم). وقد ذكرها القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه «المغني»، وأجاب عليها الشريف المرتضى في «الشافي» (49)، كما أجاب عليها أستاذه الشيخ المفيد من قبله.
جواب الشيخ المفيد على الشبهة
وقد قرّر الشيخ المفيد هذه الشبهة من وجهٍ آخر في كتابه «العيون والمحاسن» فقال: «ما رأيت أوهنَ ولا أضعف من تعلّق المعتزلة ومتكلّمي المجبّرة بقول العباس‏بن عبد المطلب رحمه اللَّه لأمير المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاة رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم): «امدد يدك يابن أخ أُبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللَّه بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان». وقد ادّعوا أنّ في هذا دليلاً على أنّ رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لم ينص على أمير المؤمنين(عليه السلام).
وقولهم: إنّه «لو كان نصّ عليه لم يدعه العباس إلى البيعة»؛ لأنّ المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة، فلمّا دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دلّ على بطلان النص» (50).
ثم أجاب عليها جواباً ذا شِقَّين، أحدهما: «نقضي» يُقصد به إفحام صاحب الشبهة وإلزامه بما لا يلتزم به في عقيدته، قال فيه:
«إنْ كان دعاء العباس أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى البيعة يدلّ على ما زعمتم من
________________________________________
(48)تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 20 و21.
(49)الشافي في الإمامة، 3/94 و95، 116 و117، وانظر أيضاً، 2/149 و150.
(50)الفصول المختارة من العيون والمحاسن، للسيد المرتضى، ص 249، دار المفيد، بيروت، 1414ه - 1993م.

[الصفحة - 207]


بطلان النَّص وثبوت الإمامة من جهة الاختيار، فيجب أن يكون دعاء النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان دليلاً على أنَّ نبوته‏(صلي الله عليه و آل و سلم) إنّما ثبتت له من جهة الاختيار؛ فإنه لو كان ثابت الطاعة من قبل اللَّه عزّ وجلّ وإرساله له وكان المعجز دليل نبوته، لاستغنى عن البيعة له تارةً بعد أُخرى فإن قلتم ذلك، خرجتم عن الملَّة، وإن أثبتموه نقضتم العلَّة عليكم» (51).
وأما الشقّ الآخر من الجواب فقد حلّل فيه الشيخ المفيد الأثر الدستوري للبيعة ودورها في تثبيت سلطة الحاكم، فقال:
«فإن قالوا: إنّ بيعة الناس لرسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لم تك لإثبات نبوته وإنّما كانت للعهد في نصرته بعد معرفة حقه وصدقه في ما أتى به عن اللَّه عزّ وجلّ من رسالته.
قيل لهم: أحسنتم في هذا القول، وكذلك كان دعاء العباس أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى بسط اليد إلى البيعة فإنّما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته والحرب لمخالفيه وأهل مضادته، ولم يحتج(عليه السلام) إليها في إثبات إمامته» (52).
ويمكن استخلاص العنصر الأساسي الذي انطوى عليه جواب الشيخ المفيد السابق، بشقّيه، وشرحه في ما يأتي:
إنَّ البيعة التي عرضها العباس على عليّ بعد وفاة النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ووقوع حادثة السقيفة لم تكن بيعة على اختياره إماماً وخليفةً، وإنّما هي بيعة على نصرته للأخذ بحقِّه في ممارسة الخلافة ومعاهدته على الحرب من أجل فرض طاعته وتثبيت سلطته، وهي في ذلك لا تختلف عن بيعة العقبة وبيعة الشجرة اللتين بايع فيهما المسلمون الأوائل النبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم) على نصرته ومحاربة أعدائه بعد اعترافهم وتسليمهم بنبوّته‏ (53).
وإذا كانت البيعة التي عرضها العباس على عليّ(عليه السلام) لا تزيد في مضمونها على ما تقدّم، فهي لا تشكل في حدّ ذاتها دليلاً على عدم اعتقاد العباس بسبق النصّ على إمامة عليّ(عليه السلام) من قبل النبيِ‏(صلي الله عليه و آل و سلم)؛ لأنه لم يعرض البيعة عليه لأجل اختياره إماماً وخليفةً حتى يقال: إذا كان عليّ(عليه السلام) قد تمَّ النصّ على إمامته وخلافته فلماذا الاختيار والانتخاب؟
________________________________________
(51)م.ن، ص 250.
(52)م.ن، ص 250.
(53)وهذا الذي ذكره الشيخ المفيد يشير، في الواقع، إلى وظيفة البيعة وأثرها الأساسي بوصفها تقليداً سياسياً يمتدُّ في جذوره إلى حياة العرب قبل الإسلام، ويُقصد به توثيق العهد على الطاعة والنصرة، وقد أفاد النبي(صلي الله عليه و آل و سلم) من هذا التقليد بوصفه هذا في توثيق العهد مع من آمن به، في بداية دعوته إلى الإسلام وفي - ما بعد أيضاً، «تارة على الهجرة والجهاد، وتارة على إقامة أركان الإسلام، وتارة على الثبات والقرار في معركة الكفار، وتارة على التمسك بالسنّة واجتناب البدعة والحرص على الطاعات». انظر: الموسوعة الفقهية، 9/274، وزارة الأوقاف الكويتية، ط2، الكويت، 1407ه - 1987م، نقلاً عن القواعد الفقهية للمجددي البركتي.وكذلك فعل جميع الخلفاء الذي جاءوا من بعده بلا استثناء. فأبو بكر أُخذت له البيعة على السمع والطاعة في المسجد بعدما جرى اختياره خليفة في سقيفة بني ساعدة من لدن بعض من حضرها، وكذلك بيعة الخليفة عمر فقد تمّت بعدما عيّنه أبو بكر، وكذلك بيعة عثمان وعليّ‏(عليه السلام)، فعثمان بويع له بعد الشورى السداسيَّة التي آل أمرها إلى اختيار واحد من أعضائها للخليفة وهو عبد الرحمن‏بن عوف، وعليّ‏(عليه السلام) بويع له بعد إجماع المهاجرين والأنصار على اختياره.بل إنّ البيعة استمرّت تؤدِّي هذا الدور نفسه في مختلف عصور «الخلافة» الإسلامية، أموية وعباسية وغيرها، حيث كان الخليفة السابق يعهد إلى ابنه أو أخيه بالحكم من بعده، ويكون ذلك العهد سبباً لاستحقاقه الخلافة ثم تجري بعد ذلك مبايعته من قبل الناس ورجال الدولة على السمع والطاعة.

[الصفحة - 208]


ويمكننا أن نضيف إلى ما ذكره الشيخ المفيد، في تكييف فعل العباس المشار إليه وتفسير مغزاه: إنَّ إحجام عليّ(عليه السلام) عن قبول البيعة من العباس يتعيّن تكييفه وتفسيره أيضاً في ضوء حقيقة تلك البيعة كما بيّنها الشيخ المفيد، وفي ضوء الأمر الذي تعلّقت به، أعني: مناصرته ومقاتلة الذين صرفوا الخلافة عنه وبايعوا غيره. وبناءً على ذلك يقال:
إنّ ما يفسِّر إحجام عليّ(عليه السلام) عن قبول البيعة من العباس ليس هو مجافاتها، في رأيه، لمبدأ الشورى في اختيار الخليفة بعد النبي الذي يزعم «الكاتب» أنَّه(عليه السلام) كان يؤمن به، وإنّما لأنَّ تلك البيعة، في حدودها الخاصة ونطاقها الضيّق المقتصر على العباس وزعيم آخر من زعماء قريش متّهم في قصده ونيّته، وفي ظروفها التاريخية وسياقها الذي جاءت فيه، كانت في تقدير عليّ(عليه السلام) مدخلاً لفتنة شعواء تعرِّض الإسلام كلَّه للخطر، إلى جانب تعريضها حياته هو وحياة أهل بيته وصفوة أصحابه للخطر أيضاً. وهذا ما لا يمكن لعليّ أن يجازف به‏ (54).
وبالرغم من وضوح القصد في فعل العباس من جهة وفعل عليّ(عليه السلام) من جهة أخرى، فقد حشد الشيخ المفيد عدة قرائن تدلّ على طبيعة موقفيهما، فقال:
«ويدلّ على ما ذكرناه [1] (أنَّ البيعة التي عرضها العباس كانت على النصرة والحرب) قول العباس: «يقول الناس: عمُّ رسول اللَّه بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك إثنان»، فعلّق الاتفاق بوقوع البيعة. ولم يكن لتعلّقه بها إلا وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ويحذرون من الخلاف. ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتّت الرأي وتعلُّق كل قبيل باجتهاده واختياره.
[2] أو لا ترى إلى جواب أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «يا عمّ إنّ لي برسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) أعظم شغل عن ذلك»، ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل‏(55)ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، [3] أو لا ترى أنه لما ألحّ عليه العباس في هذا الباب قال: «يا عمّ، إنَّ رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) أوصى إليَّ وأوصاني أن لا أجرّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً وأمرني بجمع القرآن
________________________________________
(54)سوف يأتي مزيد من إلقاء الضوء على موقف الإمام عليّ‏(عليه السلام) هذا عند مناقشة الشبهة الرابعة.
(55)لأنها حينئذٍ لا تقتضي منه أكثر من الرضا والقبول بالإمامة، أمّا لو كانت بيعةً على الحرب فهي تقتضي بذل أقصى الجهد في التهيؤ والاستعداد لها بحشد الأنصار والأعوان وتدبير آلة القتال، ما يشغله بطبيعة الحال عن أي عمل آخر.

[الصفحة - 209]


والصمت حتى يجعل اللَّه عزّ وجلّ لي مخرجاً» (56)فدلّ ذلك أيضاً على أنّ البيعة إنما دعا إليها للنصرة والحرب وأنّه لا تعلّق لثبوت الإمامة بها وأنّ الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه» (57).
وإذا عدنا إلى نصّ الرواية عن العباس كما ذكرها «الكاتب» فإنّ بالوسع إضافة قرينة أخرى إلى ما ذكره الشيخ المفيد، وهي قول العباس: «وآتيك بهذا الشيخ - يعني أبا سفيان‏ - ..»، حيث إنَّ المعروف من موقف أبي سفيان في تلك اللحظة التاريخيَّة أنّه كان رافضاً لاختيار أبي بكر خليفة وأنه كان يحرّض علياً وبني هاشم على الحرب ويبدي استعداده لمناصرتهم فيها (58).
مناقشة رواية عرض أبي سفيان البيعة على عليّ(عليه السلام)
كما أنَّنا إذا عدنا إلى الرواية الأخرى التي ذكرها «الكاتب» - والتي رواها أصلاً القاضي عبد الجبار ونقلها «الكاتب» من كتاب الشريف المرتضى «الشافي» - ولاحظنا كيف عرض فيها أبو سفيان البيعة على عليّ(عليه السلام) فإنّ ما ذُكر آنفاً ينطبق في جملته عليها على نحوٍ أوضح، سواء لجهة حقيقة البيعة التي عرضها أبو سفيان، أم لجهة مغزى إحجام عليّ(عليه السلام) عن قبول تلك البيعة.
فقد ورد في تلك الرواية أنَّ أبا سفيان قال لعليّ(عليه السلام): «أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيم؟ أبسط يدك أبايعك، فواللَّه لأملأنَّها على أبي فصيل‏* خيلاً ورَجَلاً، فانزوى عنه وقال: ويحك يا أبا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على أبي بكر، ما زلت تبغي للإسلام العوج في الجاهليَّة والإسلام، وواللَّه ما ضرَّ الإسلام ذلك شيئاً، حتى مازلت صاحب فتنة».
فهذه الرواية، في شطرها الأول المتعلّق بموقف أبي سفيان، صريحة تماماً في أنّ البيعة التي عرضها على عليّ(عليه السلام) كانت بيعة على الحرب والثورة ضدَّ أبي بكر وفريقه القبلي «تيم» الذي يعدّه أبو سفيان أقل شأناً ومنزلةً في قريش من أنْ يتأمّر بوساطة أحد أبنائه (أبي بكر) على فريق عبد مناف الذي يشترك بنو أمية وبنو هاشم في الانتساب إليه.
ولا شك في أنّ مضمون هذا الشطر من الرواية ليس فيه ما يدلّ على أنَّ الخلافة
________________________________________
(56)أشارت إلى ما قاله الإمام‏(عليه السلام) هنا روايات كثيرة سبق ذكر بعضها في مناقشة الشبهة الثانية في سياق الحديث عن نصوص الوصية (النصّ رقم (9)).
(57)الفصول المختارة، ص 250.
(58)وهناك نظرية أخرى في توجيه عرض العباس البيعة على عليّ أشار إليها الشيخ المفيد والشريف المرتضى أيضاً وطرحاها من باب الاحتمال، وهي: إنّ العباس بعدما عرف بما حدث في السقيفة وسلوك بعض زعماء قريش من الصحابة فيها مسلك الاختيار في تعيين الخليفة أراد أن يواجههم ويبطل تدبيرهم المخالف لنصّ النبيّ في شأن خلافته باعتماد أسلوبهم نفسه. ولكن المفيد رجّح النظرية الأولى، وقال بأنها هي المعتمدة لديه، وهذا هو الظاهر من المرتضى أيضاً.انظر: الفصول المختارة من العيون والمحاسن، ص 250 و251، الشافي في الإمامة، 3/254.

[الصفحة - 210]


تكون بالاختيار، ولا ما يشير إلى عدم وجود نصٍ على إمامة عليّ(عليه السلام) وخلافته للنبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، بل لعلّه يشير إلى العكس من ذلك؛ إذ إنَّه يفترض أحقيَّة عليّ بالخلافة على نحوٍ ما، هذه الأحقيّة التي تستدعي منه قتالاً في سبيلها.
أما في شطرها الثاني المتعلِّق بموقف عليّ من أبي سفيان وإحجامه عن قبول بيعته فهي صريحة أيضاً في أنّ عليّاً(عليه السلام) قد أدرك أن السياق الذي جاء يعرض فيه أبو سفيان بيعته عليه يضج بمنطق قبلي جاهلي تجاوزه الإسلام وربّى أبناءه الحقيقيين على خلافه، وأنّ أبا سفيان كان يحاول النفوذ من ثغرة العصبية القبلية التي يمثلها ذلك المنطق إلى إشعال فتنة بين المسلمين يمكن أن تقضي على الإسلام من الأساس. ولا غرو في ذلك فأبو سفيان كان حامل لواء المشركين في جاهليته وشيخ الطلقاء في إسلامه، ولهذا لم يتوان عليّ(عليه السلام) عن الإحجام عن قبول بيعته والردّ عليه ردّاً قاسياً بيّن له فيه حقيقة دوافعه، كما أنّه لم يتوان أيضاً عن الإحجام عن قبول بيعة عمّه العباس من قبل وإن لم يكن يشك في سلامة دوافعه.
وهكذا يتبيّن أن هذا الخبر بنصّه الذي رواه القاضي عبد الجبار متى صح - كما يقول الشريف المرتضى‏ - : «لم يكن فيه دلالة على أكثر من تهمة أمير المؤمنين لأبي سفيان وقطعه على خبث باطنه، وقلَّة دينه، وبعده عن النصح في ما يشير به، ولا حجَّة فيه ولا دلالة على إمامة أبي بكر ولا تفضيله؛ لأنَّ أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يعدل عن محارجة القوم والتصريح بادّعاء النص والمجاذبة عليه إلاّ لما اقتضته الحال من حفظ أصل الدين، ولعلمه بأنَّ المخاصمة والمغالبة فيه تؤدِّيان إلى فساد لا يُتلافى، فلا بدَّ من مخالفته في هذا الباب لكل مشير لا سيّما إذا كان متّهماً منافقاً غير نقي السريرة. فليس في رده(عليه السلام) على أبي سفيان ما رآه من إظهار البيعة والمحاربة أكثر ممَّا ذكرناه من أنّ الرأي كان عنده في خلافه.
وليس لأحدٍ أن يقول: لولا استحقاق متولِّي الأمر له لما جاز أن ينهى أمير المؤمنين عن الإجلاب عليه والمحاربة له، ولا أن يمتنع من مبايعة أبي سفيان له بالإمامة؛ لأنّا قد بيّنا أنَّ ذلك أجمع لا يدلُّ على استحقاق الأمر، وأنَّ المصلحة إذا اقتضت الإمساك وجب، وإن لم يكن هناك استحقاق من التلبُّس بالأمر، وأنَّ هذا إنْ جعل دلالة في هذا الموضع لزم أن يكون الإمساك عن الظلمة والمتغلِّبين على أمور
________________________________________

[الصفحة - 211]


المسلمين من بني أميّة وغيرهم دلالة على استحقاقهم لما كان في أيديهم. ونحن نعلم أنَّ الحسن(عليه السلام) لو أشار عليه مشير بعد صلح معاوية بمحاربته وبمخارجته لعصاه وخالفه، بل قد عصى جماعة أشاروا عليه بخلاف ما رآه من الإمساك والتسليم، وبيّن لهم أنّ الدين والرأي يقتضيان ما فعله(عليه السلام)» (59).
ملاحظة أخيرة على رواية أبي سفيان‏
تبقى بعد ذلك ملاحظة أخيرة تتعلّق بعبارة وردت في الرواية السَّابقة على لسان عليّ(عليه السلام)، وهي قوله بعد زجره لأبي سفيان: «وقد اجتمع الناس على أبي بكر»، فهذه العبارة على رغم كونها لا تدلّ - لو صحّت‏ - على ما توهّمه أصحاب هذه الشبهة من اعتراف عليّ(عليه السلام) بمبدأ الاختيار واستحقاق أبي بكر للخلافة على أساس هذا المبدأ، كما أوضح ذلك الشريف المرتضى في كلامه السَّابق، إلاّ أننا نكاد نجزم أنها مدسوسة في هذه الرواية، وأنَّ عليّاً(عليه السلام) لم يتفوّه بها قط؛ وذلك لسببين:
الأول: أنّ عليّاً(عليه السلام) كان في ذلك الوقت الذي عرض فيه أبو سفيان البيعة عليه ساخطاً على اجتماع السقيفة غير معترف بشرعيَّة ما تمّ فيه ولا معتقد بأنَّه كان يمثّل إجماعاً من الناس (المهاجرين والأنصار) على اختيار أبي بكر للخلافة، كيف! وقد كان هو وجميع بني هاشم ووجوه من الصحابة غائبين عن ذلك الاجتماع وممتنعين بعده - رغم التهديد الشديد - عن إعطاء البيعة لأبي بكر (60)، فكيف يُعقل والحال هذه أن يقول لأبي سفيان: «قد اجتمع النَّاس على أبي بكر»!
فهذه الرواية في الواقع تكذّبها الوقائع التاريخية الثابتة من كل ناحية.
الثاني: إنَّ الرواية المشتملة على العبارة المشار إليها في ما سبق قد تفرّد بروايتها القاضي عبد الجبار عن الإمام جعفر الصادق‏ف (61)من دون أن يذكر سنده إليه، ولم تروها مصادر الشيعة عنه رغم أنّها أكثر اهتماماً من غيرها بجمع ما رُوي عن أئمة أهل البيت مهما كان مضمونه.
كما أنَّ كلاًّ من الطبري وابن أبي الحديد (62)قد ذكرا هذه الرواية بصيغتها التي ذكرها القاضي عبد الجبار، وذكرا بعدها ما تمثَّل به أبو سفيان من شعر المتلمِّس بعد سماعه جواب عليّ(عليه السلام)، ولكن من دون وجود هذه العبارة.
________________________________________
(59)الشافي في الإمامة، 3/116 و117.
(60)انظر مثلاً: تاريخ الطبري، 3/208، الإمامة والسياسة، لابن قتيبة، 1/30 و31، أنساب الأشراف، للبلاذري، 1/586، شرح النهج لابن أبي الحديد، 2/59 و60.
(61)الشافي في الإمامة، 3/94 و95.
(62)تاريخ الطبري، 3/209، شرح النهج، لابن أبي الحديد، 1/221 و222.

[الصفحة - 212]


غير أنَّ الطبري ذكر رواية أخرى غير بعيدة في مضمونها عن الرواية السابقة، وفيها عبارة أكثر إيغالاً في الكذب والدسّ من العبارة السابقة، جاء فيها على لسان عليّ(عليه السلام) قوله: «إنَّا وجدنا أبا بكر لها أهلاً» (63).
والكلام في هذه الرواية هو الكلام في الرواية السابقة من حيث أنَّ هذه العبارة المنسوبة إلى عليّ(عليه السلام) فيها تخالف موقفه الثابت عنه من بيعة السقيفة، على الأقلّ في تلك اللحظة التي نسب إليه قوله فيها.
مناقشة الشبهة الرابعة:
إنّ عدم احتجاج عليّ(عليه السلام) بالنصّ عليه بعد اختيار أبي بكر للخلافة، ومبايعته له بعد ذلك - وإن تأخّرت مدة من الزمن‏ - دليل على إيمانه بنظرية الاختيار).
خلاصة الشبهة وتحليل أبرز أدلتها:
يتلخَّص ما ذكره «الكاتب»، في هذه الشبهة، في أنّ عليّاً(عليه السلام) وإن كان قد امتعض من انتخاب أبي بكر للخلافة في البداية وامتنع عن بيعته مدة من الزمن، لكنه عاد بعد ذلك فبايعه، وقد فسّر علي موقفه الأوَّل في العديد من أقواله وخطبه بأنه كان يرى نفسه أولى وأحقّ بالخلافة من غيره، أو لأن اختيار أبي بكر قد جرى من دون مشاورته، ولم يشر إلى مسألة النصّ عليه من رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) أو تعيينه خليفة من بعده، وهذا دليل على إيمانه بنظرية الاختيار من حيث المبدأ‏ (64).
وقد أورد «الكاتب»، وهو يحاول بلورة هذه الشبهة، عدة نصوص من كلام الإمام عليّ(عليه السلام) ونصّاً واحداً من كلام الإمام الباقر(عليه السلام).
بعض تلك النصوص أورده ليدلّل به - في ما يظهر - على أنّ سخط الإمام عليّ(عليه السلام) على ما حدث في السقيفة وامتناعه بعدها مدة من الزمن عن مبايعة أبي بكر لم يكن عن اعتقادٍ منه بعدم صحة مبدأ الاختيار في تعيين الخليفة في حدّ ذاته، وإنما لسوء تطبيق هذا المبدأ؛ سواء من ناحية اختيارهم الشخص المفضول وتركهم الأفضل والأولى الذي كان هو بحسب اعتقاده، أم من ناحية الخلل الذي شاب عملية الاختيار بسبب استبدادهم بها وعدم إشراكه هو وقومه بني هاشم فيها.
________________________________________
(63)تاريخ الطبري، 3/209.
(64)تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 21 و22.

[الصفحة - 213]


والذي يمثِّل هذا الصنف من النصوص التي أوردها نصّان، نسب روايتهما في الهامش إلى الشريف المرتضى في كتابه «الشافي»:
أحدهما: قاله عليّ(عليه السلام) لأبي بكر حينما جاء إليه ليأخذ منه البيعة، وهو: «واللَّه ما نَفسْنا عليك ما ساق اللَّه إليك من فضل وخير، ولكنّا كنّا نظنّ أنّ لنا في هذا الأمر نصيباً استُبدّ به علينا»(65).
والآخر، خاطب فيه المسلمين قائلاً: «إنّه لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألاّ أكون عارفاً بحقّه، ولكنّا نرى أنَّ لنا في هذا الأمر نصيباً استبدّ به علينا»، «ثم بايع أبا بكر، فقال المسلمون: أصبت وأحسنت» (66).
وبعض آخر من تلك النصوص أورده ليدلِّل به على عدم احتجاج عليّ(عليه السلام) بنصّ النبيّ عليه وتعيينه خليفة له من بعده في ما أُثِر عنه من أقوال وخطب تعرّض فيها لقضيَّة الخلافة وكيف صرفتها قريش عنه المرة بعد الأخرى؛ لأنَّ تلك الأقوال والخطب لم يظهر منها أكثر من شعوره بأنه كان الأولى والأحق بالخلافة بوصفه أقرب إلى النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من سائر قريش. والذي يمثِّل هذا الصنف من النصوص التي أوردها «الكاتب»:
1 - قوله(عليه السلام) ردّاً على احتجاج قريش في سقيفة بني ساعدة على الأنصار بأنهم «شجرة رسول اللَّه»: «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة».
2 - قوله(عليه السلام) في نهج البلاغة: «اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم؛ فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفؤوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري».
3 - قوله(عليه السلام) « - وقد سأله رجل من بني أسد: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به‏ - : يا أخا بني أسد... أما الاستبداد بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدُّ برسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) نوطاً، فإنها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين».
4 - خطبته المعروفة بالشقشقية.
________________________________________
(65)م.ن، ص 21.
(66)م.ن.

[الصفحة - 214]


5 - ما رواه زيد بن علي عنه(عليه السلام) أنّه قال: «بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم منّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض».
6 - رواية نقلها الكليني عن الإمام محمد الباقر يقول فيها: إنّ الإمام علياً لم يدع إلى نفسه وأنه أقرّ القوم على ما صنعوا وكتم أمره (67).
الجواب عن الشبهة
ولنا على مجمل هذه النصوص التي استدلّ بها، وعلى ما استنتجه منها من نتائج، مداخلتان، كل واحدة منهما تتعلّق بطائفة من طائفتي النصوص التي ذكرها:
المداخلة الأولى: حول نصوص مبايعة عليّ(عليه السلام) لأبي بكر ودلالتها على رضاه بخلافته وإيمانه بمبدأ الشورى.
إنّ النصّين اللذين تضمّنا ما قاله الإمام عليّ(عليه السلام) عند مبايعته لأبي بكر، ونسب «الكاتب» روايتهما إلى الشريف المرتضى، قد اقتطعهما «الكاتب» من رواية واحدة من جملة روايات واردة من غير طريق الشيعة استدلّ بها المرتضى على أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يبايع أبا بكر طائعاً، وإنّما بايعه كارهاً مضطرَّاً؛ حذراً من قتله من ناحية، ورعايةً لمصلحة الإسلام الذي كانت تهدّده يومذاك موجات الارتداد التي ظهرت بُعيد وفاة الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من ناحيةٍ أخرى.
روايات أغفلها «الكاتب»
وسوف نذكر، أوّلاً، الروايات التي أغفلها «الكاتب» ولم يشر إليها، ثم نعرّج بعد ذلك على ذكر الرواية التي اقتطع منها «الكاتب» ذينك النصّين لنتبيّن السياق الذي وردت فيه، ثمَّ نستخلص في النهاية النتيجة المنطقيَّة التي تتمخَّض عنها هذه الروايات بكاملها.
قال الشريف المرتضى، ردّاً على ما زعمه القاضي عبد الجبار المعتزلي وشيخه أبو هاشم الجبائي، من أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) «قد بايع ورضي وظهر ذلك عنه... وإنما تأخّر أياماً يسيرة ولعلّه كان أربعين يوماً ولم يكن أبو بكر يلتمس منه المبادرة فيكون مخالفاً عليه.. الخ»(68):
________________________________________
(67)م.ن، ص 21 و22.
(68)الشافي في الإمامة، 3/233.

[الصفحة - 215]


«إنَّ من تأمّل ما روي في هذا الباب لم يبق عليه شي‏ء [شك‏] في أنّه(عليه السلام) أُلجى على البيعة وصار إليها بعد المدافعة والمحاجزة لأمور اقتضت ذلك، ليس من جملتها الرضا.
وقد روى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري - وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروف - قال: حدّثني بكر بن الهيثم قال: حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس، قال: بعث أبو بكر عمربن الخطاب إلى عليّ(عليه السلام) حين قعد عن بيعته وقال: إئتني به بأعنف العنف، فلما أتاه جرى بينهما كلام، فقال له عليّ(عليه السلام): إحلب حلباً لك شطره. واللَّه ما حرصك على إمارته اليوم إلاّ ليؤمّرك غداً، وما ننفسُ على أبي بكر هذا الأمر لكنا أنكرنا ترككم مشاورتنا، وقلنا: إنَّ لنا حقّاً لا تجهلونه، ثم أتى فبايعه، وهذا الخبر يتضمَّن ما جرت عليه الحال وما يقوله الشيعة بعينه، وقد أنطق اللَّه تعالى به رواتهم.
وقد روى البلاذري عن المدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان التيميّ عن أبي عون أن أبا بكر أرسل إلى عليّ(عليه السلام) يريده على البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه قَبَسٌ فلقيته فاطمة(عليها السلام) على الباب فقالت: يا ابن الخطاب أتراك محرّقاً عليّ بابي، قال: نعم، وذلك أقوى في ما جاء به أبوك، وجاء عليّ(عليه السلام) فبايع. وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة، وإنّما الطريف أن نرويه برواية لشيوخ محدّثي العامة ولكنهم كانوا يروون ما سمعوا بالسلامة، وربما تنبّهوا على ما في بعض ما يروونه عليهم فكفوا عنه، وأيُّ اختيار لمن يحرّق عليه بابه حتى يبايع؟
وقد روى إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال: «حدّثنا أحمد بن عمرو البجلي، قال: حدّثنا أحمدبن حبيب العامري، عن حمران بن أعين عن أبي عبداللَّه جعفربن محمّد(صلي الله عليه و آل و سلم) قال:«واللَّه ما بايع عليّ(عليه السلام) حتى رأى الدخان قد دخل عليه بيته».
وروى المدائني عن عبداللَّه بن جعفر عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال: لما ارتدَّت العرب مشي عثمان إلى عليّ(عليه السلام) فقال: «يا ابن عم إنه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم تبايع، ولم يزل به حتى مشى إلى أبي بكر فسرّ المسلمون بذلك، وجدَّ الناس في قتالهم».
________________________________________

[الصفحة - 216]


وروى إبراهيم الثَّقفي عن محمدبن أبي عمير عن أبيه عن صالح بن أبي الأسود عن عقبةبن سنان عن الزهري قال: «ما بايع عليّ(عليه السلام) إلاّ بعد ستّة أشهر، وما اجتُرِيَ عليه إلاّ بعد موت فاطمة(عليها السلام)».
وروى الثقفي قال: حدّثني محمّد بن علي عن عاصم‏بن عامر البجلي عن نوح‏بن دراج عن محمّد بن إسحق عن سفيان‏بن فروة عن أبيه قال: جاء بريدة حتى ركز رايته في وسط أسلم ثم قال: لا أبايع حتى يبايع عليّ، فقال عليّ(عليه السلام): «يا بريدة ادخل في ما دخل فيه الناس فإنّ اجتماعهم أحبّ إليَّ من اختلافهم اليوم».
وروى إبراهيم قال: حدّثني محمّد بن أبي عمير قال: حدّثنا محمد بن إسحاق عن موسى‏بن عبداللَّه بن الحسن أنَّ عليّاً(عليه السلام) قال لهم: «بايعوا فإنّ هؤلاء خيَّروني أن يأخذوا ما ليس لهم أو أُقاتلهم وأفرِّق أمر المسلمين».
وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن بن الفرات عن ميسربن حماد عن موسى‏بن عبداللَّه‏بن الحسن قال: أبت أسلم أن تبايع، وقالوا: ما كُنَّا نبايع حتّى يبايع بريدة لقول النبيّ‏(صلي الله عليه و آل و سلم) لبريدة: «عليّ وليّكم من بعدي»، فقال عليّ(عليه السلام): «يا هؤلاء إنّ هؤلاء خيّروني أن يظلموني حقِّي وأُبايعهم أو ارتدت الناس حتى بلغت الردّة أُحداً. فاخترت أن أظلم حقّي وإِنْ فعلوا ما فعلوا».
وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن، عن عاصم بن عامر، عن نوح بن دراج، عن داودبن يزيد الأودي، عن أبيه عن عديّ‏بن حاتم قال: ما رحمت أحداً رحمتي عليّاً حين أتى به ملبباً فقيل له: بايع قال: «فإن لم أفعل» قالوا: إذاً نقتلك، قال: «إذاً تقتلون عبد اللَّه وأخا رسوله»، ثم بايع (كذا)، وضم يده اليمنى.
وروى إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة عن خالدبن مخلد البجلي عن داودبن يزيد الأودي عن أبيه عن عدي‏بن حاتم قال: إني لجالس عند أبي بكر إذ جي‏ء بعليّ(عليه السلام) قال له أبو بكر: بايع. فقال له عليّ(عليه السلام) : «فإن لم أفعل» فقال: أضرب الذي فيه عيناك، فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: «اللهم اشهد»، ثم مدّ يده.
وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة، وبألفاظ متقاربة المعنى وإن اختلفت ألفاظها، وأنه(عليه السلام) كان يقول في ذلك اليوم لمَّا أكره على البيعة وحُذِّر من التقاعد
________________________________________

[الصفحة - 217]


عنها: «يا ابن أم، إنّ القوم استضعفوني، وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين» ويردّد ذلك ويكرّره، وذكر أكثر ما روي في هذا المعنى يطول فضلاً عن ذكر جميعه، وفي ما أشرنا إليه كفاية ودلالة على أنّ البيعة لم تكن عن رضى واختيار.
فإن قيل: كلُّ ما رويتموه في هذا المعنى أخبار آحاد لا يوجب علماً، قلنا كل خبر مما ذكرناه وإن كان من طريق الآحاد فإنَّ معناه الذي تضمّنه متواتر، والمعوّل على المعنى من دون اللفظ، ومن استقرى الأخبار وجد معنى إكراهه على البيعة، فإنَّه دخل فيها مستدْفعاً للشر وخوفاً من نفور الناس، وتفرُّق الكلمة، وقد وردت به أخبار كثيرة من طرق مختلفة تخرج عن حدّ الآحاد إلى التواتر» (69).
هذا في ما يتعلّق بالرِّوايات التي أغفلها «الكاتب» ولم يشر إليها من بين ما أورده المرتضى لإثبات أنَّ عليّاً بايع أبا بكر كارهاً مضطرَّاً. أما الرواية الباقية التي اقتطع منها «الكاتب» النصّين المشار إليهما في ما سبق ولم يذكرها بنصِّها الكامل فقد أوردها المرتضى ضمن الروايات السابقة على النحو الآتي:
«وروى البلاذري عن المدائني عن أبي جري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم يبايع عليّ أبا بكر حتى ماتت فاطمة بعد ستة أشهر. فلما ماتت ضرع إلى صلح أبي بكر، فأرسل إليه أن يأتيه، فقال عمر: لا تأته وحدك قال: وماذا يصنعون بي؟ فأتاه أبو بكر فقال له(عليه السلام): «واللَّه ما نَفسْنا عليك ما ساق اللَّه إليك من فضل وخير، ولكنّا كنا نظن أن لنا في هذا الأمر نصيباً استُبدّ به علينا»، فقال أبو بكر: واللَّه لقرابة رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) أحبّ إليَّ من قرابتي، فلم يزل(عليه السلام) يذكر حقّه وقرابته حتى بكى أبو بكر، فقال: ميعادك العشية، فلما صلّى أبو بكر الظهر خطب وذكر عليّاً(عليه السلام) وبيعته، فقال عليّ: «إني لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألاّ أكون عارفاً بحقّه ولكنا كنّا نرى أن لنا في هذا الأمر نصيباً استُبدّ به علينا»، ثم بايع أبا بكر فقال المسلمون: أصبت وأحسنت.
ومن تأمّل هذا الخبر وما جرى مجراه علم كيف وقعت الحال في البيعة، وما الدّاعي إليها، ولو كانت الحال سليمة والنيّات صافية، والتهمة مرتفعة، لما منع عمر أبا بكر أن يصير إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وحده..» (70).
________________________________________
(69)م.ن، 3/240 - 245.
(70)م.ن، 3/242.

[الصفحة - 218]


النتائج المستخلصة في ضوء روايات بيعة عليّ لأبي بكر
وصفوة النتائج التي يمكن أن نستخلصها في ضوء جميع ما تقدم من روايات تتمثَّل في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: إنّ عليّاً(عليه السلام) امتنع عن مبايعة أبي بكر بالخلافة مدَّة من الزمن هي مدَّة حياة فاطمة(عليها السلام) بعد أبيها(صلي الله عليه و آل و سلم) (71)، فلمّا توفيت وكان قد رافق وفاتها وقوع الرِّدَّة من بعض القبائل عن الإسلام رأى(عليه السلام) أنّه لا مفرّ له بعد ذلك من مبايعة أبي بكر لسببين أساسيين:
أحدهما: أنّ وجود فاطمة(عليها السلام) كان يمنحه نوعاً من الحصانة والحماية تمنع من الاعتداء عليه ومحاولة إكراهه على البيعة؛ أما وقد توفيت فقد زالت عنه تلك الحصانة، وبدأت نذر إيقاع المكروه به تلوح في الأُفق. وقد قرأنا، في ما سبق، روايةً قال فيها الزهري: «ما بايع عليّ(عليه السلام) إلاّ بعد ستة أشهر، وما اجتُري عليه إلاّ بعد موت فاطمة(عليها السلام)».
والسبب الآخر، وهو الأهمُّ في ما يظهر، أنَّه رأى في حوادث الردَّة تهديداً خطيراً للإسلام تصبح مسألة التجاوز على حقّه في الحكم من بعد الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ومخالفة ما أمر به‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بخصوص ذلك مسألة ثانويَّة بالقياس إليه، وأنّ واجبه تجاه الإسلام يقتضي منه على كلّ حال موقفاً يساعد في تقوية صفوف المسلمين وتوحيد كلمتهم ويدعم موقف السلطة الفعلية في مواجهة ذلك الخطر، فبايعها. وقد أشارت إلى هذا السبب الروايات السابقة بوضوح كما أن الإمام(عليه السلام) قد شرح موقفه هذا في كتاب له أرسله إلى أهل مصر مع مالك الأشتر، قال من جملته:
«فلما مضى(عليه السلام) تنازع المسلمون الأمر من بعده، فواللَّه ما كان يلقى في رُوعي ولا يخطر ببالي أن العرب تُزعج هذا الأمر من بعده‏(صلي الله عليه و آل و سلم) عن أهل بيته، ولا أنّهم مُنحُّوه عنِّي من بعده! فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(صلي الله عليه و آل و سلم) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما
________________________________________
(71)روى الطبري بسنده «عن معمر، عن الزهري، عن عائشة، أنَّه «كان لعلي وجهٌ من الناس حياة فاطمة، فلمّا توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن عليّ، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول اللَّه(صلي الله عليه و آل و سلم)، ثم توفيت. قال معمّر: فقال رجل للزهري: أفلم يبايعه عليّ ستة أشهر! قال: لا، ولا أحد من بني هاشم؛ حتى بايعه عليّ. فلمّا رأى عليّ انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر...» الخ الخبر. تاريخ الطبري، 3/208.

[الصفحة - 219]


كان كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزَهَقَ، واطمأنَّ الدين وتَنَهْنَه» (72).
وفي ضوء هذا التحليل لموقفه(عليه السلام) لا يبقى مجال لما زعمه «الكاتب» ومن قبله متكلّمو المعتزلة بأنّه(عليه السلام) وإن تأخّر في بيعته لأبي بكر إلاّ أنّه عاد فبايعه في النهاية بمحض اختياره ورضاه، وأنّ بيعته تلك تنمُّ عن اعتراف بشرعيَّة خلافته، واعتقادٍ بمبدأ الاختيار الذي تمَّت على أساسه تلك الخلافة، وأنَّ تمنّعه عن البيعة في البداية لم يكن عن اعتراض على مبدأ الاختيار في حدّ ذاته، وإنّما بسبب التحفظ على الطريقة التي جرى بها الاختيار لا أكثر.
النقطة الثانية: إنّ «الكاتب»، وهو بلا ريب اطّلع على الرواية التي تضمّنت النصّين المنقولين على لسان عليّ(عليه السلام) فيها، كما اطّلع أيضاً على سائر الرِّوايات الأخرى الواردة مع هذه الرواية في المصدر الذي نقل منه ذينك النصّين، لم يقوّم بيعة علي(عليه السلام) لأبي بكر في ضوء جميع ما اطّلع عليه من تلك الروايات، وإنما انتقى منها واحدة وأغفل سائرها، ثم عمد إلى الرواية التي انتقاها فسلخ منها ما راق له أن يسلخه وبنى عليه مدّعاه، وأغفل سائرها ممَّا لا يوافق هواه. وهذا مسلك لا ينمّ عن قصدٍ نزيه، ولا يتفق مع أصول البحث التاريخي ومناهجه العلميَّة التي يتّبعها الباحثون الأسوياء.
النقطة الثالثة: إنَّ رواية البلاذري التي اقتطع منها «الكاتب» النصَّين المشار إليهما قد أوردها المرتضى في سياق محاججته للقاضي عبد الجبار المعتزلي لأنها تتضمّن - شأنها شأن سائر ما أورده معها من روايات أخرى‏ - ما ينفي إدّعاء القاضي عبد الجبار وقوع البيعة من عليّ(عليه السلام) لأبي بكر عن إرادة حرّة ورضا قلبي بخلافته، وليس معنى ذلك أن المرتضى يرى صحّة كلّ ما تضمَّنته تلك الرواية من تفاصيل أخرى مما هو خارج عن هذا الغرض. وهذه طريقة معروفة عند المتكلِّمين في محاججة خصومهم؛ فإنهم يعمدون إلى ما يسلِّم به الخصم من نصوص ويحتجّون ببعض ما ورد في ثناياه على قضية يريدون إثباتها وإلزام الخصم بها.
وإذا عدنا إلى الرواية المشار إليها، فإننا نجد أنَّ البلاذري روى حادثة البيعة
________________________________________
(72)نهج البلاغة، كتاب 62.

[الصفحة - 220]


فيها بسنده عن الزهري عن عروةبن الزبير عن عائشة، ولا شك في أن هؤلاء الثلاثة جميعاً، وفي طليعتهم عائشة راوية الخبر، لا يمكن اتهام أيٍّ منهم بمحاباة علي(عليه السلام) أو الميل إليه؛ لأنَّهم معروفون بعداوته والانحراف عنه، ولهذا فنحن نصدّقهم حينما يقولون: إنَّ علياً لم يبايع حتى ماتت فاطمة بعد ستة أشهر؛ لأنّ معنى ذلك أنه لم يعترف بشرعية خلافة أبي بكر طوال تلك المدة، وهي ليست بالمدة القصيرة ولا بالتي يمكن أن تستمر فيها غضبة عاطفية مبعثها الشعور بالأولوية.
كما أننا نصدِّقُهم في ما يقولون: إن عمربن الخطاب خاف على أبي بكر حينما أراد الذهاب إلى عليّ ليأخذ منه البيعة، فقال له: «لا تأته وحدك»، فقال أبو بكر: «وماذا يصنعون بي؟»؛ لأن ذلك يشير إلى الأجواء المتوترة والنوايا غير الصافية التي كانت تحكم العلاقة بين الطرفين، ولا ينمُّ عن أن الظروف التي تمّت فيها تلك البيعة كانت ظروفاً طبيعية عادية.
نحن نصدّق عائشة ومن روى عنها هذا الخبر ممّن هو على شاكلتها في موقفها من علي في جميع ذلك؛ لأنهم غير متّهمين فيه، أما ما عدا ذلك مما تتطرّق إليه الشبهة وتلوح من ورائه التهمة ويتعارض، في مضمونه وفي سياقه ولحن خطابه، مع ما ذكروه أوَّلاً فلسنا نصدِّقهم فيه، ولا كرامة!
وأنّى لباحث سويِّ القصد أن يقبل ما ترويه عائشة حرفياً على لسان علي(عليه السلام) في حقِّ أبيها، لا سيما في أهم وأخطر قضية تخصّه! أليس من المرجّح أن تستبيح لنفسها تحوير كلام علي(عليه السلام) في ما يتعلّق بخلافة أبيها وتصوغه على هواها، وهي التي استباحت محاربته وألّبت ضده وسارت في طليعة الجيوش لقتاله!
الجواب هو بطبيعة الحال: نعم، ولا أقلّ من الشك في ذلك ومعه لا مجال للاعتماد على روايتها في ذلك؛ إذ ليس من العلم ولا من الإنصاف أن يؤخذ تاريخ عليّ من روايات أعدائه.
وهناك شاهد على تحريف كلام علي لأبي بكر في رواية عائشة، سواء من قِبلها هي أم من قبل الذين رووها عنها، موجود في رواية أخرى رواها البلاذري عن حادثة البيعة ورواها أيضاً أحمدبن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة (73)، وأوردها
________________________________________
(73)شرح النهج لابن أبي الحديد، 6/11.

[الصفحة - 221]


المرتضى في طليعة الروايات السابقة، فقد نُقل كلام علي(عليه السلام) في تلك الرواية بصيغة أخرى مختلفة عن الصيغة التي نقلته بها عائشة، حيث جاء فيها قوله(عليه السلام) مخاطباً عمربن الخطاب: «إحلب حلباً لك شطره، واللَّه ما حرصك على إمارته اليوم إلاّ ليؤمِّرك غداً، وما نَنْفس على أبي بكر هذا الأمر لكنَّا أنكرنا ترككم مشاورتنا وقلنا: إنَّ لنا حقاً لا تجهلونه».
فهذه الصيغة تختلف اختلافاً جوهرياً عن الصيغة التي نُقل بها كلام عليّ في رواية عائشة، وهي: «واللَّه ما نَفسْنا عليك ما ساق اللَّه إليك من فضل وخير وكلّنا كنّا نظن أنّ لنا في هذا الأمر نصيباً استُبِدَّ به علينا»، وفي النصّ الآخر الذي خاطب به الناس: «إنِّي لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألاّ أكون عارفاً بحقّه ولكنَّا كنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر نصيباً استُبدَّ به علينا».
ولا شك في أنّ النصّ المرويّ عن غير طريق عائشة، وهو طريق غير شيعيّ أيضاً، أدعى للاطمئنان وأقرب للتصديق وأليق بموقف عليّ العام من قضية الخلافة وأقواله الأخرى المأثورة عنه بخصوصها، فإنّ صفوة معنى ما قاله بموجب هذا النصّ: إننّا لا نحسد أبا بكر على تولِّيه الخلافة، ولم نمتنع عن مبايعته بها لأنّا كنَّا نعدّها مغنماً له في حدِّ ذاتها يُحسد عليه، ولكنّنا أنكرنا توليته لها من قبلكم، لأن ذلك قد جرى من دون علمنا ومشاورتنا من جهة، ولأنها ليست من حقّه وإنما هي من حقّنا كما تعلمون ذلك ولا تجهلونه من جهة أخرى.
فأيُّ دلالة في هذا الكلام على اعتراف علي بشرعية خلافة أبي بكر ورضاه بها؟
ثم هلمَّ معي إلى قوله(عليه السلام) المزعوم في رواية عائشة: «واللَّه ما نَفسْنا عليك ما ساق اللَّه إليك من فضل وخير» (74)، فأيُّ فضل وأيُّ خير لأبي بكر في الخلافة، وغيره كان أولى وأحقّ بأن يتولاّها منه؟
ثم كيف يتصوّر عارف بشخصيّة عليّ وسيرته وأقواله المأثورة عنه أن يصف الخلافة بأنها فضل وخير، وكأنها في حدِّ ذاتها مغنم خالص وليست مسؤولية عظمى يتعرّض صاحبها للمساءلة والحساب يوم يحاسب الناس على أعمالهم! أليس هو القائل لابن عباس في شأن الخلافة، وهو الأهل لها حسب اعتقاده، وقد كانت بيده
________________________________________
(74)وقد روى المحدّثون الكَذَبَة على نسق هذا النصّ العديد من الأخبار الموضوعة على لسان عليّ وأهل بيته‏(عليهم السلام) في شأن أبي بكر وعمر أورد بعضها القاضي عبد الجبار في كتابه «المغني»، وناقشها الشريف المرتضى في ردّه على هذا الكتاب في عدة مواضع من كتابه «الشافي»، ومن تلك الأخبار: ما رووه «عن جعفربن محمد عن أبيه أنّ رجلاً من قريش جاء إلى أمير المؤمنين‏(عليه السلام) فقال: سمعتك تقول في الخطبة آنفاً: «اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين»، فمن هم، قال: «حبيباي وعمّاي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول اللَّه(صلي الله عليه و آل و سلم) من اقتدى بهما عصم ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم»، الشافي في الإمامة، 3/93 و94.قال المرتضى ردّاً على احتجاج القاضي عبد الجبار بهذا الخبر:«من العجائب أن يروى مثل ذلك من مثل هذا الطريق الذي ما عُهد منه قط إلاّ ما يضادّ هذه الرواية، وليس يجوز أن يقول ذلك من كان يتظلّم تظلّماً ظاهراً في مقام بعد آخر، وبتصريح بعد تلويح، ويقول في ما قد رواه ثقات الرواة، ولم يرد من خاصّ الطرق دون عامّها: «اللهمّ إنّي أستعديك على قريش، فإنهم ظلموني الحجر والمدر»، ويقول: «لم أزل مظلوماً منذ قبض رسول اللَّه(صلي الله عليه و آل و سلم)». ويقول في ما رواه زيدبن علي بن الحسين، قال كان عليّ‏(عليه السلام) يقول: «بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم منّي بقميصي هذا فكظمت غيظي، وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض، ثم إنَّ أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد واللَّه علم أني أولى بالناس منّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمري، ثم إنّ عمر هلك وجعلها شورى، وجعلني فيها في سادس ستّة كسَهم الجدة، فقال: اقتلوا الأقل، فكظمت غيظي وانتظرت أمري، وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر باللَّه». وهذا باب تغني فيه الإشارة فإنا لو شئنا أن نذكر ما يروى في هذا الباب عنه‏(عليه السلام)، وعن جعفر بن محمد وأبيه اللّذين أسند إليهما الخبر الذي رواه عنهما(عليهما السلام)، وعن جماعة أهل البيت لأوردنا من ذلك ما لا يضبط كثرةً، وكنا لا نذكر إلاّ ما يرويه الثقات المشهورون بصحبة هؤلاء القوم، والانقطاع إليهم، والأخذ عنهم، بخلاف الخبر الذي ادّعاه لأنّه متى فتّش عن أصله وناقله لم يوجد إلاّ منحرفاً متعصباً غير مشهور بالصحبة لمن رواه عنه من أهل البيت‏‏(عليهم السلام)، ومن أراد استقصاء النظر في ذلك فعليه بالكتب المصنّفات فيه، فإنّه يجد فيها ما يشفي الغليل وينقع الصدى». انظر: الشافي في الإمامة، 3/110 و111.

[الصفحة - 222]


نعل يخصفها: لت «ما قيمة هذا النعل؟ قال ابن عباس: لا قيمة لها، فقال(عليه السلام) : واللَّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً» (75)، فكيف يصفها بأنها خير ساقه اللَّه إلى أبي بكر، وأبو بكر في نظره ليس لها بأهل ومسؤول أمام اللَّه عن إبعاده بوصفه الشخص المؤهَّل لها حقّاً؟
المداخلة الثانية: حول نصوص شعور الإمام بالأولويَّة وعدم احتجاجه بالنَّص عليه!
وهي تتضمَّن جواباً عن مجمل هذا الجزء من شبهة «الكاتب»، إلى جانب عدة ملاحظات منهجية وموضوعية تتعلّق بخصوصيات وتفاصيل ما أورده من نصوص.
جواب الجزء الثاني من الشبهة
أما الجواب عن الجزء المشار إليه من الشبهة فهو يتلخّص في ما يأتي:
ماذا يقصد «الكاتب» بعدم احتجاج عليّ(عليه السلام) بالنصّ عليه من النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم)؟ هل يقصد أن ذلك لم يحدث عقيب حادثة السقيفة؟ أو في جميع مراحل حياته بعد تلك الحادثة؟
إذا كان يقصد المعنى الأول، فجوابه هو:
أولاً: إنّ المعيار الأساسي في تقويم نظرية النصّ على عليّ(عليه السلام) بالإمامة والخلافة هو النصوص المروية عن النبي في هذا الخصوص؛ فإذا كانت هذه النصوص ثابتة حقيقةً عنه، وواضحة في دلالتها على النصّ على عليّ(عليه السلام) وتعيينه خليفة له من بعده، فلا معنى بعد ذلك لاعتبار عدم وجود ما يثبت احتجاج عليّ(عليه السلام) بهذه النصوص، بعد حادثة السقيفة، دليلاً على عدم وجود هذه النصوص أصلاً؛ وذلك لأن الملابسات والظروف التي اقتضت عدم الاحتجاج بها - لو صح‏ - ليست في متناول أيدينا، ولأنه ليس كل ما حدث يومئذ سجّله المؤرخون‏(76).
ثانياً: إنّ علياً(عليه السلام) لم يشهد اجتماع السقيفة حتى نسمع منه ما يحتجُّ به على من حضره وبايع أبا بكر فيه، فقد كان مشغولاً في ذلك الوقت بتجهيز النبيِ‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ودفنه، ولم يعرف بما حدث إلاّ بعدما أبرم إبراماً، وصار أمراً واقعاً لا مجال للعودة
________________________________________
(75)نهج البلاغة، خطبة، 33.
(76)انظر: روح التشيع، للشيخ عبداللَّه نعمة، ص 154، دار البلاغة، بيروت، 1413ه - 1993م.

[الصفحة - 223]


فيه إلى الوراء واستئناف النقاش فيه. على أنّ من يلاحظ كيف تمّت البيعة لأبي بكر في ذلك الاجتماع وما تلاه من حوادث ذكرها المؤرِّخون، أبرزها هجوم عمربن الخطاب في جماعة من مواليه وأنصاره على دار علي لإرغامه على البيعة، وكيف كان هؤلاء الجماعة وهم سائرون في الطريق إلى المسجد يأخذون البيعة من كل من يصادفهم من الناس، ويمسحون بيده على يد أبي بكر، يعرف بوضوح أن الأمر كلَّه قد بُنيَ على المخالسة والاستبداد ومحاولة فرض الأمر الواقع بالقوة والتغلّب فكما أشار إلى ذلك المرتضى في ما سبق من كلامه عند مناقشة الشبهة الأولى‏ -(77) - ولم يُبنَ على المشاورة والاستعداد لإلقاء السمع لذكر الحجج ومعرفة وجهات النظر المختلفة.
وفي مثل هذا الجو المشحون بالتوتر الذي شُهر فيه السيف بيد على باب دار عليّ وقبس النار باليد الأخرى، كيف يتسنَّى لعليّ أن يستعمل منطق الحوار والمناظرة، فيورد النصوص ويعرض الحجج، كما يفعل المتحاورون في أوضاعهم العادية؟
إنّهم لم يأتوا إليه ليستمعوا منه إلى رأيه وحجَّته، ولكنهم أتوه ليأخذوا بتلابيبه ويجرّوه جرّاً إلى المسجد ليبايع راغماً، فأيُّ فرصة تركوها له ليحاور ويناظر ويأتي بالحجج والأسانيد (78).
ثالثاً: إنّ عليّاً(عليه السلام) لم يكن يسعه في ذلك الموقف العصيب الذي وصفناه - ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلّ فعل ردّ فعل يناسبه، كما يقولون‏ - إلاّ أن يعبّر في المقام الأول عن سخطه على ما تمَّ في السقيفة وينفي عنه صفة الشرعيَّة، وذلك:
بالفعل، أوَّلاً، المتمثّل بمدافعة المقتحمين عليه داره وتمنُّعه عن الذهاب معهم لإعطاء البيعة ومحاولة الاعتصام هو ومن معه من بني هاشم في تلك الدار...
وبالقول الوجيز القارع، ثانياً، والمتضمِّن مع ذلك إشارات إلى حقّه المغصوب على نحوٍ لا مجال فيه للتفصيل والاستطراد بذكر الحجج. وذلك من قبيل قوله - بعدما أخذوه ملبّباًف (79)إلى المسجد وقيل له بايع أبا بكر - : «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً!» (80).
________________________________________
(77)الشافي، 2/150، 151، 3/191.
(78)قال العلامة شرف الدّين في المراجعات: وأنّى يتسنى الاحتجاج له أو لغيره بعد عقد البيعة وقد أخذ أولو الأمر والنهي بالحزم، وأعلن أولو الحول والطول تلك الشدّة، وهل يتسنى في عصرنا الحاضر لأحد أن يقاتل أهل السلطة بما يرفع سلطتهم، ويلغي دولتهم؟ وهل يتركونه وشأنه لو أراد ذلك؟ هيهات هيهات، فقس الماضي على الحاضر، فالناس ناس والزمان زمان، ص 284.
(79)ملبّباً، جمعت ثيابه عند نحره وصدره وجُرَّ بها جرّاً (لسان العرب: مادة ل ب ب).
(80)الإمامة والسياسة، للدينوري، ص 28 و29، شرح النهج لابن أبي الحديد، 6/11، نقلاً عن كتاب السقيفة لأحمدبن عبد العزيز الجوهري.

[الصفحة - 224]


ونحن حينما نأتي إلى تقويم فعل عليّ وقوله، المشار إليهما آنفاً، في تلك اللحظة التاريخية الخاصّة، لا بدَّ لنا من أن نضعهما في سياقهما التاريخي فنَصِلهما بما قبلهما وما بعدهما من أفعال وأقوال ونَصِلَ معهما تلك اللحظة الخاصة بما سبقها وما تلاها من لحظات تاريخية، ثم ننظر إلى الموقف بخلفياته وامتداداته ونقوّمه في سياقه الكامل، حينئذٍ ينزاح عنه الغموض، وتنسدُّ أبواب الاحتمالات المفتوحة فيه على كل اتجاه ليبقى منها باب واحد مفتوح لا يوجد سواه.
أمَّا أن نأتي إلى ذلك الفعل والقول فنعلّقهما في الفراغ وننظر إليهما مقطوعي الصلة عمّا أحاط بهما من ظروف وملابسات، وما اتصل بهما من قبلُ ومن بعدُ من أفعال وأقوال، فليس ذلك من طبيعة عمل المؤرِّخ الناقد في شي‏ء.
وهذا السلوك الأخير هو ما فعله «الكاتب» هنا بالضبط، فهو لم يكتف بإخراجه من الحسبان كلّ ما صدر عن النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من نصوص ومواقف بخصوص إمامة عليّ(عليه السلام) وخلافته من بعده، وإنَّما عمد أيضاً إلى واحدٍ من النّصوص المرويَّة عن الإمام علي(عليه السلام) قاله عقب اجتماع السقيفة بعدما سأل عن حجة قريش التي احتجت بها على الأنصار في ذلك الاجتماع فقيل له: «احتجت بأنها شجرة الرسول‏(صلي الله عليه و آل و سلم)»، فقال(عليه السلام): «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (81)، فزعم «الكاتب» أن قوله هذا ليس احتجاجاً بالنصّ، وإنما هو احتجاج بالأولوية المستندة إلى القرابة القريبة.
وقد تناسى «الكاتب» أنّ الإمام(عليه السلام) لم يكن في قوله هذا في معرض الإدلاء بحجته التي تثبت حقّه في الخلافة، وإنما في معرض النقض على المستدلّ بحجته والردّ عليه بما يبطلها ويزيّفها.
وقد حشد «الكاتب» مع هذا النصّ نصوصاً أخرى مرويَّة عن عليّ(عليه السلام) قيلت في مناسبات مختلفة كلُّها متأخرة عن حادثة السقيفة بزمن ليس بالقصير، والذي يدعو إلى العجب والاستغراب فيها أنّ بعضها يدلُّ على عكس ما يدّعيه «الكاتب» من دلالتها على مجرَّد الشعور بالأولوية وعدم وجود ما يشير فيها إلى النصّ على خلافته، من قبيل خطبته المعروفة بالشقشقية، وبعضها الآخر قد سلخه «الكاتب» من سياقه سلخاً واقتطعه اقتطاعاً يخلّ بمعناه - كعادته التي ألفناها منه‏ - ليموّه بذلك على القارى ويجعله لا يرى من عناصر معنى النصّ إلاّ العنصر الذي يخدم غرضه.
________________________________________
(81)شرح النهج، 6/3.

[الصفحة - 225]


وسوف نلقي المزيد من الضوء على كل ذلك في ملاحظاتنا التفصيلية التي سوف نختم بها هذه المداخلة.
هذا كلّه بناءً على أنّ مقصود «الكاتب» هو المعنى الأول لما زعمه.
أمّا إذا كان مقصوده هو المعنى الثاني، أي أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يحتجّ بنصّ النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) على إمامته وحقّه في الخلافة طوال مراحل حياته بعد تلك الحادثة، فهذا مخالف للحقيقة، فهو وإن بايع الخلفاء الثلاثة الذين توالوا على الحكم من بعد النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) ووادعهم، وأغضى عن حقّه في تولّي الخلافة إيثاراً لمصلحة الإسلام العليا وحرصاً على وحدة كلمة الأمة وعدم تفرّقها، إلاّ أنّه لم يكف عن التذكير بحقّه المغتصب ولم يدع فرصة لإظهار ما تحدّث به النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) في شأن إمامته وولايته من بعده، وما نوّه به من مناقبه ومزاياه التي خصّه اللَّه تعالى وأهّله بها لهذا المنصب، كما لم يكف عن الحديث عمَّا عهد إليه النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) من عهود وما ورّثه له من علوم وما أحاطه به من رعاية نبوية متواصلة وإعداد رسالي مبكر مستمر، ليتمكّن بذلك كلِّه من قيادة مسيرة الإسلام من بعده‏(صلي الله عليه و آل و سلم).
وندع جانباً ما يحفل به نهج البلاغة من كلمات فاضت على لسانه وطفحت بهذه المعاني جميعها صراحةً، أو إشارةً، لأن ذلك كلَّه قد فسّره «الكاتب» وأسلافه ممَّن هو على شاكلتهم وهم على شاكلته، بأنه لا يدلُّ على أكثر من شعوره بأولويته وأحقّيته بالخلافة من غيره، أولوية تفضيل، وأحقيَّة صحبة وقرابة، لا أولوية نص نبوي وأحقية تعيين إلهي.
ونكتفي فقط بالإشارة إلى بعض ما تضمّنته مصادر الحديث النبوي العامة مما احتجّ به(عليه السلام) من النصّ عليه بالاسم، ويجد القارى تفصيله في ما جمعه من مصادره العلاّمة الأميني‏(ره) في كتابه «الغدير» (82):
1 - احتجاجه ومناشدته يوم الشورى:
وقد حدث ذلك حينما أوكل عمربن الخطاب إلى أعضاء الشورى الستة أن ينتخبوا واحداً منهم لخلافته، بعدما طُعن سنة 23ه، أو أوَّل 24ه.
وقد روي حديث هذا الاحتجاج أو المناشدة بطرق شتى وبصور مختلفة من
________________________________________
(82)الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، 1/327 - 396، تحقيق مركز الغدير، قم، 1416ه - 1995م.

[الصفحة - 226]


حيث الطول والاختصار (83). ونحن نختار من روايات هذا الحديث أوسطها كما ذكرها ابن أبي الحديد في شرح النهج، حيث قال: «نحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى، وقد روى الناس ذلك فأكثروا، والذي صحّ عندنا أنّه لم يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة، ولكنّه قال لهم بعد أن بايعوا عثمان وتلكّأ هو(عليه السلام) عن البيعة: «إنّ لنا حقّاً إن نُعْطَه نأخُذه، وإن نُمْنَعْه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى» في كلام قد ذكره أهل السّيرة..
ثمّ قال لهم: أنشدكم اللَّه؛ أفيكم أحد آخى رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) بينه وبين نفسه غيري؟ قالوا: لا. قال: أفيكم أحد قال له رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) : «مَن كنتُ مولاه فهذا مولاه» غيري؟ قالوا: لا. قال: أفيكم أحد قال له رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» غيري؟ قالوا: لا. قال: أفيكم من أؤتُمنَ على سورة براءة وقال له رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) : «إنّه لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي» غيري؟ قالوا: لا. قال: ألا تعلمون أنّ أصحاب رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) فرّوا عنه في مأقِط الحرب في غير موطن، وما فررتُ قطّ؟ قالوا: بلى. قال: ألا تعلمون أنّي أوّل الناس إسلاماً؟ قالوا: بلى. قال: فأيّنا أقرب إلى رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) نسباً؟ قالوا: أنت.
فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه، وقال: يا عليّ، قد أبى الناس إلاّ عثمان، فلا تجعلنَّ على نفسك سبيلاً!
ثمّ توجّه عبد الرحمن إلى أبي طلحة الأنصاري، فقال له: يا أبا طلحة، ما الذي أمرك عمر؟ قال: أن أقتل من شقّ عصا الجماعة! فقال عبد الرحمن لعليّ: بايع إذن، وإلاّ كنتَ متّبعاً غير سبيل المؤمنين!! وأنفذنا فيك ما أُمرنا به!! فقال عليّ(عليه السلام) كلمته هذه: «لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري، وواللَّه لأُسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة...»(84).
2 - احتجاجه أو مناشدته يوم الرحبة سنة (35هـ):
قال العلاّمة الأميني: «إن أمير المؤمنين(عليه السلام) لمّا بلغه اتهام الناس له في ما كان يرويه من تقديم رسول اللَّه إياه على غيره، ونوزع في خلافته، حضر في مجتمع الناس بالرحبة في الكوفة، واستنشدهم بحديث الغدير، ردّاً على من نازعه فيها، وقد
________________________________________
(83)قال العلامة السيد عبد العزيز الطباطبائي في هامش كتاب الغدير: «حديث مناشدة يوم الشورى أخرجه عدة من الحفاظ بطرق شتى تنتهي إلى أبي ذرّ وأبي الطفيل، إلاّ أنّ فهم من أوعز إليه إيعازاً كالبخاري في التاريخ الكبير، 2/382، ومنهم من اقتطع منه محل حاجته كالذهبي في كتاب الغدير...، ومنهم من رواه بطوله على اختلاف يسير في اللفظ شأن سائر الحديث..» ثم عدّد بعد ذلك من أخرج هذا الحديث من الحفاظ. الغدير، للأميني، هامش ص 331 و332.
(84)شرح النهج، 6/167.

[الصفحة - 227]


بلغ الاهتمام بهذه المناشدة إلى أن رواها غير يسير من التابعين، وتضافرت إليها الأسانيد في كتب العلماء، ونحن وقفنا على رواية أربعة صحابيين، وأربعة عشر تابعياً» (85).
ومما ذكره الأميني من روايات هذه المناشدة: «ما رواه السيوطي في جمع الجوامع كما في كنز العمّال عن الدارقطني، ولفظه:
خطب عليٌّ فقال: «أَنشُدُ اللَّه امرأً نِشدةَ الإسلام سمع رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) يوم غدير خُمّ فأخذ بيدي‏ - يقول: ألست أولى بكم يا معشر المسلمين من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه.
قال: من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، إلاّ قام فشهد».
فقام بضعة عشر رجلاً، فشهدوا، وكتم قومٌ، فما فنُوا من الدنيا إلاّ عَمُوا وبَرِصوا» (86).
3 - احتجاجه(عليه السلام) على طلحة ومناشدته له يوم الجمل:
أخرج الحاكم في «المستدرك» بسنده عن رفاعة بن إياس الضبيّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: «كنا مع عليّ يوم الجمل، فبعث إلى طلحة بن عبيداللَّه أن القني، فأتاه طلحة، فقال: «نشدتك اللَّه هل سمعت رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم) يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟» قال: نعم. قال: «فلِمَ تقاتلني؟ قال: لم أذكر. قال: فانصرف طلحة»(87).
ملاحظات منهجية وموضوعية على نصوص الجزء الثاني من الشُّبهة
يبقى في نهاية هذه المداخلة أن نشير إلى بعض الملاحظات حول ما استشهد به «الكاتب» من نصوص تؤكد، في رأيه، أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يعتقد بالنصّ عليه بالخلافة، وإنما كان يشعر فحسب بأولويته وجدارته بها أولوية فضل وصحبة وقرابة وليس أولوية نص وتعيين.
وقد سبق ذكر ما لاحظناه على النصّ الأوّل من المجموعة الثانية من النصوص «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»؛ وبقي لنا ما نلاحظه على سائرها:
________________________________________
(85)الغدير، 1/339.
(86)م.ن، 1/364.
(87)المستدرك على الصحيحين، 3/419، ح 5594، وانظر بقية روايات هذا الاحتجاج في «الغدير»، 1/378 - 380.

[الصفحة - 228]


الملاحظة الأولى: إن نوعية النصوص القليلة التي انتقاها «الكاتب» تمثِّل ذلك النوع الكثير من النصوص التي يحفل بها نهج البلاغة وغيره من مصادر كلامه الذي لم يكن فيه الإمام(عليه السلام) في معرض الاحتجاج والمناظرة مع جاحدي النصّ عليه والمخالفين له، وإنما كان يشير فيها إلى ما كان معهوداً في أذهانهم وسابقاً في علمهم من استحقاقه وحده للخلافة استحقاقاً لا مجال للاجتهاد فيه، ويتظلّم فيها ممّن حرموه حقّه فيها ويشكو منهم شكوى لا يمكن تسويغها وتفسيرها على قاعدة إيمانه المزعوم بنظرية الاختيار، لأنه(عليه السلام) في كثير من حالات هذه الشكوى اتهمهم بالقصد إلى غصب الخلافة منه مع سابق علمهم بأنها من حقّه وحده.
ولحسن الحظ فقد ذكر «الكاتب» نصّ خطبته الشقشقية التي أفاض العلماء في ذكر مصادرها ونوَّهوا باستفاضتها وشهرتها: «أما واللَّه لقد تقمّصها فلان، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا، ينحدر عنّي السّيل ولا يرقى إليَّ الطير.. فسدلتُ دونها ثوباً وطويت عنها كَشحاً، وطفقت أرتئي بين: أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخيةٍ عمياء!.. فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذىً، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نَهْباً! حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده..
فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته!! لشدّ ما تشطّرا ضَرعيها!... فصبرت على طول المدّة، وشدّة المحنة.. حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زَعَم أنّي أحدهم، فياللَّه وللشورى، متى اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرن إلى هذه النظائر!..» (88).
ومما استفاضت به الرواية عنه أيضاً مما يدخل في هذا الإطار ولم يذكره «الكاتب»، قوله(عليه السلام): «لا يقاس بآل محمد(صلي الله عليه و آل و سلم) من هذه الأمَّة أحد، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفي‏ء الغالي، وبهم يلحق التالي،ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله» (89).
وقوله(عليه السلام) وقد سمع أعرابياً يقول: وامظلمتاه، وهو يخطب: «ويحك، وأنا مظلوم ظُلمت عدد المدد والوبر» (90).
________________________________________
(89)شرح النهج، 1/138 و139، خطبة 2.
(90)الشافي ، 3/223.

[الصفحة - 229]


وقوله(عليه السلام) الذي سبق ذكره، عند مناقشة الشبهة الثانية (النص رقم 9): «كان ممَّا عهد إليّ النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم) إنّ الأمة ستغدر بك بعدي»، إلى غير ذلك مما يصعب حصره واستقصاؤه، مما إذا وضع في سياقه الكامل من أقوال علي وتاريخ سيرته والنصوص النبوية المأثورة في النصّ عليه كان لهم أبلغ الدلالة وأوضحها على أنَّه كان يؤمن أوثق إيمان وأعمقه بنص النبي على ولايته وتعيينه لها تعييناً لا مجال معه للاختيار والتأويل.
الملاحظة الثانية: إن الرواية التي نقلها «الكاتب» من كتاب «الشافي» عن زيد بن عليّ‏ (رض) ذكرها ناقصة مجتزأة من سياقها، إذْ قال: «وهناك رواية أخرى عن زيدبن علي عن الإمام أمير المؤمنين يقول فيها: بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم من قميصي هذا فكظمت غيظي، وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض» (91).
وقد رواها المرتضى في «الشافي» على وجهها الكامل، وهي: «وروى زيد بن عليّ‏بن الحسين(عليهما السلام) قال كان عليّ(عليه السلام) يقول: «بايع الناس، واللَّه، أبا بكر وأنا أولى بهم منّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض، ثم إنّ أبا بكر هلك واستخلف عمر، وقد واللَّه علم أني أولى بالناس منّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي وانتظرت أمري، ثمّ إنّ عمر هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستّة كسهم الجدة فقال: اقتلوا الأقل، فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلاّ القتال أو الكفر باللَّه».
ومن الملاحظ أنّ الرواية حتى في حدود نقل «الكاتب» الناقص والمجتزأ لها لا تدلّ على مجرّد شعور الإمام(عليه السلام) بالأولوية على سبيل الأفضلية كما يدّعي ذلك، وإنما تدلّ على اعتقاده باستحقاق الخلافة استحقاق تملّك واختصاص أبلغ دلالة وأوضحها لمن يحسن فهم الأسلوب البليغ الذي يتحدّث به الإمام، ويدرك مرامي التشبيهات الدقيقة والبليغة التي يستعملها في كلامه، ومنها تشبيه استحقاقه للخلافة باستحقاقه لقميصه الذي يلبسه «وأنا أولى منهم بقميصي هذا»، فهذا التشبيه يدلّ صراحةً على أنه يعتقد في حقّه في الخلافة أنه حقّ تملّك واختصاص، وإذا كان تملك أمر الناس واستحقاق الولاية عليهم مستنده في اعتقاده هو الاختيار فإن أهل
________________________________________
(91)أحمد الكاتب، ص 22.

[الصفحة - 230]


السقيفة بعد وفاة النبي وفي الشورى السداسية التي شكلها عمربن الخطاب لم تختره للخلافة، فأيُّ مسوِّغ له بعد ذلك أن يعتقد في نفسه أنه هو المستحق الشرعي الوحيد لها؟
بل إن هذا التشبيه يدل على ما هو أكثر من مجرّد التماثل والتساوي بين الحقين (الحق في الخلافة والحق بقميصه)؛ لأنه يقول فيه: أنّه أكثر أولوية بأمر الناس بأولويته بقميصه، وهذه إشارة لطيفة منه بأن ملكية الناس لأشيائهم ومقتنياتهم يعترف بها لهم على سبيل الظاهر، وبمقتضى (قاعدة اليد) كما يقول الفقهاء، أما تملّكه لأمر الأمة بعد النبي فهو تملك يقوم على أساس البيّنة القائمة والحجة الشرعية الملموسة.
وإذا عدنا إلى الرواية في نصّها الكامل فسوف نجد أنها تتضمن إشاراتٍ أخرى تؤكد المعنى الذي تشعّ به في نصّها الناقص الذي اقتطعه «الكاتب» منها، منها:
قوله(عليه السلام): «حتى ما وجدت إلاّ القتال أو الكفر باللَّه» ، ففي هذا القول لخّص الإمام(عليه السلام) الموقف الصعب الذي وجد نفسه فيه في جميع مراحل حياته بعد وفاة النبي بأنه كان بين حالين:
حال وجد فيها نفسه مضطراً للمسالمة والقعود عن انتزاع حقه بالقوة لعدم وجود من يناصره ويقاتل معه من جهة، وحتى لا تكون فتنة ويرتدّ الناس كفاراً بعد رحيل النبي‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، وحال وجد نفسه فيها مضطراً للقتال حينما اجتمع الناس على بيعته ووجد له أنصاراً على قتال الناكثين والقاسطين‏ (92).
الملاحظة الثالثة: إنّ النص الأخير الذي أشار إليه «الكاتب» في شبهته وزعم أنّ رواية رواها الكليني في روضة الكافي عن الإمام محمدبن علي الباقر(عليه السلام) لا يعدو كونه حكايةً لمعنىً مجتزأ من الرواية المشار إليها، وهو مخالف لنصّها الذي يدل دلالة صريحة على اعتقاد الإمام عليّ(عليه السلام) بالنصّ على خلافته حسبما يقول الإمام الباقر حيث ورد فيها قوله(عليه السلام):
«إنّ الناس لمّا صنعوا ما صنعوا؛ إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنين(عليه السلام) من أن يدعو إلى نفسه إلاّ نظراً للناس وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الإسلام، فيعبدوا الأوثان ولا يشهدوا أن لا إله إلاّ اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه‏(صلي الله عليه و آل و سلم)، وكان الأحبّ إليه
________________________________________
(92)الشافي، 3/226. قال المرتضى تعقيباً على هذا الحديث: «وقوله‏(عليه السلام): «حتى ما وجدت إلاّ القتال أو الكفر باللَّه» منبّهاً بذلك على سبب قتاله لطلحة والزبير ومعاوية وكفه عمَّن تقدّم لأنّه لما وجد الأعوان والنصار لزمه الأمر وتعيّن عليه فرض القتال، والدفاع حتى لا يجد إلاّ القتال والخلاف للَّه، وفي الحال الأولى كان معذوراً لفقد الأعوان والنصارى».

[الصفحة - 231]


أن يقرّهم على ما صنعوا من أن يرتدّوا عن جميع الإسلام، وإنّما هلك الذين ركبوا ما ركبوا، فأمّا من لم يصنع ذلك ودخل في ما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة لأمير المؤمنين(عليه السلام)، فإنّ ذلك لا يكفره ولا يخرجه من الإسلام، ولذلك كتم عليّ(عليه السلام) أمره وبايع مكرهاً حيث لم يجد أعواناً» (93).
وقد تحدّثنا عما فعله «الكاتب» بهذه الرواية في الملاحظات المنهجية على الفصل الأول في بداية هذه البحوث، وحلَّلنا هناك نصّها وما تشعّ به من دلالة ظاهرة على عكس ما يدّعيه «الكاتب»(94).
(للبحث صلة)
________________________________________
(93)روضة الكافي، ص 246، ح‏454، دار الأضواء، بيروت، د.ت.
(94)مجلة المنهاج، العدد 15، ص 81.

[الصفحة - 232]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف