البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

March / 5 / 2022  |  1073لا مناص من وضع ضوابط منهجية دقيقة للخطاب الإسلامي الموجه نحو الغرب

الحوار مع :د. إدريس الكنبوري
لا مناص من وضع ضوابط منهجية دقيقة للخطاب الإسلامي الموجه نحو الغرب

جملةٌ من الإشكاليات المعرفيّة تضمّنها الحوار مع الباحث والأكاديمي المغربي الدكتور إدريس الكنبوري. فقد تناولنا معه جملةً من الأسئلة دارت حول الأركان التأسيسيّة للاستشراق الأوروبي حيال المجتمعات الإسلاميّة. ولعلّ من أبرز الأطروحات التي وردت في هذه المحاورة، دعوة الباحث إلى وجوب وضع ضوابطَ منهجيّةٍ وأخلاقيّةٍ ومعرفيّةٍ للخطاب الإسلامي الذي ينبغي توجيهه إلى الغرب. وهو ما يدخل في سياق استراتيجيات المواجهة مع الاستشراق المستحدث وخصوصًا ظاهرة الإسلاموفوبيا والآثار التضليليّة المترتّبة عليها.

وفي ما يلي نص الحوار

«المحرّر»


* في المستهل نريد أن تتكرّموا بالإجابة على سؤال يتداول الآن بقوّة، وهو: هل انتهى الاستشراق فعلاً أم هو في سيرورة من التجدّد والاستمرار؟

ــ إذا كان الاستشراق هو الخطاب الغربي المنتَج عن عالم الشرق، ونقصد هنا بالشّرق تحديدًا عالم الإسلام والمسلمين دون العالم الآسيوي، فإنّ هذا الخطاب لا يزال قائمًا وقادرًا على تجديد نفسه باستمرار، وبأشكالٍ متعدّدةٍ ومختلفةٍ وأكثر تطوّرًا. لقد ظهر الاستشراق الأوروبي في القرن الثامن عشر بالخصوص في إطار ميزان القوة العالمي الجديد، الذي كان قد بدأ يتشكّل حينذاك بين العالم الغربي المسيحي والعالم الإسلامي الشّرقي، أي في إطار نظامٍ من الغلبة والسيطرة، وكان الاستشراق بمثابة الآلة الثّقافيّة التي تتحرّك في يد الآلة العسكريّة والسياسيّة، ولنقل إنّه ظهر في ظلّ نظامٍ عالميٍّ جديدٍ نقل المركز من العالم الإسلامي إلى العالم الغربي المسيحي، وهو النظام العالمي الذي ظهرت بوادره الأولى في أعقاب حدثين هامين مترابطين: سقوط غرناطة و«اكتشاف» أميركا، وكلاهما حصلا في عام 1492، التي يُجمعُ غالبيّة المؤرّخين الأوروبيين على أنّها كانت بداية الانتقال من العصور الوسطى في أوروبا إلى الحداثة. وإذا تفحّصنا جيّدًا هاذين الحدثين سوف نرى في العمق أنّ ما يُوحّد بينهما هو التغريب من الناحية الثّقافيّة، وبسط هيمنة المسيحيّة من جهةٍ ثانيةٍ، فسقوط غرناطة كان يعني توسّع أوروبا المسيحيّة إلى الأندلس، وغزو أميركا كان يعني نشر الديانة المسيحية وسط الهنود الحمر والقضاء على ثقافاتهم وأديانهم المحليّة، وكلا الغزوتين قامت بهما إسبانيا الكاثوليكية بمعونة الكنيسة، وبمعنى آخر، وإن شئنا الدّقّة، قلنا إنّ الانتقال من العصور الوسطى إلى الحداثة كان بالاعتماد على سلطة الكنيسة الكاثوليكيّة.

اليوم، هذا الميزان المختل بين العالم الأوروبي والعالم الإسلامي ما يزال قائماً، بل ازداد اختلالاً، والمنتوج الاستشراقي الذي كان قبل قرنين خاصًا بفئة العلماء المتخصّصين والدوائر الأكاديميّة الضيّقة والمسؤولين الديبلوماسيين والعسكريين، أصبح اليوم أكثر عموميّةً وأكثر انتشارًا بفضل وسائل الإعلام التي أنزلت الخطاب الاستشراقي من الضبط المفاهيمي إلى فوضى المفاهيم. بل إنّني أرى أنّ ما يحصل اليوم في العالم الإسلامي وتجاه الإسلام والمسلمين هو نتاج استثمار حقيقي لمعطيات الاستشراق، من ذلكمثلاً الإسلاموفوبيا التي تنتشر في أوروبا بشكل واسع وتعيد إنتاج خطاب الاستشراق الحديث وخطاب الكنيسة الكاثوليكية القديم إزاء الإسلام والمسلمين، وكذا افتعال الصراع السني ـ الشيعي على الصعيد الديني، والعربي ـ الفارسي على الصعيد الجنسي، وتطوّر خطاب المنظمات الغربية تجاه قضايا المرأة والأسرة في العالم الإسلامي، وغير ذلك من الظواهر، كل هذا هو نتاج الفكر الاستشراقي الذي لا يزال حاضرًا بيننا.

* بناءً على ما ذكرتم، نريد أن نسأل عن الذي بقي وما زال حيًّا من التراث الاستشراقي؟

ـ ما بقي حيًّا هو ما كان موجوداً، فالخطاب الاستشراقي لم يمت لكنّه غيّر فقط جلده. لا زال الغرب إلى حد اليوم يعتمد على ما وضعه المستشرقون السابقون أمثال برنارد لويس ومونتغومري واط وجاك بيرك وغيرهم، ويعيد إنتاج المفاهيم التي صكوها وصاغوها لقراءة الشرق أنثروبولوجيًا وسياسيًا ودينيًا، وبعد حوالي مئة عام تقريبًا نرى اليوم أنّ تلك الأفكار لم تتعرّض للنّقد العلمي، أو لنقل بالأحرى إنّ هناك محاولاتٍ لتغطية وحجب أيّ نقدٍ لها، حتى تبقى هي السيارة. ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر المنتوج الاستشراقي حول القرآن الكريم، فحتى اليوم لا زال ما كتبه مونتغومري واط وثيودور نولدكه هو المسيطر على الدوائر البحثيّة الأكاديمية في الغرب، فقط يعاد إنتاجه وتجديده لكي يكون أكثر مسايرة للعصر، بل إنّ تلك الإنتاجات حول القرآن الكريم انتقلت إلى الساحة الفكرية والأكاديمية في العالم الإسلامي، وأصبح المسلمون هم الذين يستهلكونها بوصفها إنتاجًا علميًا، ويعيدون صياغته من جديد والبحث له عن أدلّة وبراهين من داخل النص الديني الإسلامي. وهذا يعني بالنسبة إلينا أنّ الاستشراق ليس حيًّا يرزق فحسب اليوم، بل هو حيّ بيننا نحن المسلمين.

* في ما يتجاوز ما قدّمه إدوار سعيد من تحليلٍ ونقدٍ للاستشراق، هل ترون أنّ ثمّة فسحة تاريخيّة لشرقٍ مستقلٍّ متحرّرٍ من صناعات الغرب وهيمنته؟

ـ إنّه سؤالٌ مهمٌّ ومعقّدٌ بعض الشّيء، ويتطلّب نوعًا من الحرص في النّقاش. إنّني أقول بأنّ فرصة إنتاج شرق شرقي، أو شرق غير مشرقن بعبارة إدوارد سعيد، قد أتيحت منذ بضعة عقود في العالم الإسلامي، فهناك عدد كبير من الإنتاجات التي ظهرت في العالم العربي وفي إيران تردّ على مطاعن الاستشراق وتعيد تسوية الكرسي لكي يقف على قوائمه، وقد أنتج الفكر الشيعي المتقدّم في هذه الناحية الكثير من الأطروحات العلميّة المفيدة التي تتجاوز بكثير منهجيّة المستشرقين، ولكن الإشكاليّة عندنا ليست في الإنتاج وإنّما في التسويق، وفي الهجوم على الاستشراق بلغته نفسها في الغرب. إنّ الحقيقة هي أنّ السلطة المعرفيّة ليست هي تلك التي تنتجها المعرفة في ذاتها، من خلال قدرتها على الإقناع ومنهجيتها الصارمة، بل هي تلك التي توافق عليها السّلطة الأكاديمية بوصفها السلطة السياسية التي تسند السلطة المعرفية وتعطي لأيّ معرفة تريد الشرعيّة النافذة. وفي الدوائر الأكاديمية الغربية اليوم هنالك سيطرة شبه مطلقة للخطاب الذي ينافح على الاستشراق التقليدي، الاستشراق الذي يخدم الطموحات السياسية للغرب، بحيث يتم إلزام الباحث بالبقاء ضمن المنظومة الفكريّة نفسها إذا أراد الاعتراف به، وهذا يتحقّق من خلال استراتيجيّةٍ مدروسةٍ، حيث يُفرض على الباحث مثلًا أن يعتمد مصادر ومراجع محدّدة في إنتاج أطروحته، وأن يعتمد حتى مفردات معيّنة، ففي فرنسامثلاً لا يتمّ الاعتراف بأيّ باحثٍ في التّطرّف الدّيني يستعمل عبارة (Jihadisme) بدون حرف دال، بل لا بدّ أن يستخدم العبارة (Djihadisme)، الأمر نفسه في إسبانيا، حيث عليك أن تستعمل عبارة (Yihadismo)، بدل (Jihadismo)، فهناك سلطة أكاديميّة دورها تطويع الفكر العلمي وخلق التطبيع بينه وبين الفكر السائد.

ولذلك أرى أنّ الضرورة تلزمنا بالبدء بتقويض بنية الاستشراق الغربي من الداخل، وتفكيك المفهومات التي يستعملها بوصفها مفهوماتٍ علميّةً لا يطالها الشكّ، ونقل هذه الإنتاجات التي ننتجها إلى اللغات الأوروبية بحيث تكون قريبةً من جمهرة الباحثين والطلبة. ومن جانب آخر لا بدّ من الاعتماد على الأساليب الجديدة في تنزيل الخطاب، أي التقنيات الحديثة ووسائل التواصل؛ لأنّنا لا يجب علينا أن ننطلق من نقد الاستشراق فقط من الرّدّ على نتاج المستشرقين، وكأنّنا لا زلنا نعيش معهم في القرن التّاسع عشر، بل لا بدّ من استحضار المرحلة، بحيث علينا نتقويض

تقويض هذا الفكر الاستشراقي التقليدي، وهذه مهمّة علميّة، ثم التّصدّي لانتشار مخلّفاته في العقليات الغربية اليوم، وهذه مهمّة علميّة وإعلاميّة معًا.

* كيف تتصوّرون علمًا للاستغراب يكون الغرب موضوعه في مقابل الاستشراق؟ وما هو تصوّركم لمنهج المقاربة في هذا العلم الجديد؟

ـ لقد كانت الدّعوة التي وجّهها الدكتور حسن حنفي في كتابه، الذي يحمل العنوان نفسه، مدفوعةً بهاجس الرّدّ على الاستشراق من خلال اعتماد استراتيجيّةٍ مشابهةٍ له، وهي الاستغراب، أي إنتاج خطاب حول الغرب بمثل ما إن الاستشراق هو إنتاج خطاب حول الشّرق. وفي ظني هذه الأطروحة غير سليمةٍ وغير منتجةٍ لثلاثة أسباب هامّة:

أوّلًا: حركة الاستشراق الأوروبي ظهرت نتيجًة للرغبة في التّوسّع والاستعمار، وإنتاج معرفة عن الشرق ليس لفهمه ودراسته بهدف الحوار أو الفهم، بل بهدف السّيطرة والتّحكّم، من هنا فهي كانت حركة في خدمة المشروع الاستعماري الحضاري الغربي المسيحي بشكل عام. وعندما ننادي بالاستغراب فإنّنا نكرّس في عقول الغربيين بأنّنا نريد أن ننتقم من النّزعة الاستشراقيّة ومن الغرب بإنتاج معرفة مضادة، مع أنّنا لا نسعى إلى احتلال الغرب، حتى لو استطعنا؛ لأنّ المشروع الحضاري الإسلامي لا يتأسّس على منطق القوّة والغزو والسيطرة، بل على منطق الحوار والجدل والتعايش. فإذًا نحن في منطق مختلف عن منطق الاستشراق.

ثانيًا: العصر اليوم تغيّر بشكلٍ جذريٍّ عمّا كان عليه الوضع في بدايات الاستشراق، حيث كان التعليم محدودًا جدًا في أوروبا، وكانت الجامعات الأوروبية في بدايتها، والأمية منتشرة، والأمر نفسه في العالم الإسلامي، لكن اليوم هناك طفرة معرفيّة كبيرة جدًا والكتاب يروّج بشكلٍ يُضاعف ما كان عليه الحال في تلك المرحلة بعشرات المرات. والمطلوب اليوم أن يكون هناك خطاب علميّ واعٍ موجّه من الشّرق إلى الغرب من أجل فتح صفحة جديدة مع العقلاء فيه بعيدًا عن صخب السياسة والنّزعة الاستعماريّة.

ثالثًا: الإنتاج الاستشراقي الغربي كان موجّهًا بالأساس إلى فئتين، الفئة الأولى هي فئة السياسيين والديبلوماسيين والإداريين، لتمكينهم من معرفة مفاصل المجتمعات الشّرقيّة التي سيديرونها، لذلك كانت الإدارات الاستعماريّة توظّف المستشرقين معها لكي يكونوا بمثابة المستشارين الثقافيين، باعتبار أنّ القرار السياسي أو الإداري الذي يصدره الاحتلال يتحرّك في إطار بيئةٍ ثقافيّةٍ ودينيّةٍ، ولا بدّ من معرفة تلك البيئة قبل ذلك، وتلك المعرفة لا يوفّرها سوى مستشرق. وقد حصل هذا مع الاحتلال الفرنسي للمغرب مثلا؛ حيث وظّفت الإدارة الفرنسيّة، أو الإقامة العامّة، اثنين من كبار المستشرقين، هما جاك بيرك وميشو بيلير، وهما المستشرقان اللذان أنتجا أكثر المعلومات حول القبائل والزوايا الصوفية المغربية في تلك الحقبة.

لذلك أعتقد أنّه يجب تجاوز هذا المنطق كليًّا -منطق المستشرقين- والمرور إلى معرفةٍ علميّةٍ تنطلق من الإسلام نحو الغرب، وتأخذ بعين الاعتبار مجموعة معطيات، من ضمنها، أوّلًا أنّ الحداثة الغربية اليوم تعيش مأزقًا فلسفيًا وعمليًا معًا، خلافًا للمرحلة التي ظهر فيها الاستشراق؛ حيث كانت الحداثة ذات لمعان وبريق، والمطلوب منّا اليوم تفكيك الحداثة الغربية مع تقديم البديل لها المنطلق من الرؤية الفلسفيّة الإسلاميّة. وثانيًا، أنّ الإسلام اليوم لم يعد يوجد خارج أوروبا، أي داخل الشرق، كما كان عليه الأمر قبل قرن ونيّف، بل أصبح الإسلام اليوم جزءًا من البنية الديمغرافيّة والثّقافيّة لأوروبا، أي أنّ الشّرق لم يعد بعيدًا عن الغرب، بل صار يوجد في قلبه اليوم، خلافًا للماضي. وثالثًا، أنّ ما يجب أن نطرحه اليوم ضمن هذه الرؤية الجديدة هو القابلية للحوار وللاقتراح، وأن نخاطب العقل الغربي المعاصر بمنهجيّةٍ تشرح له أنّ دورنا ليس إنتاج معرفة عدوانيّة، على مقاس الاستشراق الغربي، بل إنتاج معرفة بانية، معرفة تتيح للمواطن الغربي تفهم حضارته الغربية نفسها من زاوية مغايرة، والانفتاح على البعد الإنساني في الثقافة الذي يمثله الإسلام.

* اشتهرت المدارس الاستشراقيّة بالاهتمام بلغات الشّرق؟ واهتمّ التغريب بنشر لغات الغرب عندنا، ولكن الأمر لم يؤدّ إلى خطاب شرقيٍّ للغرب بلغته، لماذا؟ وما هي العوائق؟ وماذا تقترحون؟

ـ يُمكننا ردّ أسباب ذلك إلى ظهور موجةٍ من التقليد للغرب والحداثة الغربيّة في وقتٍ مبكرٍ من القرن الماضي، ما ساهم بشكلٍ كبيرٍ في إجهاض الخبرات التي تحقّقت مع روّاد الإصلاح الأوائل من المسلمين، الذين كانوا يريدون إنجاز قراءة مزدوجة للتراث العربي ـ الإسلامي وللوافد الأوروبي، ضمن ما سُمّي بالتوفيقيّة، ولو أنّنا لا نتّفق مع هذا الاصطلاح الذي يحطّ في الحقيقة من قيمة المشروع الإصلاحي الذي كان يسعى إليه الرعيل الأوّل من العلماء والمفكرين في المدرستين السنيّة والشيعيّة؛ حيث إنّ الذين روجوه إمّا أنّهم لم يفهموا الدينامية الفكريّة والعلميّة لمبدأ الاجتهاد في الإسلام، والاجتهاد ليس توفيقًا ولا تركيبًا بين ما لا يمكن تركيبه، بل إبداع فكري لواقع جديد، أو أنّهم أرادوا إبراز أهميّة الغرب للمسلمين من خلال كلمة التوفيق. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التيّار الجديد، الذي يعرف بالتيّار التغريبي، سعى إلى إحلال كلّ ما هو غربيّ في الشرق، ثقافة ولغة وطريقة تفكير، بل حتى طريقة طرح السؤال؛ لأنّ السؤال نفسه له قيمة حضاريّة والسؤال المغلوط يؤدّي بالضرورة إلى أصداء فكرية وثقافيّة مغلوطة، وهو ما عشناه خلال القرن الماضي وما زلنا نسحبه خلفنا إلى يوم الناس هذا. لقد طوّر الغرب منهجيّات دراسة لغات الشرق، الشرق الإسلامي والشرق الآسيوي، وأنشأ مؤسسات ومراكز وشعبًا جامعية لهذا الغرض، فأصبح الاستشراق يرتكز على المعرفة المحايثة والعالمة بثقافات الشرق انطلاقًا من لغاته، التي هي الوعاء الذي يجد فيه الثقافة مصبوبة صبًّا، بينما رحنا نحن نقلّد الغرب بلغته، وبدل أن يُصبح الباحثون والأكاديميون العرب الذين يعيشون في الغرب أقنية لنقل الثقافات الشرقية إلى الغرب باستثمار لغاته، صاروا يؤدون مهمّة حضارية مقلوبة، وهي نقل ثقافات الغرب إلى الشرق بلغة الغرب نفسه، والنتيجة هي أنّنا أصبحنا أمام «استشراق محلي»، نابع من باحثين وأكاديميين عرب يعيدون كتابة الاستشراق الغربي من جديد، لذلك فنحن الآن نعيش بين تيارين، تيار التشريق في الخارج، وتيّار التغريب في الداخل.

ولذلك نعتقد أنّ المطلوب اليوم هو إعادة إحياء المشروع الحضاري الإسلامي قراءة استئنافية، نعيد فيها تجديد الوصال مع المشروع النّهضوي الذي أشرنا إليه، قراءة مزدوجة، ترتكز على وظيفتين: الأولى إعادة قراءة المنتوج الاستشراقي بلغات الغرب نفسه لكي نخاطب الغربيين أنفسهم لا العرب؛ لأنّنا نعتقد أنّ الكتابة بالعربيّة عن الاستشراق قد تكون مفيدة، لكنّها تتوجّه إلى ملتق محدّد هو المتلقّي العربي أو المسلم، فبالتالي يكون دورها تعليميًا أو وعظيًا، أو هما معًا، لا دورًا سجاليًا. هذا بالنسبة للوظيفة الأولى. أمّا الوظيفة الثانية، فهي إعادة تقديم الشّرق إلى الغرب من خلال قراءةٍ جديدةٍ بلغة الغرب نفسه.

* ثمّة من اقترح من علماء الاجتماع الغربيين أمثال أرنست غلنر استبدال الرؤية الأنثروبولوجيّة للشرق بدل الرؤية الاستشراقيّة.. كيف تنظرون إلى ذلك؟ الأنثروبولوجيا بدل الاستشراق؟

ـ إذا كان الاستشراق، في التعريف المدرسي له، هو المعرفة التي يتم إنتاجها عن الشرق وثقافاته ومكوناته البشريّة والثقافيّة والدينيّة، فإنّ الأنثروبولوجيا نفسها يمكن اعتبارها نوعًا من الاستشراق، أو فرعًا عنه. لكن علينا أن نتوقّف عند هذا التعريف السائد للاستشراق، فقولنا إنّ الاستشراق هو «إنتاج معرفة عن الشرق» لا يدلّ على أنّ الاستشراق علم قائم بذاته، أو حقل أكاديمي يمكن تمييزه عن الحقول الأخرى، بل هو مجال يشمل جميع الحقول المعرفيّة، وبتعبير إدوارد سعيد أيضًا فإنّ الاستشراق عبارة عن «مؤسّسة»، مستعيرًا ذلك من ميشيل فوكو الذي يتحدث عن أركيولوجيا المعرفة، وهذه المؤسّسة تشمل مختلف التخصّصات، لذلك هي تشمل الفنّ والشعر والرحلة والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والمذكرات وعلم اللغة وعلم المخطوط وغيرها من الأجناس الكتابية والعلمية، سواء في الأدب أو في العلوم الإنسانيّة؛ من ثمّ فإنّ الأنثروبولوجيا عندما تنصب على عالم الشّرق، كما فعل غيلنر أو غيرتز أو غيرهما ممن اهتمّا بشمال إفريقيا، تصبح هي نفسها خاضعة للتعريف نفسه الذي عرّفنا به الاستشراق، أي «إنتاج معرفة عن الشرق»، فتكون استشراقًا، من شأنه أن يقدّم معطيات وينتج معرفة عن الشرق تفيد الغرب في سيطرته على الشّرق.

طبعًا غيلنر يقصد بوضع الأنثروبولوجيا مقابل الاستشراق أنّ الأولى علمٌ دقيقٌ يعكس الواقع كما هو ويظل وفيًا لموضوعه كمنهجٍ علميٍّ، بينما الاستشراق إنتاج معرفة مشوّهة عن الشّرق، وبالتالي يعتمد منهجًا خائنًا لموضوعه، لكن هذا التمييز ليس سوى تمييز أكاديمي، أما من الناحية السياسية فإنّ آليّة استثمار نتاج العمل الاستشراقي هي نفسها الآلية التي يمكنها استثمار نتاج العمل الأنثروبولوجي، فالقضيّة هنا بتركيز شديد تتعلّق بالتوظيف الإيديولوجي للمعرفة، أيّا كانت هذه المعرفة. من هنا يلزمنا التمييز بين مستويين، مستوى إنتاج معرفة مشوّهة عن قصد، ومستوى إنتاج معرفةٍ صحيحةٍ، لكنّها تخضع للتوظيف السياسي.  

* إلى أيّ مدى أثّرت الثورة المعلوماتيّة في تعميم الرؤى النّمطيّة الاستشراقيّة عن المسلمين.. وما هي برأيكم الاستراتيجيات المعرفيّة المطلوبة لمواجهة ذلك؟

ـــ الثورة المعلوماتيّة ساهمت بالتأكيد في نشر وتعميم الصّور النّمطيّة للاستشراق عن الإسلام والمسلمين، وهذا طبيعي تمامًا في مضمار التّقدّم الحضاري، الذي يتيح إمكانيات جديدة للجيل الجديد لم يُسبق إليها. فإذا كان اكتشاف الطباعة وصناعة المطبعة في القرن السادس عشر الميلادي قد ساهما بشكلٍ واضحٍ في تعميم وترويج الخطاب الديني الأوروبي، بل ومكنا من إنجاح الإصلاح الديني في الغرب ونشر البروتستانتية التي لم يكن من الممكن أن تنجح من دون المطبعة، فعلينا أن نتصوّر اليوم الدور الذي يُؤدّيه الانفجار الإعلامي وتقنيات التواصل الهائلة في تعميم الأفكار والصور، بحيث يتجاوز الأمر اكتشاف الطباعة أضعافًا مضاعفةً. لذلك علينا تصوّر الجهد الذي لا بدّ من بذله للرّدّ على ما يكتب ويقال عن الإسلام والمسلمين كل يوم في الشبكة العنكبوتيّة والفضائيات والمجلات والصحف، وهو إنتاج ضخم ينوء حمله بالعصبة أولي القوّة.

على أيّ حال هناك دائمًا فرص، لكن ذلك يتوقّف على منهجيّة الاشتغال وعلى تحديد طبيعة المشكلات ونوعيّة الأسئلة الموجودة. إنّ هذا الأمر يتطلّب منها أوّلا معرفة ما هو الغرب في المرحلة الراهنة، وأين تكمن أزمة الثقافة الغربية وأزمة الحضارة الأوروبية التي لم تعد باللمعان نفسه. وطالما نحن نتحدّث عن الاستشراق وعن «الاستغراب» فإنّ المتعيّن هو معرفة هذا الغرب أوّلًا؛ لكي ندرك ما يعانيه الشّرق جرّاء أصنام الحداثة أو الحداثة الصنميّة. فنحن اليوم نعيش خريف العمر بالنسبة للنموذج الحضاري الغربي، هذا النموذج الذي استنفذ أغراضه وبدأ يخضع لأقوى الانتقادات وأشدّها شراسةً داخل الأوساط العلمية والأكاديمية الغربية، من المطالبين بإعادة النظر فيه أو تجاوزه، بل إنّ من يتابع الإنتاجات الفكريّة الغربيّة سوف يلحظ أن هناك تقاربًا يحصل بين الفكر الغربي المضاد للحداثة والفكر الشرقي، خصوصًا الآسيوي منه، وهذه خطوة مهمّة؛ لأنّها تعطينا رؤيةً عن حاجة الغربيين اليوم إلى بديل. وهذه القضيّة بالمناسبة ليست جديدة في الفكر الغربي، بل ترجع إلى سنوات الستينيات والسبعينيات، وكان يمثّلها مفكرون أوروبيون تفرّقت ببعضهم السبل، منهم من اختار واحدة من العقائد الآسيوية، ومنهم من اختار الإسلام، أمثال المفكّر الفرنسي الراحل روجيه غارودي. وكان غارودي في بداية السبعينيات عن تحدث عن البديل، في البدايات الأولى لنقده لأسس الحداثة الغربية والماركسية، ورد عليه العلامة المغربي علال الفاسي في مقالة مطولة نشرت بعد ذلك في كتيب صغير حمل العنوان نفسه، أي «البديل».

* كيف تتصوّرون ضوابط الكتابة عن إسلام عالمي موجّه إلى المجتمعات الغربية؟

ـ إنّني أعتبر هذا السّؤال محورًا فكريًّا قائمًا بذاته في المشروع الحضاري الذي نريده، ذلك أنّ إشكاليّة الكتابة للغربيين عن الإسلام من الإشكاليات العويصة التي نعاني منها اليوم؛ إذ نلاحظ أنّ هناك فوضى عارمة. فنحن نلاحظ أنّ كلّ من يأنس في نفسه الكتابة عن الإسلام يعتقد في نفسه القدرة على التّوجّه إلى الغربيين، فيكتب بطريقةٍ توحي بأنّه يتحدّث إلى المسلمين فقط؛ لأنّه لا يدرك أنّ الخطاب له محلّ مخصوص، وأنّ لكلّ مقام مقالًا، وأنّ قضيّة التّلقّي قد تكون أحيانًا أكثر أهميّةً وخطورةً من قضيّة إنتاج الخطاب. كما نجد أشخاصًا لا حظّ لهم من اللغات الأجنبية، والثقافات الأجنبية، ولا يعرفون شيئًا عن الآداب والتاريخ الأوروبي، والديانات الموجودة في أوروبا، والفلسفات الغربية، لكنّهم يتصدّون لهذه المهمّة، مهمّة الكتابة عن الإسلام للغربيين. ومن شأن هذا الصنيع أن يؤدّي إلى مخاطر كبرى تنعكس على علاقاتنا بالغرب، من هذه المخاطر على سبل المثال لا الحصر أنّ الإنسان المسلم الذي يعيش في الغرب يتأثر بتلك الكتابات المكتوبة بروح شرقيّة محليّة، فيحاول تنزيلها في واقع مختلف هو الواقع الغربي، مما يخلق لديه حالة فصام نكد ما بين التدين والتجربة الحياتيّة اليوميّة. فإذًا، لا بدّ من مراعاة ضوابط علميّة ومنهجيّة وأخلاقيّة محدّدة في الكتابة عن الإسلام للغربيين، من خلال محاولة مناقشة قضايا الإسلام العقديّة والفكريّة والفلسفيّة من داخل الغرب، أو لنقل تقديم الإسلام إلى الغربيين باعتباره دينًا محليًا في الغرب نفسه، لا في الشّرق.

* ما هي فرص الاستفادة من نقد الغرب للغرب هل من أرض مشتركة يمكن الإنطلاق منها؟

ـ النّقد الذي ينتجه الغربيون عن الحضارة الغربية هو بالنسبة لنا نحن في العالم الإسلامي رافد من روافد الحوار مع الغرب والفكر الغربي، فهذا النقد يجب أن ننظر إليه كحليف موضوعي لقضيتنا نحن في توجهنا إلى الغرب لمحاولة فهمه وتفهيمه. وأنتهز هذه الفرصة لكي أشير إلى مسألة أساسيّة تشكّل عنصر إزعاج لنا اليوم، وهي هذه الحركة الواسعة من الترجمة التي انخرطت فيها بعض المراكز البحثيّة العربيّة في السنوات الأخيرة. فهذه الحركة لا تمثّل الترجمة الحضارية التي تعزّز لدى القارئ المسلم مبادئ التفكر النقدي وفهم الغرب بشكل جيد، بقدر ما هي ترجمة يسيطر عليها الهاجس التبشيري، إذا صح التعبير، بمعنى النزعة التعليمية التلقينية التي تريد أن ترسم للقارئ المسلم الطريق التي يتعيّن عليه أن يسلكها لكي يقلّد الغرب، فهي ترجمة تطيل عمر الحداثة الصنمية، كما ورد في السؤال أعلاه. ونحن نعتقد أنّ مهمّة الترجمة اليوم يجب أن تتّجه إلى رفع منسوب النّزعة النّقدية للفكر والفلسفة الغربيين لدى القارئ المسلم، بحيث يصبح أكثر قدرةً على مساجلتهما من موقع الخبير، لا من موقع التابع المنبهر، كما كان أسلافه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما كتب طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» إنّه يجب على المسلمين أن يقلدوا أوروبا في خيرها وشرّها وفي عجرها وبجرها.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف