البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

February / 14 / 2022  |  540الحدث الأهم في القرون الوسطى هو سعي الكنيسة إلى السلطة السياسية

الحوار مع :د. أحمد رضا مفتاح
الحدث الأهم في القرون الوسطى هو سعي الكنيسة إلى السلطة السياسية

يندرج هذا الحوار التّخصّصي في نطاق إعادة تأصيل المكوّنات المعرفيّة لحقبة العصور الوسطى. وقد تضمّنت الإجابات أبرز الإشكاليات المتعلّقة بعلاقة الكنيسة المسيحيّة بالدولة والجدل حول المجتمع المدني وتنظيم الحياة طبقاً لنظام العلمنة وفصل الدين عن الدولة.

حوارنا هنا مع الباحث في الفلسفة وعلم الأديان في جامعة تربية مدرّس في قم المقدّسة بإيران. وقد صدرت له الكثير من الكتب والمقالات المتنوّعة في دراسة تاريخ اللّاهوت المسيحي، (المسيحية في العالم المعاصر)، (تعاليم الكنيسة الكاثوليكية)، (عيسى الناصري)، (الغفران بواسطة الإيمان في الديانة المسيحية)، (مفهوم الإيمان الكاثوليكي في ضوء آراء أوغسطين وتوما الأكويني)، وما إلى ذلك من الكتب الأخرى. وقد قدّم في هذا الشأن سلسلة من المحاضرات في الجامعات الأوروبيّة والآسيويّة.

 وفي ما يلي وقائع الحوار:

«المحرّر»


* بداية كيف تقرأون تاريخ تحوّلات الكنيسة في العصور الوسطى، خصوصاً لناحية الكيفية التي تبلور فيها مشروع تقديس أو حجية السلطة اللاَّهوتية؟

- إنّ الحدث الأهم الذي شهدته مرحلة العصور الوسطى ـ إذا أردنا أن نعتبر القرنين الرابع والخامس للميلاد نقطة انطلاق هذه العصور ـ هو انتقال الإمبراطورية من روما إلى القسطنطينية، حيث حدث خلل في السلطة في الجانب الغربي من الإمبراطورية. وفي الحقيقة فإنّ الكنيسة بالإضافة إلى مرجعيتها الروحية والدينية، كانت تسعى كذلك إلى التدخّل في المسائل السياسية والاجتماعية وبسط سلطتها عليها. وفي حوالي القرن الخامس للميلاد فما بعد، زعمت الكنيسة أنّ السيد المسيح استخلف بطرس، وحيث كان بطرس يعيش في روما، وكان هو خليفة عيسى، فإنّ خليفة بطرس بدوره سوف يُعتبر خليفة للسيد المسيح عيسى أيضًا. إنّ ادّعاء الكنيسة الروميّة يريد القول بأنّ السيد المسيح حيث استخلف بطرس، فهذا يمنح السلطة والتفوّق للكنيسة الرومية على جميع الكنائس الأخرى، وأنّ على جميع الكنائس الأخرى أن ترضخ لمرجعية الكنيسة الرومية. وبطبيعة الحال فإنّ الكنائس الأخرى لم تقبل بهذا الادّعاء رغم احترامها لكنيسة روما لكونها مقرًّا للإمبراطورية، ولكنّها لم تقبل بهذا الادّعاء. وبعد هذا الحادث اتّجه سعي الكنيسة الرومية إلى التمهيد للاستحواذ على السلطة، وهذا ما حصل مع مرور الوقت. وكانت نقطة بداية سلطة الكنيسة في الغرب قد تحققت في عام 800 للميلاد، ففي الوقت الذي قامت معه إمبراطورية بيزنطة، وخضع الغرب بأجمعه لهذه الإمبراطورية، تم تتويج الإمبراطور شارلماني على يد البابا، وتمّ التعريف به بوصفه إمبراطور الجانب الغربي، وكان ذلك إعلانًا لسلطة الكنيسة الرومية من تلك اللحظة فصاعدًا. وأمّا فيما يتعلّق بالجزء الثاني من السؤال القائل: كيف تبلور مشروع تقديس أو حجية الكنيسة أو مرجعيتها وادّعائها لخلافة الله في الأرض؟ فيجب القول: إنّ هذه المسألة تعود إلى الادّعاء ذاته القائل بأنّ بطرس هو خليفة السيد المسيح، وعليه فإنّ الأسقف الذي يرأس الكنيسة الرومية يكون خليفة لبطرس. وفي الحقيقة فإنّهم يدّعون أنّ التراث الرسولي يتواصل في الكنيسة الرومية. إنّ النقطة الهامّة التي يتمّ الحديث عنها في الكنيسة الرومية، هي أنّ التراث الرسولي وتبعًا له ما يحدث في الكنيسة، ينطوي على اعتبار وحجيّة مساوية لاعتبار الكتاب المقدّس وحجيّته، بمعنى أنّه إذا لم يرد شيء في الكتاب المقدّس، وارتضته الكنيسة وصادقت عليه في معتقداتها المدوّنة، فإنّه سوف يكتسب الاعتبار والحجية، وحيث يُعدّ استمرارًا للتراث الرسولي، فإنّه يكون في حكم خليفة الله في الأرض، وواسطة بين الله والناس، وأنّ الشيء الذي يحظى بتأييد الكنيسة، سوف يغدو عقيدة، وإنّ الشعار الذي رفع في هذه المرحلة الزمنيّة من تاريخ العصور الوسطى، هو أنّ ما يحدث خارج الكنيسة الكاثوليكية لن يكون مشمولاً للنجاة والفلاح. بمعنى أنّها لم تقتصر في عدم اعتبار الفلاح والنجاة على غير المسيحيين فقط، بل شملوا بذلك حتى المسيحيين الذين لا يدينون بقرار الكنيسة الكاثوليكية أيضًا، وبطبيعة الحال فقد أعيد النظر في هذه المسألة في اجتماع الفاتيكان الثاني سنة 1963 م.

* إنّ ادّعاء أفضلية الكنيسة الرومية على سائر الكنائس الأخرى، الذي يؤيّد مرجعيّة الكنيسة الرومية، قد واجه اعتراضًا من قبل سائر الكنائس الأخرى. كيف تجلّت هذه الاعتراضات؟ وما هو موقف سائر الكنائس حاليًا من هذا الادّعاء؟

- في بداية الأمر كانت هناك خمس كنائس أولية، وهي: كنيسة أورشليم، وكنيسة أنطاكية، وكنيسة الإسكندرية، وكنيسة القسطنطينية، وكنيسة روما. كان الاعتقاد السائد لدى المسيحيين يقوم على أنّ كلّ واحدة من هذه الكنائس قد تأسّست على يد أحد الحواريين أو أحد الرسل، وكان ادّعاء الآخرين يقول بأنّ جميع الكنائس تحظى باعتبار مماثل. إلا أنّ الكنيسة الروميّة حيث ادّعت التفوّق منذ القرن الخامس للميلاد فلاحقًا، كانت تروم إخضاع سائر الكنائس الأخرى لسيطرتها، بيد أنّ الكنائس الأخرى لم تستجب لها، رغم أنّها كانت تنظر إليها بعين الاحترام والتقدير. إنّ كنيسة القسطنطينية التي كانت مقرّ الإمبراطور الذي يعمل تحت إشرافها، وكانت في الوقت نفسه تحظى بدعمه، كانت كنيسة تدعي لنفسها القوة والسلطة، وبالتالي فقد حظيت بجزء من السلطة هناك. ثم إنّ انتقال الإمبراطوريّة أعدّ الأرضية إلى أن تكون الكنيسة الغربية ومقرّها روما، والكنيسة الشرقية ومقرها في القسطنطينية؛ لتكونا كنيستين متوازيتين، وإن انفصلت الكنيسة الشرقية لاحقًا تحت مسمّى المسيحية الأورثودوكسية سنة 1054 م. بمعنى أنّ الخلاف ظلّ قائمًا، فلا الأورثودوكس قبلوا بهذا الادّعاء، ولا حتى البروتستانت. نعلم أنّ البروتستانتيين يعتبرون جزءًا من الكنيسة الغربية، وقد انفصلوا عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر للميلاد. لم يكن هامًّا بالنسبة للبروتستانت أن يكون بطرس خليفة للسيد المسيح أم لا، إنّما هم لم يقبلوا بأصل الادّعاء؛ إذ هم يقولون: حتى لو افترضنا أنّ السيد المسيح ـ استنادًا إلى بعض العبارات الموجودة في العهد الجديد ـ قد نصّب بطرس خليفة له، إلا أنّ هذا الاستخلاف إنّما حدث عَرَضا بحسب المورد، بمعنى أنّ شخص بطرس قد أصبح خليفة، وأمّا الادّعاء الثاني للكنيسة فلا يقبلونه أصلاً، وهو الادّعاء القائل بأنّ هذا المسار ـ باعتبار الخلافة ـ يتواصل في الكنيسة الكاثوليكية. وعلى كل حال فإنّ هذا الادّعاء من قبل الكنيسة الكاثوليكية مرفوض حتى من قبل الكنيسة البروتستانتية.

* ما هي المعتقدات والقرارات الجدليّة للكنيسة في العصور الوسطى؟

- كما سبق أن ذكرنا فإنّ الشيء الأهم الذي يمكن الإشارة له هو ادعاء التفوّق والأفضلية الذي كانت تدّعيه الكنيسة الكاثوليكيّة لنفسها على الآخرين، والأمر الآخر هو ادّعاء الحجيّة والسلطة التي كانت تنسبها الكنيسة الكاثوليكية لنفسها، وهو شأن ومنزلة خلافة الله على الأرض. وذلك لأنّ هذه المسألة خلقت تحديات أخرى. وذلك لأنّ ادّعاء الكنيسة الكاثوليكية يقوم على أنّها تمتلك حق التعليم، بمعنى أنّ الكنيسة الكاثوليكية هي التي تحدّد ما هو المعتقد الصحيح، وما هو المعتقد الخاطئ، وإنّ الكنيسة الكاثوليكية هي التي تحدّد ما هي النسخة التي يجب قراءتها من الكتاب المقدّس، وما هو التفسير الذي يجب نشره عن الكتاب المقدّس، وما هي المناسك والشعائر الكنسية، وإنّ تعيين تلك الشعائر يعود إلى الكنيسة؛ فحتى تعيين الشعائر يعود إلى الكنيسة. ويأتي التحدّي هنا من أنّه يؤدّي إلى حدوث شرخ طبقي بين رجال الدين وعامة الناس، بمعنى أنّ الكنيسة يكون لها جملة من الصلاحيات، ويكون لهذه الصلاحيات صبغة تعليمية وتطبيق للمناسك، وأمّا جمهور الناس من غير رجال الدين فليس لهم سوى الحدّ الأدنى من الأدوار، وإنّ هذا الدور في الغالب يكون للكنيسة حصرًا. يبدو أنّ هذه المسألة من جملة الأمور التي تثير التحديات. وفي الحقيقة فإنّ هذه الادّعاءات من قبل الكنيسة تؤدّي إلى الاقتدار والسلطة، وتمهّد الأرضية للحروب الصليبية، كما تؤدّي إلى محاكم التفتيش أيضًا.

* كيف كانت العلاقة بين الكنيسة والدولة في مختلف المراحل الزمنيّة في العصور الوسطى، وما هي التأثيرات المتبادلة لهذه العلاقة بين الكنيسة والدولة؟ وكيف تحلّلون العلاقة المتبادلة بين الكنيسة والدولة في اضمحلال هذه المرحلة؟

- سبق لي أن أشرت إلى أنّ شارلماني قد تمّ تتويجه ملكًا على يد البابا سنة 800 للميلاد، وقد شكل هذا الأمر بداية للعلاقة بين الكنيسة والدولة. ولا يخفى بطبيعة الحال أنّه في الجزء الشرقي، وعندما انتقل مقرّ الإمبراطورية إلى القسطنطينية، أصبح الإمبراطور هو السلطة العليا بلا منازع. وحتى مؤتمر نيقية العالمي إنّما تمّ تشكيله بأمر من الإمبراطورية. وفي الجزء الشرقي تحقّقت هذه العلاقة على نحو أسرع. وأمّا في الجزء الغربي من الإمبراطورية الروميّة منذ عام 800 للميلاد، حيث تشكّلت إمبراطوريّة جديدة، فقد شكّل ذلك بداية منعطف جديد في العلاقة بين الكنيسة الغربية والإمبراطور. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّنا عندما نتحدّث هنا عن العصور الوسطى، فإنّنا ـ بطبيعة الحال ـ لا نعني المشرقيين من المسيحيين؛ فإنّ أغلب الأحداث التي شهدتها حقبة العصور الوسطى ويتم الحديث عنها بوصفها منتمية إلى العصور المظلمة، والمظالم والمفاسد التي ارتكبتها الكنيسة، إنّما تنتمي إلى الكنيسة الغربية. ومن هنا فإنّنا في بحث العصور الوسطى لا شأن لنا بالكنيسة الشرقية تقريبًا، وهكذا الكنيسة البروتستانتية التي ظهرت لاحقًا؛ إذ كلّ ما يقال في نقد العصور الوسطى إنّما صدر عن البروتستانت؛ حيث سعوا إلى بيان مظالم تلك المرحلة، بغية تحسين صورتهم وإظهارها بشكل أفضل. لقد بدأت هذه العلاقة بعد عام 800 م، والنقطة الهامّة تكمن في أنّه عندما يتم تتويج الإمبراطور على يد البابا؛ فإنّ هذا يمنح للكنيسة نوعًا من التفوّق على الدولة. وعلى طول التاريخ ـ بالنظر إلى شخصية الإمبراطور أو البابا ـ كان هذان المنصبان ونوع العلاقة بينهما يشهدان صعودًا وهبوطًا في تفوّق أحدهما على الآخر، ومن هنا كان هناك نزاع متواصل في هذا الشأن بين الإمبراطور والبابا. فحيث يكون الناس أكثر تديّنًا، ويستمعون إلى كلام الكنيسة، تكون سلطة الكنيسة أقوى من سلطة الدولة، ولكن كلّما اقتربنا من نهايات العصور الوسطى، كانت النزعة التعبديّة ومستوى التديّن لدى الناس ينخفض، ويقل استماعهم لكلام الكنيسة، وبذلك كانت سلطة الدولة والحكم تطغى على سلطة الكنيسة. مع مرور الزمن تجد الكنيسة من يستمع إلى كلامها، وتبعًا لذلك نجد كنيسة إنجلترا تعلن عن استقلالها، ثم يعمل مارتن لوثر على تشكيل تيّاره الإصلاحي في ألمانيا، وبذلك أخذ هذا الشرخ يزداد يومًا بعد يوم. منذ القرن التاسع للميلاد فصاعدًا، كان هناك تواصل بين الكنيسة والحكومات، وكان مختلف الملوك يسعون بمختلف الطرق إلى المحافظة على حريم الكنيسة، وكانت الكنيسة بدورها تستعرض عضلاتها وتصدر الأحكام، بل كان يتم تقديم الأرباح والضرائب للكنائس. وقد بلغت هذه العلاقة ذروتها في القرن التاسع واستمرّت إلى القرن الرابع عشر والخامس عشر للميلاد تقريبًا، وكانت نتيجة ذلك نوعًا من سلطة الكنيسة في الغرب.

* هل تحقّق الارتباط المتبادل بين الكنيسة والدولة في مرحلة خاصة من التاريخ بشكل وثيق، بحيث يمكن أن نطلق عليها مصداق الدولة الدينية؟ وهل كان الارتباط الثنائي المتبادل بين الكنيسة والدولة تجربة ناجحة؟

- إنّ الحكومة الدينية التي تعني أن يكون البابا هو الحاكم المطلق في الدولة، لم يكتب لها التحقّق أبدًا. على الرغم من أنّ البابا والحاكم كانا في بعض الأزمنة يتواصلان ويتعاملان فيما بينهما. وأمّا أن تعمد الكنيسة بنفسها إلى تشكيل سلطة دينيّة مستقلة تمثّلها بشكل خالص، فهذا ما لم يحدث في التاريخ أبدًا. رغم أنّها كانت تقيم علاقات وثيقة مع الحكومة وتقف إلى جانبها. وفي هذا الشأن كانت الكنيسة في المقابل تحصل على امتيازات وصلاحيات كبيرة. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّها كانت تمتلك سلطة على المدارس والجامعات، أو المؤسّسات التي تعرف حاليًا بدائرة النفوس، حيث كانت تعود إلى بحث التعميم وتسجيل الولادات والوفيات وما إلى ذلك. وفي الحقيقة يمكن القول إنّ هناك نوعًا من العقد الضمني غير المكتوب يقضي بتوزيع المهام والمسؤوليات بين الكنيسة والدولة، أمّا الحكم بمعنى السلطة الرسمية فكانت بيد الدولة، بيد أنّ الكنيسة كانت تلعب دورًا كبيرًا في بعض مفاصل الدولة، وأما تحت مسمّى الحكومة الدينية المستقلة قد لا نستطيع استعمال هذا التعبير، ولكن كان هناك تدخّل كبير من الكنيسة. وبطبيعة الحال فقد عمد كالون خلال نهضة الإصلاح الديني إلى إقامة حكومة دينية في جنيف. ولكنّي أرى أنّه قد لا نستطيع القول بأنّ الكنيسة نفسها تبنّت إقامة حكومة دينية، نعم كان للكنيسة دور مؤثّر في تأسيس بعض الحكومات. وربّما أمكن القول أنّ الكنيسة في تدخّلها لم تكن أقل من مرتبة الحكومة الدينية؛ لأنّها كانت تتدخّل في مختلف المجالات. إنّ العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والدولة في العصور الوسطى لم تكن تجربة ناجحة، وربّما عاد سبب هذا الفشل إلى ادعاء الكنيسة الكاثوليكية بالسلطة المطلقة، وكانت تسمح لنفسها بالتدخل في مختلف المجالات، ولا تعطي فسحة من المشاركة إلى الآخرين، الأمر الذي ضيّق الخناق عليها، وفقدت اعتبارها مع مرور الوقت. وفي الحقيقة فإنّ الثّقة التي كانت تمنح من قبل الناس إلى الكنيسة، أخذت تفقد بريقها شيئًا فشيئًا، ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى أسباب مختلفة، ومن بين أهمّها هي المسائل والأبحاث اللاهوتية والفلسفية، وأبحاث من قبيل: تبلور النزعة الإنسوية قبل القرن الرابع عشر والخامس عشر للميلاد. وهي الأمور التي تؤدّي إلى كسر هيبة الكنيسة، وفقدان عنصر الثقة، وتزعزع في تديّن الناس.

* ما هي المناشئ والأسباب التي أدّت إلى اندلاع الحروب الصليبية؟ وما هي التداعيات والتبعات التي تركتها هذه الحروب على المسلمين والمسيحيين على السواء؟

- إنّ الحروب الصليبية تعود إلى النزعة السلطوية لدى الكنيسة. وكما تعلمون كانت هناك مناطق هامّة تحت سيطرة المسلمين. وقد قامت الكنيسة تحت ذريعة أنّ شخصًا ـ على ما يبدو ـ كان ينوي زيارة بيت المقدس أو أورشليم، وكانت تحدث بعض النزاعات والمناوشات أو يمنع المسيحيون من الزيارة، أو يتم التضييق عليهم في هذا الشأن. فكانت هذه ذريعة لنشوب الحرب الصليبية. وبذلك قامت الكنيسة باستثارة عواطف النّاس من أجل استعادة بيت المقدس من المسلمين؛ وذلك لأنّ أورشليم تعتبر مسقط رأس السيد المسيح، وحتى المفهوم الصليبي يحظى بقداسة خاصّة لدى المسيحيين. وعليه فقد اندلعت الحرب الصليبية تحت هذه الذريعة، وإلا فإنّ الدافع الحقيقي إلى هذه الحروب يعود ـ في الأصل ـ إلى تلك الأحقاد والعداوة التي كانت تحملها الكنيسة تجاه المسلمين، ونزوعها إلى المزيد من السيطرة، وكان من بين أفضل المناطق خصبًا والتي تتمتّع بمكانة من الناحية الاقتصادية هي فلسطين. وقد كان هذا الحقد الدفين قائمًا على الدوام منذ ظهور الإسلام وانطلاق الفتوحات الإسلامية. ثم إنّ بعض تلك المدن كانت محورية، وفي الحقيقة فإنّ أورشليم أو فلسطين كانت تمثّل الكنيسة الأم ومهد ظهور اليهودية والمسيحية. إنّ هذه البقاع بعد أن فتحت على يد المسلمين، واعتنق أغلب الناس الإسلام لسهولة فهم تعاليمه، كان وقع ذلك على الكنيسة شديدًا. وعليه فإنّ بداية هذا النزاع كانت تعود إلى سقوط أجزاء واسعة وهامّة من مناطق الأساقفة ومهد المسيحية بيد المسلمين. وقد أدّى ذلك إلى اعتبار الإسلام منافسًا وعدوًا للمسيحية، وأخذت المسيحية تستثير عزائم المسيحيين من أجل استعادة بقاعهم المقدسة، وخطّطوا لمسألة الحرب المقدّسة باسم السيد المسيح، ورسموا الصلبان على ألوية الجنود وثيابهم. واستمرّت هذه الحروب لما يقرب من قرنين من الزمن. وقد ترتّب على الحروب الصليبية بعض التداعيات الثقافية / الدينية. من ذلك مثلاً أنّ الكنيسة فقدت شيئًا من رصيدها ومكانتها، فالكنيسة التي كانت ترسم هالة حول نفسها، عندما انهزمت على المستوى العسكري، أدّى ذلك إلى انهيار في معنويات المتدينين المسيحيين، وهذا أدّى بدوره إلى سقوط تلك المنزلة والهالة والسلطة التي كانت الكنيسة تحيط بها نفسها. بيد أنّ أكثر التداعيات كانت ذات طابع ثقافي، وذلك لأنّ الحروب أدّت إلى تعرّف المسيحيين على ما كان يختزنه العالم الإسلامي من الحضارة والفن والثقافة وحتى الأبحاث الفلسفية. وإثر تعرّف المسيحيين على العالم الإسلامي بفعل تلك الحروب، حدث لديهم نوع من التحوّل العميق على المستويين العلمي والثقافي.

* ما هي المنعطفات التي شهدها تعريف الكنيسة لـ «الإيمان الديني» في العصور الوسطى؟ وبعبارة أخرى: ما هي التحولات التي شهدتها هذه المرحلة فيما يرتبط بالعلاقة بين العقل والإيمان؟

- إنّ الجواب عن هذا السؤال متشعّب. فكما نعلم فإنّ آباء الكنيسة والمتكلمين المسيحيين في العصور الوسطى كانوا حتى ما قبل القرن الثالث عشر للميلاد، من الأفلاطونيين بأجمعهم، إلى أن حلّ القرن الثالث عشر للميلاد حيث انتقل ألبرت الكبير وتوما الأكويني ـ بتأثير من التيار العقلاني الذي كان سائدًا في الإسلام ـ إلى أورسطو. وبالنظر إلى المنهج الفلسفي الذي ينتمي إليه كل واحد من آباء الكنائس، تختلف العلاقة بين العقل والإيمان. تساءل جيلسون في كتاب له بعنوان «العقل والوحي في العصور الوسطى»، قائلاً: هل هناك من حاجة إلى العقل أو الفلسفة؟ هناك من يعارض توظيف الفلسفة في بيان المفاهيم الإيمانية، وقد أطلق جيلسون على هذه الجماعة تسمية التيرتوليون؛ وذلك لأنّ تيرتوليان هو الشخص الذي أشار إلى بعض كلمات بولس، قائلاً: «ما هي العلاقة بين أثينا وأورشليم؟!». والذي يعنيه بذلك هو أنّنا لا نحتاج إلى الفلسفة؛ فالفلسفة هي نتاج تفكير بشري، ونحن نستطيع الرجوع إلى الكتاب المقدّس الذي يستند إلى الوحي. وعليه هناك عدد من المخالفين. أما الموافقون فيمكن تصنيفهم ضمن مجموعات مختلفة، والمجموعة الأولى منهم هم الذين تأثّروا بالأفكار الغنوصية من آباء الكنيسة، من أمثال: كلمنت الإسكندراني وأورغون ويوستيرون، من الذين يعتبرون الدين والفلسفة شيئًا واحدًا؛ لأنّ الفلسفة من وجهة نظرهم تقوم على العقل الإشراقي. وعلى هذا الأساس يكون منشأهما واحدًا. بمعنى أنّهم يعتبرون العقل الإشراقي والوحي شيئًا واحدًا، ويقولون إنّ الفلسفة والدين شيء واحد. إنّ أشخاصًا من أمثال: أوغسطين وآنسلم وتوما الأكويني، يذهبون إلى الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من العقل والفلسفة في بيان الأمور الإيمانية، رغم اختلافهم في المناهج الفكرية. فإنّ أوغسطين وآنسلم وبيناونترا أفلاطونيون، وإنّ توما الأكويني أرسطي. وهنا فيما يتعلّق بالعقل والإيمان نجد أنّ السؤال الأهم يقول: هل للعقل اعتبار مستقل؟ إنّ أوغسطين وآنسلم والقس بناونترا رغم ذهابهم إلى الاعتراف بالعقل بوصفة أداة في خدمة الإلهيات، ولكن يبدو أنّهم ـ بالالتفات إلى تأكيدهم على مسألة الفيض ـ لا يمنحون العقل اعتبارًا مستقلاً. وفي الحقيقة فإنّ العقل يقع على هامش الإيمان، وفي هذا الشأن تسود الرؤية القائلة بأنّ الإيمان فوق العقل. وفي المقابل يذهب توما الأكويني إلى سلوك المنهج الأرسطي؛ إذ لم يكن يقبل بالفطريات ويقول إذا أردنا تعريف الآخرين بالإله، يجب علينا أن نستعمل في ذلك لغة يفهمها الجميع، ولا يمكن لنا أن نعتبر شيئًا بوصفه أمرًا فطريًّا. إنّه يقول إنّ العقل معتبر في حدّ ذاته، ويمكن للعقل أن يكون مستقلاً. ومن هنا فإنّه يقول: إنّ لدينا طريقان إلى المعرفة، أحدهما: طريق العقل، والآخر: طريق الوحي. إنّ اختلاف توما الأكويني عن الآخرين يكمن في أنّ الاخرين كانوا يؤمنون بالعقل على هامش الإيمان، وكانوا يلجأون في بعض الأحيان إلى التفسير العقلاني، مثل آنسلم؛ إذ يسعى إلى توجيه مسألة التجسيم. وقد ذهب في كتابه «لماذا أصبح الإله إنسانًا؟» إلى الاعتقاد بأنّ علينا أن نسوق الأدلّة بحيث لا تتعرّض التعاليم إلى الإشكال، بمعنى أنّنا إذا أردنا أن نستدلّ، دون أن نتمكّن من الإتيان بدليل متقن أو كامل، فإنّ التعليم الإيماني سوف يتعرّض إلى الإشكال. وعلى هذا الأساس نقول: هناك طريقان إلى المعرفة، ويمكن إثبات بعض الأشياء بواسطة العقل، ولكن ليس كلّ الأشياء. من ذلك مثلاً: إنّه يمكن إثبات أصل وجود الله بالعقل، ولكن لا يمكن إثبات الثالوث بالعقل. هذا تبويب كلي يمكن لنا أن نقوله بشأن العلاقة بين العقل والإيمان. ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أنّ توما الأكويني عندما يتحدّث بوصفه فيلسوفًا، يكون مختلفًا عنه عندما يتحدّث بوصفه متكلمًا، بمعنى أنّه عندما يروم استفادة شيء على المستوى الفلسفي يقول قرّرت. ولكن عندما يريد قول شيء بوصفه متكلّمًا، فإنّه يكون على شاكلة أوغسطين ويقول: إنّ الإيمان هبة إلهية.

* كيف تحلّلون مسار تبلور قوانين الكنيسة؟ وبالتالي هل أدّت هذه القوانين إلى ترسيخ التديّن؟

- قبل الدخول في بحث قوانين الكنيسة أرى من الضروري الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أنّ الدين اليهودي يتمحور ـ مثل الإسلام ـ حول الشريعة، بمعنى أنّ للأحكام الفقهية حضورًا صارخًا في الشريعة اليهودية. وعندما وصل الأمر إلى المسيحية، بدأت الشريعة منذ عصر بولس فصاعدًا بالانحسار، حيث تم التخلّي عن جميع تلك الأحكام التفصيلية التي كانت موجودة في الشريعة اليهودية، في أبواب الصلاة والصوم والأطعمة والحلال والحرام والأعياد وما إلى ذلك، وتم تظهير الفيض بوصفه هو الذي ينجي الإنسان وليس أعماله. إذن فالشريعة ـ بذلك المعنى الذي كان موجودًا في اليهودية ـ قد تم التخلّي عنها في المسيحية، فما الذي يفعله المسيحيون؟ إنّ هؤلاء بمرور الزمن يشعرون بالحاجة إلى سلسلة من الآداب والتعاليم التي يمكن لهم إظهار تديّنهم من خلالها، ومن هنا تبلورت تلك الشعائر السبعة في العصور الوسطى. بمعنى أنّ الدين الذي تخلّى عن الشريعة، يضطرّ إلى وضع مجموعة من التشريعات الأخرى، كي يتمكّن المسيحيون من إظهار تديّنهم بواسطتها. فتمّ لذلك وضع التشريعات العامة الآتية: التعميد، والتأييد، والدرجات المقدّسة، والتطهير، والاعتراف، والزواج، والأهم من ذلك كلّه هو العشاء الرباني. وبعض هذه التشريعات يتم القيام بها مرّة واحدة في العمر، من قبيل: التعميد الذي هو علامة على التشرّف بالديانة المسيحية، والتأييد المرتبط بسن البلوغ. فالذين يتمّ تعميدهم في الصغر والطفولة، يقومون بإجراء التأييد عندما يصلون إلى سنّ البلوغ. وهناك موردان في الديانة المسيحية على درجة بالغة من الأهمية، وهما العشاء الرباني كتذكار للعشاء الأخير وهو في حكم الصلاة، والأمر الآخر الذي اكتسب أهمية بالغة بالنسبة إلى المسيحيين في العصور الوسطى هو الاعتراف، ففي العصور الوسطى كان الهاجس الأهم لدى الناس هو أنّهم إذا ارتكبوا معصية، وجب عليهم التوجه إلى القس قطعًا، والاعتراف أمامه بتلك المعصية؛ ليقوم القس بطلب المغفرة لهم، كي يتأكّدوا بعد ذلك أنّه لم يعد عليهم ذنب، وكان هذا من أهم مظاهر تديّنهم. ولكن عندما تمّ وضع هذه التشريعات، ظهرت هناك حاجة إلى وجود أحكام وتعاليم تضمن تطبيق هذه التشريعات، ومن هنا فقد ظهرت مجموعة من القوانين في الكنيسة بالتدريج من أجل ضمان تطبيق المناسك، وبالإضافة إلى المناسك والشعائر التي تمّ وضع مجموعة من الأحكام والقوانين لها، قامت الكنيسة في بعض الأمور ـ التي قد يكون لها بعد علماني بحسب المصطلح ـ بوضع بعض القوانين أيضًا. من ذلك مثلاً أنّ الطفل الذي يولد ـ كما يتم تسجيله حاليًا في دائرة النفوس والأحوال المدنية ـ كان يتم تسجيله في مكتب الكنيسة، ويتمّ تعميده. ويتم عند تسجيله بيان بعض الأمور من قبيل كيفية تسجيله، ومن هو والده ووالدته، ومن هو الشاهد وما إلى ذلك، ويتم وضع سلسلة من الإرشادات. طوال العصور الوسطى كانت هناك مجموعة من القوانين المبعثرة، والتي تمّ تجميعها لاحقًا. وعليه فإنّ القوانين الكنسية إنّما كانت في الغالب من أجل إظهار تدخل الكنيسة بمزيد من الوضوح، بمعنى أنّ الكنيسة هي التي تقرّر كيفيّة تطبيق هذه التشريعات، وما هي الضوابط التي يجب اتّباعها في تطبيق القوانين. من ذلك على سبيل المثال أنّ كيفيّة تطبيق كلّ واحد من هذه التشريعات لها ضوابط خاصّة، وإذا لم يتقيّد الفرد بالتشريعات والضوابط، سوف يصدق عليه وضع آخر. من ذلك مثلاً أنّ الكنيسة تحرّم الطلاق؛ فإذا عمد شخص إلى طلاق زوجته، وتزوّج من امرأة أخرى، يكون زواجه الثاني باطلاً ويدخل في الزنا. ترى قوانين الكنسية أنّ الذي يرتكب بعض الذنوب يجب محاكمته ومعاقبته، وفي بعض الأحيان يتم تعيين الحكم من دون محاكمة مسبقًا، من قبيل ما تقدّم في حالة الطلاق والزواج الثاني، ويقولون: لو أن شخصًا ارتكب هذا الذنب يمكن له التكفير عنه ومسامحته. وحيث قام الفرض على أنّ الكنيسة هي مرفأ النجاة، وإنّ كلّ من تنبذه الكنيسة لن يكون مشمولاً للنجاة. إنّ هذه الأمور تحتاج إلى سلسلة من القوانين والضوابط التي تظهر سلطة الكنيسة واقتدارها. وربّما كان بعض هذه القوانين ينطوي على تبعات، كما نرى ذلك اليوم إذ تحوّل ذلك بنفسه ليشكّل تحدّيًا. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ هل يمكن لمن طلّق زوجته وتزوّج من امرأة أخرى أن يشارك في مراسم العشاء الرباني؟ بحسب القوانين الكنسيّة لا يجوز له المشاركة في العشاء الرباني. وأما في المقابل فإنّ الكنيسة لا تريد أن تفقد هؤلاء الأشخاص، ومن هنا أخذوا يبحثون في مرحلة لاحقة عن كيفية التعامل مع هذا النّوع من الأشخاص؟ هناك من أمثال نس كوب من يعتقد بضرورة رفع قانون الطلاق، وهناك من يصرّ على وجوب رعاية القوانين الكنسية. وهناك من أمثال كاسبر من سلك طريقًا وسطًا؛ فقال بعدم جواز الطلاق، ولكن لو حدث أن اقترف شخص موبقة الطلاق المحرّم، لا يجري عليه الحكم اللاحق الذي فرضته الكنيسة من عدم حضوره في الكنيسة وعدم تناوله للعشاء الرباني. وكذلك فإنّ هذا الإفراط والتفريط يؤدّي ببعض القساوسة أو بعض الأساقفة إلى ارتكاب المعاصي، وهو ما نسمعه عبر وسائل الإعلام من حين لآخر تحت مسمى التحرّش الجنسي بالأطفال وما إلى ذلك. وهذا إنما هو نتيجة لذلك الإفراط والتفريط في القوانين الكنسية.

* هل وضعت الكنيسة طوال العصور الوسطى قوانين اضطرّت بعد قرون إلى إلغائها، أو وضعت قانونًا مخالفًا للقانون الأوّل؟ ثم هل وضعت الكنيسة قانونًا لم تقبل به سائر الكنائس الأخرى؟

- فيما يتعلّق بما إذا كانت الكنيسة قد صادقت على ما يخالف قوانينها السابقة؛ يجب القول: إنّ بناء الكنيسة يقوم على عدم فعل ذلك أبدًا، ولكن علينا ـ بطبيعة الحال ـ أن نفرّق بين «العقيدة» ، وبين «المبدأ» ، فالعقائد عبارة عن تلك النظريات التي تتمّ المصادقة عليها في المجالس العالمية، ويتمّ الإعلان عنها رسميًّا من قبل البابا. والعقيدة تعني ذلك الأمر المسلّم الذي لا يمكن نقضه، ويتم التعامل معه كما يتم التعامل مع الموروث الموجود في الكتاب المقدس، فكما أنّه لا يمكن تغيير ما قاله السيد المسيح، كذلك لا يمكن نقض ما يُصادق عليه من قبل هذه المجالس. وأما المورد الخلافي الواضح بين الكنائس فهو يتجلّى في مسألة التماثيل؛ حيث قيل في أحد المجالس بحرمة وجودها وأنّه لا بدّ من القضاء عليها، وقيل في مجلس آخر: لا إشكال في وجودها. هذا من الموارد الواضحة جدًا والمتناقضة طوال تاريخ الكنيسة. وأمّا في بقية الموارد فلم يحدث هناك تغيير، وإنّهم يصرّون على عدم التغيير بشدّة. ولو شعروا في بعض الموارد أنّهم وقعوا في الإفراط أو التفريط، فإنّهم سيعملون إلى حدّ ما على تغيير الوضع من خلال التغيير في المنهج والأسلوب. ولكنّهم لا يرفعون اليد عن ظاهر ما تمّت المصادقة عليه سابقًا. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّهم في الاجتماع الاستشاري الأوّل للفاتيكان صادقوا على عصمة البابا، وقالوا بأنّ البابا يقف على رأس مجلس الأساقفة، وأنّ البابا وحده يملك سلطة، وفي الاجتماع الاستشاري الثاني للفاتيكان، دون سعيهم إلى نقض العصمة الممنوحة للبابا، يذعنون بأنّ للبابا مرجعيّة على رأس مجمع الأساقفة. بمعنى أنّه يمثّل الساعد الهام في العملية الاستشارية. وهذا يعني أنّ البابا إنّما ينفّذ ما يتوصّل إليه مجمع الأساقفة، وهذا يعبّر عن تغيير طرأ على ما تمّت المصادقة عليه سابقًا، ولكنّهم لا يسمّون ذلك تغييرًا في المنهج. وفيما يتعلّق بالجزء الثاني من سؤالكم، يجب القول: إنّ الكنيسة الكاثوليكية تتّبع نظامًا تراتبيًّا متسلسلاً مثل الدرجات والرتب العسكرية، ولا يمكن أن يكون هناك تمرّد من المراتب الدنيا على الأحكام الكنسية الصادرة عن المراتب العليا. وفي الأساس فإنّنا قلّما نشاهد تفرّقًا واختلافًا في الكنائس التابعة للمسيحية الكاثوليكية والأورثودوكسية. وأمّا في الكنيسة البروتستانتية فيمكن لكلّ شخص أن تكون له قراءته ورؤيته الخاصّة به. ولذلك فإنّ لهذه الكنيسة ما يزيد على الخمسمئة فرقة أو طائفة. وبطبيعة الحال يمكن طرح السؤال بالصيغة الآتية: هل يستمع الكاثوليكيون بأجمعهم إلى الكنيسة؟ والجواب عن ذلك هو أنّهم في واقع الأمر كانوا يستمعون إلى الكنيسة في مرحلة العصور الوسطى، وكانوا يتّصفون بالتعبّد، ولكنّهم بعد عصر النهضة والإصلاح الديني وعصر التنوير، تخلّوا عن تلك الصفة التعبّدية. وعلى هذا الأساس لو تساءلتم عن هذا المعنى وقلتم: هل يعمل الكاثوليكيون حاليًا على مراعاة القوانين الكنسية؟ جوابه: إنّ الكثير منهم لم يعد يراعي القوانين الكنسية. من ذلك مثلاً أنّ الطلاق يُعدّ أمرًا محرّمًا من وجهة النظر المسيحية، ولكن الكثير من المسيحيين يلجأون إلى الطلاق على أساس القوانين المدنية السائدة في بلدانهم، ويتزوّجون ثانية وما إلى ذلك. وطبقًا للقوانين الكنسية يجب أن تتم مراسيم الزواج في الكنيسة وعلى يد القس، ولكن الكثير من المسيحيين يتزوّجون على أساس القوانين المدنية.

* ما هي المواقف الهامّة التي قامت بها الكنيسة في العصور المظلمة، وما هي التداعيات التي ترتّبت على تلك المواقف في نهاية المطاف؟

- ربّما أمكن القول بأنّ الموقف الأهمّ الذي اتّخذته الكنيسة في مرحلة العصور الوسطى، وكان له تداعيات غير حميدة، هو سعيها وراء السلطة. إنّ سعي الكنيسة وراء السلطة قد أدّى إلى حدوث الكثير من المفاسد البابوية. إذ إن الكاثوليكيين أنفسهم لا يُخفون أن بعض البابوات كانوا فاسدين. وفي بحث عصمة البابا لا يدّعون أن هذه العصمة تحول دون اقتراف البابا للذنوب، بل إنّهم في هذا لا يقحمون الذنوب الشخصية؛ لعلمهم بأنّ بعض البابوات قد اقترفوا حتى الكبائر. بل إن المراد هو أنهم عندما يُصدرون الإعلانات العقائدية والأخلاقية لا يخطئون. وعليه فإنّ الذي نعنيه هو أنّ سعي الكنيسة وراء السلطة دفع بها نحو مستنقع الفساد، ويمكن لهذا الفساد أن يتعلّق بالفساد الأخلاقي أو الفساد في المسائل الاجتماعية والاقتصادية وما إلى ذلك من المفاسد الأخرى. أو أنّهم في بعض الموارد التي ادّعوا فيها السلطة المطلقة، تورّطوا في تجاهل الآخرين. وبعبارة أخرى: إنّ سعي الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى وراء السلطة فرض عليها الكثير من التحديات على مختلف الأصعدة. إنّ نزوع الكنيسة إلى السلطة قد اتّخذ في بعض الأحيان نزعة عسكريّة؛ الأمر الذي أدّى إلى اندلاع الحروب الصليبية. وقد أدّى ادّعاء السلطة المطلقة بالكنيسة الكاثوليكية إلى اعتبار الآخرين خارج دائرة النجاة، ولم تكن تسمح للآخر بحق إبداء الرأي، ولم يكن لأيّ أحد حقّ تفسير الكتاب المقدّس، أو إبداء الرأي في مورد التعاليم الدينية، وكان من نتائج ذلك أن التيّارات التي تنفصل عن المسيحية، يُنظر إليها بوصفها تيّارات مبتدعة، ولن تكون المرجعية لغير الكنيسة. يبدو أنّ السعي وراء السلطة والاقتدار المطلق يمثّل التحدّي الأكبر الذي واجهته الكنيسة، وكانت النتيجة أن شاعت في بعض الموارد أعمال عنف تفوق الوصف. كما حدث في ما عُرف لاحقًا بمحاكم التفتيش. ومن هنا فإنّنا إذا أردنا تسمية أهم مواقف الكنيسة في العصور الوسطى والتي أدّت إلى تبعات مريرة وقاسية، يمكن لنا تسمية المواقف التي أدّت إلى اندلاع الحروب الصليبية، وكذلك الممارسات التي أسّست لمحاكم التفتيش. ففي إطار محاكم التفتيش لم يكن يحقّ لأحد أن يُبدي عقيدة أو رؤية على خلاف التعاليم الرسمية للكنيسة، ولم يكن يحقّ لأحد أن يمارس عملاً لا يعتبر مقبولاً من وجهة نظر الكنيسة. بل كان التشدّد يبلغ مرحلة بحيث قد تطال حتى الذي يمتنع عن أكل لحم الخنزير اتّباعًا للشريعة اليهودية؛ بمعنى أنّهم إذا أدركوا أنّ أسرة مسيحيّة تمتنع عن أكل لحم الخنزير، فإنّ ذلك سيعدّ ـ من وجهة نظر الكنيسة ـ جريمة تقترفها هذه الأسرة. وذلك خوفًا من أن تكون هذه الأسرة هي من تلك الأسر اليهودية التي تظاهرت باعتناق المسيحية ولكنّها تحافظ على يهوديّتها سرًّا. وهذا يشير إلى مبلغ التدخّل الذي سمحت الكنيسة به لنفسها، بحيث تفتش حتى عن ضمائر الناس وما يختلج في دواخلهم. إنّ من بين مهام الرهبان الدومينيكان أثناء الاستماع إلى الاعتراف، ما كان يتمثّل في نوع من التجسّس، في حين أنّ أصل تعاليم الاعتراف كانت تقضي باقتصار الشخص المسيحي المؤمن على الاعتراف بذنبه فقط، ولكن هؤلاء الرهبان كانوا يطالبونه بأكثر من ذلك ويحثّونه على إفشاء أسرار الآخرين أيضًا. وعلى كلّ حال يبدو أنّ هذه الموارد هي من التداعيات المريرة التي حدثت في كنائس العصور الوسطى، وفرضت ضغوطًا كبيرة على المتديّنين، وكانت نتيجة ذلك ـ بعد عصر النهضة والإصلاح الديني ـ أن تنكّر الكثير من الناس لذلك الدين الذي تقدّمه الكنيسة لهم.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف