البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

النماذج المعرفيّة و دورها في تشكيل المعرفة الدينيّة

الباحث :  علي رضا قائمي نيا
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  57
السنة :  السنة الخامسة عشر ربيع 1431هجـ 2010 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 10 / 2015
عدد زيارات البحث :  1931

النماذج المعرفيّة و دورها في تشكيل المعرفة الدينيّة

علي رضا قائمي نيا (*)

مقدمة
تتمحور المعرفة الدينيّة على النصّ، ويمكن القول دون مبالغة إنّ النشاط العلميّ الذي يتصدّى له علماء الدِّين يقوم على أساس النصوص الدينيّة، وخاصّة النص الأصليّ والأساسيّ بينها. وإذا توخّينا الدقّة وتجنّب أدنى درجات المبالغة أو الاختزال، فإنّ عمل علماء الدِّين ينقسم إلى قسمين أحدهما أصلٌ وأساسٌ والآخر فرعٌ وأضيقُ دائرة، والقسم الأوّل هو عمل هرمنوطيقيّ (تفسيريّ) يجهد في سبيل فهم النصوص الدينيّة الأصليّة، والثاني هو نشاط نظريّ يرمي إلى تحقيق أهدافٍ علميّة أخرى. وعلى ضوء هذا التقسيم ربّما نستطيع تحليل المعرفة الدينيّة ورسم بُنيتها بشكلٍ أكثرَ عمقاً ودقّةً.
التمييز بين عالمين معرفيين
ولمزيدٍ من التوضيح نُشير إلى أنّ مفهوم (العالَم) حيث يُعَدُّ من المفاهيم القديمة في الفلسفة، منذ أرسطو وحتّى يومنا هذا، وقد أضفى الفيلسوف (ليبنتز) (Leibnitz) على هذا المصطلح معنىً أكثر دقّة وعمقاً من خلال حديثه عن (العوالم الممكنة)، وقد ازداد هذا المعنى عمقاً مع تطوّر البحث الفلسفيّ في مجال منطّق الموجّهات modal logic)). ولذلك نرى أنّ هذا المفهوم من المفاهيم
________________________________________
(*) باحث متخصص في الفكر الدّيني، من إيران، ترجمة الشيخ محمد حسن زراقط.

[الصفحة - 270]


الصالحة للاستخدام في ميدان المعرفة الدينيّة لما يقدّمه من حلول ويفتحه من آفاق. ومن وجهة ظواهرية أو ظاهراتية، يُمكن القول: إنّ علماء الأديان يعيشون في عالمين مختلفين، يستوعبان جهودَهم العلميّة وأبحاثهم الفكريّة. فهم تارةً يعيشون في (عوالم هرمنوطيقيّة)، يكدحون فيها من أجل الوصول إلى المعاني الكامنة في النصوص الدينيّة. ويدخل في هذا الإطار البحث العلميّ التفسيريّ الذي يدور حول الآيات والروايات المنقولة عن النبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والأئمة (عليهم ‏السلام). ولا يخفى ما لهذا الجهد التفسيريّ من أهميّة في تطوير المعرفة الدينيّة واتِّساعها. والخصوصيّة الأبرز لهذه المعرفة هو في دعواها أنّها تبتني على فهم النصوص الدينيّة واكتشاف معناها. هذا وأمّا حاصل الأنشطة النظريّة، فهو (العوالم النظريّة)؛ وهذه العوالم من أكثر أصقاع المعرفة الدينيّة حراكاً وتوتراً.
الاختلاف المنهجيّ بين العالمين
فالمنهج المسيطر، في العوالم الهرمنوطيقيّة، هو المنهج أو الطريقة الاصطياديَّة، التي تهدف إلى الكشف عن المعنى الكامن في النصّ الديني في محاولة لاكتشافه. وأمّا في العوالم النظريّة فالمنهج المسيطر والأكثر اعتماداً، هو المنهج الاجتهاديّ بالمعنى الواسع لكلمة اجتهاد. والعلماء الناشطون في هذه العوالم يَسعون بشكلٍ حثيث وراء النظريّات الجديدة دون توقّف. ولا يقفون في هذه المرحلة أو في هذه العوالم عند حدود اكتشاف المعنى المودَع في النصوص الدينيّة، بل يعملون على طرح النظريّات العلميّة في الميادين التي يخوضون فيها، سواء في ذلك علم الكلام، أو الأخلاق، والفقه والأصول. ويسمح المنهج الاجتهادي في هذه الميـادين بطرح ألوان شتّى من النظـريّات والأفكار، بل إنّ هذه العوالم هي مسرح لعرض كلّ ما تجود به قرائح العلماء تبعاً لجهودهم واجتهادهم.
________________________________________

[الصفحة - 271]


سعة معنى الاجتهاد
والاجتهاد بهذا المعنى الذي نتحدّث عنه هنا، يشمل كلُّ جهدٍ غير هرمنوطيقيّ، ولا ينحصر بمحاولة فهم النصوص الدينيّة. وهو معنى أوسع من معنى الاجتهاد عندما يُطرح في علم الفقه، ويشمل مضافاً إلى الفقه غيره من العلوم ذات الطابع الدِّيني، كالأخلاق والكلام. ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنَّ بعض العلوم كالفقه والكلام والأخلاق، هي بطبيعتها ليست محصورةً بالعوالم النظريّة، بل هي في قسمٍ منها تدخل في عالم الهرمنوطيقا، وذلك كما في الحالات التي يُريد الفقيه فيها اكتشاف الحكم الشرعي على أساس فهمه للآيات والروايات. ولكنّ قسماً منها يقع في عوالم مختلفة هي ما نسميِّه في هذه المقالة العوالم النظريّة؛ ومثال ذلك البحث على أساس الأصول العمليّة. والكلام أيضاً في قسمٍ منه هو هرمنوطيقيّ الطّابع يعتمد في نتائجه على اكتشاف معنى الآيات والروايات، وفي قسمٍ آخر يعتمد على التأمّل العقليّ والفلسفيّ، وبالتالي يسرح الباحث فيه في العوالم النظريّة. وعلى ضوء ذلك يُمكن القول: إنّ العلوم الدينيّة لا تسرح في عالمٍ واحدٍ هو إمّا نظريّ وإمّا هرمنوطيقيّ، بل إنّ كثيراً من العلوم الدينيّة ذات طابع مزدوج.
الفارق الأهم بين العالمين
ويمكن معرفة الفرق بين العوالم الهرمنوطيقيّة والعوالم النظريّة، من خلال التأمّل في بُنية العلوم التجريبيّة، ودور النماذج فيها. ومن المعلوم لدى المهتمّين بفلسفة العلم أنّ التمييز بين (المشاهدات) وبين (النظريّات) له صيتٌ ذائعٌ في النقاشات الفلسفيّة التي تدور حول العلم. حيث إنّ العلماء تارة يَعمدون إلى المشاهدة ليبنوا أفكارهم العلميّة على أساس المشاهدة، وطوراً يَعمدون إلى النظريّات لتفسير الواقع المراد تفسيره. والعلماء في أبحاثهم العلميّة أحياناً يقرؤون في كتاب الطبيعة بعيونهم المسلّحة أو المجرّدة، وأحياناً أخرى يُلقُون شباك
________________________________________

[الصفحة - 272]


نظريّاتهم لاصطياد الحقائق واكتشاف المعارف. وبالطريقة نفسها تقريباً تتشكّل المعرفة الدينيّة، فقسمٌ منها هو حاصل قراءة النصوص الدينيّة، وقسم آخر هو قسم نظريّ لا يستند بالضرورة إلى النصّ الدينيّ. والأمر المهمّ في هذا المجال هو أنّ مستوى النظريّات العلميّة مرتبطة بالنماذج، فالعلماء يحاولون الكشف عن وَجَنَات الطبيعة المستورة من خلال النماذج، التي يُقيمون بناء نظريّاتهم على ضوئها. ولا يمكن الوصول إلى الأبعاد المستورة من عالم الطبيعة دون الاستعانة بالنماذج، والنظريّات نفسها تفقد أهميّتها وفعاليّتها إن لم تكن مرتبطة بنموذج محدّد. ولمفهوم النماذج تاريخ طويل في مسيرة العلم، يصعب الإشارة إلى كلّ مصاديقه. ونكتفي بالإشارة إلى بعض الحالات، مثل: حالة (اللورد كالفين) Lord Kelvin)) الذي اعتمد لأوّل مرّة نموذج كرة البليارد لشرح حركة ذراّت الغازات، وقد كان لهذا الإنجاز آثاره البالغة في النظريّة الحركيّة للغازات (1) (the kinetic theory of gases). فهو من أجل شرح كيفيّة سلوك ذرات الغازات شبّهها بكُرات البليارد، في تصادمها بعضها ببعضها الآخر، وطبّق عليها القوانين والقواعد التي تحكم حركة الكُرات على طاولة البليارد. ومن الواضح أنّ هذا التطوّر لم يكن ليحصل لولا اعتماد هذا النموذج؛ وبالتالي فإنّ تعميم القوانين من ميدان إلى آخر، وتيسير سبيل التنبّؤ العلميّ مرهون بالنماذج التي تُعتَمد في العلوم والنظريّات العلميّة. فلو لم يُعتمد نموذج كُرات البليارد لتشبيه وتحليل حركة الذرّات، لما أمكن تحليل حركة ذرّات الغازات والتنبّؤ بطبيعة حركتها على أساس القوانين الحاكمة على حركة تلك الكُرات. وعلى ضوء ذلك يتَّضح، أنّ قوّة النظريّة وضعفها يمكن أن يُقاسا بقوّة النموذج المعتمد فيها وضعفه.
النماذج والنظرة الفلسفيّة إليه
وقد برز دور النماذج في النظريّات العلميّة أواخر القرن العشرين، واتّخذ أكثر فلاسفة العلم موقفاً سلبيّاً منه. فالفيلسوف والفيزيائيّ الفرنسيّ (بيار دوهم)
________________________________________
(1)نظريّة فيزيائيّة حول الغازات تبتني على مجموعة فرضيات أهمها: - يتكون الغاز من جزيئات كروية تامة المرونة وتتبع قوانين نيوتن للحركة حجمها صغير جداً. - حركة جزيئاتها عشوائية في خطوط مستقيمة وتتصادم مع بعضها البعض ومع جدران الوعاء تصادمات مرنة بطاقة حركية ثابتة. - زمن التصادم صغير جداً ومتوسط المسار الحر لا يتوقف على كتلة الغاز والضغط على جدران الوعاء لتصادم الجزيئات معه وارتدادها بسرعة ثابتة... (المعرّب، نقلا عن موقع: جيران، دوت كوم، صفحة محمد علي سالم.

[الصفحة - 273]


(Pierre Duhem) يعتقد وجود نوعين من العقول أو الأذهان العلميّة؛ أحدها الذهن الانتزاعيّ المنطقيّ والهندسيّ المنظّم، وهذا الذهن هو الذي تمتّع به الفيزيائيّون القاريّون؛ والذهن الآخر هو الذهن المجسِّم التخيّلي وغير المنسجم، وهو ذهن الفلاسفة الإنجليز. وهو بهذا التقسيم يحاول بيان الفرق بين طبيعة العقل الفيزيائيّ الإنجليزيّ، وطبيعة العقل المتوافر عند غير الناطقين باللغة الإنجليزيّة من البلدان الأوروبيّة. فهو يعتقد أنّ الإنجليز يميلون إلى نمْذَجة الأشياء وتجسيمها، وأمّا الآخرون فهم يميلون إلى التعامل معها بشكلٍ انتزاعيّ ورياضيّ. وعلى ضوء هذا التقسيم يدّعي (دوهم) وجود نوعين من النظريّات الفيزيائيّة: النظريّات الانتزاعيّة المنظّمة أو النظاميّة، والنظريّات التي تعتمد النماذج الميكانيكيّة وتستفيد منها في بنيتها وتكوينها. ويبرز (دوهم) هذا التمايز من خلال الإشارة إلى الإلكتروستاتيك (electrostatics). ونظريّة الإلكتروستاتيك هي مجموعة من الأفكار الانتزاعيَّة والقضايا الكليَّة التي جرى تنظيمها بصورةٍ هندسيَّة دقيقة وقُدِّمت على شكل قواعد (formulas) منظّمة، والرابط بين هذه القضايا هو قوانين المنطق وقواعده. وهذه المجموعة من الأفكار تنسجم مع ميول الفيزيائيّ الفرنسيّ وتتناسب مع ذوقه الذي يَميل بطبعه إلى الوضوح والبساطة وإلى إضفاء النِّظام والترتيب على الأشياء التي يتعامل معها. وعندما ننظر في المقابل إلى كتاب (أوليفر لودج) ((Oliver Lodge فسوف نلاحظ أنّه يقدم النظريّات الجديدة حول الكهربيّة، من خلال تشبيهها بحركة الخيوط حول المغزل.(2)
ولا ينكر (دوهم) الفوائد التي تترتَّب على الاستعانة بالنماذج في بناء النظريّات العلميّة، ولا يُنكر أنّها وسائل مجدِيَة في طرح النظريّات العلميّة؛ ولكنّه يحذّر من تخطّيها الحدود المرسومة لها وتعميم قوانين نموذج على غير النظريّات صاحبة النموذج. والاعتراض الأساس الذي يطرحه (دوهم) في هذا المجال، هو أنّ النماذج الميكانيكيّة مصطنَعة وغير منسجمة، والعقل الإنساني ميّال بطبعه إلى
________________________________________
(2) Physical Theory, tran. By Philip P. Weiner, Duhem Pierre, The Aim and Structure of - Princeton University Press, 1954.pp,55-107.

[الصفحة - 274]


النِّظام والمنطق. وبالتالي، فهو يرى أنّ أفضل النظريّات الفيزيائيّة هي النظريّات التي تتوفَّر على نظام رياضيّ وبُنيَة قياسيَّة شبيهة بالهندسة الإقليديّة.
وفي مقابل ما يطرحه (دوهم)، نرى أنَّ (كامبل) (Campbell) الفيزيائيّ الإنجليزيّ المشهور، يُقدِّم رؤية مختلفة. ولبّ لباب رؤيته هو أنّ النموذج مجرّد وسيلة مساعدة لبناء النظريّة وطرحها، وأمّا عندما تتقدّم النظريّة وتتّسع آفاقها، فلا يبقى لها حاجة إلى النموذج الذي استعانت به في مراحلها الأوليّة. ويرمي (كامبل) من كلامه هذا إلى نقطتين، هما:
أول: إنّ النظريّة عندما تستطيع تفسير ظاهرةٍ من الظواهر، تُثير فينا إحساساً بالسعادة والرضا العقليّين، وهذا الرضا المترتّب على تلك النظريّة يَستلزم أن تتوفّر النظريّة على درجةٍ من المعقوليّة من ناحية رياضيّة، مضافاً إلى خصوصيّة البساطة والاقتصاد، وإمكان العرض والتفسير المعقول بحسب نموذجٍ محدّد.
ثاني: النظريّات لها طبيعة حركيَّة (دينامية). فالنظريّة ليست في نسيجها وبُنيتها تحفة قديمة، لها شكل ثابت على الدَّوام، بل هي كائن متحرِّك متطوِّر يَخضع للجرح والتعديل على الدَّوام، لتقدِر تبعاً لذلك على تفسير الظواهر الجديدة. وعليه، فإنّ النظريّات تحتفظ بديناميّتها من خلال النماذج. وبعبارةٍ أُخرى: النماذج هي التي تؤمّن خصوصيَّة التحوّل والحِرَاك في النظريّات. ويشرح لنا (كامبل) عدم استغناء النظريّة الحركيَّة للغازات عن نموذج كُرات البليارد. وهو يرى أنّه من دون النماذج تنسدّ أبواب التنبّؤ العلميّ، بل يتحوّل التطوّر إلى عمليّة عشوائيّة. وليس من المبالغة القول: إنّ من الأمور الضروريّة للنظريّات أن تقاس بواسطة النماذج(3) .
ومن الواضح تأثّر كلّ من (دوهم) و (كامبل) بفيزياء عصرهم، وأما مَنْ لحقَهم من فلاسفة العلم المتأخّرين، فقد قدّموا رؤية معدّلة حول دور النماذج الميكانيكيّة في النظريّات العلميّة. فهم يوافقون (كامبل) على أنّ النظريّات العلميّة
________________________________________
(3) - المصدر نفسه، 5 4.

[الصفحة - 275]


تفقد الكثير من فعاليّتها إذا جُرِّدت من النماذج، وبخاصّة قدرتها على التنبّؤ. وعلى أيّ حال يُمكن القول: إنّ دور النموذج في النظريّات العلميّة أضحى في هذا العصر واضحاً إلى حدود بعيدة، ويُمكن تعميم هذا الحكم على دور النموذج في المعرفة الدينيّة. فالعوالم الهرمنوطيقيّة في المعرفة الدينيّة يُمكن مقارنتها بمستوى المشاهدة والمعاينة في العلم، والعوالم النظريّة يُمكن مقارنتها بالنظريّات في العلم. فكما أنّ المشاهدات هي حاصل المواجهة الحسيَّة ـ بالحواس المجرَّدة أو المسلَّحة بالأجهزة العلميّة ـ مع الظواهر المراد درسها وتفسيرها؛ كذلك العوالم الهرمنوطيقيَّة هي حاصل المواجهة مع النصوص الدينيّة المراد تفسيرها. وكذلك ترتبط العوالم النظريّة بالمستوى النظريِّ للمعرفة الدينيّة؛ والمعارف النظريّة ممزوجة قهراً بالنماذج. وفي هذه العوالم النظريّة يكون الميدان غالباً مفتوحاً للنماذج الكلاميّة، والفقهيّة، والأخلاقيّة وغيرها. وهذه النماذج هي التي تحفظ للمعرفة الدينيّة حِرَاكها وديناميتها، وتحوّل ما فيها من استعداد وقوَّة إلى فعل.
مثال توظيف النموذج في المعرفة الدينيّة
ومن الأبحاث المشهورة التي تصلح كمثالٍ على ما نحن فيه، بحث الشهيد مطهريّ الثبات والتغيّر في كتابه (إسلام ومقتضيات زمان) (الإسلام ومتطلبات العصر)، فهو يرى أنَّ في الإسلام بُعدين هما الثبات من جهة؛ والتغيّر من جهة أخرى. وقد ساعدت هذه الرؤية الشهيد على حلّ إشكاليَّة التنافي بين تغيّر الزمان وثبات الأحكام. فالإسلام من وجهة نظره ثابت لا يتغيّر؛ بمعنى أنّه لا يَطرأ عليه النسخ، بمقتضى: «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة». ولكن من جهةٍ أُخرى الزمان والأوضاع الاجتماعيّة التي يُراد تطبيق الإسلام عليها في حالة تغيّر وحِرَاك دائمٍ. ولذلك، يسعى كتاب (الإسلام ومتطلَّبات العصر) في سبيل حلِّ إشكاليّة التنافي وعدم إمكان التعايش بين شيئين هما بحسب طبيعة كلٍّ منهما متضادّين. ويقدّم الشهيد مطهري، من أجل حلّ هذه
________________________________________

[الصفحة - 276]


الإشكاليَّة نموذج الثبات والتغيّر في الإسلام نفسه. فالإسلام ليس ثابتاً بشكلٍ مطلق، ولا الزمان أيضاً متغيِّراً بشكلٍ مطلق كذلك. وفي هذا الكتاب يَصرف الشهيد مطهري كلّ همّه وهمّته إلى بيان الأبعاد الثابتة في الإسلام وفصلها عن الأبعاد المتغيّرة. ويرى أنّ الإسلام لا يَقبل النسخ وأحكامه كذلك لا تقبل النسخ بعد وفاة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ولكنّ التغيير يختلف عن النسخ؛ حيث إنّ المفهوم الأوّل (التغيير) أوسع من الثاني (النسخ) وأعمّ منه، وقد لوحظ التغيّر في بعض الأحكام في النصوص الدينيّة نفسها. فالإسلام تابع للمصالح والمفاسد الواقعيّة، وهذه المصالح في كثيرٍ من حالاتها قابلة للإدراك العقليّ، بواسطة الإنسان. ومن أجل ذلك، كان العقل أحدَ مصادر اكتشاف التشريع في الفقه الإسلاميّ، وفقاً لقاعدةِ: « ما حكم به العقل، حكم به الشرع». وعلى ضوء ذلك، فإذا تبيّن للفقيه أنّ المصالح الإنسانيّة تبدّلت في عصر من العصور، يُمكنه على ضوء إدراكه العقليّ اكتشاف الحكم الشرعيّ المتناسب مع ذلك التبدّل في المصالح والمفاسد(4) . ومن الواضح أنّ الشهيد مطهريّ اكتشف هذا النموذج من خلال المقارنة بين الثبات والتغيّر في الحركة والزمان؛ فكما أنّ الحركة والزمان فيهما بُعدان هما الثبات: من جهةٍ والتغيّر من جهةٍ أُخرى، فكذلك الإسلام أيضاً يتوفّر على هذين البعدين. وعلى أيّ حال، إنّ نموذج الثبات والتغيّر مرتبطٌ بالعوالم النظريّة للمعرفة الدينيّة، وعلى ضوء هذا النموذج تيسّر للشهيد مطهري اكتشاف آليّات الثبات في الإسلام.
تمثّل النماذج النبضَ الخافقَ للمعرفة الدينيّة، وهي تزداد عمقاّ ودقةً شيئاً فشيئاً. فالرجوع إلى الأصول العملية في الفقه الشيعيّ، يقوم على أساس نموذج خاصّ ومحدّد، وهو أحد أبرز وجوه الاختلاف بينه وبين فقه سائر المذاهب الإسلامية. فالفقه السنّيّ عادةً، يرجع في حالات فقدان الدليل اللفظيّ إلى القياس والاستحسان لاستنباط الحكم الشرعيّ، وأمّا الفقه الإماميّ، فإنّ المرجع في حالات فقد الدليل اللفظيّ هو الأصول العمليّة. وبالتالي يرى فقهاء الإماميّة أنّ عملية
________________________________________
(4) - الشهيد مطهري،‌ مرتضى، إسلام و مقتضيات زمان، ج 2، الطبعة السابعة، انتشارات صدرا، ص 32-12.

[الصفحة - 277]


الاستنباط تتمّ عبر مرحلتين، هما: مرحلة اكتشاف الحكم الواقعيّ، والثانية هي مرحلة اكتشاف الوظيفة العمليّة في حالات العجز عن اكتشاف الحكم الشرعيّ الواقعيّ. والمرحلة الثانية هي التي تدور حول محور الأصول العمليّة، فهذه الأصول هي الملجأ الذي يلوذ به الفقيه عندما يُعيِيه البحث عن الدليل الكاشف عن الحكم الشرعيّ فلا يُسعِفه البحث، ولا يؤدّي به إلى نتيجةٍ، فيرجع إليها ليعرف تكليفَه ووظيفتَه تجاه الحكم المجهول الذي لم يستطع إثباته بدليلٍ كاشفٍ عن الحكم سواء كان دليلاً لفظيّاً أم غير لفظيّ كالإجماع والعقل، وما شابه. وقد مرّت فكرة الأصول العمليّة بتاريخٍ طويلٍ في الفقه وأصوله حتّى أخذت شكلها الحاليّ المعروف في هذه المرحلة من تاريخ الفقه وأصوله. فكانت تُبحث في المراحل المتقدّمة من تاريخ علم الأصول في ذيل البحث عن الدليل العقليّ، إلى أن ظهرت إلى ساحة علم الأصول مدرسة الوحيد البهبهانيّ وتلامذته، فاتّضحت معالم التقسيم المرحليّ لاستنباط الحكم الشرعيّ إلى مرحلتين، واكتسبت معالمها الواضحة.
النماذج والوصف الاستعاريّ للواقع
تؤدّي النماذج دوراً هامّا في النظريّات العلميّة، وبشكلٍ عام في المعرفة البشريّة بكلِّ ألوانها، وربَّما يُمكن تشبيه دور النماذج في المعرفة بدور الاستعارة (metaphor) في الكلام واللغة، فالشاعر والأديب لا يستخدمان الاستعارة من أجل تجميل الكلام وتحسينه فحسب، فلو كانت الاستعارة لمجرَّد التزيين، لخلا الشعر المملوء بالاستعارات من المضمون والمحتوى، بل إنّ الاستعارة لها دور أكثر أهميَّةً من التزيين والتجميل. فالاستعارة تُراد في كثيرٍ من الأحيان من أجل بيان الأفكار المعقّدة، التي تعجز اللغة غير الاستعاريّة عن بيانها وإيصالها. وهذا ما يُعطي الشعر أهميّته؛ حيث إنّه يَستعين بالاستعارة وغيرها من أدوات التعبير ووسائله من أجل إيصال أعمق الأفكار وأدقّها. والاستعارة من جهتها قادرة على
________________________________________

[الصفحة - 278]


نقل الذهن والخيال الإنسانيّ إلى ساحات تعجز اللغة العاديّة عن نقله إليها. فعندما نقول: «علي أسد»، ربَّما يحسب صاحب الذهن البسيط العادي أنّنا نعقد مقارنة بين شيئين نشبّه أحدهما بالآخر، وبالتالي يُريد المتكلِّم أن يُشير إلى شجاعة علي ويتحدّث عنها من خلال تشبيهه بالأسد. هذا ولكنّ التشبيه يلعب دوراً أكثر عمقاً ودقّة من هذا المستوى. وكلَّما ازداد عمق المعنى المراد بيانه وارتفع مستوى دقّته، كلّما عجزت اللغة العاديّة عن أداء الدور المطلوب منها، وازدادت الحاجة إلى الاستعارة وغيرها من أساليب التعبير غير المباشرة. والنَّماذج في المعرفة بعامّة وفي المعرفة الدينيّة بوجهٍ خاص تؤدِّي هذا الدور الذي تؤدّيه الاستعارة وما شابهها في اللغة والبيان. فالنماذج هي وسيلة لبيان الحقائق والمعارف الدينيّة العميقة التي يصعب بيانها بشكلٍ مباشرٍ وصريح. ومن أدقّ النماذج وأعمقها النماذج الكلاميّة التي تُحاول بيان العلاقة بين الله والعالم، وقد تصدّت بعض النصوص الدينيّة لتقديم بعض النماذج المساعدة على فهم طبيعة العلاقة بين الله والعالم بعامَّة، والإنسان بخاصّة.
ومن ذلك مفهوم (الخلق) الذي ورد في النصوص الدينيّة من أجل بيان طبيعة العلاقة بين الله من جهة وبين الإنسان وعالم الطبيعة كلّه من جهةٍ أخرى؛ فالله هو خالق الإنسان وخالق الطبيعة، وقد ورد هذا المعنى في عدد من الآيات القرآنية، ومنها قوله تعالى: { وخَلَقَ كلَّ شيء فَقَدَّرَه تقديراً }(الفرقان: الآية 2)، وقوله سبحانه: { ذلِكم الله ربُّكم لا إله إلاّ هو خالِقُ كلِّ شيء فاعبدوه وهو على كلِّ شيء وكيل} (الأنعام: الآية 102) فهذا المفهوم إذاً استخدِم في الكتاب والسنة، وقد استخدم الفلاسفة والمتكلّمون المسلمون نماذج عدّة لشرح وتفسير عمليَّة الخلق ومفهوم الخلق نفسه، وتختلف تيّارات علم الكلام ومذاهبه، باختلاف النَّماذج المستخدمة من أجل شرح هذا المفهوم. ومن هذه النماذج نموذج الوجوب والإمكان، الذي طرحه الفارابي أولا ثمَّ اكتسب عمقاً وغنىً في الفلسفة
________________________________________

[الصفحة - 279]


السينويّة. فطالما عبّر الفلاسفة عن معنى الخلق هذا، بالحديث عن العلاقة بين الإمكان الماهويِّ والوجوب، وفسّروا عبارة (الله خالق)، بأنّه سبحانه يُخرج الماهيّات الممكنة من حدّ الإمكان أي تساوي العلاقة بين الوجود والعدم، إلى حدّ الوجوب والوجود. وبعد ظهور مدرسة الحكمة المتعالية قدّم (صدر الدين الشيرازي)، نموذجاً مختلفاً يقوم على أساس التمييز بين وجودين أحدهما وجود رابط وغير مستقل، والآخر وجود مستقل.
النظريَّة والنموذج مقارنة وتوضيح
وعلى الرغم من وضوح الفرق بين النموذج والنظريّة، إلا أنّ من المناسب إضفاء مزيدٍ من الوضوح على هذا الفرق من خلال تقديم تعريفٍ مختصرٍ للنموذج. وهو ما طرحه الفيلسوف الفرنسي (إيان باربور) الذي يقول: «النماذج هي مجموعة من المفاهيم أو الظواهر المعروفة، مع نظام من الاستعارة، قادر على الشرح والبيان»(5) .
ويتضمّن هذا التعريف الإشارة إلى عناصر ثلاثة، هي: 1ـ مجموعة أو جهاز من المفاهيم أو الظواهر المعروفة؛ مثلاً: حركة كُرات البليارد وكيفيّة اصطدام بعضها ببعضها الآخر، وكذلك مفاهيم الثبات والتغيّر عند الشهيد مطهري، وهذه المفاهيم كما هو واضح معروفة وقريبة من الذهن. 2ـ العنصر الثاني هو الاستعارة المنظَّمة، فالنماذج تعتمد على الاستعارة المنظّمة. والعلاقة بين المفاهيم أو الظواهر، وبين الأرضيّة المراد تطبيق النموذج عليها، هي علاقة استعاريّة. ومجموعة المفاهيم المستخدمة ضمن نسقٍ واحدٍ لتشكيل النموذج بينها وبين ما يُراد تطبيقها عليه وجوهُ تشابهٍ وعلى ضوء وجوه التشابه هذه تمدّنا بالاطلاع على الزوايا التي نجهلها منها. وأضف إلى ذلك أنّ هذه الاستعارة تستخدم بشكل نظامي (سيستامي)؛ مثلاً: في نموذج كُرات البليارد لا يقف الأمر عند تشبيه الذرة بالكُرة فحسب، بل ينقل نظام من العلاقات المنظَّمة ويرافقنا على مدى محاولتنا
________________________________________
(5) Barbour, Religion in an Age of Science, Harper, Saint Francisco, 1990, pp 49. -

[الصفحة - 280]


فهمنا للظاهرة المراد تفسيرها بواسطة النموذج. 3ـ القدرة على البيان: النَّماذج تكتسب قدرتها على التعبير والبيان، بسبب استخدامها الاستعارة، وعلى أساس هذه القدرة تكتسب القدرة على بيان ما نجهل وتفسيره. فما نعرفه عن طبيعة سلوك كُرات البليارد، يُساعدنا على معرفة سلوك ذرّات الغازات. والأمر نفسه يُقال على نموذج التغيّر والثبات الذي استخدمه مطهري؛ حيث إنّه يساعدنا على فهم كيفيّة التوفيق بين خلود الإسلام وثباته، وبين تغيّر الزمان وتحوّله.
بلى النظريّة هي حاصل النموذج، والنظريّات كلّها تقوم على أساس النماذج. وتحاول النظريّة بيان الواقع وشرحه بالاعتماد على وجوه الشبه بين النموذج والواقع. فعلى أساس نموذج كُرات البليارد وضوئه، تمكّن العلماء من تطبيق قوانين الحركة التي اكتشفها نيوتن على ذرّات الغازات، ولولا هذا النموذج لما أمكن فهم كيفية تأثير الضغط والحرارة على ذرّات الغازات التي لا تُرى، ومن خلال ربط ما يشاهَد ويقبَل القياس بشكلٍ واضحٍ يتمّ فهم قوانين الحركة وتطبيقها على ما لا يُرى من الظواهر بشكلٍ مباشرٍ.
وكذلك سمح نموذج التغيير والثبات للشهيد مطهري، أن يَنظر إلى الإسلام نظرةً ظواهريَّة، وبهذه النظرة استطاع مطهري التمييز بين الثابت والمتغيّر في الإسلام. وكلّ ما قدّمه مطهّري في سياق محاولته فهم هذه الإشكاليّة وحلّها هو مرتبط بهذا النموذج ومرتهن له. ومن ذلك الحديث عن دور الاجتهاد ومصادره، ودور القضايا الحقيقيّة، وتمييز القوانين الثابتة وفصلها عن القوانين المتغيّرة، وتحديد منطقة تغيّر الأحكام الإسلاميّة. وبكلمة مختصرة لولا هذا النموذج لما استطاع مطهري تقديم هذه النظريّة.
عودة إلى المقارنة بين النموذج والنظريَّة
وقد أشرنا قبل قليل إلى الاختلاف بين النظريّة والنموذج، ولم نَفِهِ حقَّه. ومن المناسب العودة إلى ذلك الفرق طلباً للمزيد من الوضوح. تتمتَّع النماذج
________________________________________

[الصفحة - 281]


بخصوصيَّة الحركيَّة والمرونة، وأمّا النظريّات، فهي على درجةٍ من الثَّبات وهي تكتسب حركيّتها ومرونتها من النموذج المرتبط بها. وقد قلنا إنّ النظريّات تقوم على قواعد النَّماذج، والنَّماذج تشتمل على الاستعارة والتشبيه، وهي بينها وبين الواقع وجوه شبهٍ متعدِّدةٍ. وتُختار هذه النماذج من بيئات مختلفة اعتماداً على وجوه المشابهة هذه، والنظريّات بدورها هي محاولة لبيان وجوه الشبه هذه، وربّما وجوه الاختلاف في بعض الأحيان. مثلا: النظريّة الحركيَّة للغازات هي في الحقيقة قوانين نيوتن للحركة، وهي تقبل الصدق والانطباق بشكلٍ مشتركٍ على كلٍّ من كرات البليارد وذرّات الغازات، وعندما تتحوَّل وجوه الشَّبه هذه إلى معادلات رياضيّة وقضايا قانونيّة، تُصبح نظريّة. وبعبارةٍ أُخرى: تأخذ وجوه الشبه هذه حالة الثَّبات وشكلا استاتيكياً. وأمَّا النَّموذج، فهو مَرِن بطبعه ويَخضع للتعديل وقد يخضع للتعديل والتطوير مع اكتشاف وجوه شبهٍ جديدةٍ لم تكن ملحوظةً من قبل، وتتَّبع النظريّة النموذج وتتغيّر تبعاً لتغيّره.
والنَّماذج الدينيّة هي مفاهيم تَترابط في ما بينها وتتكاتف بشكلٍ نِظاميّ، لتسمح وتساعد على فهم الدِّين بشكل منظّم وتبسّط البحث فيه. ومن هنا، فإنّ النماذج تترك أثرها وتُسيطر على طريقة فهم المتديّنين للدِّين، وذلك من طريقين. أولاً: هم يَفهمون حياتهم وذواتهم على ضوء النَّماذج، وينظرون إلى كلّ شيء من نافذة النَّموذج. وما ينظرون إليه ليس هو شيء محدّد دون غيره بل يَنظرون ويفسِّرون بواسطة النَّموذج كلاًّ من حياتهم الشخصيّة وتجاربهم الدينيّة. ثانياً: يُساعد النموذج المتديّنين على فهم طبيعة الموقف الواجب اتَّخاذه في الظروف التي ربّما تتبدّل من حالٍ إلى حالٍ(6) .
بل إنّ النماذج الفقهيّة والكلاميّة والأخلاقيّة التي يتبنّاها المتديّنون هي التي تصوغ عالمهم وتحدّد الإطار لسلوكهم الدينيّ وفكرهم. والتَّعاليم الدينيّة تَظهر وتكتسب شكلها وتتكامل في رحم النَّموذج، وتنمو وتتفرّع منها بعض التفاصيل
________________________________________
(6) Brummer Vincent, The Model of Love, Cambridge, pp 16- 18. -

[الصفحة - 282]


بالحدود التي تسمح بها الظروف المختلفة. وهي التي تسمح بتطبيق النماذج الهرمنوطيقيّة الدينيّة على الظروف والأوضاع المستجدّة، على الرغم من عدم الإشارة إليها أو الحديث عنها في النصوص الدينيّة، ومن الأمثلة الواضحة لهذه النَّماذج الفقهيّة. فهي التي تسمح باستنباط بل استنبات الأحكام الفقهيّة للمسائل المستحدَثة التي لم يَرِد لها ذكر في النصوص الدينيّة. وعلى ضوء ذلك يرى المتديّن نفسه مدعواً إلى ضبط سلوكه على إيقاع ما يكتشفه من أحكام لهذه المسائل المستجدّة. وإذا كان هـذا حال النَّمـاذج الفقهيّة فإنّ النماذج الكلاميّة أيضاً تلَعب الدور نفسه وتحدّد للمتديّن المعاصر بماذا يجب عليه أن يَعتقد ويؤمن.
ومن الواضح أنّ الدِّين هو أوسع ممَّا وصل إلينا في النُّصوص الدينيّة أو يُستفاد من ظاهرها. والنَّماذج هي محاولات تُساعد على فهم واقع الدِّين. وما محاولات العلماء وجهودهم إلا خطوات وئيدة في هذا السبيل، من أجل الكشف عن هذا الواقع الدينيّ والإضاءة على ما لم يكشف من أبعاده وزواياه. وهذا المبدأ أي مبدأ أنّ الدين لا يَنحصر في ما يُفهم من ظاهر النصوص الدينيّة (وهو ما يُمكن تسميته بمبدأ تنمية المعرفة الدينيّة وتوسِعتها) هو الدَّافع الذي دعا العلماء عبر التاريخ إلى التشمير عن ساعد الجدّ، وهو المقصد والغاية التي من أجلها يَعلمون. فكما أنّ عالم الطبيعة هو أوسع وأكبر من ما تكشف عنه النظريّات وتحاول تفسيره، وما تكشف عنه المعرفة العلميّة ما هو إلا جزءٌ بسيطٌ ممَّا يتشكل منه عالم الطبيعة في واقع أمره وحقيقته. فكذلك الدِّين وواقعه هو أوسع وأكبر، وكما يَصدق على الطبيعة قول (أينشتاين): «إنّ الطبيعة تُخفي أسرارها عنّا بذكاء وحنكة»، كذلك يَصدق هذا القول على الدِّين أيضاً، بل الدِّين يمتاز بأنّه لا يكشف أسراره دفعةً واحدةً، لكلّ راغبٍ بالمعرفة. فالدِّين له طول وعرض ممتدَّان على مساحاتٍ واسعةٍ يَصعب اكتشافها، وأضف إلى ذلك أنّ له باطناً وأسراراً جمّة.
________________________________________

[الصفحة - 283]


وبعبارةٍ أُخرى: حتّى الظواهر التي نراها من الدِّين ونُدرِكها، هي تشتمل على أسرار وبواطن متداخلة بعضها فوق بعض، وما يُعرف هو بعض الطبقات من حيث العمق، وبعض المساحات من حيث الطول والعرض.
وقد تحدّث العلامة الطباطبائيّ في كتابه (رسالة الولاية) عن صورة خاصَّة من مبدأ التنمية المشار إليه. وهو يَنطلق في الحديث من نقطة أنّ الدِّين له ظاهر وباطن، وصورته الحقيقيّة فيها حقائق. وقد عرض ذلك وقدّمه على شكل مقدّمات فلسفيّة، يُمكن اختصارها بما يأتي، من المقدِّمات:
1ـ إنّ الموجودات تنقسم، باعتبارٍ، إلى قسمين؛ فإنّ كلّ معنىً عقلناه إمّا أن يكون له مطابق في الخارج موجود في نفسه، سواء كان هناك عاقل أو لم يكن، كالجواهر الخارجيّة من الجماد والنبات والحيوان وأمثالها، وإمّا أن يكون مطابقه موجوداً في الخارج بحسب ما نعقله، وهو غير موجود لولا التعقّل، كالملك وما شابه، ويُسمّى القسم الأوّل بالحقيقة، والقسم الثاني بالاعتبار.
2ـ إنّ كلّ أمر اعتباريّ هو متقوّم بحقيقةٍ يَستند إليها.
3ـ عندما نتأمّل في المعاني المربوطة بالإنسان والعلاقات التي بين هذه المعاني نفسها، كالملك وسائر الاختصاصات والرئاسات والمعاشرات وغيرها، نجد أنّها أمور اعتباريّة ومعاني وهميّة.
4ـ وقد ألزم الإنسان نفسه بهذه الاعتباريّات لاحتياجه الأوّليّ إلى الاجتماع والتمدّن لجلب الخير والمنافع، ودفع الشرّ والضرر. فكما أنّ للنبات نظاماً طبيعيَّاً في دائرة وجوده من سلسلة عوارض منظمة طبيعيّة طارئة عليه يَستحفظ بها جوهره، بالتغذِّي والنموّ وتوليد المثل، فكذلك الإنسان مثلاً له نظام طبعيّ من عوارض يَستحفظ بها جوهره في أركانه، إلا أنّ هذا النِّظام مَحفوظ بمعاني وهميّة وأمور اعتباريّة.
________________________________________

[الصفحة - 284]


5ـ إنّ هذا النظام الاعتباريّ موجود في ظرف الاجتماع والتمدّن فحيث لا اجتماع لا اعتبار.
6ـ إنّ ما تعرّض الدِّين لبيانه وشرحه من المعارف المتعلّقة بالمبدأ، ومن الأحكام المتعلّقة بما بعد هذه النشأة الدنيويّة، إنَّما بيّنه بلسان الاعتبار».
ويستنتج السيِّد الطباطبائي من هذه المقدِّمات أنّ وراء هذه المعاني المعبّر عنها بلسان الاعتبار والاعتباريَّات كما يسمِّيه، حقائق، لا تُدرِك منها العقول العاديَّة إلا صورتها الدنيا، وظواهرها فحسب.
وما هو مقصود في المعرفة الدينيّة هو ذلك الواقع الوسيع للدين. وكلُّ الجهود التي يَبذلها العلماء إنَّما تصبّ في سبيل الحصول على ذلك الواقع. وعندما يُوصَف الكتاب والسنّة والعقل الإجماع بأنَّها جميعاً مصادر للمعرفة الدينيّة توصف بذلك؛ لأنّها سبلٌ ومسارب ينفذ منها الباحثون في المعرفة الدينيّة إلى ذلك الواقع المكنون. وهي مجرَّد نوافذ يطلّون منها على واقع الدِّين. وبالتالي لا ينبغي أن نَعدّ الدين مساوياً للكتاب والسنَّة والعقل والإجماع. فالدِّين هو ذلك الواقع الذي يَسعى العلماء للعثور عليه ويَبذُلون جهودهم من أجل معرفته. هذا رغم الاعتراف بأنّ هذه المنافذ والسبل هي السبل الوحيدة المشروعة والمقرّرة لمعرفة الدِّين. إلا أنّ الاختلاف هو في النَّماذج التي يَجري اعتمادها أثناء التعامل مع هذه النوافذ والمسارب. والنَّمـاذج رغم أنّها ناظرة إلى واقـع الدِّين؛ ولكنّها تطلّ على الدِّين من خلال هذه المصادر وانطلاقاً من أرضيّتها؛ ولا ينبغي عدّ النماذج أشياء تقع في عرض الكتاب والسنّة، واعتبارها مصادر مستقلّة للمعرفة الدينيّة، بل هي تقع في طول الكتاب والسنّة، وتعمل في ضوئها، ولو لم يكن الكتاب والسنّة لما كان للنَّماذج عينٌ ولا أثرٌ. وترتفع قيمة النموذج وأهميَّته كلّما اقترب من محاولة فهم الكتاب والسنة، وتبعاً لذلك كلّما اقترب من واقع الدِّين نفسه.
________________________________________

[الصفحة - 285]


النَّماذج ومقدار كشفها عن الواقع
النَّماذج هي مرايا في مقابل الواقع، سواء كانت مرايا مقعَّرة أم محدّبة؛ ولكنّها على أيّ حالٍ لا تستطيع جمع الواقع كلّه ضمن إطارها، وأقصى ما تفعله هو إعطاء صورة عنه ليس إلا. وهي لا تقدر على تحمّل نور الواقع على قوّته، بل تعكس أشعّة منه قدر طاقتها وقدرتها الاستيعابيّة. ولا ينبغي أن يُعدّ هذا الكلام إنكاراً للترابط والعلاقة بين النَّماذج والواقع، أو إنكاراً لكشف النماذج عن الواقع، بل ما ندّعيه هو أنّ ما تقدّمه النماذج هو جزءٌ من الواقع وليس الواقع كلّه. وعلى ضوء هذا الموقف يتّضح الموقف من السؤال الذي يثار عادةً، وهو كيف تجمعون بين الحديث عن عدم إمكان إدراك ذات الله، وعن البحث عن نماذج للتعرّف عليه سبحانه؟
وعلى حد تعبير محمود شبستري في منظومته "حديقة السر" (گلشن راز)
لا صبر للعقل على شعاع نوره اذهب وابحث عن عين أخرى لتراه
أو كما يقول في محل آخر:
من شروط السير أن تفكر في آلائه
وأما التفكير في ذاته فهو معصية
إن التفكير في ذات الحق فكر باطل
وقد اتّضح من الكلام المتقـدّم أنّ النماذج هي محـاولات لفهم الواقع؛ ولكنّها لا تستوعبه بأجمعه ولا تجمع أطرافه ضمن حدودها، وإن كانت تعكس مقداراً منه على حسب طاقتها وبحسب إمكانية التعرّف على الموضوع المعالج بواسطته(7) .
وربّما يُساعد المثال على توضيح الفكرة بشكلٍ أكبر؛ فعندما يُستفاد من نموذج كرات البليارد لفهم النظريّة الحركية للغازات، فإنّنا لا ندّعي التَّشابه الكامل
________________________________________
(7) - Barbour ، مصدر سابق، ص 184.

[الصفحة - 286]


بين ذرّات الغاز وبين الكرات التي تتصادم فتحرِّك إحداها الأخرى، وهذا أحد وجوه النفي في النموذج(8) . وفي المقابل ما يدعو إلى اعتماد النَّموذج والاستفادة منه، هو وجود وجوه شبهٍ تَسمح بمقاربة الموضوع من هذا الباب. وإلى جانب وجوه السلب والإيجاب، هناك وجوه اشتراك لا أثر لها وتسمَّى الوجوه المحايدة، والفكر النظريِّ الذي يَعتمد على النماذج يَسعى للاستفادة من جميع الوجوه المشتركة الإيجابيَّة منها والسلبيَّة والمحايدة من أجل فهم الظاهرة المراد درسها وتفسيره(9).
النَّماذج واسطة بين جهازين معرفيّين؛ أحدهما: جهاز المنشأ (Y) الذي يقوم على أساسه التشبيه؛ مثلا: كرات البليارد (مع القوانين النيوتنيّة الحاكمة عليها) هي الجهاز المنشأ دون ملاحظة التشابه بينها وبين ذرات الغاز.(10) وكذلك يوجد جهاز معرفيّ آخر هو الهدف (X) والنماذج هي التي تربط بين هذين الجهازين. وتراد النماذج من أجل التعرّف على الهدف من خلال المنشأ، ومن خلال التمييز بين وجوه التشابه المؤثّرة والمحايدة والسلبيّة، وعلى ضوء هذا التمييز تستخرج النتائج المطلوبة.
وقد أشرنا في ما تقدّم إلى التشبيه كخصوصيّة من خصوصيّات النَّماذج، وإلى الاستعارة كخصوصيّةٍ إضافيّةٍ أيضاً. وبعبارةٍ أُخرى: إنّ النماذج تتمتّع بخصوصيّتين هما الاستعاريّة والتشبيهيّة. وقد أشرنا إلى أنّ الحاجة إلى خصوصيّة الاستعارة تزداد كلّما زادت الظاهرة أو الواقع المدروس تعقيداً. وهنا نُشير إلى أنّه لا ينبغي الاعتقاد بأنّ الخصوصيّتين المشار إليهما هما شيءٌ واحد، بل بينهما اختلافٌ دقيق، يَظهر عندما نُشير إلى أنّ خصوصيّة التشبيه في النماذج تكمن في علاقتها بالمنشأ، وخصوصيّة الاستعارة تكمن في علاقتها بالهدف. فمنطلق النَّماذج هو الاعتقاد بوجود تشابهٍ بين المنشأ والهدف، والمقارنة بين الجهازين هي التي تدعو إلى إنشاء النَّموذج؛ وعليه فإنّ النَّماذج تولد من خلال المقارنة بين أرضيّة
________________________________________
(8) - المصدر نفسه.
(9)Hesse Mary, Models and Analogies in Science, University of Notre dame, 1966, p.142. -
(10) كذا في الأصل وفي عبارة الأصل شيء من التعقيد اللفظي، حاولت التخفيف منه ما استطعت، وأرجو أن أكون قد وفقت لإيصال المعنى المراد بأقل مقدار من التعقيد اللفظي والمعنوي.(المعرّب)

[الصفحة - 287]


وأخرى. وإذا كانت النَّماذج تولَد من رحمِ التَّشابه، فما هي علاقتها بالهدف؟ وفي الجواب عن هذا السؤال نقول: إنّ علاقتها بالهدف علاقة استعاريّة؛ حيث إنّها تصفه وتتحدّث عنه بطريقة الاستعارة. ومن هنا، فإنّها تعجز عن الإحاطة به بشكلٍ كاملٍ؛ وأقصى ما تحقّقه هو الحكاية عن بعض وجوهه. وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ التشبيه أو وجوه الشبه في الواقع مقدّمة على الوصف الاستعاريّ، وهذا الأخير مستندٌ إليه.
وهاتان الخصوصيّتان التشبيه والاستعارة اللتان تتميّز بهما النَّماذج، يُمكن أن تبيّن وتشرح طبيعة العلاقة بين النماذج الفلسفيّة وبين ذات الله سبحانه. فالنماذج الفلسفيّة تستند إلى علاقات التَّشابه وتحاول أن تتحدّث عن الله بطريقة الاستعارة، وحتّى لو حاولت الكشف عن جميع الوجوه المراد الكشف عنها فإنّها لن تستطيع؛ حيث إنّها تستند إلى معارف الإنسان وعلومه. وبعبارةٍ أُخرى: يحاول الإنسان الاستفادة من النَّماذج للانتقال ممّا يَعرف إلى الأمور التي يَجهلها ليكتشفها، وذلك كلُّه على أساسيّ التشبيه والاستعارة. وهذه النَّماذج رغم سعيها في سبيل اكتشاف الواقع ومعرفته، إلا أنَّها في ميدان التعرّف على الله بعيدة غاية البعد عن إدراك كنهه وحقيقة ذاته سبحانه. فلا يوجد نموذج فلسفيّ قادر على تحقيق ما يُريد تحقيقه، ورغم الاحترام والتقدير لكلّ الجهود الفلسفيّة المبذولة في هذا المجال، ورغم أنّ هذه الجهود أدّت إلى تطوّر بعض النَّماذج وبلوغها درجاتٍ عاليةٍ من الدِّقة، إلا أنّ دقتها لا تعني سوى اكتشاف وجوه جديدة من التشابه لا تكفي لادِّعاء اكتشاف الحقيقة والقبض عليها.
نعم، النَّماذج ناقصةٌ دائماً؛ أي أنّها عاجزةٌ بشكلٍ دائمٍ عن القبض على الحقيقة كاملة، وتكتفي، بتواضعٍ، بالكشف عن بعض وجوهها. وهذا النقص يتَّضح من خلال الالتفات إلى دور التشبيه في صياغة النَّموذج. ومن هنا، فإنّ النماذج ليست وصفاً حرفيّاً للواقع. فعندما نستخدم كرات البليارد كنموذجٍ لفهم خصائص
________________________________________

[الصفحة - 288]


ذرّات الغاز وطبيعة حركتها، لا نعني بذلك أنّ ذرّات الغاز هي عين الكرات وأنّها تحمل جميع أوصافها وكامل بُنيتها. بل المراد هو وجود شيءٍ في الخارج هو شبيه بهذه الكرات ومشترك معها في وجوه شبه عدَّة، ولكن ما هي هذه الذرَّات بدقَّةٍ؟ وما هي طبيعتها؟ فذلك أمر غير معلوم لنا بالكامل، وليس لنا طريق إلى التعرَّف عليها إلا من خلال النَّموذج الذي نبنيه لفهمها، على ضوء وجوه الشبه الإيجابيَّة والمحايدة. والنَّماذج الفلسفيّة تشترك في هذه الخصوصيَّات مع النماذج العلميّة؛ حيث إنّ هذه النماذج تُبنى على أساس المعلومات التي نملكها، ثمَّ يأتي العقل الإنساني ليستفيد من وجوه الشبه الإيجابيَّة والمحايدة، ويطوّر معلوماته الفلسفيّة عن العالم الخارجيّ الذي يُحاول فهمه والتعرّف عليه.
النماذج والواقعيَّة المعقَّدة
هذه النظرة إلى النماذج الفلسفيّة والعلميّة والدينيّة هي الواقعية (رياليسم) المعقّدة، التي تمتاز عن الواقعيّة البسيطة. فهذا الاتِّجاه الأخير يدَّعي أنَّ النماذج حاكيةٌ عن الواقع بشكلٍ كاملٍ، وتكشف أسراره جزءاً جزءاً، وكأنَّها مرآة صافيةٌ ترتسم فيها صورة مطابقةٌ للأصل من الوقع، فكلُّ ما في الواقع موجود بدقَّة في النَّموذج والعكس صحيح أيضاً. وهذا بخلاف الواقعيَّة المعقَّدة، فإنَّ أقصى ما يُدَّعى فيها للنَّموذج هو قدرته على كشف بعض زوايا الواقع، وبعبارةٍ أُخرى استخدمناها سابقاً: النموذج ليس ترجمةً حرفيَّةً وأمينةً للواقع وإنَّما هو وصف استعاريّ له يُخبِر عن بعض زواياه ويَحكي بعض أخباره، والواقع أوسع وأكبر من النَّموذج الذي يَسعى للكشف عنه.
ولا تَنحصر الآراء المطروحة حول النَّماذج في هاتين الرؤيتين، بل تُوجَد رؤية ثالثة ربَّما تستحقُّ الإشارة إليها. قلنا إنّ بعض الفلاسفة يرون أنّ النماذج هي ترجمة حرفيّة أمينة للواقع، وهذا ما ارتضاه الذين يتبنّون الواقعيّة البسيطة. وآخرون يرون أنّ النماذج هي وصف استعاريّ للواقع، وإلى هؤلاء وهؤلاء تُضاف
________________________________________

[الصفحة - 289]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف