البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العقل الأخلاقي المسلم تعدّد المكوّنات ووحدة مرجعيَّة أخلاق الطَّاعة

الباحث :  أ. جواد علي كسّار
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  30
السنة :  السنة الثامنة صيف 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  2496

العقل الأخلاقي المسلم (تعدّد المكوّنات ووحدة مرجعيَّة أخلاق الطَّاعة)

أ. جواد علي كسّار (*)

إضاءة أولى
انهمك الفكر العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بحركة متسارعة لبناء منظومات وتقديم أنساق. على هذه الخلفية، سجّل المشهد الثَّقافي كثافة في المشروعات التي حامت حول مشاغل متعدّدة، منها (1)إشكالية التُّراث والمعاصرة (2)المنبثقة من أحشاء عصر النهضة، مع ما يحفّ بها من مكوّنات كالعلاقة مع الغرب أو الموقف من الآخر بعامّة (3)، والتخلّف والتقدّم، والتحرّر السياسي، والتحرّر الاجتماعي، وبخاصّة قضية المرأة (4).
ثمَّ بدا الفكر العربي كأنّه دخل في مرحلة تجاوز ثقافي لمقولة عصر النهضة بمكوّناتها وإشكاليَّاتها، وهو ينتقل مع بداية الثمانينيات إلى عصر ثقافي آخر، قوامه العقل ونقده، أو تقويم السلاح الذي تُنتج الأفكار به، على حدّ ما ذهب إليه أحد أبرز روَّاد مشروعات نقد العقل (5). ما يلفت الانتباه، في هذا النسق، تظافر جهود مختلف الانتماءات الفكرية على ممارسة نقد العقل وتقويمه على نحو مباشر (6)، أو من خلال تحليل الخطابات المنتَجة وتفكيكها انطلاقاً من المعنى الذي يتعامل مع «الخطاب» بوصفه نظاماً مؤسّساً للفكر أو التفكير (7)، لا بمعنى كونه «عبارةً» و «مقولة» كما يستعمِل ذلك كثيرون عن خطأ!
بعدما بدا كأنّه استنفاد لشواغل نقد العقل والخطاب، سجّل الفكر العربي، في
________________________________________
(*)باحث من العراق
(1)من هذه المشروعات أعمال مالك بن نبي في «مشكلات الحضارة»، وطيب تيزيني في «من التراث إلى الثورة»، وحسين مروة في «النَّزعات المادية في الفلسفة العربية ـ الإسلامية»، وعلي أحمد سعيد (أدونيس) في «الثابت والمتحوّل»، وحسن حنفي في «التراث والتجديد»، ومحمّد عابد الجابري في «نقدالعقل العربي»، وأعمال محمد أركون وعبد الله العروي وطه عبد الرحمن وغيرها كثير.
(2)ينظر في تغطية بعض مراجع دراسة هذه الإشكالية: بولس الخوري، التراث والحداثة: مراجع لدراسة الفكر العربي الحاضر، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1983م. وعن رؤى المفكّرين العرب إلى المقولة وما يحفّ بها من مكوّنات وأسئلة، ينظر: ندوة التراث وتحديات العصر في الوطن العربي (الأصالة والمعاصرة): بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985م.
(3)ربّما كان أهمّ مصدر نظّر لعصر النهضة بمكوّناته وتياراته، هو: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ط3، دار النهار للنشر، بيروت، 1977م. أمّا عن العلاقة مع الغرب بالتحديد، فينظر: هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ط2، دار النهار للنشر، بيروت، 1978م.
(4)لمتابعة أبرز ما أنتجته عقول المسلمين، حيال هذه القضية إبّان المدّة المذكورة، ينظر المرجع المهم: د. فهمي جدعان، أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط2، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981م.
(5)التعبير للجابري صاحب مشروع «نقد العقل العربي».
(6)قصدي أن أنبّه، من خلال هذه الملاحظة، إلى أنَّ الكتّاب المنتمين إلى المنهج الإسلامي، دخلوا عباب هذه العملية أسوة بالآخرين، وفتحوا كوّة لممارسة نقد العقل المسلم من منظورهم الخاص لأزمة هذا العقل أو مشكلاته. ينظر مثلًا: د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، 1991م. وعلى نحو أقل كفاءة وألمعية، ينظر أيضاً: د. عماد الدين خليل، حول إعادة تشكيل العقل المسلم، سلسلة كتاب الأمّة القطرية، العدد 4، 1403هـ؛ د. عبد الرحمن الطريري، العقل العربي وإعادة التشكيل، سلسلة كتاب الأمّة القطرية، العدد 35، 1413هـ. في سياق آخر يؤكّد محمد أركون أنَّ جزءاً مهمّاً من أعماله الفكرية تتناول قضية «نقد العقل الإسلامي».
(7)يشتهر، على هذا الصعيد، عمل الجابري المعنون: الخطاب العربي المعاصر، ط6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999م. وكرؤية أشبه ما تكون بالمقابلة تنتمي إلى المنهج الإسلامي، يلحظ: فادي إسماعيل، الخطاب العربي المعاصر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1414هـ.

[الصفحة - 284]


مساحة واسعة من اهتماماته، نقلة صوب عصر ثقافي جديد قوامه «النَّص» وشواغله، ساعياً إلى تقديم العديد من الاجتهادات في قراءة النصّ، في محاولة تسعى إلى اقتحام فضاءاته و «تحريره» من سلطة رجال الدين و «استبداد» الفهوم الموروثة معاً، وذلك بهدف التأسيس على ذلك الركام لمشروعية التعدّدية، ليس في المجال الفكري والثقافي وحده بل داخل النَّسق السياسي والاجتماعي، أيضاً، واتّباعاً له (8).
على أنّه من الضروري الإشارة إلى أنَّ هذا التحقيب لشواغل الثَّقافة العربية واهتماماتها هو تحقيب ثقافي لا زمني، ومن ثمَّ فإنَّ التَّعاصر بين أزمنة الثقافة العربية والتَّداخل في ما بينها أمر وارد بل قائم، بحكم أنَّ التحقيب الثقافي يحكي الانشغالات الفكرية، ويستكشف مكوّنات المشهد، أكثر مما يعنى بوضع فواصل زمنيَّة حادّة أو حاسمة.
وما يعنينا من ذلك كلّه هو النَّسق الذي يدور حيال مقولة نقد العقل. فعلى كثرة المشاريع التي انطلقت من هذه المقولة، وتعدّد المشارب التي لامستها، بقي مشروع الجابري مقروءاً أكثر من غيره، لما توفّر عليه من نقاط جذب وتميّز، يعود بعضها إلى الترتيب الذي انتظم حلقات المشروع وترابطه المنطقي وتنقّله المحكم والسلس من حلقة إلى أخرى، كما إلى الأدوات المنهجية التي أبدى المؤلّف مهارة في توظيفها واستعمالها، كذلك كثافة المعطيات التي غطّاها المشروع؛ هذه المعطيات التي امتدّت عدّة قرون، وهي تشمل علوم البيان والفلسفة والعرفان، وبعدها الفكر السياسي، ثمَّ نظم القيم والأخلاق، وأخيراً، ينبغي أن لا نقلّل من قيمة الأداء التعبيري السهل الذي اتّصف به أسلوب الجابري، إذ سجّل لنفسه نجاحاً ملحوظاً في نقطة أخفق فيها كثيرون، وهم يشهدون أفكارهم تتيه بين تعقيدات منهجية لا مسوّغ لها، ولغة غامضة تلفّها الأسرار والتراكيب الناتئة والصيغ الشاذّة التي تبعث على ملل القارى وتنفّره (9).
بديهيٌّ، أن لا تعني هذه النقاط المذكورة عن خصائص المشروع التسليم به جملةً وتفصيلًا، ولا تحكي في الوقت نفسه غفلة كاتب هذه السطور وغيابه عن ممارسات نقدية بارزة صدرت من ناقدين كبار، منهم علي حرب وطيب تيزيني وعزيز العظمة وبرهان غليون وسالم يفّوت ومحمود أمين العالم وعبد الإله بلقزيز
________________________________________
(8)تندرج أعمال المفكر المصري نصر حامد أبو زيد في هذا السياق. وثمَّة مساهمات لغيره في العالم العربي وإيران إلى حدّ ما.
(9)تلحظ، على نحو خاص، كتابات محمد أركون التي تعاني من هذه الخصائص السلبية بامتياز، حتى يمكن القول: إنه من المتعذر قراءة أركون وفهمه من دون الجهود الجبّارة التي بذلها هاشم صالح عبر إيضاحاته وهوامشه.

[الصفحة - 285]


وجورج طرابيشي وهشام شرابي وطه عبد الرحمن ويحيى محمد وغيرهم كثير. ففي كنف هذه الأعمال النقدية، خضع كلّ شيء إلى النقد: أطر المشروع وسياقاته ومكوّناته ونتائجه والمنهجيات التي استخدمها، بل تخطّى النقد ذلك كلّه للسؤال عن جدوى المشروع، ثمَّ الأمضّ من ذلك هو النتائج التي خرج بها غير باحث عن مدى الأمانة العلمية للجابري في التعاطي مع مادّة بحثه، بخاصة ما فعله جورج طرابيشي في «مذبحة التراث» بادى ذي بدء، ثمَّ في مشروعه النقضي الذي حمل اسماً ذا دلالة خطيرة، هو: «نقدُ نقدِ العقل»!
هاجس العقلانية!
يفترض أن يكون الشاغل الرئيسي الذي يحرّك أصحاب المشروعات الفكرية هو الواقع المعيش للعرب والمسلمين، وتلمّس السبيل إلى تغييره. ففي حقبة عصر النهضة كان السؤال المركزي: لماذا تأخّر العرب والمسلمون وتقدّم غيرهم؟ والحقيقة أنَّ محتوى السؤال بقي على حاله في الأزمنة الثقافية اللاحقة، وإن تغيّرت صيغ طرحه وتناول مكوّناته ومنهجيات البحث فيه. فما يطلق عليه تيَّار العقلانية النقدية الذي ينتمي إليه الجابري، مهموم بقضايا الواقع العربي والإسلامي، وترسّم سُبل تجاوز التخلّف والارتقاء إلى المكانة المنشودة، بغضّ النظر عن المنهجيات التي استند إليها رموز هذا التيار والأطروحات التي عرضوا لها (10).
فالجابري بالتَّحديد، رأيناه يتحدّث بنبرة واضحة عن الحصار المضروب من حولنا، نحن العرب، من خلال سلطة التراث وسلطة الآخر المتمثّلة بثقافة الغرب، و «هنا يبرز دور العقل، دور النقد»(11)على ما يقول، إذ إنَّ الطريق إلى التحرّر من خناق السلطتين معاً يتمّ بالاستناد إلى العقلانية والروح النقدية كما يقول نصّاً (12)، أو بالعقلانية النقدية إذا شئنا المزاوجة والاختصار.
أطلّ هامش العقلانية النقدية برأسه في قراءة الجابري لتراث المسلمين الفلسفي، وأثارت تصوّراته البديلة عمّا هو سائد عن ابن سينا مراجعات نقدية واسعة لأعماله. ففي قراءة الجابري، صار الشيخ الرئيس «أكبر مكرّس للفكر الظلامي الخرافي في الإسلام»، وغدت فلسفته قاتلة للعقل والمنطق: «فلسفته قتلت العقل
________________________________________
(10)ينظر في بعض أطاريح هذا التيار ونقدها: هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992م.
(11)ينظر: د. محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989م، ص 189.
(12)المصدر نفسه، ص 43 و44.

[الصفحة - 286]


والمنطق في الوعي العربي لقرون طويلة»، وفي نعرة قومية في البحث الفلسفي لا أعرف مدى دقّتها ومشروعيتها، ومن ثمَّ موضوعيتها، تحوّلت فلسفة ابن سينا إلى تجلٍّ من تجلّيات «الوعي القومي الفارسي المهزوم». وفي الاتجاه نفسه، صار أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ) امتداداً للنَّسق السينوي الذي يكرّس اللامعقول ورمزاً ضخماً من رموز استقالة العقل، وذلك على الرُّغم من أنَّ الأول كان فيلسوفاً والثاني متصوّفاً، وأيضاً على الرُّغم من الموقف المتشدّد لأبي حامد من الفلاسفة(13).
وإذا كان الغزالي امتداداً للنَّسق السينوي في المشرق، فإنَّ امتداده المخفّف في المغرب تمثّل بابن باجة (ت: 533هـ)، ولو عبر استحضار الفارابي. في ظلّ هذا «الركام» من اللاعقلانية والظلامية والغنوصية، لم يشهد العقل الفلسفي العربي الإسلامي بعد الكندي والمعتزلة، إلا لحظة استنارة واحدة، تمثّلت بابن رشد، انطلقت على أنقاض ابن سينا الذي «كرّس بفلسفته المشرقية اتّجاهاً روحانياً غنوصياً كان له أبعد الأثر في ردّة الفكر العربي الإسلامي وارتداده من عقلانيته المتفتّحة التي حمل لواءها المعتزلة والكندي وبلغت أوجها مع الفارابي، إلى لا عقلانية ظلامية قاتلة لم يعمل الغزالي والسهروردي الحلبي وأمثالهما إلا على نشرها وتعميمها» (14).
أكثر من ذلك، لم يمثّل تراث أبي الوليد، ابن رشد، الفلسفي في التأسيس لعقلانية برهانية مستهدية بالعقلانية الأرسطية، لحظة استنارة في الفكر الفلسفي العربي والإسلامي وحسب، بل لحظة قطيعة أيضاً؛ قطيعة مع التراث الفلسفي المشرقي اللاعقلاني، وقطيعة مع امتدادات هذا التراث في المغرب الإسلامي نفسه. ومن ثمَّ ما من مهمّة أمام الفكر العربي المعاصر غير أن يتشرّب الخطاب الفلسفي الرشدي الذي يتوفّر على بنية عقلانية نقدية وأن يستوعب جوانبه العقلانية (15)، لكي ندخل عبر «الروح الرشدية» إلى صميم التاريخ بعد أن أخرجتنا منه السينوية، ونتطلّع عبر هذا الدخول بروحه العقلانية النقدية إلى بناء المستقبل (16).
لقد شجّعت القراءة التي قدّمها الجابري، في كتابه «نحن والتراث»، بحثاً عن العقلانية النقدية الغائبة؛ شجعته لكي يمضي في الشوط حتّى نهايته. فلِمَ لا يعمّم
________________________________________
(13)ينظر في تفاصيل ذلك: محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، ط5، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1986م.
(14)المصدر نفسه، ص 39.
(15)المصدر نفسه، ص 43، 53 وما في المتن هو عبارات الجابري نفسه بعد أن ركبناها مع بعضها.
(16)استثارت قراءة الجابري ردود فعل نقدية عنيفة، وبخاصَّة استخدامه لمفهوم القطيعة بين المشرق والمغرب، وقراءة فكر ابن سينا على أساس قومي فارسي ونعته له بالظلام والغنوص واللاعقلانية، كما فعل ذلك طيب تيزيني الذي عدّ دراسة الجابري امتداداً للمنهج الاستشراقي نفسه، وأيضاً علي حرب في «مداخلاته»، ثمَّ جورج طرابيشي الذي بلغ بالنقد مداه الأقصى، حتّى أصدر مشروعاً موازياً لمشروع الجابري نفسه أطلق عليه «نقدُ نقدِ العقل».

[الصفحة - 287]


النظرة المعيارية نفسها التي تتمسّك بأهداب العقلانية الأرسطية في قراءة من قراءاتها ويسقطها على كلّ ما أنتجته عقول العرب والمسلمين، بعد أن اقتصرت الدراسة هنا على التراث الفلسفي وحده؟ هذا ما كان. ولذلك لا نستغرب إذا رأينا الجابري يعلن عن مشروعه لنقد العقل العربي من على منبر «نحن والتراث» نفسه (17)، ليضعنا بذلك أمام أولى حلقات هذا النقد متمثّلًا بكتابه «تكوين العقل العربي».
تعميم النَّزعة المعيارية!
لم يأت «تكوين العقل العربي» بجديد على مستوى المنطلقات والنتائج، يزيد على أصول الفكرة كما تبلورت عند المؤلف في «نحن والتراث» ما خلا التعميم، وإصداره حكماً على ضروب المعرفة جميعها، بعد أن كانت نتائج الدراسة مقتصرة على الجانب الفلسفي وحده. فمن حيث المنطلق أعاد الكاتب التأكيد، في مقدّمة الكتاب، أنَّ موضوعه هو العقل، وأنَّ «العقلانية» لا تزال هي الهاجس الذي يحرّكه، وبتعبيره: «قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية» (18). ومن حيث النتائج، انتهت جولته في مكوّنات العقل العربي إلى الحصيلة نفسها التي خرج بها في «نحن والتراث»، من هيمنة اللامعقول على مساحة عريضة من المنتجات المعرفية للمسلمين ما خلا ومضات «عقلانية» عابرة، ومن جمود الزمن الثقافي العربي في السابق والحاضر وافتقاده لأي استمرارية تاريخية منتجة، ومن ثمَّ بقائه مراوحاً في العصر الجاهلي، حتّى ونحن نعيش أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، أو بدايات الألفية الميلادية الثالثة كما يقال. فـ «نحن إذن لم نخرج عن العصر الجاهلي» (19)على حدّ قوله، كما لا ينبغي أن يغرينا اختلاف ألوان الطيف الفكري والثقافي وحتّى المعرفي التي مرّت بنا خلال قرون، لأنَّ جميع هذه التلوينات، خلال العصور الثقافية، لم تنجح في تخطّي العصر الجاهلي، بوصفه زمناً ثقافيَّاً، وبالنتيجة لم تفلح في إيجاد استمرارية مولَّدة، ما جعل «منها زمناً ثقافياً واحداً يعيشه المثقّف العربي في أي مكان من الوطن العربي؛ كزمن راكد يشكّل جزءاً أساسياً وجوهرياً من هويته الثقافية وشخصيته الحضارية» (20).
المعالم العامّة التي رسمها مشروع العقل العربي، في تكوينه، صارت أكثر
________________________________________
(17)نحن والتراث، ص 16 ـ 19.
(18)د. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، طبعة دار الطليعة، بيروت، 1984م، ص 7.
(19)المصدر نفسه، ص 34.
(20)المصدر نفسه، ص 51.

[الصفحة - 288]


نضجاً وتفصيلًا من حيث المحتوى وأدقّ من حيث التكوين المنهجي في الحلقة الثانية، التي هي في حقيقتها امتداد وتكملة للحلقة الأولى. فقد توفّرت على تحليل البيان والعرفان والبرهان بوصفها النظم الثلاثة للمعرفة، التي ظلّت تمارس نشاطها في الثقافة العربية الإسلامية على نحو التمايز والاستقلال، أو من خلال التركيب والتلفيق في ما بينها، من دون أن يؤثر ذلك في النتائج الأخيرة، لأنَّ النتائج مهما كانت محكومة لبنيتها المعرفية، والبنية ثابتة، وهي تمارس سلطتها على العقل العربي المسلم وتسري قوانينها فيه مهما كان لون الممارسة التي يلجأ إليها. وهذه البنية لا تزال حاضرة في عقولنا حتّى الآن بمكوّناتها وأصولها وبالثقل الكامل لسلطتها (21).
لا نظلم الحلقة الثانية من المشروع إذا كررنا القول: إنَّها لا تحمل من الجديد إلا وفاءها لمنطلقات المشروع في البحث عن العقلانية الغائبة، التي ترتكز بدورها إلى اختيار معياري مسبق للعقلانية يستهدي أنموذجه صراحة بالعقلانية اليونانية الغابرة سابقاً وبالعقلانية الأوروبية حاضراً (22)، ليسقط كلّ ما سوى ذلك ويتهاوى تحت مسميات «العقل المستقيل» أو «اللاعقلانية» أو «الظلامية» أو «الهرمسية» وما شابه من مصطلحات الكاتب ومسمَّياته، والحل (أو الترياق السحري!) يأتي دائماً وأبداً من المغرب بالتحديد من ابن رشد، وعلى نحو أقل من ابن خلدون! ما دام الحديث يدور عن التراث، ومن أوروبا إذا دار الحديث عن الثقافة المعاصرة.
قد لا نغالي إذا قلنا: إنَّ «العقلانية»، بمقاسها الخاص عند الجابري، قد تحوّلت إلى أيديولوجية مغلقة متعصّبة لاغية لما سواها، متعالية تنأى عن الاعتراف بأيّ شيء سوى نفسها لأنها معيار نفسها، والأنكى أنَّ صاحبها نصبها «أصلًا موضوعياً» لا يشوبه الشكّ أو النقاش، بل لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه أساساً! يقول في أحد الحوارات معه، بلغة فجّة غير علمية مصحوبة بنبرة تكبّر وتعالٍ حادَّة، تنمّ عن احتقار الآخرين: «نعم، أدافع عن كتابي: نقد العقل العربي، وفي جميع كتبي عن «العقلانية». وهذا اختيار فكري لا يجوز وضعه موضع السؤال... يمكنك أن تنتقد العقلانية، وهذا من حقِّك، ولكن لا معنى للاعتراض على من اختار مذهباً أو اتجاهاً فلسفياً، فهذا اعتراض غير فلسفي كما نعلم» (23)!
________________________________________
(21)ينظر: د. محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986م.
(22)ينظر في نصب «العقل اليوناني» و «العقل الأوروبي» معياراً للعقلانية: تكوين العقل العربي، ص 17.
(23)ينظر: د. سالم حميش، معهم حيث هم: لقاءات فكرية، ط2، دار الفارابي، بيروت، 1988م، ص 184. الحقيقة لا أعرف كيف يصدر هذا الكلام عن أستاذ في الفلسفة، ولا أفهم كيف لا يجوز وضع الاختيارات الفكرية موضع سؤال، وإدخالها هكذا في دائرة الثوابت والمسلمات!

[الصفحة - 289]


فكر الطاعة
عَبَر الجابري من ثلاثيَّة البيان والعرفان والبرهان التي تؤلّف النَّسق التَّحتي للعقل العربي، إلى ثلاثيَّة العقيدة والقبيلة والغنيمة التي تؤلِّف مكوّنات العقل السياسي العربي، في عملية كانت تُنبى بانتهاء مشروع نقد العقل نفسه، وتنمّ عن اكتماله في إطار ثلاثة كتب أيضاً. هكذا بدت الصورة في عام 1990م، عندما صدر كتابه عن محددات العقل السياسي العربي وتجلِّياته (24)، بيد أنَّ هذا الانطباع ما لبث أن تبدّد بعد عقد من الزمان أو أكثر قليلًا، وتهاوى لصالح جزء رابع وأخير، تناول هذه المرّة نظم القيم، وعالج مسألة الأخلاق من زاوية ارتباطها بالأيديولوجية السياسية للسلطة، وطبيعة النسيج الاجتماعي والثقافي الذي تتوخّى إيجاده عبر المنظومة الأخلاقية (25).
ليس لدي ما يمنعني من إظهار إعجابي بدراسة الجابري للعقل الأخلاقي، فقد شدّني الكتاب أكثر من كتبه الأخرى برغم أنه يدرس الماضي، وذلك بحكم صلته الكبيرة بالواقع والمعاناة المريرة التي نقاسيها من فكر الطاعة وأخلاقها، وبخاصّة انعكاسات ذلك في المجال السياسي وعلى مستوى السلطة بالتحديد. صحيح أنَّ الجابري يذكر أنَّ هاجسه، في كلّ ما يكتب، هو الحاضر بهمومه ومشكلاته، ويقول: «كلّ كتاباتي عن الماضي هي من أجل الحاضر» (26)، لكن الصحيح أيضاً أنَّ هذا الكتاب هو أكثر ارتباطاً من غيره بهذا الواقع، وهو يمسّ مواضع الجرح فيه، أو هكذا بدا لي، ومن هذا المنطلق أتعامل معه، مقلِّلًا ما أستطيع ملاحظاتي على المنهج والمحتوى معاً.
تنطلق المحاولة من الحاضر، وهي تسأل عن الأسباب التي دفعت بالشعوب العربية (والإسلامية أيضاً) للانقياد للحكام في عمليَّة أشبه ما تكون بالتَّسليم الديني إن لم تكن هي التَّسليم الدِّيني نفسه، وكذلك الإذعان لأنظمة وسلطات ودول عريقة بالاستبداد؟ يرجع الجواب، من منظور العقل الأخلاقي، إلى الموروث القيمي الذي نشأت عليه هذه الشعوب وتوارثته جيلًا بعد جيل. فهذا الموروث الذي نما مبكِّراً وولد بولادة الدولة الأموية، ركّب للأمّة عقلًا أخلاقياً قوامه قيم الطاعة، وسوَّغها
________________________________________
(24)ينظر: د. محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990م. يفسح هذا الكتاب المجال، بالمفاهيم المنهجية التي وظفها، وبخاصَّة مفهوم «اللاشعور السياسي»، وبتطبيقاته التاريخية أيضاً؛ لنقد واسع وعريض يكشف عن هشاشةٍ وتزييف لا سيما عندما يرتبط الموضوع بمبحث الإمامة.
(25)ينظر: د. محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001م.
(26)ينظر: مجلة المستقبل العربي، يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 140، تشرين الأول 1990، ندوة خاصة عن كتاب «العقل السياسي العربي» أسهم فيها، بالإضافة إلى الجابري نفسه، السيد ياسين ومحمود أمين العالم ومحمود عبد الفضيل، ص 127.

[الصفحة - 290]


دينياً، في حين أنه موروث مستورد ودخيل من أنظمة أخلاقية تابعة لثقافات أخرى غير ثقافة العرب وثقافة الإسلام، بالتحديد الثقافة الفارسية قبل الإسلام التي يتمحور نظامها القيمي حول الطاعة؛ طاعة الحاكم والخضوع له بوصفه ظلّ الله في الأرض. هذا هو الخطّ العام للمحاولة برمّتها، وبكلّ تأسيساتها وتفصيلاتها واستنتاجاتها؛ هذه الاستنتاجات التي تتكرّر في ثنايا الكتاب بكثرة وبصيغ تعبيرية متقاربة وأحياناً متماثلة، لكن من دون أن تبعث على السأم والملل.
هذا النسق في التعليل هو الذي أملى على الباحث أن يخوض، عبر الزمان، عباب رحلة معاكسة يعود فيها القهقرى من الواقع الحاضر الذي نعيشه في القرن الواحد والعشرين، إلى اللحظة التي شهدت إخفاق الحكم في دولة المسلمين بعد انتهاء الخلافة الراشدة، وتحوّله إلى «الملك العضوض»، بحثاً عن المنابت الأولى لفكر الطاعة وأخلاقية التسليم (27).
تسعى الدِّراسة إلى بيان مجموعة من التحديدات التي تشيد عليها بنيانها، في طليعتها أنَّ المقصود من العقل الأخلاقي العربي ليس العقل الفردي بل العقل الجماعي، ومن ثمَّ يصحّ أن يكون هذا العقل تعبيراً عن نظام القيم الذي يوجّه سلوك الجماعة؛ سلوكها الفكري والروحي وسلوكها العملي(28). بهذا المعنى، لا يكون نظام القيم محض تعبير عن الخصال الحميدة والخلق الذي يتصف به هذا الإنسان أو ذاك، بل هو بالدرجة الأولى «معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي، ومحدِّدات لرؤية العالم واستشراف المطلق» (29)، ما يكشف عن عمق صلة هذا النظام، ومن ورائه العقل الذي يؤطره، بالسياسة والمجتمع كما بالثقافة والعقيدة، انطلاقاً من القاعدة التي تفيد بأنَّ نظام القيم لمجتمع ما يعكس بنيته.
من التَّحديدات التي أسّست لها الدراسة، أنَّ العرب والمسلمين لم يعرفوا، في حياتهم قبل الإسلام، ومن خلال الإسلام نفسه في صدره الأول، أخلاق الطَّاعة بوصفها فلسفةً تقوم عليها حياتهم وتدمج سلوكهم بطاعة السلطة والخضوع للسلطان. فبحسب المؤلف يستند النظام الأخلاقي للعرب في الجاهلية إلى «مبدأ المروءة» (30)، في حين أنه يستند في الإسلام إلى «مبدأ العمل الصالح»(31)وما
________________________________________
(27)ينظر في بيان المؤلف لهذا السير إلى الوراء: العقل الأخلاقي العربي، ص 630. والحقيقة أنَّ هذه هي الصفحة الأخيرة في الكتاب.
(28)المصدر نفسه، ص 24.
(29)المصدر نفسه، ص 56.
(30)المصدر نفسه، الباب الخاص بالموروث العربي الخالص، ص 491 ـ 532.
(31)المصدر نفسه، الباب الخاص بالموروث الإسلامي، ص 535 ـ 620.

[الصفحة - 291]


يمليه من مصالح. والسؤال، إذاً، هو: كيف نفذ موروث الطَّاعة إلى المجتمع العربي المسلم لأوَّل وهلة؟
أزمة السلطة
لا بدَّ من وجود واقع موضوعي مثّل البوابة لنفوذ مرجعية أخلاق الطاعة وإرثها القيمي. الفرضية الأولى التي يقدّمها البحث، في هذا الباب، هي «الغزو الثقافي» الذي يصاحب الغزو العسكري والسياسي أو يتبعه، والذي قد يتطوّر إلى ظاهرة «تقليد المغلوب للغالب» (32). بيد أنَّ هذه الفرضية ساقطة عن الاعتبار، لأنَّ المسلمين العرب مارسوا فتح فارس والروم وكانوا في موقع الانتصار، وهذا ما يؤكّده الكاتب أيضاً، لكن من دون أن ينسى التنبيه لحقيقة مهمّة مفادها أنَّ فتح الإمبراطوريتين لم ينه الحرب بينهما وبين الإسلام، وإنما نقلها إلى مستويات أخرى. فبعد أن خسرت فارس والروم الحرب العسكرية بالفتح، حوّلتا المعركة إلى ساحات أخرى، راحت تبرز في مجالات العلوم والثقافة والأدب وأطر تأسيس الدولة وممارسة السلطة، فكان من مظاهر ضغط الموروث الفارسي على مجتمع المسلمين بزوغ دور هذا الموروث في بناء هياكل الدولة الجديدة أو تدعيمها، بدءاً من عصر عمر بن الخطاب، ثمَّ وعلى نحو أكثر تركيزاً وعمقاً في عصر الدولة الأموية ومن بعدها العباسية. كما يمكن رصد منافسة الموروث الفارسي للثقافة الإسلامية في جوانب أخرى، في طليعتها «الأدب والأخلاق» على مستوى القيم.
فإذاً سقوط فرضية الغزو وانتفاؤها موضوعياً، لا يعني أبداً خلو المجتمع الإسلامي من مظاهر التنافس، وحتّى الصراع، التي نشأت بين الثقافة الإسلامية والثقافتين الفارسية والرومية، وبخاصة بعد أن وجدت الثقافتان المنافستان، ولا سيما الموروث الفارسي، قبل الإسلام، فرصة أنموذجية للتسلل والتعبير عن النفس وإثبات الذات، إبّان المرحلة الأموية، ثمَّ استمرّت تركز أقدامها في العصر العباسي (33).
برزت هذه الفرصة في ظلّ الحاجة الماسّة التي عاشتها الدّولة الأموية إلى إسكات المسلمين وإخضاعهم لسلطتها، في ظل أيديولوجية تكون فيها الطَّاعة هي القيمة المركزية.
________________________________________
(32)المصدر نفسه، ص 124.
(33)المصدر نفسه، ص 25.

[الصفحة - 292]


الإسلام وفكر الطَّاعة
فمن أين تستمدّ السلطة الأموية أيديولوجية فكر الطَّاعة؛ من الإسلام أم من غيره؟ لا يمكن أن يقدّم الإسلام غطاءَ الشرعية الذي احتاج إليه الأمويون لفرض سلطتهم، وبخاصة بعد واقعة كربلاء سنة 61هـ واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام). أجل، استطاع الأمويون بناء بعض أعمدة خيمة الشرعية التي يحتاجون إليها، عبر تأسيس بعض الاتجاهات التي تلتقي فكرياً تحت عنوان أيديولوجية الجبر والإرجاء أو رعايتها، وحماسة البيت الأموي لإشاعة هذا الفكر الاستسلامي المتلبّس بالدين (34)، وكذلك من خلال تنمية بعض اتجاهات الفقه السلطاني الذي يختزل الشريعة والتديّن بها؛ بأنها طاعة رجل! بيد أنَّ ذلك لم يكن كافياً، لا سيما على أثر المأزق الذي راح يواجهه الأمويون بعد الاستشهاد الحسيني، وتفجّر شارع الرفض ليس في العراق وحده، بل في الحجاز وفارس وحتّى الشام نفسها (35)، وما رافق ذلك من تبديد لأيديولوجيتهم الدينية الزائفة التي تقوم على الجبر والإرجاء.
أعمال المعارضة قبل الإمام الحسين (عليه السلام)، ثمَّ دم الحسين (عليه السلام)والثورات المتلاحقة بعده، ذلك كلّه زاد الفاصلة بين المجتمع المسلم وبين السلطة الأموية التي من المفروض أن تكون هي السلطة الدينية التي تعبّر عن عقيدة المسلم وإيمانه بالدين الجديد. تحوّل التضاد بين المجتمع والدولة إلى مشكلة عميقة راحت تهدّد وجود الدولة نفسه والضمير المسلم أيضاً، ما دفع بالأمويين للبحث عن حل يكرس «قيماً جديدة تخدم وحدة المجتمع والدولة وتؤكّد على ضرورة الطاعة»، وتريح الضمير المسلم من معاناته وشقاقه بتلبسها صيغة دينية. هنا جاء دور قيم الموروث الفارسي قبل الإسلام؛ هذه القيم التي كانت «ملائمة لطبيعة الأزمة وحاجة الدولة، لأنها تربط بين وحدة الدين والملك، وتجعل طاعة صاحب الدولة من طاعة الله» (36)، ومن ثمَّ تمثّل منقذاً للأزمتين معاً؛ أزمة الدولة وأزمة الضمير المسلم، لأنه بإطاعته للسلطان إنما يطيع الله!
قد يثار تساؤل يفيد بأنَّ الدِّين نفسه يدعو إلى الطاعة ويحثّ عليها، ومن ثمَّ يمكن للإسلام أن يؤلِّف المرجعية التي تحتاج إليها الدولة الأموية لتأسيس شرعيتها،
________________________________________
(34)ينظر: د. محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، ط2، دار الشروق، القاهرة، 1418هـ، الفصل الخاص بالمرجئة، ص 34.
(35)عن دور ثورة الحسين في تعرية الغطاء الديني للسلطة الأموية، ينظر: محمد مهدي شمس الدين، ثورة الحسين: ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية، ط5، دار التعارف، بيروت، 1979م.
(36)العقل الأخلاقي العربي، ص 126.

[الصفحة - 293]


وتوحيد المجتمع والدولة انطلاقاً من قيمة الطاعة، من دون حاجة لاستيراد هذه القيمة من الموروث الفارسي أو غيره. أظن أنَّ الجابري يسجّل لنفسه نقطة لامعة، عندما يركّز أنَّ الطاعة في القرآن مقرونة بطاعة الله سبحانه والنبي، وموضوعها خارج عن الأمويين وغيرهم، وما ثمة آية تضيف الطاعة إلى سوى الله والنبي، إلا تلك التي تضيفها إلى أولي الأمر في آية واحدة، هي قوله سبحانه:{يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا الله وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء/59]. على ضوء هذه الحقيقة، ينتهي الجابري إلى نتيجة حاسمة مفادها أنَّ القرآن «يطرح الطاعة طرحاً مخالفاً تماماً» لطرح الأمويين، ومن ثمَّ «لا نجد في القرآن ما يمكن أن يكون مصدر إلهام لهم» (37).
هذه النتيجة، كان لا بدَّ من أن تمدّ سياقها إلى الحديث النبوي أيضاً. وهذا ما كان، إذ وجد الجابري نفسه مدفوعاً لإنكار كثافة أحاديث الطاعة؛ طاعة السلطان مهما كان والخضوع له في كلّ حال، لينتهي إلى القول: «فإنَّ المرء لا يملك إلا أن يندهش أمام كثرة الأحاديث التي تروى في موضوع الطاعة، وهي تتدرّج من البخاري ومسلم إلى ابن حنبل» (38).
النظم القيمية الخمسة
لكي يتوازن العرض من الضروري التنبيه إلى ما ذهب إليه الجابري، من أنَّ توزعته خمسة نظم قيمية، نبعَ كلّ واحد منها من مرجعيَّة ثقافية خاصة. وفاقاً لهذه النظرة، فإنَّ العقل الأخلاقي هو حصيلة المكوّنات الآتية:
1 ـ الموروث العربي الخالص الذي ينتمي إلى ما قبل الإسلام، وقيمته الأساسية هي أخلاق المروءة.
2 ـ الموروث الإسلامي الخالص، وقيمته الأساسية أخلاق العمل الصالح.
3 ـ الموروث الفارسي قبل الإسلام، وقيمته الأساسية أخلاق الطاعة.
4 ـ الموروث اليوناني قبل الإسلام، وقيمته الأساسية أخلاق السعادة.
5 ـ الموروث الصُّوفي، وقيمته الأساسية أخلاق الفناء (39).
________________________________________
(37)المصدر نفسه، ص 143.
(38)المصدر نفسه، ص 231.
(39)المصدر نفسه، ص 26 و27.

[الصفحة - 294]


لم تكن العلاقة بين هذه الموروثات في العقل المسلم، علاقة أنساق فرعية خاضعة لنسق أعلى وأقوى هو الأخلاق الإسلامية، بل كانت علاقة تداخل ومنافسة واحتواء وتصارع، سعت فيها فارس والروم لكسب المعركة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، بعد أن خسرتها عسكرياً إبّان الفتح الإسلامي.
ومع أنَّ الحديث يدور عن خمسة موروثات، إلا أنَّ تأثيراتها لم تكن متوازية ولا متساوية، بل اجتاحت القيم الكسروية الساحة، وكانت لها الكلمة الأولى من أوائل القرن الثاني الهجري إلى القرن التاسع، ولا تزال تأثيرات تلك القيم مستمرّة حتّى الآن. بهذا المعنى، يرى الباحث أنَّ النظام القيمي الكسروي تحوّل إلى ثابت فوق بقية النظم، وبتعبيره: «إنَّ القيمة المركزية، في نظام القيم الكسروي، قد فرضت نفسها بوصفها ثابتاً بنيويَّاً يخترق مفعوله جميع نظم القيم الأخرى» (40). هذه الرؤية هي التي سوّغت للجابري، القول: «العقل الأخلاقي العربي هو عقل متعدّد في تكوينه، ولكنّه واحد في بنيته» (41).
تطبيقات وآراء
كان لا بدَّ من أن تفرض الرؤية تلك استحقاقاتها على الباحث، الذي انطلق يتابع النتاج الأخلاقي بمشاربه المختلفة وحقوله المتعددة، على مدى مئات الصفحات. كانت أولى محطّات هذه الرحلة ارتباط التنظير للأخلاق، أو صياغة علم الأخلاق، بالتراث المترجم عن اللغة الفارسية. وفي هذا السياق، برز «كاتب السلطان» مروِّجاً رئيسيَّاً للموروث الكسروي الذي لا يتعب من التكرار: «سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة المالك» (42). من الكتّاب السلطانيين البارزين الذين بشّروا بأخلاق الطاعة الكسروية، وروّجوا لها في العصر الأموي، سالم بن عبد الرحمن وعبد الحميد بن يحيى بن سعيد الملقّب بالكاتب (ت: 132هـ). بعد عبد الحميد الكاتب، كان دور ابن المقفع، وهو صديق لعبد الحميد، واكب نهاية الدولة الأموية وبداية شوط العباسية. انطلق ابن المقفَّع من مشروع واع ورؤية مسبقة في بثّ القيم الكسروية التي تبرز إحدى تجلياتها بتغييب الفرد وتعميم كسرى في كلّ شيء وإشاعة أخلاق الطاعة، وقد انتهى الجابري من
________________________________________
(40)المصدر نفسه، ص 227.
(41)المصدر نفسه، ص 22.
(42)المصدر نفسه، ص 165.

[الصفحة - 295]


دراسته هذا المشروع، إلى نتيجة تفيد أنَّ ابن المقفع كان «المشرّع للدولة الكسروية في بلاد الإسلام، وهي الدولة التي ما زالت قائمة فيها إلى اليوم» (43).
في امتداد مشروع ترسيخ القيم الكسروية، انبثق دور ابن قتيبة الدينوري النيسابوري (213 ـ 276هـ)، الذي لم يألُ جهداً في التبشير بهذه القيم (44). وقد وضع الجابري ابن عبد ربه الأندلسي (ت: 328هـ) في صف واحد مع ابن قتيبة (45)، ثمَّ ألْحَقَ به الأبشيهي (ت: 850هـ)، صاحب «المستطرف في كلّ فن مستظرف»، مع إضافة تتمثل بسعيه إلى إضفاء الأسلمة على القيم الكسروية (46). وفي آخر حلقة من حلقة التطبيقات، وقف الجابري مع القلقشندي (ت: 821هـ)، صاحب «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء» بوصفه آخر رمز من رموز إشاعة القيم الكسروية في عصور الازدهار، قبل أن تنكفى الثقافة الإسلامية ويبدأ عصر الانحطاط (47).
على المنوال نفسه، تواصل الدراسة خطاها في تحليل النظام القيمي اليوناني، ثمَّ الصوفي، ثمَّ العربي، وأخيراً الإسلامي.
ملاحظات نقدية
في أثناء إعداد هذا المقال، لم أرجع إلى المصادر التي اعتمد عليها الجابري، لأفحصها وأتأكّد من دقّة معطياتها، وبخاصَّة بعد أن كشف غير واحد من النقّاد عدم دقّتها في كتبه السابقة. والحقيقة أنَّ الباعث لعدم إنجاز هذه المراجعة، يعود إلى أنني لا أريد أن أكتشف فيها غير الدلالات التي خرج بها الجابري فعلًا، لأنَّ إعلاء شأن الحاكم ـ السلطان في تاريخ العرب والمسلمين وحاضرهم، وتضخيم الدولة، وإسباغ طابع القداسة الدينية في وجوب طاعة الرعية للسلطان، والشعوب للحكّام، عاد ولا يزال بفجائع كارثية مدمّرة على العرب والمسلمين.
مع ذلك، رأيت من المناسب أن أسجّل ملاحظات نقديَّة سريعة على بعض ما أثاره الجابري وطواه كتابه، عبر النقاط الآتية:
1 ـ أبداءُ بالاسم، فالأحرى به أن يكون «العقل الأخلاقي الإسلامي أو المسلم» بدلًا من «العقل الأخلاقي العربي»، لأنَّ المبحوث فيه فعلًا هو العقل المسلم،
________________________________________
(43)المصدر نفسه، ص 194.
(44)المصدر نفسه، ص 198 فما بعد.
(45)المصدر نفسه، ص 210 فما بعد.
(46)المصدر نفسه، ص 218 فما بعد.
(47)المصدر نفسه، ص 222 فما بعد.

[الصفحة - 296]


ومعطيات الدراسة تدور بأجمعها حيال إنتاجات أناس أسهموا فيها بوصفهم مسلمين لا عرباً.
2 ـ تتكرّر، في كتاب الجابري هذا، كما في كتبه الأخرى، مقولة إنَّه معني بالثقافة العالِمة المكتوبة التي ترتبط بدورها بعصر التدوين. وعصر التدوين، كما كرّر الجابري مراراً، يبدأ عنده رسمياً مع عام 143هـ بزيادة بضع سنين أو نقصها (48)، وبالنتيجة فإنَّ الموروث الفارسي لعلم الأخلاق ارتبط التنظير له بانطلاق عصر التدوين، وعندئذ سيكون السؤال: كيف يفسِّر المشروع شيوع قيم الطاعة والأخلاق الكسروية القائمة على تضخيم الحاكم ـ الملك، كما رأيناها رائجة بقوّة قبل هذا التاريخ، سواء على مستوى السلطة الأموية أم على مستوى بدايات السلطة العباسية؟ شخصياً لا أشكّ في نفوذ القيم الكسروية قبل هذا التاريخ بكثير، لكن أشكّك بالتحديد الزمني الذي اختاره الجابري لعصر التدوين، كما في منهجه الذي استبعد ضروب الثقافة الشفوية والشعبية وتركيزه على المكتوب وحده.
3 ـ عند حديثه عن الغلاة واستحضارهم للقيم الكسروية، سجّل خلطاً متعمّداً بين اتجاهات الغلو وقضية الإمامة الشيعية، ثمَّ قفز من ركام هذا الخلط وعبره إلى تعميم وَضَعَ فيه «الإمامية» رديفاً للكسروية، بل زعم أنها تكرِّس أخلاقها بمفعول أقوى وأعمق، مع أننا نعرف ـ وهو أيضاً ـ بأنَّ فرق الغلاة شيء والإمامية الاثني عشرية شيء آخر (49). على أنَّ الغلو نفسه هو ظاهرة تطفح بها جميع الاتجاهات ولا تقتصر على اتجاه دون آخر.
4 ـ تبدو النتيجة التي يخرج بها، على صعيد دراسة الموروث الأخلاقي الفارسي، أعم من مقدّماتها. أجل، تؤلف الطاعة وتعميم كسرى في كلّ شيء مكوِّناً محورياً في نظام القيم الكسروي، لكن تحميل الموروث الفارسي الخارجي وحده مسؤولية قيم الطاعة والاستبداد، وإهمال المكوّنات الداخلية وبقية العوامل أمر غير موضوعي.
5 ـ في دراسة الموروث الصوفي، فاجأنا الباحث بالحكم عليه قبل استعراض الحيثيات وممارسة تحليل المعطيات، ما يكشف عن حكم مسبق يحمله الكاتب حيال هذا النظام الأخلاقي (50).
________________________________________
(48)ينظر مثلًا: تكوين العقل العربي، ص 63؛ العقل الأخلاقي العربي، ص 57 و197.
(49)العقل الأخلاقي العربي، ص 230 و231.
(50)المصدر نفسه، ص 428.

[الصفحة - 297]


6 ـ ما يذكره من مؤلَّفات حيال النسق العربي لا يصلح دليلًا على استقلال «أخلاق المروءة» بنظام قيمي عربي خالص للعرب قبل الإسلام، بل هي خليط مع قيم الإسلام نفسه (51). وبعض ما استشهد به من نصوص للدَّلالة على الموروث العربي الخالص، مغمّس بالموروث الفارسي قبل الإسلام، ما يدلّ على كذب هذه النصوص وانتحالها (52).
لا ريب في أنَّ مكارم العرب في الجاهلية أمر ثابت لا يمكن إنكاره، بل حالهم في جاهليتهم أفضل من غيرهم، على ما تنطق به نصوص كريمة ممتلئة بالمضمون وقرينة بالبرهان (53)، كانت تغنيه لو انفتح عليها عن التعسّف والتحميل.
7 ـ لا أعرف سرّ هذا التبجيل المبالغ به لما ذكره العزّ بن عبد السلام (ت: 660هـ) في كتابه «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» من مفردات تدخل في حقوق الخالق والمخلوق والناس (54)، وقد سبقته بقرون رسالة الحقوق للإمام المكرّم علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعهد الإمام علي (عليه السلام)لمالك الأشتر(ره) وعشرات الأحاديث والمواثيق المماثلة عن النبي وأهل البيت عليهم جميعاً صلوات الله وتحياته؟!
ثمَّ لا أعرف ما هي المعجزة التي اكتشفها الجابري في ما ذهب إليه العزّ بن عبد السلام من أنَّ أساس الأخلاق في الإسلام، هو التخلّق بأخلاق الله (55)؟أولًا: لأنَّ التخلُّق بأخلاق الله له منشأ عريق في الإسلام قبل ابن عبد السلام وغيره، وفي الحديث الشريف: «تخلّقوا بأخلاق الله».وثانياً:هذا هو تماماً مسلك العرفاء الذين أهملهم الجابري أو اختزلهم بالمتصوّفة، أو خلط عمداً بينهم وبين المتصوّفة!
وفي الحالتين، فلهذا النسق قاعدة عريضة تسبق ابن عبد السلام، ولا تحتاج لكلّ هذا التضخيم إلا أن يكون ذلك لجهة أنَّ العزّ ذو أصل مغربي!
الفصل الغائب!
هذه الملاحظة النقدية كان يمكن أن تأخذ موقعها في امتداد النقاط السابقة، بيد أنَّنا تعمّدنا فصلها عنها وتمييزها بغرض إبرازها، نظراً لما تنطوي عليه من أهميّة.
________________________________________
(51)المصدر نفسه، ص 508.
(52)المصدر نفسه، ص 501.
(53)ينظر، كمثال واحد على ذلك، جواب الإمام الصادق (عليه السلام) على سؤال من سأله: «أخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دينهم، أم العرب؟ قال: العرب في الجاهلية كانت أقرب إلى الدين الحنيفي في المجوس». ثمّ يبيّن الإمام للسائل أسباب ذلك ودواعيه لينتهي بعد جواب طويل للقول: «وكانت العرب في كلّ الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس». وسائل الشيعة، ج2، أبواب الجنابة، الباب 1، ح14، ص 177 و178.
(54)العقل الأخلاقي العربي، ص 602.
(55)المصدر نفسه، ص 607 فما بعد.

[الصفحة - 298]


في ظلّ هذا الإصرار على حضور نُظم الماضي وموروثات الآخرين القيمية في الحاضر، وفي نطاق منهج الكتاب الذي يذهب إلى وجود نظم أخلاقية مندسّة ومنافسة ومزاحمة للنظام الأخلاقي المركزي ومتصارعة معه؛ في ظلّ هذا وذاك لماذا لم يخصّص الباحث فصلًا مستقلًّا لنظام القيم الغربيَّة، وبخاصة مع كثافة حضوره خلال القرنين الماضيين؟
يتحدّث الكاتب عن 1380 سنة ممتدّة من الزمان (منذ انتهاء الخلافة الراشدة وبداية مرحلة الملك العضوض) (56)عاشها العقل الأخلاقي العربي تحت وطأة موروثات الآخرين، وهو ونحن نعرف تأثير المنظومة الغربية ـ إلى جوار ما تحدّث عنه من منظومات أو نظم ـ على الإنسان العربي والمسلم، فلماذا أهمل ذلك، وبخاصَّة أنَّ العرب والفرس والهنود والأتراك، وجميع المسلمين، يتحدَّثون الآن عن تأثيرات النمط القيمي والأخلاقي للنسق الغربي وثقافته على المسلمين؟
الجابري، صاحب النسق والأدوات المنهجية، هل غفل عن دراسة التأثير الغربي من خلال نقطة ارتكاز رئيسية، كما فعل مع الفارسي واليوناني والصوفي وغيره، أو عجز، أو أنَّه لا يريد ذلك؟ المهم أنَّ هذه المسألة تمثّل نقصاً كبيراً وفصلًا ناقصاً في الكتاب، عسى أن ينتبه إليه المؤلف ويتداركه في الطبعات اللاحقة.
عقدة التفرُّد والتأسيس من فراغ!
يعيش الجابري هذه العقدة على نحوٍ مضخّم، إذ هو يكرّر في مطلع كتبه وخواتمها وفي ثناياها، أنه بدأ من الصِّفر، وأنه دشّن محاولة مبتكرة لم يسبقه إليها أحد، وقد نسي أو تناسى أنَّ العلم ينمو بالتراكم، مهما قيل عن القطيعة، وأنه لا يشرع من الصِّفر إلا الصِّفر كما سجّل أحد ناقديه بحق(57).
لا أريد أن أسهب في تحليل هذه الادّعاءات ونقضها، فقد فعل ذلك عدد كبير من الناقدين لأعمال الجابري، ممَّن سلفت الإشارة إلى أغلبهم. وأظنّ أنَّ، في ثنايا كتابه نفسه، ما يدحض هذه الادّعاءات، كما في النص الذي نقله عن الجاحظ وغيره (58)، ما يمكن أن يؤلِّف خمائر كان من المستحيل على الجابري أن ينجز ما أنجزه من دونها.
________________________________________
(56)المصدر نفسه، ص 630.
(57)أعني به عزيز العظمة، ينظر: التراث بين السلطان والتاريخ، ط2، دار الطليعة، بيروت، 1990م.
(58)العقل الأخلاقي العربي، ص 167.

[الصفحة - 299]


ومن الطريف أنَّ الجابري نفسه ينقل عن هاملتون جُب نصاً يتحدّث عن الموضوع مباشرة، وهو يسجّل: «إنَّ انتحال الدولة الإسلامية للتقاليد الملكية الفارسية، والمنحى السياسي الفارسي، استتبع صراعاً بين المثل العليا الأخلاقية والاجتماعية» (59)!
وإذا تركنا الجابري قليلًا، وذهبنا صوب باحث عربي لم يحظ بعدُ بالمكانة التي تليق بإنتاجه الفكري ـ ربما بسبب عدم انخراطه في لوبيات المفكّرين! ـ سنجد أنَّ هذا الكاتب تناول الموروث الكسروي في السياسة مع إشارات دالّة عليه في الأخلاق قبل أكثر من ربع قرن. وحيث يتعذّر استعراض كلّ ما ذكره، سنكتفي بمقتبسات ذات دلالة. يكتب: «بدأ التأليف السياسي عند المسلمين على شكل مترجمات قام بها الكتَّاب المنحدرون من أصل فارسي. وتناولت الترجمة أدبيات ساسانية حول الدهاء» (60).
ثم يتحدّث عن دور بعض العرب المعاصرين للحكم الساساني في إشاعة دهائيات ملوك الفرس عن طريق الحكايات والثقافة الشفوية، ما يسدّ الثغرة التي تركها الجابري شاغرةً، وهو يؤرّخ لبدايات نفوذ القيم الكسروية مع عصر التدوين، مسقطاً أي أثر يذكر للثقافة الشفوية والحكايات بعد أن أدرجها في نطاق الثقافة غير العالِمة.
إلى جوار هؤلاء الحكام، شاعت الثقافة السياسية الكسروية بموروثها الأخلاقي، وانتشرت في خطٍّ مواز عن «طريق المثقفين الفرس الذين عاشوا مع العرب منذ الفتح الإسلامي للعراق وإيران، وتكاثروا بشكل خاص في العهد العباسي» (61). لم يفصل هذا الكاتب بين الموروث السياسي الفارسي وبين منظومته القيمية، بل أشار صراحة إلى انتقال هذا الموروث بحمولته الأخلاقية وانسلاله في ثقافة المسلمين شفوياً وعن طريق الكتابة معاً: «بصرف النظر عن صحة إسناد هذه المرويات [ما يحكى شفوياً عن دهائيات الفرس] فهي تؤلِّف مع الترجمات المشار لها تراث السياسة والأخلاق للفرس الساسانيين» (62). ثمَّ يذكر أنَّ موقع الفرس، في السياسة وأخلاقها المتصلة بها، يضاهي مركز الإغريق في الفلسفة.
بعد هادي العلوي بعقدين، طالعنا مواطنه الباحث الشجاع علي كريم سعيد
________________________________________
(59)ينظر النص بأكمله وبدلالاته المباشرة على الموضوع: العقل الأخلاقي العربي، هامش ص 197.
(60)ينظر: هادي العلوي، في السياسة الإسلامية: الفكر والممارسة، دار الطليعة، بيروت، 1974، ص 155.
(61)المصدر نفسه، ص 156.
(62)المصدر نفسه، ص 156.

[الصفحة - 300]


بكتاب جريء، تناول أخلاقية الطاعة وفكرها في نطاق دراسة مهمّة جدَّاً لأصول الضعف في الواقع العربي ـ الإسلامي. وبالرغم من أنَّ هذا الكتاب وضع إصبعه على الجرح نفسه الذي مسّه الجابري، إلا أنَّ أحداً لم يحتفِ به، ولم يوله الأهمّية التي يستحق، ربّما أيضاً لعدم اندراج كاتبه في نطاق «لوبيات المفكّرين!» التي تؤسّس لها وتشيعها مراكز ومؤسّسات ورموز معروفة في العالم العربي!
دراسة علي كريم سعيد انطلقت من الهاجس نفسه الذي انطلق منه الجابري، متمثّلًا بهيمنة خطّ الطاعة وأخلاقية التسليم، غير أنها تقدّمت عليها بنقطة، تمثّلت بالنظر إلى هذا الخط بوصفه أخلاقية ذات استمرارية تصلُ الماضي بالحاضر، وتدمج الحاضر بالماضي، في نطاق ما أطلق عليه الباحث أصول الضعف التي باتت تؤلِّف ميلًا عربياً مشتركاً يفرض مكوّناته على الجميع.
أجل، الجابري تحدّث عن أنَّ أخلاقية الطاعة التي تمّ التأسيس لها منذ العصر الأموي، لا تزال تفعل في الحاضر، لكن كريم سعيد زاد عليه بتحليل أنماط حضور هذه الأخلاقية عبر منظومة معقّدة من آليات العمل الهائلة، يندرج فيها عدد كبير من المؤسسات الثقافية والرموز الفكرية، والطريف أنَّ كريم سعيد أدرج الجابري في نطاق المفكّرين المبشِّرين بفكر الطاعة وأخلاقها في الفصل الذي خصّه به.
تحدّث سعيد بالنص عن «الأسس الأولى لنظرية تبريرية ترجّح الطاعة المفروضة على المسلم، على أي اعتبار آخر» (63). كما قدّم، في طول الكتاب وعرضه، نماذج دالّة من فكر الطاعة الموروث، الذي تحوّل إلى ثقافة معاصرة «تخدم خطّ الطاعة السياسي المسيطر حالياً على المؤسسات الثقافية العربية الكبرى» (64).
كتاب سعيد سبق كتاب الجابري بنحو عقد من الزمن، وانطلق من الهاجس نفسه، ولو مع اختلاف في الموضوع ومنهج البحث، ومع أنَّ هذا الكتاب أحيط بالإهمال المتعمّد ربّما خدمة لأخلاق الطاعة وبتخطيط من مؤسساتها المعاصرة، لكن ذلك لا يغيّر من الدلالة التي تقول: إنَّ الجابري لم ينطلق من فراغ كما يزعم!
ما أردتُ أن أختم به، أنه لا يمكن لأي عمل فكري جاد أن ينطلق من دون هذه البدايات والخمائر وعشرات، بل مئات، أمثالها، كما لا يمكن لأيّ باحث أو
________________________________________
(63)ينظر: د. علي كريم سعيد، أصول الضعف: دراسة في الميل العربي المشترك، ص 32.
(64)المصدر نفسه، ص 63.

[الصفحة - 301]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف