البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة في كتاب : «المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر: إشكاليات التراث وتحديات الحداثة»

الباحث :  د. أميرة الحسيني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  29
السنة :  السنة الثامنة ربيع 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  3467
قراءة في کتاب : «المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر: إشكاليات التراث وتحديات الحداثة»
د. أميرة الحسيني (*)

مقدِّمــــــة
هذا الكتاب (1)غنيٌّ بدراساته، متنوِّع وجريء، ورغم أنه كذلك، فإن بعض «ضيوف» الكتاب كانوا تقليديين إن لم نَقُل إخباريين، ولم يضيفوا جديداً إلى السَّائد والمتداول في شأن قضايا المرأة، لذلك فإنني، في مقاربتي لموضوع المرأة، هنا، وطالما أن الكلام على مختلف القضايا في مقال قصير غير ممكن، سأحاول البحث في جانب واحد أرى أنَّه جدير بالبحث في هذه الآونة، وأجد في نفسي الميل للحديث عنه من دون غيره، ألا وهو الحق الأوَّل الذي أعطاه الإسلام للمرأة بشكل مباشر، وهو: حق العمل السياسي. وسأبحث في هذا الحق بين قيمومة الرجل «وقيمومة» اللَّاوعي المعرفي.
طبيعة الدُّول التي حكمت باسم الإسلام
تحدَّث ابن خلدون، عالم الاجتماع والفيلسوف، عن فكرة الدولة مُبكِّراً، وهو العالم الاجتماعي والسياسي الفذّ في تاريخنا (2)فجاءت معه ثلاثاً: الدولة الطليعية، ودولة العقل، ودولة الشَّرع.
فالدَّولة الطليعية، في مفهوم ابن خلدون، هي الدولة التي تقوم على القهر والغلبة، ما يعني أن فرداً، أو جماعة، لا فرق، من مجتمع ما، بيده السلطة، يقوم
________________________________________
(*)باحثة وروائية من لبنان
(1)كتاب المنهاج، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر، إشكاليات التراث وتحدِّيات الحداثة، مجموعة من الباحثين، بيروت: الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2002م.
(2)السيد محمد حسن الأمين. المعارج (مجلَّة متخصِّصة بالدراسات القرآنية)، المجلد السابع، السنة الثامنة، الأعداد 32 ـ 35. رجب ـ شعبان 1418، ص 114.

[الصفحة - 216]


لبسط سلطانه على الآخرين بوساطة القوة. هذه الدَّولة هي الدولة الطليعية، في مفهوم ابن خلدون، وقيامها يجعل معيار التفوُّق بين الناس قهراً وغلبة ليس إلِّا.
ثم دولة العقل؛ وهي، في وصف ابن خلدون، قريبة من مفهوم الدَّولة الديمقراطية في عصورنا، المؤمنة بتداول السلطة في ظلّ دستور وقوانين وآليات وممارسات، وهي تُعَدُّ بحقّ تطوراً عظيماً في زمنيَّات الإنسان.
فدولة الشَّرع، وهي لا تأتي، في رأي ابن خلدون؛ إلَّا بعد دولة العقل، لأنها، في حقيقة القيمة والموقع، تتجاوز الضرورات التي تُحَتِّمها دولة العقل، كالقوانين وضوابط الصلاحيات الحائلة دون العسف والتسلُّط؛ الأمر الذي يعني في نظر ابن خلدون، وبالقياس، أن دولة الشرع هي تعبير عن تطوّرٍ روحي إنساني عميق، يصيب المجتمع أو الشعب لدرجة يستغني معها عن السلطة بمعانيها المتداولة.
إننا نعلم أن دولة الشَّرع لم تَقُمْ لها قائمة منذ الانقلاب الأموي حتى اليوم؛ الأمر الذي يعني أن الإنسان العربي ظلَّ يتخبَّط، منذ ذلك الوقت، حتى اليوم، بين حكومات الدول التي قامت وانمحت، ثم قام غيرها وانمحى، في تداخل وتقاطع عجيبين بين استخدام الدِّين آلةً للحُكم، وبين استخدام الشعوب مَطِيَّة للحُكَّام، الذين بالطبع لم يكن يقلقهم في بناء الدولة مفهوم الشرع ودولته كما جاء في مفهوم ابن خلدون. وكما تراجع مفهوم الدولة، فقد تراجع أيضاً مفهوم حقوق المرأة عمَّا كان عليه في مجتمع المدينة في عهد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والخلفاء الراشدين. تقول د. دلال عبَّاس في هذا الصَّدد:
«(...) إن الدُّول التي حكمت باسم الإسلام، منذ بداية الانقلاب الأموي على الدِّين، وحتى سقوط آخر الخلفاء الراشدين (مع بقاء نماذج مشوَّهة عنها في كثير من البلدان الإسلامية)، انحرفت عن جوهر ما فرضه الإسلام من مساواة بين البشر على المستوى الإنساني، وانحرفت عن العدالة عندما فضَّلَت بعض الناس على بعضهم الآخر على أسس ليس من بينها التقوى والعمل الصالح، و «أَدْلَجَتْ» الدِّين كما «أَدْلَجَتْ المذهب» لخلع المشروعية على حكمها، أكثر مما لجأت إلى حماية الدِّين والسهر على تطبيقه، كما ينصّ على ذلك «قَسَمُ البيعة»، وإن كان الفقهاء العدول، من غير المرتبطين بالسلطة، قد اهتموا بشأن تطبيق الشريعة، فإنهم لم
________________________________________

[الصفحة - 217]


يجدوا دائماً الحكومة الإسلامية العادلة التي تكفل هذا التطبيق» (3). وترى د. عباس بحقٍ «أن المرأة المسلمة لم تنعم عملياً بهذه الحقوق مجتمعة (الحقوق التي أعطاها إياها الإسلام) إلَّا في عهد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والخلفاء الراشدين، فقد كانت تجربة المدينة تُمَثِّلُ أنموذج العمل التاريخي، الذي كان يجب أن يُحتذى في ما بعد، وكانت تجربة فريدة في كل ما يتعلَّق بحقوق الإنسان، ثم تغيَّرت النظرة كما تغيَّرت الممارسة كُليَّاً بعد الانقلاب الأموي، وفي أثناء الفتوحات، ومن الواجب أن نعرف أن الإسلام الذي دخل إلى البلدان المفتوحة، لم يَكُن هو الإسلام النّقيّ الذي طُبِّق في الحجاز، فقد داخلته عوامل كثيرة، ترتبط بكيفية الفتح، وبكيفية تعامل الفاتحين مع سكان البلاد المفتوحة، إضافة إلى المُعَوِّق اللّغوي بين هؤلاء لفهم الدين».
مقاربة موضوع حق المرأة السِّياسي
إن هذه المقاربة لموضوع حق المرأة في العمل السياسي، سَتُرَكِّز في أساسها على بعض ما جاء في «كتاب المنهاج» من آراء ومواقف وتفسيرات، بالإضافة إلى مراجع أخرى مختلفة، تستند إليها لتقدّم إسهاماً نأمل أن يكون مفيداً، على صعيد النَّقد الذاتي، وتفعيل النظر في الأسباب التي جعلت المرأة في وضعها الراهن، أسيرة تجاذبات التيارات المختلفة، والنظريات غير المحايدة في كثير من الأحيان، والسلوكيات التي جعلتها تتخبط في خِضَمِّ المشكلات المتعلقة مرة بسوء الفهم من قِبَل أولياء الشأن العام، ومرة بسوء فهم الرجال لمعنى قيمومتهم على المرأة، ومرة في سوء القصد، وذلك من قِبَلِ أصحاب الغايات من وراء إغراقها في كمّ المغالطات التي تطال حياتها وحقوقها التي جاء النَّصُّ المُقدَّس ليتلوها على الناس بغاية الارتقاء بالإنسان من مجتمع القهر والغَلَبة والدولة الطَّليعية إلى مستوى خليفة الله على الأرض، وإقامة دولة الشَّرع، التي يسمو الإنسان فيها بروحه ويتطوّر، إلى الدرجة التي يستغني فيها عن السُّلطة بمعانيها المُتداولة...
مفهوم قوامة الرَّجل
وإلى أن نرتقي إلى هذا التطوُّر العظيم، فإننا سنظل نقوم بتفسير المعاني التي تلتبس، وتُفهم على أنها تتيح لإنسان ما أن يتسلّط على إنسان آخر، بأسماء مختلفة
________________________________________
(3)د. دلال عباس، كتاب المنهاج، م.س.

[الصفحة - 218]


من أنواع السلطات، ومنها، قوامة الرجل على المرأة التي تحمل معنى أرقى بكثير ممَّا هو سائد بين الناس منذ عصور، فماذا يعني أن يكون الرَّجل قوّاماً إذاً؟ وفهمنا لهذا المعنى سيقودنا للكلام على قيمومة أخرى، هي «قيمومة» اللَّاوعي المعرفي التي نحاول هنا أن نفهمها... تقول الدكتورة دلال عباس، في دراستها عن حقوق المرأة في الإسلام، في شأن القيمومة: إن المجتمع القرآني هو مجتمع الجنسين، يقوم كل من المرأة والرجل بواجباته الخاصة، وهذا النظام يُؤمِّن سلامة المجتمع ورفاههُ، وهو في صالح أعضاء المجتمع جميعهم، وفي مجال تقسيم العمل، فإن المسؤولية الاقتصادية ملقاة على عاتق الرجل أكثر من المرأة. أما دور المرأة فقد قال تعالى عنه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتمّ الرضاعة، وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، لا تكلّف نفس إلّا وسعها، لا تضارّ والدة بولدها، ولا مولودٌ له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالًا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله، واعلموا أن الله بما تعملون بصير} [البقرة/233].
لقد حمَّل القرآن الكريم مسؤولية إدارة هذه المؤسسة التي هي الأسرة للرجل، وحمّله مسؤولية الإنفاق، شريطة أن يكون عاقلًا تقِيَّاً، لأن الله عزَّ وجلَّ فَضَّل بعض الناس على بعضهم بالتقوى والتعقُّل: {الرِّجال قوّامون على النِّساء بما فضّل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم فالصَّالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلًا، إن الله كان عليَّاً كبيراً} [النساء/34].
إن شرط قيمومة الرَّجُل، التَّقوى والتعقُّل والإنفاق، ولا تُبطل ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفردية بأن تريد ما أحبَّت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيءٍ من ذلك في غير المُنكر. إضافة إلى أن كلمة «قوّام» لا تعني التسلُّط الاستبدادي، بل تعني نهوض فردٍ لحماية فرد آخر ومساعدته. إن وضع مسؤولية الإنفاق بيد الزوج فيها صلاح للعائلة، ومصلحة الأولاد، وتقتضي أن تتفرغ الأم لأبنائها في مرحلة الطفولة المبكرة، والزوج ينفق على العائلة بدلًا من أن تهمل
________________________________________

[الصفحة - 219]


الأطفال الصغار أو الرضّع، لتخفِّف عن الزوج الأعباء المالية، فيقع عليها ظلم مضاعف، وتُستغلّ مرّتين في البيت وخارجه، وتتشتت العائلة.
لكنَّ سوء تطبيق مفهوم القوامة، وبشكل تعسفي، هو سوء استغلال للسلطة أو للموقع، كما هو واقع الحال في جميع مجالات الحياة، قديماً وحديثاً.. والأمر كلّه مرتبط بالتقوى التي هي وحدها ميزان التفاضل بين الناس (4).
هناك إساءة فهم لبعض الآيات، في نظر الباحثة الأستاذة آسية فيروزهجي، فهي ترى أن الرجل لا يكون قيّماً على المرأة بالمعنى الحقوقي للقيِّم، أي بأن تكون له ولاية على المرأة كالولاية على المجنون أو الصغير.. فإن الرجل لا يكون قيِّماً بهذا المعنى على المرأة، وذلك لأن الإسلام مَنَحَ المرأة الحرية والاختيار التام في الملكية، كما أنه منحها الاستقلال التام في مزاولة سائر الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية، نعم، تكون المرأة ملزمة ومقيّدة في بعض المواد برعاية ما للزَّوج طبقاً لما توافقا عليه في عقد النِّكاح الشرعي.
كما أن الرَّجل أيضاً ـ بلحاظ كونه إنساناً وزوجاً ـ يكون مكلَّفاً برعاية حقوق الزوجة، وهو حرٌّ في غير ذلك وغير مسؤول تجاه الزوجة، إذاً فالتزام كل من الزَّوج والزوجة ما هو إلَّا عبارة عن الوظائف المنوطة بكل منهما تجاه الأسرة.
فما معنى القوامة إذاً؟ إنها ليست بمعنى تأمين مصالح الأسرة ومنافعها والقيام بالوظائف الاقتصادية وإدارة شؤون العائلة، ولا بمعنى الملكية أو الولاية المطلقة من جميع الجهات والحيثيات، إنَّها مسؤولية ووظيفة إدارية، تلك المسؤولية ناشئة من الفوارق «الفسلجية» والنفسية الموجودة بين الرجل والمرأة.
القوامة إذاً عملية طبيعية، وليست حصيلة عقد جائر، أو امتياز ذي قيمة فريدة، حصل عليه الرجل، بل هي مسؤولية اءُنيطت به، بسبب قدرته على مواجهة حوادث الحياة وما فيها من موانع طبيعية واجتماعية، ولما يبذله من جُهدٍ في سبيل تأمين المعاش، وذلك كله يختلف عن قدرة المرأة على مواجهة هذه الأمور بالخصوص. ومن هنا قال، تعالى، في توضيح هذه القوامة، مشيراً إلى هذا النحو من التفاضل والتمايز بين المرأة والرجل الحاصل من هذه الجهة: {بما فضّل الله}
________________________________________
(4)م.ن.، ص 38.

[الصفحة - 220]


{بعضهم على بعض} [النساء/34]. فإن هذا التفاضل ليس تفاضلًا من حيث القيم، بل هو تفاضل طبيعي، وهو السبب في التمايز في حال توزيع المسؤوليات والوظائف بين المرأة والرجل، ولذا يقول، تعالى، في تتمة بيانه للتفضيل: {وبما أنفقوا من أموالهم} ، ومعنى ذلك أن القوامة ترتبط بقضية النفقة وبمسؤولية الرجل الاقتصادية تجاه أسرته، ولكي لا يساء فهمها، ولا تفسّر بأنها فضيلة مبدئية للرجل، وكي لا يكون في ذلك نوع من التحقير لشأن المرأة والحطّ من مكانتها أردف، تعالى، بعد ذلك بقوله: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب..} ؛ إذ صرّحت هذه الآية بأن للمرأة قيمتها ومكانتها الإنسانية اللائقة بها، ووصفتها بأعظم ما يمكن من أوصاف الكمال العرفاني والإلهي، ألا وهو القنوت والصلاح... (5).
مفهوم رفع الرِّجال درجةً
ويتأمَّل الدكتور زهير غزّاوي، في نظرية السيد محمد حسين طباطبائي، في تفسير الميزان، ـ قضية المرأة ـ، في مقالة بعنوان: «نظرة إلى التشريعات الإسلامية حول المرأة»، فيقول: ينطلق السيد محمد حسين طباطبائي في تكثيفه للتشريعات القرآنية، من مبدأ الفطرة التي عرّف الإسلام بها، بمعنى انسجامه وعدم تناقضه مع طبيعة تكوين الإنسان نفسه. فقد كان الإسلام نقلة نوعية جادة لوضع المرأة، يختلف جذرياً عما كانت عليه قبله في حالتها، في بنائه على الفطرية التي تأسس عليها، والتي تُقرّ بأن فطرة المرأة والرجل متشابهان جذرياً، معاكساً النظرة العامة للمجتمعات الإنسانية برُمّتها. وهو بهذا الرأي يطلق حكم قيمة منسجماً مع عرضه الذي عرض فيه وضع المرأة في العالم حتى ظهور الإسلام (...).
ينطلق السيد طباطبائي من مسألة الفطرة في تفسير الآيتين الكريمتين: الأولى {الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم...} [النساء/34]، والثانية {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة/228].
يتَّفق العلماء على أن الآية الأولى تتعلق بمسألة الأسرة تحديداً، لكن الآية الثانية أشد وضوحاً في مسألة رفع الرجل درجة فوق المرأة بناء على ذلك الاتفاق،
________________________________________
(5)آسية فيروزهجي، م.ن.، ص 123.

[الصفحة - 221]


وهو بالتأكيد يسهم في إعطاء الرجل قيمة أكبر من قيمة المرأة في الحياة الإنسانية ما دام التحديد ينصّ على الدرجات في سلّم القيمة، فما هو المقصود بذلك لدى المؤلف؟
الفطرة، هنا، من وجهة نظره، كما يقول: «إن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرِّعة عنها يجب انتهازها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي حدت لهذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان. وإن أمكن أن يعرف لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد، كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة... (6).
أما القاضي الدكتور فوزي أدهم فيرى أن «طاعة المرأة للرجل هي كرم وشرف لها، القوامة، قوامة الرجل، هي شرف للمرأة، لأن البيوت السعيدة، إذا أردنا أن ندقق بالضبط، وننظر نظرة بعيدة غير متحيِّزة، هي البيوت، التي تكون القوامة فيها للرجل وليس للمرأة..» (7).
أما الدكتور محمد طيّ، فإنه يشرح معنى القوامة، ويُفسّر معنى «الدرجة» التي للرجل على المرأة، حسب تفسير الطبري، ويورد الأقوال الصادرة في تفسير الآية، فيقول: «وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن «الدرجة» التي ذكرها الله تعالى في هذا الموضع، الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب عليه».
إذا كانت القوامة تفترض قيام الرجل بواجباته، فهي ترتِّب له حقوقاً، وهذه الحقوق، كما يرى بعض الفقهاء، هي: حق الاستمتاع وحق المساكنة والطاعة والتأديب والطلاق وتعدُّد الزوجات (8).
تعدُّد الزَّوجات
وتعدُّد الزوجات في الإسلام أمر مباح، في الوقت الذي يمنع فيه تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة. ويكتب السيد ابراهيم الحسيني في هذا الشأن، فيقول: «من خطوات الإسلام، (لحفظ الأسرة) مبادرته إلى تحريم تعدّد الأزواج بالنسبة للمرأة، حفظاً
________________________________________
(6)د. زهير غزاوي، م.ن.، ص 58.
(7)د. فوزي أدهم، م.ن.، ص 464.
(8)د. محمد طيّ، م.ن.، ص 286.

[الصفحة - 222]


لانتماء الأولاد إلى الأبوين، وللحؤول دون اختلاط الأنساب وضياعها، ومنعاً للتسيّب ولظهور الأطفال غير الشرعيين ممن لا أب لهم ولا أم. لكن الإسلام أباح للرجال تعدُّد الزوجات في إطار شروط خاصة تجعله تدبيراً ينم عن الواقعية وبعد النَّظَر، وأجاز ذلك بشرط رعاية الضوابط والمقرَّرات المحدَّدة في هذا المجال. كما عمد إلى السماح بالزواج المؤقت بوصفه ضرورة، ومع رعاية جميع الالتزامات والمسؤوليات التي تترتب عليه، وذلك خلافاً لنظرية «الزواج الحر» التي تسقط عن المرأة والرجل جميع الالتزامات المترتبة على اجتماعهما» (9).
ونشير هنا إلى أن الملاحظات والدراسات تفيد بأن الذكر هو أكثر ميلًا للتنويع في علاقاته الجنسية من الأنثى. وهذه ملاحظة متكررة في كل مجتمع وكل بلد في العالم، كما أنها ملاحظة متواترة عبر العصور والحضارات. ولعل جميع الذكور تقريباً يميلون إلى تحقيق هذا التنوع والتعدد في علاقاتهم الجنسية لو لم تكن هنالك موانع اجتماعية. وقد أفادت إحدى الدراسات الواسعة في هذا الموضوع بأن حوالى 84% من 165 مجتمعاً معاصراً تمت دراستها، يسمح فيها للرجل بأن يتخذ أكثر من شريكة جنسية في زمن واحد، بالزواج أو بصفة أخرى. وأفادت دراسة أخرى بأن الرجال أكثر بكثير من النساء ميلًا للتنويع في العلاقات الجنسية. وقد فسرت هذه الظاهرة على أسس بيولوجيَّة، فالتنويع عند الذكور يخدم غرض تأكيد استمرارية الوراثة، كما يخدم غرض تمكينه من توسيع مجال الاختيار الطبيعي الذي يخدم بدوره استمرارية الوراثة والتنويع والتطور. أما من ناحية الأنثى، فإن تحديد ميلها للتنويع يفسر على أساس بيولوجي اجتماعي، فهي بحكم طبيعتها البيولوجيَّة وموقعها الاجتماعي لا تستطيع أن تضمن استمرارية وراثتها إلا عن طريق ذاتها، ومثل هذه الإمكانية تتحدد بفترات الحمل المتباعدة والمحدودة، وهي لذلك يجب أن تحصر علاقاتها الجنسية بما لا يخرج عن إطار الزواج (10).
تقول الآية الكريمة: {وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألَّا تعولوا} [النساء/3]، ومن هنا فقد حصر القرآن التعدد بأربعة فما دون، وشرطه العدل وإمكانية النفقة {ألا تعولوا} [النساء/3]. وقد سوّغ بعض الفقهاء
________________________________________
(9)د. علي كمال، الجنس والنفس في الحياة الإنسانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1984، ط1، ص 5.
(10)د. محمد طيّ، كتاب المنهاج، م.س.، ص 180.

[الصفحة - 223]


التعدد بزيادة النساء على الرجال من جهة، وبطول فترة الإخصاب عند الرجل التي تستمر إلى السبعين، فيما تتوقف عند المرأة حوالى الخمسين. أما مسألة الإنفاق فهي بالفعل معوِّق، لأن الرجل ملزم به في جميع الظروف، فإذا عجز فإن المرأة يمكن أن تطلب الطلاق منه، ومن هنا فإنه يمكن أن يسن شرط ملزم بأن يتقيد الرجل بكشف عن أملاكه إذا كان يريد الزواج من امرأة ثانية أو أكثر، والأمر متروك للفقهاء ليحكموا بإمكانيته أو عدمها، وأما العدل فقد صرح القرآن الكريم باستحالته، ولكنه أمر بما هو ممكن، فقال: «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة» [النساء/129]. ومن هنا يستنتج علماء الإسلام أن المطلوب العدل في النفقة وفي المساكنة وليس العدل في الميل والعاطفة. ولكن حتى تتخلص المرأة من هذه المظلمة فهي تستطيع أن تتدارك ذلك في العقد، أمَّا بالشرط عند المذاهب التي تقبل به، أو بتفويض الرجل إليها حقه بالطلاق بشكل دائم، فتعمد إلى الطلاق عندما يتزوج من غيرها» (11).
إن الدراسات تردّ على التّسويغ المتعلِّق بطول مرحلة الإخصاب عند الرجال وقصرها عند النساء، فإذا كان الاستمتاع هو الحق الأساس للرجل على امرأته، فإن هذا الحق سيظل قائماً طالما أن المرأة قادرة على أداء واجباتها الزوجية وقادرة على الإمتاع...، فمن المسائل التي تسترعي الانتباه والاهتمام، في هذا الموضوع، مسألة الفرق في أثر الكِبر على الحياة الجنسية لكل من الذكر والأنثى، فمعظم الدراسات تبين أن التحولات البيولوجيَّة التي تؤثر عادة في الذكور، لا تأثير لها على الحياة الجنسية للأنثى. وعلى العموم، فإن المرأة تستطيع، أكثر من الرجل، أن تستجيب بكفاءة للدوافع الجنسية بمعدل مرة أو مرتين في الأسبوع حتى الستينات والسبعينات من العمر. وهي لا تعاني من عطل العنة الذي يعانيه الرجل والذي يزداد شدة ووقوعاً بتجاوز الرجل سن الخمسين. ويبدو أن قلة هرمون المبيضين في الأنثى أو توقفه بعد سن اليأس لا تأثير له على إمكانياتها أو نشاطها الجنسي. وهذا يفيد أنَّ السيطرة على هذه الإمكانيات وهذا النشاط تأتي بفعل هرمونات غير مبيضية أو بفعل عوامل نفسية أو بفعل الاثنين معاً (12).
لا بدّ من أن نشير، هنا، إلى موضوع تعدد الزوجات وتطبيقه المخالف للنص
________________________________________
(11)د. علي كمال، م.س.، ص 95.
(12)د. دلال عباس، كتاب المنهاج، م.س.، ص 311 و312.

[الصفحة - 224]


جملة وتفصيلًا، على الرغم من وضوح النص لمن يعرف العربية ويعرف دور إلغاء الرابطة لجواب الشرط في قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء/3].
وقد جاءت هذه الآية معطوفة على التي قبلها في قوله «وإن»، والتي قبلها وردت في حقِّ اليتامى في قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدَّلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً} [النساء/2].
أتساءل: كيف فُهم، من هذه الآية، السماح بالتعدُّد، من دون قيد أو شرط، وأمثلة التعدُّد المعروفة في مجتمعاتنا لا توحي بالثقة، ومن يستطيع أن يُقدّم مثلًا على التعدد (لدى غير المعصومين) الذي استطاع من قام به أن يعدل في الحدود الدنيا بين نسائه وبين أولاده من أمَّهات مختلفات، فليدل بدلوه ويذكره لنا، علماً أن هنالك شواهد لا تحصى عن رجال أو فقهاء عدول من الناحية الفقهية، ولكن التمييز كان بينّا بين أولادهم بحسب مكانة الأم لدى الزوج، فكيف بغير العدول؟
الإسلام دين العدل، كما أمر الله عزّ وجلّ في آيات لا تعدّ ولا تحصى. {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً، وإن يتفرّقا يغن الله كلًّا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً} [النساء/129 و130].
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب/32].
إن العدل يعدّ من المبادى الأساسية في الإسلام، والحكم بالإباحة (إباحة التعدد) يعارض المبدأ، فيقدم المبدأ، وينتفي الحكم بالإباحة (13).
بين النَّص والممارسة
إن حقوق المرأة، في الإسلام، بين النص والممارسة، موضع جدل كبير. فها هي الدكتورة دلال عباس تعقد مقارنة بين رجل وامرأة، لعب كل منهما دوراً مفصلياً في حياة العرب والمسلمين وأعداء العرب والمسلمين! فتقول: كلما سمعت كلاماً
________________________________________
(13)م.ن.، ص 294.

[الصفحة - 225]


على حقوق المرأة ومكانتها ودورها في نهوض الأمم، أو في تراجعها، داهمت مخيلتي مشاهد وصور لا تكاد تفارقها: مشهد «أنور السادات» منذ ما يقارب ربع قرن يقف ذليلًا على أرض أحد المطارات في فلسطين المحتلة، يصافح من بين مستقبليه الإسرائيليين السيدة «غولدا مائير»، وهي تقف وقفة عزّ وانتصار: هو رجل وهي امرأة، فماذا قدَّم كل واحد منهما لأمته ولقومه ولأهله؟ ويحضرني، في هذا السياق، قوله جلّ وعلا: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، فأتساءل: إن كان الحكام الرجال أكثر حكمة وتعقلًا وديمقراطية من بلقيس ملكة سبأ كما وصفها النص القرآني، أو من «أنديرا غاندي»، أو من «مارغريت تاتشر»، أو من سفيرات النظام العالمي الجديد، أو من العالمات في مراكز الأبحاث العالمية، الطبية وغير الطبية؟
يحضرني مشهد الإيرانيات، في بداية الثورة، وهنَّ يتصدَّين لرصاص جنود الشاه بصدورهنّ، وهنّ يتقدَّمن المظاهرات، ومشهد نساء فلسطين أمس واليوم، أقارن بين نائبة في شورى الجمهورية الإسلامية الإيرانية تطالب بتحسين ظروف الحياة في مدينتها أو قريتها، وتطالب بتطور قوانين الأحوال الشخصية في وطنها، وبين طبيبات ومدرسات جامعيات في أفغانستان، فرض عليهن نظام «طالبان الإسلامي» أن يقرن في بيوتهنّ، لأن المرأة عورة كلها، ومحا وجوههنّ وراء النقاب، لأن الوجوه تعبر عن شخصيات أصحابها وهوياتهم، والنساء لا شخصيات لهنّ، فليدفنّ في منازلهنّ، أو وراء البرقع إلى يوم الدين.
ويحضرني هنا كلام للقاضي الدكتور فوزي أدهم في رد على سؤال عمَّا إذا كان هناك تعارض بين القوامة ودور المرأة السياسي أو الاجتماعي، وقد قال القاضي أدهم: «أعطيكم مثالًا، لنكن واقعيين: أنا قاض، ومنذ أربع سنوات، قاضٍ رجل، ومعه مستشارتان امرأتان، الأولى حامل، والثانية تتوحم، بعد شهر، أوقفوا المحكمة نتيجة هاتين الحالتين، لنكن واقعيين. قد يُفسَّر رأيي أنه ضد المرأة، ضد قيادة المرأة السياسية. المرأة لها دور، تُربي عائلتها، وأولادها، لها دور اجتماعي كبير. تفكر المرأة باحتلال المراكز القيادية، من منطلق الثأر لنفسها على الطَّريقة الأوروبية الغربية، هو الذي أوصلنا للهلاك». المرأة عين على الغرب وعين على الإسلام. إما إسلام، وإما غرب، الإسلام واضح... (15).
________________________________________
(15)الشيخ خالد العطيَّة، م.ن.، ص 465.

[الصفحة - 226]


هنا أودّ أن أسجّل ملاحظة على كلام الدكتور أدهم، وهو أنه يُعمّم في شأن وضع المرأة التي عينها على الغرب، وعينها الأخرى على الإسلام، وأن الإسلام واضح! والواضح لنا أن وضع المرأة في الغرب مع بعض الاتجاهات لا يختلف عن وضع المرأة في بلادنا مع اتجاهات مماثلة لاتجاه الدكتور أدهم الذي يريد أن يجيب على «الطبري» مع اختلاف الزمن قائلًا: «ماذا تعمل لو كنت متزوجاً من قاضية وأنا مسلم؟ أمنعها من الذهاب، لا أعطيها الإذن؟ ماذا يحصل للقضاء إذا أردنا مجتمعنا إسلامياً فليكن، وإن أردنا مجتمعنا خليطاً: إسلامياً غربياً فليكن، فلنختر».
ويؤازر الشيخ خالد العطيّة الموقف الذي يرى أن العمل السياسي بالنسبة للمرأة يمكن تصوُّره على مستويات، أولًا: إن العمل ليس منحصراً كله بالولاية العامة وتولي الحكم ورئاسة الدولة ولا في رئاسة الوزراء وما شاكل ذلك. وإنما يمكن تصوره على مستويات وعلى درجات مختلفة، مثلًا، الاشتراك في الأجهزة التنفيذية والإدارية، الاشتراك في المجالس التنفيذية والنيابية، الاشتراك في أجهزة المراقبة والمحاسبة على الدولة. إبداء المشورة والرأي والنصيحة للحاكم على مختلف المستويات، هذه جميعها أعمال ونشاطات سياسية، والمرأة المسلمة لم تتوقف يوماً، خصوصاً في العهود الأولى للإسلام، عن الاشتراك في هذه المجالات، وموقف الزهراء (عليها السلام)وموقف زينب، وموقف الكثيرات من النساء، كموقف المرأة التي وقفت في وجه عمر عندما أراد أن يحدد المهور وما شاكل ذلك (15).
عمل المرأة خارج البيت
الملاحظ، هنا، أن الشيخ خالد العطية يسمح للمرأة بالعمل على مستويات معينة، في معظمها تنفيذية، مُبعداً إياها عن الأجهزة التشريعية! وهنا يحضرني ما جاء على لسان بحّاثة غربيين، عندما كتبوا يتساءلون عن أسباب بقاء النظام الأبوي قائماً؟ والذين أوضحوا «أننا نعيش في مجتمع يتميز بوجود فروق بين الرجال والنساء في الوضع الاجتماعي والثروة والسلطان. وكما أن المجتمع الغربي المعاصر هو مجتمع رأسمالي في شكله، فإنه أيضاً مجتمع أبوي. وتقسيم العمل بين الرجال والنساء يتم بحيث يميل الرجال إلى ما يختص بالعمل المنتج حتى يسيطروا على الأعمال الأكثر
________________________________________
(15)الشيخ خالد العطيَّة، م.ن.، ص 465.

[الصفحة - 227]


قوة، والأحسن أجراً، والأكثر أهمية، بينما تسود النساء في الأعمال الأقل قوة، والأدنى أجراً، والأكثر خضوعاً. على أن نوعاً بأسره من صنوف العمل ـ وهو أعمال التكاثر، أو الرعاية ـ خصص على نحو أوسع للنساء، إن لم يكن كله لهنّ. وأعمال التكاثر لا تقتصر على مجرد العمل البيولوجي في حمل الطفل، وإنما تشمل أيضاً مهمة تغذية الذَّكر، وتجهيز ملابسه، وراحته المنزلية، وتمريضه عند اعتلاله، وما إلى ذلك. وهناك فضلًا عن ذلك الدور الأيديولوجي ـ التربوي الخطير، من إعداد الجيل القادم «لعمله» الإنتاجي ـ التكاثري، بتعليمه وتدريبه وتمرير القِيَم إليه. وهكذا فسواء أكان النساء في المنزل أم في القطاع المأجور من الاقتصاد، فإنهنّ يوظفن بأعداد أكبر مُعدَّات للطعام، وراعيات ومدرِّسات للأطفال، وممرضات للمرضى. وهذا التقسيم للعمل ليس مجرد ملمح من ملامح المجتمعات الغربية الرأسمالية، ولكنه أيضاً بدرجات متباينة، ملمح من ملامح المجتمعات التي مرت بصراعات ثورية، من الاتحاد السوفياتي إلى الصين إلى فيتنام وكوبا.
لماذا يظل هذا النظام الأبوي قائماً؟ إن أحد الأسباب المحتملة هو أنه شكل عارض تاريخياً من التنظيم الاجتماعي، يحافظ عليه أولئك الذين يستفيدون منه، وهو قد يكون نتيجة البيولوجيا البشرية، مثلما يكون أي تنظيم اجتماعي آخر نتيجة هذه البيولوجيا، ولكنه واحد فحسب من عدد من التنظيمات الاجتماعية الممكنة والمتاحة لنا. وسيجادل بعضهم في أنَّ هذا التنظيم هو على النقيض من ذلك نتاج حتمي لبيولوجيتنا، قد ثبتته الفروق البيولوجية بين الرجال والنساء وحتّمته حياتنا.
وقد ظلّت الحتمية البيولوجية، إزاء تصاعد الحركة النسائية، ومطالبها الاجتماعية والسياسية وانتشار كتاباتها النظرية في العقد الأخير، ثابتة على زعمها بأن شغل أماكن الزعامة في الحياة الجماهيرية والسياسية والثقافية يتفق مع الكيان الذكري مثلما يتفق معه وجود أعضاء الذكورة وشعر الوجه. ويعترض بحمية ويجابه اقتحام المرأة للمجالات المخصصة تقليدياً للذكور اعتراضاً شديداً. وعندما يخفق التصويت البسيط في الاحتفاظ بحرمة المجالات المهنية المخصصة للذكور، يتم اللجوء إلى البيولوجيا، فالنساء مثلًا ينبغي ألا يكنّ مديرات للمصارف وألّا يعملن بالسياسة، يقول أحد الأطباء الأميركيين:
________________________________________

[الصفحة - 228]


«لو كان لديك استثمار في أحد المصارف، فإنك لن تحب وجود رئيسة للمصرف تقوم بعمل قرض، وهي واقعة تحت تلك التأثيرات الهرمونية العارمة في تلك المرحلة بعينها. ترى ماذا يحدث لو كان لدينا في البيت الأبيض رئيسة أنثى في سن اليأس، وعليها أن تصدر القرار في عملية خليج الخنازير» (16)(عملية فاشلة قامت بها المخابرات الأميركية لغزو كوبا في عهد كيندي).
ويزيد انتشار المشكلات هذه الأيام لأنَّ المزيد من النساء يشغلن مستويات وظيفية عليا، ولأن حالات الحمل تتزايد بين من تخطَّين سن الثلاثين، حسبما تخبرنا به صحيفة «وول ستريت» التي تسهب في الشرح قائلة: إنَّ كبار الإداريين من الذكور، العاملين في الشركات، يتعين عليهم العمل أكثر من دون إعطائهم مهلة كافية عند تبليغهم بسبب تزايد حالات الحمل تزايداً غير مسؤول من جانب زميلاتهم من الإناث. والمغزى هو: ينبغي أن يقتصر وجود النساء على الوظائف التي يمكن استبدالها بسهولة، مثل العمل في خط تجميع، أو في مكتب للآلة الكاتبة، ومن الطبيعي أن مثل هذا الوصف للمشكلات التي تسببها كبار الإداريات من الإناث الحوامل يتجاهل ذكر المتاعب الناتجة من المعدل العالي لإصابة كبار الإداريين من الذكور، على نحو «غير مخطط» بمرض الشريان التاجي، الذي لا يقل تعطيلًا للعمل عن حمل النساء، إلَّا أن هذا أمر طبيعي!
والاستنتاج واضح بالطبع: إن عمل النساء خارج البيت خطأ، فهو يسيء للاقتصاد الوطني، لأن على هذا الاقتصاد، في تلك الحالة، أن يتحمَّل تكاليف خدمات اجتماعية تقوم بها، لولا ذلك، المرأة بلا أجر، وعمل النساء خارج البيت ضد الطبيعة، فالطبيعة تقضي بأن يقوم الرجل بكسب العيش، والمرأة بتربية الأطفال، حسب رأي اليمين الجديد، وذلك رغم أن سُدس الاءُسر على الأقل في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا تعتمد اعتماداً كلياً على دخل المرأة في كسب العيش (17).
وحجج الحتميين البيولوجيين أصبحت لها بنية مألوفة مُتّبعة، فهي تبدأ دائماً بذكر «أدلَّة» و «حقائق» عن الفروق بين النساء والرجال، وهذه «الحقائق» تؤخذ على أنها مما لا يقبل الشك! ربما لأنها تدّعي الاعتماد على نزعات سيكولوجية أولية ترجع بدورها إلى فروق بيولوجية أساسية بين الرجال والنساء على مستوى بنية المخ
________________________________________
(16)ستيف روز وآخرون. علم الأحياء والايديولوجيا والطبيعة البشرية، ترجمة: د. مصطفى ابراهيم فهمي، مراجعة الدكتور محمد عصفور. عالم المعرفة، العدد 148، ص 183.
(17)م.ن.، ص 186.

[الصفحة - 229]


أو مستوى الهرمونات. ثم تبيِّن الحتمية، بعد ذلك، الفروق بين الرِّجال والنساء في السلوك، والتي توازيها فروق في المجتمعات غير البشرية ـ عند الثدييات العليا، أو الجرذان، أو الطيور، أو حتى خنافس الروث ـ وبهذا يُعطى لهذه الفروق ما يبدو أنه صفة كلية لا يمكن نقضها بمجرد التمني بأن تكون الأمور مختلفة أو أكثر عدلًا. فالقوانين البيولوجية لا تحتمل الاستئناف. وأخيراً فإن الحجج الحتمية تعمل على دمح جميع الفروق الشائعة ملاحظتها معاً على أساس ما هو معتاد الآن من حجج علم الاجتماع البيولوجي التي تقول: إنَّ التقسيمات نشأت على نحو تكيّفي عن طريق الانتخاب الطبيعي، نتيجة الدور البيولوجي المختلف عند كل من الجنسين بالنسبة للتوالد، وقد تطورت إلى الفائدة القصوى لكل من الجنسين، فعدم المساواة بين الجنسين ليس حتمياً، وإنما له صفته الوظيفية أيضاً (18).
وإذا تأمَّلنا ما سبق جيداً، فإنَّنا لن نوافق الدكتور أدهم الذي يقول: إنَّ «الطرح هو طرح غربي، وهدفه ضرب الإسلام»، عندما ردّ على سؤال عن مشاركة المرأة في العمل السياسي، فرأى أنه: «من حيث الواقع، الشريعة الإسلامية غير مطبقة إجمالًا في العالم الإسلامي، وهناك مزيج. أما الدول التي تقول إنها إسلامية: إيران، السودان، باكستان، والسعودية، فالكلام على مدى تطبيق الإسلام فيها، يحتاج إلى بحث طويل، ونحن بصدد إرضاء الله عزّ وجلّ وتوضيح الأفكار. هل المرأة في العالم الإسلامي مظلومة؟ نعم، ولكن أنا أجيب عن سؤالك بسؤال: هل نال الرجل حقوقه؟ إذن القضية جدلية، الرجل المتحضِّر ينتج امرأة متحضرة، والتعيس ينتج امرأة تعيسة، هل تجلس المرأة في صومعة بعيدة عن الرجل؟ المشكلة هي: هل حصل الرجل، في العالم الإسلامي، على حقوقه حتى نقول: إن المرأة لم تحصل على حقوقها؟ الواقع، لا، لنتكلم عن الأسرة، حقوق الطفل أين؟ الخ.. الطرح في البداية طرح غربي وهدفه ضرب الإسلام (...)، المرأة تنافس الرجل في لبنان في العمل، والنتيجة ضد صالح المرأة، لأن الرجل عندما لا يعمل لن يتزوج، وعند ذلك تجلس المرأة في البيت، والذنب ليس ذنب المرأة إذا بقيت عانساً من دون زواج. فلنرجع إلى الإسلام، إلى تشريعاته، {وقرن في بيوتكن} ، المرأة لها مكانة في بيتها» (19).
إذاً مشكلة البطالة، بالنسبة لقطاع عريض من الشباب اللبنانيين، تتمثل في خروج
________________________________________
(18)م.ن.
(19)د. فوزي أدهم، كتاب المنهاج، م.س.، ص 470.

[الصفحة - 230]


النساء إلى العمل، وليس سببها سوء التخطيط على مستوى فرص العمل وإيجادها، وليس سببها الركود الاقتصادي وغرق البلاد في المديونية، وليس سببها قصر النظرة لدى المسؤولين في شؤون التنمية المتوازنة، وليس سببها غياب خطة عامة لاحتواء الكفاءات العلمية والمهنية، وليس سببها الغياب التام للمشاريع الصناعية والزراعية التي يمكن لها أن توظف المحتاجين إلى العمل من رجال ونساء، حاجة ماسة تجعل الكثيرين منهم يركبون البحر أحياناً بطرق خفيّة ليبلغوا بلاداً أخرى يحصِّلون فيها رزقهم ورزق ذويهم الذين تمنعهم عفة النفس عن التصريح بحاجتهم إلى لقمة العيش إن لم نقل إلى بيت يأويهم. وهنا تخطر لي وتضيء صفحاتي أقوال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو يقول: «ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك». وقوله: «الفقر هو الموت الأكبر». وأعتقد، وهذا واضح أمام المتأملين في الواقع اللبناني، بأن كثيراً جداً من الأسر اللبنانية، تعيلها بناتها بسبب عدم توافر معيل لها، وهذا ما يضطر العديد من الفتيات للدراسة والعمل معاً لتستطعن الإنفاق على آبائهن وأمهاتهن الذين لا ضامن لهم ولشيخوختهم، لا على المستوى الفردي ولا على مستوى مؤسسات الدولة التي لم تُشَرِّع لفاقدي المُعيلين من غير الذكور، تشريعاً يضمن للعجزة كرامتهم عند ذبول الجسد وفقده لقدرته على إنتاج الخيرات المادية والاستفادة منها وستر النفس عن مدّ اليد للسؤال.. ولو أجال مهتمّ نظره في أنحاء البلاد لعرف كم من الاءُسر المستورة، تقوم بإعالتها امرأة فعلًا أصبحت في عداد «العانسات» وكَفت أهلها شرّ السؤال وكفكفت دمعة أب مسلم حجب وجهه بكفيه لكي لا يرى ابنته وهي تذبل أمامه يوماً بعد يوم وهي تحثّ الخطى في طلب الرزق.. فهل يمكننا أن نطلب من مثل هذه الإنسانة ما طلبه القاضي الدكتور أدهم من النساء، وهو أن «يقرن في بيوتهن» منتظرات زوجاً في علم الغيب يغدق عليهن وعلى أسَرِهنَّ ما ستجنيه يداه من وظيفة تخلَّت هي له عنها لتجلس في البيت؟؟
العودة إلى الإسلام
بالطبع علينا أن نرجع إلى الإسلام، كما يدعونا الدكتور القاضي أدهم، ولكن علينا أن نرجع إليه من بابه الواسع، الباب الذي يصون فيه للإنسان، رجلًا كان أم
________________________________________

[الصفحة - 231]


امرأة، كرامته بوصفه إنساناً، بدءاً من النص المقدس، وأن تُذكر المرأة ليس بوصفها عورةً، بل بوصفها شريكاً إنسانياً كامل الأهلية للشراكة الفعلية في خوض معركة الوجود على الأرض التي خلّف الله عليها الإنسان ليعبده.
موضوع المرأة كما ترى الدكتورة دلال عباس، لم يطرح على الإطلاق في الكتابات الفقهية بوصفه موضوعاً مستقلًا بعنوان «المرأة» أو «حقوق المرأة» أو «منزلة المرأة في المجتمع».
أما إذا ذكرت المرأة أحياناً، فإنها لا تذكر بكثير من اللياقة والاحترام، فقد كان المتكلمون والكتاب متأثرين بأعراف زمانهم وعلومها، وطبيعة العلاقات التي تتحكم فيهم. فللمرحوم الملّا هادي السبزواري، في حاشية من حواشيه على كتاب «الأسفار» للملّا صدرا، كلام مجحف بحق النساء، فقد ورد، في كلام المُلَّا صدرا العبارة الآتية: «من النساء والحيوانات»، فذكر لفظتي «النساء» و «الحيوانات» معاً، وقد قرأ كثيرون هذه العبارة من دون أن ينتبهوا إلى هذا العطف، قال فيها: «إن الحكيم (يعني ملّا صدرا). قد ذكر لفظتي النساء والحيوانات معاً، لأن النساء هنّ في الواقع حيوانات كساهنّ صورة الإنسان ليُرغب في نكاحهنّ». هذا كلام فيلسوف مسلم لا تفصله عنَّا مدة زمنية بعيدة. لم يحاول أحد من الذين قرأوا هذا الكلام تصحيحه أو تعديله، ولكن المرحوم مرتضى المطهّري، على الرغم من كونه فلسفياً من أتباع مُلَّا هادي المخلصين، لم يقبل هذا الكلام، ووضع كتاباً كاملًا في الدفاع عن رأيه المخالف له، فقد رأى المطهّري، بوصفه أحد علماء الكلام، أنه من غير الممكن، في مواجهة تحديات العصر، السكوت عن رأي السبزواري وغيره من الآراء المماثلة، وبخاصة أن هذا الرأي ليس فلسفياً ولا إسلامياً في الأصل، ومناقض للنصّ القرآني:{خلقهما من نفس واحدة} جملة وتفصيلًا. فكلام السبزواري هذا يشبه كلام اليونانيين القدماء الذين قالوا: «إن المرأة حيوان» طويل الشعر، قصير الفكر، وجاء السبزواري ليقول: «إنه كساهنّ صورة الإنسان ليرغّب في نكاحهنّ» برداء فلسفي لتبيين علّة وجود النساء (20).
هذا الكلام يستدعي إبراز كلام آخر لكاتب إسلامي، هو الشيخ حسين شحادة، الذي يطلّ على «مواجع العقل الإسلامي وأزماته، في مقاربة عاجلة لأهم العوامل
________________________________________
(20)د. دلال عباس، م.ن.، ص 297.

[الصفحة - 232]


التي أدت إلى شحوب المعرفة الإسلامية، وتراجعها النسبي من حياتنا الثقافية(...) لقد واجه القرآن أسئلة عصره بالشرارة الأولى {اقرأ} ثم اجتذبه إلى مبتدأ القراءة، ليغذي بصيرته، وأرشده إلى منهج الاستقراء وإقامة البراهين العقلية على حقائق المعرفة. وذلك ليكون الاعتقاد بأصول الإسلام الكبرى ثمرة من ثمرات العقل والمعرفة {لا إكراه في الدين} .
ولقد استهدف القرآن بمناهجه تلك تأكيد الصلة بين الدين والاقتناع، ولكي تستكمل هذه الدورة المعرفية غايتها، استودع رسالته الإمامة الهادية. من هنا تألقت زينب بالإمامة والكلمة سيِّدةً من سيدات المعرفة والحوار، فقبل كربلاء كانت زينب في مجمعها العلمي تعلمنا كيف نحتمل وهج القراءة في الفكر، وبعد كربلاء علّمتنا ولا تزال كيف نحتمل وهج القراءة في الموقف (...). وقد اقترن اسمها في تاريخ ثقافتنا بأعظم ما فيها، من تمرس على الجدل الصعب، الذي لا تكمن صعوبته في كونه جدلًا بين المرأة والمجتمع، وإنما بوصفه جدلًا بين شموخ الحق الذي قادته أنثى، ورعونة الظلم الذي يقوده رجل، فقُدِّر لبلاغة الأنثى المعرفة، أن تنتصر على جنون السيف الرجل» (21).
وإذا كانت زينب (عليها السلام)قد تألَّقت بالإمامة والكلمة بوصفها سيِّدةً من سيدات المعرفة والحوار، وتمرَّست بالجدل الصعب، الجدل بين شموخ الحق الذي قادته أنثى، ورعونة الظلم الذي قاده رجل، فقدّر لبلاغة الأنثى المعرفة أن تنتصر على جنون السيف الرجل، فكيف لا يمكنها، وهي تتَّصف بهذه الصِّفات من تألُّق بنور المعرفة ووهج الإمامة، أن تتولى الحكم طالما أنها تجادل جدلًا صعباً شامخاً ينطق الحق؟
تولِّي المرأة للحكم والقضاء وحقها في العمل السياسي
إن السَّيد محمد حسين طباطبائي، في تفسير الميزان، كما ذكر الدكتور زهير غزاوي، في دراسته عن ملامح النظرية الاجتماعية عند السيد طباطبائي، يرى أن المنطلق التفاضلي هو طبيعة تركيب كل من الذكر والأنثى الذي بني على أساسه الوضع الاجتماعي الذي أتاح للرجل أن يكون القائد في المجتمع ورب الأسرة.
________________________________________
(21)الشيخ حسين شحادة، المعارج. المجلد السابع، السنة الثامنة، الأعداد 32 ـ 35، رجب ـ شعبان 1418، ص 4.

[الصفحة - 233]


لكن المؤلف يكون أكثر تحديداً عندما يقرر أن المرأة لا تتولى الحكومة والقضاء ولا تتولَّى القتال، وعليها أن تطيع زوجها في ما يرجع إلى التمتّع بها. أما لماذا لا تصلح المرأة للحكومة والقضاء، فالأمر يعود، حسب وجهة النظر هذه، إلى مسألتي التعقّل والإحساس، فيقول: «فخصّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل، والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة (...) فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة عقولهم...» (22).
لكن، ألا يرى السيِّد الطباطبائي أن كثيراً من الرِّجال الحكَّام لم يتَّصفوا بما سمَّاه «غلبة التَّعقُّل»، ولنعد إلى أمير المؤمنين، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولنسمعه يقول، في إحدى خطبه: «ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلّا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حُجّة تليط بعقول السفهاء، غَيرَكُمْ، فإنكم تتعصَّبون لأمر لا يُعرف له سبب ولا علّة، أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ وأنت طينيّ، وأما الأغنياء من مُترفة الأمم، فتعصّبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: {نحن أكثر أموالًا وأولاداً، وما نحن بمعذّبين} فإن كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغّيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد: من الحفاظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض» (23).
وفي مكان آخر من الخطبة نفسها يقول (عليه السلام): «ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطَّلتم أحكامه، ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض: فأما الناكثون فقد قاتلت، وأما القاسطون فقد جاهدت...» (24). وإذا كان ولاة الأمور، في زمن الإمام علي (عليه السلام)، على تلك الحال، فكيف بحالهم اليوم؟؟ وهذا السؤال يدفعني لذكر ما قاله (عليه السلام)في الخطبة نفسها: «واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحراباً، ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلَّا رسمه» (25).
________________________________________
(22)د. زهير غزاوي، كتاب المنهاج، م.س.، ص 59.
(23)نهج البلاغة، ترجمة وشرح بقلم: فيض الإسلام (حج سيد علقني)، إيران، ص 791.
(24)م.ن.، ص 802.
(25)م.ن.، ص 799.

[الصفحة - 234]


أمَّا الإشارة إلى اختلاف اجتهاد الفقهاء، في العصر الحديث، في ولاية المرأة للحكم فأمر لا بد منه برأي الدكتور غزاوي، فيقول: فقد أجاز بعضهم لها أن تتولى السلطة في ديار الإسلام، ومنهم مرجعيات في مدرسة أهل البيت (إشارة إلى فتاوى كل من السيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين)، ومع ذلك فإن هذا لا يمنع السيد طباطبائي، في متابعته الواقع التاريخي للمرأة، من أن يشير إلى أن الرجل ظلّ تاريخياً هو القائد، بما يمنح النص الإسلامي مصداقية انسجامه والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو ما أكدته استقصاءات تربوية غربية حول تطور المرأة في الوظائف العامة وصولًا إلى القمة، والتي أعطت اتجاهات سلبية تؤكد تراجع إسهام المرأة في الحياة السياسية كلما تقدمنا في السلّم الوظيفي. وهي تعزو ذلك إلى أسباب عديدة، منها الفزيولوجي ومنها الاجتماعي، ولكنها تتضافر كلها على أية حال لتترك المجال فسيحاً أمام الرجل على صعيد الواقع، وهو كما يبدو ما تعامل معه الإسلام في نظريته الاجتماعية التي تبلورت في كتاب الميزان (26). ولكن هل أعطى الإسلام المرأة حق العمل السياسي أو لا؟
ترى الدكتورة دلال عباس أن أول حق أعطاه الإسلام للمرأة، بشكل مباشر، هو حقّ العمل السياسي، وقد بدأ الإسلام تحرير المرأة بإعطائها هذا الحق، وقد كانت المرأة المسلمة مع الرجل على حدّ سواء، شاركت بمالها (خديجة)، وكافحت عقدياً (فاطمة أخت عمر بن الخطاب، وزوجة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) بنت أبي سفيان)، وكان كفاحها نضالياً مباشراً (سمية) أول شهيدة في الإسلام، واشتركت النساء في الهجرة إلى الحبشة وإلى يثرب، وحضرن بيعة العقبة الأولى، وإذا كانت المرأة لم تحكم فإن ذلك كان ضمن سياق تاريخي معيّن، لا ضمن تشريع إسلامي، وجميع الأحاديث التي يتذرّع بها المعاندون مرتبطة بواقع تاريخي معين، أو أنها أحاديث موضوعة في زمن الانحراف التاريخي، أو الانهيار السياسي وتفشِّي الأميّة الذي استمرّ ألف عام(27).
الحديث عن الأمية التي تفشت ألف عام، يجعلنا نتحدث عن العقل الذي تأثر بلا شكّ بزمن الانحراف التاريخي، أو الانهيار السياسي، ويضطرنا إلى توصيف هذا العقل «الذكوري» العربي الذي حكم أيضاً ولا يزال في الأزمنة السياسية على امتداد ألف عام... وصنع بدوره زمناً ثقافياً يشبهه!
________________________________________
(26)د. زهير غزاوي، كتاب المنهاج، م.س.، ص 62.
(27)د. دلال عباس، م.ن.، ص 306.

[الصفحة - 235]


وإذا كانت المرأة، في زمن أهل البيت (عليهم السلام)، قد ارتفعت مكانتها لتصبح عالمة وفقيهة فأدركت وشائج الصلة بين الفكر والواقع كما لم يدركها كثير من فقهاء عصرنا في القرن الواحد والعشرين، فلماذا لا تستطيع المرأة المسلمة، في القرن الواحد والعشرين، أن تسمو إلى مرتبة قريبة من مرتبة المرأة القدوة السيدة زينب (عليها السلام)؟ ألم يتنزّل الدين الحنيف ليرفع من شأن الإنسان، ذكراً كان أم أنثى؟ ألم يأت بالآيات التي تشرح للناس جميعاً مكانة النفس الإنسانية عند الخالق؟ إذاً، لماذا يصر كثير من الرجال، على الحدّ من حرية المرأة ـ الإنسانية طالما أن حركتها تتمحور في الإعلاء من مكانة إنسانيتها في المجتمع الذي يحكمه الرجال المحكومين بدورهم بجهاز معرفي محدود لا يرتقي إلى فهم النَّص المقدس فهماً عميقاً؟؟
موضوع المرأة في الإسلام، هو موضوع الإنسان بمعزل عن جنسه
يقول الشيخ حيدر حب الله: «وإذا ما حاولنا الإطلالة على المسار التاريخي للخلاف الإسلامي ـ الإسلامي، في شأن المرأة، لربما تملكنا شعور بالاستغراب عندما نجد ـ مع الاحتفاظ بالفوارق ـ نوعاً من إعادة البحث، أو تكراره، في موضوعات محددة، من قاسم أمين ومحمد عبده إلى المطهري وأبي زيد والسعداوي وشحرور وغيرهم، وهكذا نجد نوعاً من التشابه في المواقف ما بين بدايات القرن العشرين ونهاياته، ولعل أكثر الموضوعات هي هذه الموضوعات.
إن هذا الواقع الثقافي يحكي عن درجة من المراوحة، أو فلنقل: أحياناً الكرّ والفرّ المحدودين، ولعل قرناً كاملًا من الزمن (على أقل تقدير) ربما يعد مقطعاً زمنياً كافياً لإنتاج أو بلورة أوليات يفترض من الناحية التاريخية المحض تجاوزها، ومع تحقيق هذا الأمر إلا أن الخلاف لا يزال حاداً، والأهم بنيوياً...».
ويرى الشيخ حب الله أنَّه أمام تنوع الآراء والمواقف إلى حدّ التباين ما بين الاتجاهات جميعاً، ربما يحق للقلم أن يسجل الملاحظات الآتية:
ـ الملاحظة الأولى: لعل من أبرز الإشكاليات التي عانت منها الاتجاهات كافة هي مرجعية الغربي، أي أن فريقاً كان يرى الأمثولة في الأنموذج الغربي، فكانت الرؤى والقراءات تصاحب هذه الأمثولة على الدوام، أو غالباً، لكن فريقاً آخر
________________________________________

[الصفحة - 236]


كان يتموضع في مكانه، والمرجعية العكسية التي تدفعه إلى هذا التموضع هي الغرب نفسه.
لا يمكن فصل الغرب عن أي مشروع فكري عالمي، لكن الإسلامي الذي يريد تقديم صياغة متكاملة لموضوع المرأة لا يحق له، من ناحية منهجية ايبستمية، أن يتماهى والغربي في مشروعه حتى لو كان مشروعه أسلم المشروعات، وهو أمر مع الاعتراف بعولمة بعض فروع الثقافة اليوم يؤول في ما يؤول إليه إلى الخصوصيات الثقافية للحضارات والأمم.
الملاحظة الثانية: ما نحتاجه اليوم هو القيام بإنتاجين متوازيين لموضوع المرأة، إنتاج داخلي يعيد قراءة الموضوع بطريقة أكاديمية تقليدية أو غير تقليدية من دون الأخذ بنظر الاعتبار مصادرات مسبقة، وإنتاج عقلاني لا يحاول عقلنة مفردات الجدل حول المرأة هذه المرة ـ وإن كان أمراً مطلوباً ـ بل يحاول عقلنة القراءة الوجودية الشاملة لهذا العنصر الاجتماعي، أي يحاول فلسفة الموضوع لا تسويغ المفردة، لأن في تسويغ المفردات من دون المكوّن التحتي لفلسفة الموضوع، سيفقدنا تكامل الصورة من جهة، ويغرقنا في دوّامات تعاني من أزمة تخاطب (28).
وتجدر ملاحظة أن صياغة متكاملة لموضوع المرأة، بالنسبة للإسلامي الذي يريد أن يصوغ هذا الموضوع، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما لتأثير عملية التماهي التي ذهبت بتأثيراتها بعيداً في تكوين الشخصية العربية الحالية، وأنه لكي يصوغ المسلم موضوع المرأة صياغة متكاملة عليه أن يقرأ الأفكار الغربية الصادرة عن مفكرين غربيين، والتي تدين الوضع القائم في الحضارة الصناعية الغربية المتوحشة، والتي انتهكت ليس شخصية المرأة ووجدانها فحسب، بل تكاد تأتي على الشخصية الإنسانية المحاصرة بأسلاك الدِّين الصناعي السرّي الجديد، والذي فضحه مفكرون وعلماء نفس من الغرب نفسه. إن هذا يساعد على تجذير الصياغة الجديدة لموضوع المرأة المسلمة، إن قدّر لهذا الموضوع أن يُصاغ فعلًا وبموضوعية العقول المستنيرة بنهج الإمامة في زمن أهل البيت (عليهم السلام)...
إن موضوع المرأة، في الإسلام، يجب أن يكون موضوع الإنسان في الإسلام
________________________________________
(28)الشيخ حيدر حب الله، كتاب المنهاج، م.س.، ص 40.

[الصفحة - 237]


بمعزل عن جنسه... أعني أنه يجب إعادة صياغة مفهوم معنى الإنسان وتشكيل مفهوم جديد يلتقي مع جوهر النص المقدّس الذي حرّر الإنسان من كل عبودية، وأطلق قواه النفسية لتبحث في عظمة الوجود، ولم يضع له حدوداً في حريته ووجوده غير الحدود التي تمنعه من السقوط عن مستوى جوهره الإنساني إلى مستوى أدنى لا يليق بإنسانيته، وهذا كان سواء بالنسبة للذكر أم للأنثى، حيث أن النفس التي خلقت منها المرأة هي ذات النفس التي للرجل، فكيف يجوز احتقار نصف النفس من قِبَل نصفها الآخر؟؟
المساواة في الحقوق، في الإسلام، وقيمة العقل
وحيث أن «كل إنسان نظير لك في الخَلْق»، كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام)، فإن كل تمييز تتعرض له المرأة في المجتمع هو فعل مضاد للحرية الإنسانية وللمساواة الإسلامية، وللإمام علي (عليه السلام)نصوص كثيرة نجدها، في عهوده إلى الولاة، منها ما يُقرّر مباشرة هذه «المساواة في الحقوق» بين جميع الناس، ومنها ما يشير إليها، ومنها ما يدور في روحها ويؤول إلى معناها. وإليك ما يقوله، في صدد «المساواة في الحقوق» نصّاً صريحاً كأنه منتزع من المبدأ الأوَّل من وثيقة حقوق الإنسان، أو كأن هذا المبدأ منتزع منه: «الحق لا يجري لأحدٍ إلَّا جرى عليه، ولا يجري عليه إلَّا جرى له». وليس، في هذا المبدأ العلوي، ما يحتاج إلى توضيح، فهو الشق الثاني من أول وثيقة حقوق الإنسان، معنى ولفظاً» (29)وإذا كان هذا ما يعلمنا إياه الإمام عليّ (عليه السلام)، فكيف نخالفه!؟ كيف نخالف من علَّمنا قيمة المعرفة، وأوصانا بحملها، فقال: «إنَّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها»، موصياً كميل بن زياد بحفظ ما يقوله له: «يا كميل ابن زياد، هلك خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر...» (30).
وقال (عليه السلام)يُفسّر معنى الإسلام: لأنسبنَّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحدٌ قبلي: «الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل» (31).
والعقل، في مفهوم الإمام عليّ (عليه السلام)هو الإيمان الذي لم يرق إليه بعد كثير
________________________________________
(29)جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج2، بين علي والثورة الفرنسية، مطبعة الجهاد ـ بيروت، (بدون تاريخ)، ص 458.
(30)م.ن.، ص 459.
(31)م.ن.، ص 1146.

[الصفحة - 238]


من القيّمين على شؤون الإنسان المسلم الذي ابتلي بعقول حُكَّام ومشرّعين تابعين في دولٍ كثيرة للسلطة في تلك الدول «الطَّليعية» التي لم تدرك بعد أن القهر والغلبة ليستا من سمات الشخصية الإنسانية الحرّة، ولم تتعرّف بعد إلى قدرة العقل التي هي في رأي مفكرين غربيين وجدت لها معنى يلتقي مع معنى العقل عند الإمام عليّ (عليه السلام)، و «الإيمان بقدرة العقل، له في مفكّري عصر النهضة بأوروبا جنود لا يحصى لهم عدد. غير أن أبرزهم كمونتين ورابليه وباسكال وديدرو وفولتير وبايل وغيرهم، يتفقون أن العقل الإنساني هو القائد الأول والأخير إلى الحقيقة. وقد خدم هؤلاء العقليون الحضارة خدمة عظمى بتحطيمهم كل بناء يقوم على غير العقل. وإنك لتدهش إذا عرفت أن الأصول التي بنيت عليها مذاهبهم المختلفة في صيغها وأشكالها، المتفقة في جوهرها وغاياتها، هي أصول موضّحة ومُركَّزة في نهج ابن أبي طالب وفي مذهبه، حتى لكأنه عاش أيامهم وتطورات زمانهم وأحوال مجتمعاتهم، وأدرك الكثير من تجاربهم واختباراتهم».
يقول الإمام عليّ (عليه السلام)مؤمناً بقدرة العقل: «كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك» و «العقل مرآة صافية». وتدهشك في ابن أبي طالب (عليه السلام)هذه الالتفاتة العجيبة من رجل يعيش في زمانه، إلى قيمة النظر العقل ووثاقة الإدراك العقلي، بالنسبة لخداع الحواس، إذ يقول: «وقد تكذب العيون أهلها، ولا يغشّ العقل من استنصحه». و «العقل ـ في كل حال ـ حسام قاطع». ولمَّا كان العلم من موضوعات العقل، وكان للعقل مثل هذه القيمة، فقد بات من المنطقي أن يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «قطع العلمُ عذر المتعلّلين». أما لفظة «العلم» فإن لم تكن تعني في زمان ابن أبي طالب معناها الوضعي الذي تعنيه اليوم، إلَّا أنها تعني «المعرفة». والمعرفة أوسع مدىً ومدلولًا من «العلم» لأنه في مدلوله الحالي خاص، وهي عامة(...). أما معنى «العقل» عند عليّ، فهومعناه الذي أدركه مفكّرو عصر النهضة. وهو معناه الذي يضعه العلم في إطاره اليوم. قيل لعليّ: «صِف لنا العاقل. قال: «هو الذي يضع الأشياء في مواضعها». فقيل: فصِف لنا الجاهل؟ قال: قد فعلت» (32).
وإذا كانت المرأة مخلوق إنساني، خُلق والرجل من نفس واحدة، فهل يمكن أن تتمتع النفس بشقٍّ منها بالعقل، وأن يحرم الشق الآخر من هذا العقل؟؟ وإذا كانت
________________________________________
(32)م.ن.، ص 1134.

[الصفحة - 239]


السيِّدة زينب (عليها السلام)، عالمة آل محمَّد هي امرأة مسلمة، والسيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)هي سيدة نساء العالمين، فهل يمكن أن توصف بعد هذا بما ذكره بعضهم!؟ وإذا كانت المرأة في رأي الإمام الخميني (قُدِّس سرّه): «المرأة كالقرآن، كلاهما أوكِلَ إليه صنع الرجال»، فهل يمكن أن يصنع ناقصُ عقلٍ إنساناً، ذَكَراً، بعقلٍ كامل؟؟
عودة إلى حقِّ المرأة في العمل السِّياسي
وإذا عدنا إلى سؤال حق المرأة في العمل السياسي، فإننا لن نجد نصّاً واحداً في الكتاب المقدس ينص على حرمان المرأة من تولي الشأن العام وممارسة هذا الحق... وإذا كان هذا الحق من مرتكزات حريّة المرأة الأساسية، فإن حرية الإنسان مكفولة بالنص القرآني لجميع بني البشر، و «حرية الإنسان ـ ووفق الفكر القرآني ـ هي القابلية العليا للإنسان لتحمُّل أمانة مسؤولية الوجود والخلافة على الأرض». كما يقول العلامة المفكر السيد محمد حسن الأمين (33).
ويبدو أن حق المرأة، في العمل السياسي، سيظل خاضعاً لمنظومة من الأفكار عن الحرية ومعناها، وسيظلّ متأثِّراً، إلى حد كبير، بمحمول العادات المتوارثة الكامنة خلف مواقف بعض المناهضين لهذا الحق، لأسباب عديدة: أولها، في رأينا، تلك العلل الخفية التي ترسَّخت في اللَّاوعي المعرفي لدى هؤلاء، دافعة بهم إلى عدم التعرّف إلى المفهوم القرآني لمعنى الحرية الإنسانية ومغزاها... وستظلُّ أهليَّة المرأة للعمل السياسي أسيرة قيمومة هذا اللَّاوعي المعرفي بحجة أن المسلمات الأوائل لم يمارِسْنَ هذا الحق! وسيظل بعض المفكرين الإسلاميين يُقرُّون حقها في هذا العمل، ولكنهم سيستمرون في الاختلاف في حدوده.. «ففريق منهم يرى أنها عديمة الأهلية للحكم والسلطة فيما يقرّ فريق آخر بأهليتها لما دون ذلك» (34).
وهذا الرأي ليس محل إجماع، ذلك أن العديد من الفقهاء يرون أن لا دليل على عدم أهلية المرأة للعمل السياسي، كما عند الشيخ محمد مهدي شمس الدين في «أهلية المرأة لتولي السلطة»، والسيد محمد حسين فضل الله. ويقول الدكتور محمد طيّ: «هذا، ولا تقف فئة من الفقهاء عند حدود إباحة العمل السياسي للمرأة، بل
________________________________________
(33)السيد محمد حسن الأمين، م.س.، ص 97.
(34)د. محمد طي، كتاب المنهاج، م.س.، ص 160.
[الصفحة - 240]
تتعدى ذلك إلى اعتبارها مأمورة به تماماً كالرجل، وذلك بالآيات التي تحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين لا بد من أن يكون لهما وجه سياسي، وبأحاديث عن الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) كالقائل: إنه «من أصبح وأمسى لا يهتم بشؤون المسلمين فليس منهم»، تلك الآيات والأحاديث التي استند إليها عدد كبير من المسلمات في هجرتهن إلى المدينة، كما اعتمدت عليها السيدة فاطمة بنت الرسول في حجاجها مع أبي بكر وفي خطبتها في مسجد رسول الله (35).
في الختام، نقول مع الأستاذ محمد دكير: «إن بناء حقل لدراسات المرأة المسلمة قد أصبح ضرورياً وحاجة مُلِحَّة» (36)وعلينا بتدارس قول للإمام عليّ (عليه السلام)فيه توصيف لمحدودية معرفتنا: «فإنك أول ما خُلقت جاهلًا ثمّ علِّمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضلّ فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك».
________________________________________
(35)م.ن.، ص 161.
(36)محمد دكير، م.ن.، ص 32.

[الصفحة - 241]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف