البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نحو منهج جديد للدِّراسات الإسلامية

الباحث :  د. فوزي كمال أدهم
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  27
السنة :  السنة السابعة خريف 1423هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 18 / 2015
عدد زيارات البحث :  1285

نحو منهج جديد للدِّراسات الإسلامية

د. فوزي كمال أدهم (*)

تمهيـــد
ابتليت هذه الأمَّة، منذ عهود طويلة، بجماعات كانت ولا تزال تعمل، في الخفاء والعلن، على ضرب كلِّ تقدم وكلِّ تحرُّر فيها، وقد كان الدافع لهذه الجماعات إما الحقد أو التآمر أو الجهل، وفي جميع الحالات فقد تمكنت، خلال الزمن، من إرساء قواعد ثابتة لها بحيث أصبحت كأنها من ثوابت هذه الأمة.
والحقيقة أن هذه الجماعات اتخذت من الدِّين ستاراً وطريقاً للوصول إلى أهدافها، لأن الدِّين هو أقرب الطرق إلى قلوب الناس، وأخذت تنفث سمومها في عقول الناس وأذهانهم، تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، حتى أخذنا نرى تيارات الجهل وقد سادت في مجتمعاتنا.
ومن أهداف هذه الجماعات التضليل العلمي والاجتماعي والسياسي بغية الوصول إلى إنسان عربي جاهل ومستسلم لإرادتها، بحيث يمكن توجيهه وفقاً لرغباتها وتطلعاتها.
ومن الأمثلة، على ذلك، طرح هذه الجماعات فكرة الحكم السياسي من خلال الخلافة كأنها من الثوابت الدِّينية، في حين أن العالم المحايد الراصد للتاريخ يرى أنه كان في مصر في القرن الثاني عشر الميلادي، مثلًا، خليفة أو حاكم هو الحاكم الفاطمي العاضد، وكان في بلاد الشام السلطان نور الدين زنكي، وفي بغداد الخليفة العباسي المستضيء بالله، وفي الأندلس كان الحكم الأموي، وفي المغرب كان هناك سلاطين (1)، أي أنه لم يكن هناك خليفة واحد في الوقت نفسه؛ الأمر الذي
________________________________________
(*)باحث من لبنان
(1)مؤتمر صلاح الدين الأيوبي ـ مقال للدكتور حسان حلاق في مجلة دراسات إسلامية للعام 1995م.

[الصفحة - 70]


يدحض أضاليل هذه الجماعات وينفي فكرة الخلافة من أساسها، لا بل ينفي فكرة الحكم السياسي برمته.
وبعد،
فقد وقع اختياري على موضوع يتعلَّق بمنهجية البحث في الدِّراسات الإسلامية، وأوضح أن هذا الموضوع قد استأثر باهتمامي بصورة خاصة لملاحظتي أن مظاهر الجهل الديني بدأت تتفشَّى بصورة متمادية في المجتمع اللبناني، وأعطي أمثلة لذلك:
1 ـ أحد خطباء المساجد يورد حديثاً مفاده أن الخلافة أمر ضروري لتقدُّم المسلمين، في حين أن من يراجع التاريخ الإسلامي يجد أنه، في المرحلة نفسها من التاريخ، كان هناك عدة حكَّام كما ذكرنا قبل قليل.
2 ـ خطيب آخر يورد، في خطبة الجمعة، أنَّ مكَّة هي مركز العالم الجغرافي، من دون أن يذكر المرجع أو الدليل بحسب خطوط الطول والعرض التي نعرفها.
3 ـ خطيب آخر يقول: إن الله لا ينظر إلى وجه كل حليق يوم القيامة، ومن تتبُّع هذا الحديث ظهر لي أنه ورد على لسان الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) لتمايز المسلمين من اليهود.
4 ـ خطيب آخر يورد أيضاً حديثاً مفاده أن النَّطيحة، أي الحيوان الذي ينطح، كالثور، مثلًا، تسأل يوم القيامة إذا نطحت حيواناً وقتلته، ملغياً بذلك جميع المبادى الإسلامية المتعلقة بالتكليف.
هذا الكلام الذي سمعته، ونسمعه كل يوم من جهات إسلامية مختلفة، دفعني إلى التفكير في مسألة المنهجية في البحث الإسلامي، إذ لا يجوز مطلقاً إطلاق الأحكام من دون منهج واضح، فلا بد من ضوابط ومعايير، ولهذا فقد قررت الخوض في موضوع المنهج الحديث الذي سيكون موضوعنا هنا.
أبادر إلى التوضيح، منذ البداية، فالمنهج الذي سأتولى عرضه لا علاقة له البتة بالعقائد والعبادات، إنما يتصل بالمعاملات فقط.
على الرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرناً على بداية الإسلام، فإن العقل
________________________________________

[الصفحة - 71]


الإسلامي لم يضع منهجاً واضحاً محدَّداً لتفسير آيات القرآن الكريم، أو لبيان الناسخ والمنسوخ من هذه الآيات، أو لنظام وقف العمل ببعض أحكامه أو على الأقل لتعريف ألفاظ القرآن الكريم، كذلك لم يضع منهجاً عقلياً يتعلَّق بالأحاديث النبوية وبيان ما هو دائم منها وما هو مؤقت.
إن من أسوأ ما ابتلي به العقل الإسلامي هو ذلك الفصام الشديد الذي يضرب في أعماقه، ويخالط جميع أعماله ويجعله منقسماً على نفسه غائباً عن الحقائق، غير قادر على إدراك الواقع، فهو يقول غير ما يفعل، ويتصوَّر ما لا أصل له في الحقيقة، وينزع إلى المبالغة والتعميم، ويعتدي على كل من يدعوه إلى العلاج والإصلاح (2).
إن تحديث العقل الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا عبر منهج علمي واضح يقوم على ثلاثة محاور:
المحور الأول: هو محور موضوع العقل الإسلامي.
المحور الثاني: هو محور آلية العقل الإسلامي.
المحور الثالث: هو محور البحث المقارن.
والمنهجية هي الخطة التي يعتمدها علم ما في تحقيق أهدافه، فتتضمَّن البحث عن المعطيات الأساسية التي يتألف منها موضوع هذا العلم، وجمع المعلومات عنها وتحليلها والكشف عن ميزاتها ومقارنتها بالمعطيات الأخرى المشابهة أو المحيطة بها ومعرفة القوانين الطبيعية التي تسود وجودها وتفاعلاتها. ذلك كله، في سبيل توفير رؤية واضحة لتلك المعطيات وفهم لأوضاعها يمكّن الباحث من التصرف بها وفقاً لمتطلَّبات الرسالة التي يسعى إلى تحقيقها من خلال الموضوع الذي يبحث فيه.
وبديهي أن تختلف وسائل البحث العلمي باختلاف الموضوعات، فالبحث في الظواهر الاجتماعية وترابطها يختلف عن البحث في العلوم الطبيعية، إلا أن قاسماً مشتركاً يجمع بين هذه الوسائل من حيث أنها تنطلق من مرتكز واحد هو المراقبة العلمية.
إن كل حدث طبيعي أو اجتماعي أو إنساني بحاجة إلى مراقبته أولًا بغية تمييز
________________________________________
(2)محمد سعيد العشماوي، جريدة السفير، الخميس في 8/5/1997.

[الصفحة - 72]


مواصفاته وتطوراته وتفاعلاته، ومن هذه المراقبة ينطلق الباحث إلى التحليل حتى يتوصل إلى القوانين التي تسود هذا الحدث (3).
ونحن، في حاضرنا الإسلامي، رومانسيون وعاطفيون بمعنى الدفعة الغريزية والنفور من كل ما يحيط بالتفكير العقلي من ضوابط وحدود، والرومانسية في جوهرها تضيق بالقواعد والقوانين، فوسيلة الرومانسي في الإدراك تتمثَّل في وجدانه لا في منطق عقله، فما ينبض به قلبه هو الحق أما ما يمليه منطق العقل فإنه يقذفه بعيداً إذا جاء مخالفاً لما تميل إليه العاطفة. المشكلة الحقيقية تتمثَّل في نشر طريقة استخدام المنهج العلمي، والعصور تتميز من بعضها بعضاً، لا بمقدار المعرفة المتداولة، بل بمنهج التفكير في كل منها.
سنحاول، في هذا البحث، أن نبلور مشروعاً لمنهج علمي جديد في الدراسات الإسلامية، وهذا المنهج يقوم، كما قلنا، على ثلاثة محاور: موضوع العقل الإسلامي وآلية عمل هذا العقل والبحث المقارن.
المبحث الأول: موضوع العقل الإسلامي
ما هو موضوع العقل الإسلامي؟ إنه القرآن الكريم والسنة النبوية وكتب السير والتراث. والمنهج الجديد الذي ندعو إليه يقوم على وجوب وضع تحديد واضح لتعريف ألفاظ القرآن الكريم، ولتفسير آياته، ولبيان الناسخ والمنسوخ من هذه الآيات، أو لنظام وقف العمل ببعض أحكامه، وكذلك تقويم الأحاديث النبوية، توصُّلًا لبيان ما هو دائم وما هو مؤقت وبالنتيجة توصلًا لإضاءة الطريق.
أوَّلًا: في ما يتعلَّق بالقرآن الكريم
هناك عدة مسائل، في هذا الصدد، منها ما يتعلَّق بألفاظ القرآن الكريم، ومنها ما يتعلَّق بتفسير القرآن الكريم، ومنها ما يتعلَّق بالنَّسخ في القرآن الكريم.
أ ـ ألفاظ القرآن الكريم
إن ألفاظ القرآن الكريم لا تحظى بتفسير جامع لمعنى اللفظ مانع من أي
________________________________________
(3)مصطفى العوجي، دروس في العلم الجنائي، ص 95 و96.

[الصفحة - 73]


تداخل في فهمه. وهكذا أصبحت كل جهة تفسِّر ألفاظ القرآن الكريم حسب فهمها وثقافتها وما تراه صالحاً. ونشير، في هذا المجال، إلى أن مدلول الألفاظ قد تغير على مدى التاريخ، واللفظ نفسه كان له معنى عند التنزيل، وقد أصبح لهذا اللفظ معنى آخر بعيداً من معناه الأصلي.
هنا نرى ضرورة إعمال المنهج الجديد في البحث في الدراسات الإسلامية بحيث يقتضي التمييز بين المعنى الأصلي للفظ وبين المعنى التاريخي. وبالتالي التمسُّك بالمعنى الأصلي للفظ وبناء النتائج والأحكام على هذا الأساس.
1 ـ لفظ الشريعة
يعني لفظ الشريعة، في القرآن الكريم، وفي معاجم اللغة العربية، المنهج أو السبيل أو الطريق، وما يسمَّى بالشريعة الإسلامية هو في الواقع «الفقه الإسلامي»، وهذا الفقه هو الذي شرَّع عبر التاريخ في مسائل الأحوال الشخصية والمسائل المدنية والتجارية والمسائل الجنائية.
إن أحكام القوانين العربية في الأحوال الشخصية مأخوذة نصاً من الأحكام التشريعية في القرآن الكريم والسنة النبوية ومن آراء الفقهاء، وأحكام القوانين المدنية والتجارية مطابقة جميعاً لأحكام الفقه الإسلامي فيما عدا مسألتي الفوائد على الديون وعقود التأمين، وهما مسألتان في حاجة إلى بحوث علمية واجتهادات فقهية تقوم على أساس سليم لا على جدل سياسي.
فإذا كانت أحكام القوانين العربية مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا كان المقصود بالشريعة هو الفقه الإسلامي وآراء الفقهاء المسلمين، فإن تطبيق هذا الفقه أو عدم تطبيقه ليس من شأنه أن يضفي عليها أوصاف التسييس الديني بالكفر أو الإيمان.
هنا أيضاً يقتضي إعمال المنهج الحديث في التمييز بين ما هو شريعة وما هو آراء فقهاء.
2 ـ لفظ المصانع
ورد لفظ المصانع في القرآن الكريم، وهو يعني خزانات المياه، أما المعنى التاريخي لهذا اللفظ فهو ما يعرف الآن بالمعامل والمنشآت الصناعية.
________________________________________

[الصفحة - 74]


ب ـ تفسير القرآن الكريم وفقاً لأسباب النزول
إن التفسير، وفقاً لأسباب النُّزول، يمكن أن يقارن بالتفسير وفقاً للأعمال التحضيرية بالنسبة للقوانين الوضعية التي تبيِّن أسباب وضع النص القانوني وظروف وضعه والاقتراحات والتعديلات المختلفة، في صدده، إلى أن خرج هذا النص بصيغته النهائية، بحيث أنه لا يمكن فهم أبعاده القانونيَّة والوضعيَّة، وبالتالي وضعه موضع التطبيق من قبل القاضي، أو الجهات الأخرى المطبقة للنص، من دون الإحاطة بالأعمال التحضيرية.
وما أدعو إليه في سياق المنهج الجديد في الدراسات الإسلامية هو الأخذ بأسباب التنزيل بالنسبة للقرآن الكريم في عملية تفسير آياته، لأن الخطأ في تفسير القانون يستتبع طرقاً للمراجعة من شأنها العمل على تصحيح هذا الخطأ، في حين أن الخطأ بالنسبة لتفسير آيات القرآن الكريم ومن ثم في تطبيقها، أمر خطير من شأنه أن ينعكس سلباً على فكر المجتمعات وتنظيمها، وهذا ما حصل بالفعل.
مثــــال
إن آية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} هي آية مقصورة على بعض يهود المدينة الذين أرادوا التحايل على حكم التوراة، بالنسبة لرجم الزاني والزانية، وبالتالي الوصول إلى عدم تطبيق هذا الحكم.
إلا أن الخوارج قاموا بتحريف معنى هذه الآية، وأعطوها معنى يتضمن حكماً عاماً ينطبق على المؤمنين، وظل هذا الفهم الخاطى والخطير مسيطراً حتى يومنا هذا؛ حيث أخذت به بعض الجماعات، واتخذته شعاراً سياسياً لها، في حين أن لا أساس مطلقاً لهذا التفسير الذي يستند إلى منهج الخوارج السياسي لا إلى المنهج الإسلامي الصحيح.
إن قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» هي قاعدة خاطئة ترتكز على تفسير آيات القرآن الكريم خلافاً لأسباب التنزيل، وبالتالي تؤدي إلى إيجاد قواعد ومبادى بعيدة عمَّا جاء في نصوص القرآن الكريم.
________________________________________

[الصفحة - 75]


إن الأخذ بقاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» من شأنها الإفضاء إلى قواعد ومبادى متناقضة».
ولنأخذ، مثالًا على ذلك، آية: {يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنِّي فضلتكم على العالمين}[البقرة/2 ـ 47]وآية: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية} [المائدة/5 ـ 13].
إن تفسير هاتين الآيتين، وفقاً لمنهج الخوارج باعتماد قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، من شأنه أن يؤدي إلى اعتبار أن بني إسرائيل مفضَّلون من الله على جميع الناس إطلاقاً، وأنهم في الوقت نفسه ملعونون، وهذا تفسير متناقض إذ لا يمكن أن يكون اليهود مفضلين على جميع الناس، وفي الوقت نفسه أن تلحق بهم اللعنة، إلا أن التفسير وفقاً للمنهج الحديث الذي أدعو إليه، وهو نهج الأخذ بأسباب النزول، يزيل هذا التناقض، ويبين أن الذين جرى تفضيلهم هم يهود موسى وأن من حاقت بهم اللعنة هم يهود المدينة الذين كانوا على عهد الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم).
إن تفسير الآيات، وفقاً لأسباب التنزيل، من شأنه ربطها بالظروف الواقعية، والعوامل التاريخية التي اقتضت التنزيل، أما التفسير وفقاً لعموم اللفظ فمن شأنه فصل هذه الآيات عن الواقع وعدم فهم علاقتها بالتاريخ.
وهنا تكمن أهمية ما أدعو إليه في إطار المنهج الحديث الرامي إلى تحديث العقل الإسلامي.
جـ ـ النَّسخ
النسخ في القرآن الكريم هو حكم وارد في الآية: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}[البقرة/2 ـ 106].
إلَّا أنه ليست هناك نظرية عامة واضحة في صدد النَّسخ؛ الأمر الذي أدى إلى جعل باب النسخ واسعاً بحيث أن من يريد أن يلغي حكماً من الأحكام يقول إنَّه قد نسخ بآية أخرى.
________________________________________

[الصفحة - 76]


مثال عن حرية العقيدة
آيات حرية المعتقد في القرآن الكريم عديدة: {لا إكراه في الدين} [البقرة/25] {ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف/15 ـ 15].
وإذا ما طبقنا المنهج الذي ندعو إليه، وهو التفسير وفقاً لأسباب النزول نرى أن المقصود بالقتال هم أهل مكة على عهد الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، وبالتالي فإن الآية الأخيرة ليس من شأنها أن تلغي الآيتين السابقتين، وهكذا تكون حرية المعتقد مكفولة في الإسلام خلافاً لما هو سائد لدى بعضهم.
وهنا ندعو، في إطار المنهج الحديث، إلى وضع نظرية عامة لقواعد وقف العمل ببعض الأحكام ونظامه وحالاته، وصولًا إلى تعزيز نظرية وقتية الأحكام، وفي هذا تكريس لتحديث العقل الإسلامي.
ثانياً: في ما يتعلق بالحديث
أ ـ متن الحديث
إن المعيار الذي اعتمد في جمع الأحاديث هو معيار شخصي وليس معياراً موضوعياً، إذ إنَّ جامعي الأحاديث كانوا ينتقون ما يرونه صحيحاً من هذه الأحاديث بالاستناد إلى سلسلة من رواة الحديث تتوافر فيهم صفة العدل، وهي صفة محض شخصية من دون الالتفات إلى متن الحديث نفسه. ولا حاجة بنا إلى الخوض في موضوع الأحاديث الموضوعة؛ حيث كان وُضَّاع الحديث يقومون بتأليف أحاديث غريبة يسندون لها روايات مختلفة كي تظهر للناس على أنها صحيحة.
وما ندعو إليه، من منهج جديد في إطار الحديث، هو إيجاد طريقة تقوم على أساس سلامة متن الحديث نفسه ومعقوليته مع الاستئناس بسلسلة الرواة، على أن يكون الترجيح نفسه لمعقولية المتن على العنعنة.
ب ـ وقتيَّة الحديث
من الثَّابت أن الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) كان نبياً ورسولًا كما كان قائداً سياسياً، وبالتالي
________________________________________

[الصفحة - 77]


فإن المنهج الحديث الذي ندعو إلى الأخذ به يرمي إلى التفرقة بين الأحاديث التي صدرت عن الرسول بوصفه رسولًا ونبياً، وهذه الأحاديث هي دائمة، وبين الأحاديث التي صدرت عنه بوصفه قائداً وسياسياً وهذه أحاديث وقتية.
مثال:
حديث: «وفِّروا اللحى واحفوا الشوارب»، فهذا الحديث ورد بقصد مخالفة زي اليهود في مرحلة زمنية محددة، وبالتالي فهو حديث مؤقت.
مثال آخر:
حديث: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»، فهذا الحديث مؤقت لأنه صدر في وقت كان المسلمون فيه قلة، بحيث أن الرسول، بوصفه قائداً سياسيَّاً، رأى أنه يقتضي زيادة عدد المسلمين لأسباب سياسية؛ الأمر الذي لا يأتلف مع منطق العصر الذي نعيش فيه حيث أن كثرة العدد قد تؤدي إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية، وفي الوقت الذي يعول فيه على الكيف وليس على الكم.
المبحث الثاني: آلية العقل الإسلامية
إنَّ الخطوط العريضة التي ندعو إليها، في إطار المنهج الجديد للبحث في الدراسات الإسلامية، تقوم على الأسس الآتية:
أ ـ وضع أسلوب للتفكير ونظام للعقل الإسلامي يعتمد على درجة بعيدة من الحرية على نحو ما كان عليه الأمر لدى المعتزلة، من دون تبديد الطاقات واستهلاك القوى في مسائل فرعية وقضايا وقتية مثلما فعل هؤلاء، وإنما بالبحث في الموضوعات الإنسانية العامة بغية التوصل إلى آلية العقل الإسلامية، بوصفها أداة تحمل مزاياه.
ب ـ تجنُّب ضرب العقل والمنطق وحرية الفكر، وعدم اعتبار العقل والمنطق وحرية الفكر السبيل الذي يؤدي إلى الكفر والإلحاد على نحو ما تنادي به بعض الجماعات.
جـ ـ التمسك بمبدأ السببية ومنهج العلية وحرية الإرادة.
________________________________________

[الصفحة - 78]


د ـ النظر إلى الأشياء والتدبُّر فيها والبحث عن أسبابها والغوص في علل الحوادث.
هـ ـ التمسك بمعطيات العلم والمنطق.
و ـ التمسك بحرية الإنسان.
إن الآلية التي ندعو إليها تقوم على تحديث العقل الإسلامي وعصرنة أدواته حتى نتمكن من مَنْطَقَة الأشياء ومَنْهَجَة العلوم.
المبحث الثالث: البحث المقارن
الحقيقة هي أن الدِّراسات المقارنة أصبحت ضرورة ماسة، وبخاصة بالنسبة لموضوع المناهج؛ ذلك أن الغرب قد اعتمد مناهج متقدمة وحديثة، ولا بد من الإلمام بها والاستفادة منها والاستعانة بطرقها ووسائلها، وهناك مدارس عديدة تتعلق بالتفسير، منها المدرسة التاريخية ومدرسة البحث العلمي الحر التي طلع بها «فرانسوا جيني» وغير ذلك من المدارس التي وضعت مناهج وتقنيات بالنسبة لتفسير النصوص التشريعية، بحيث يجدر بالباحث في مجال الدراسات الإسلامية أن يلم بهذه المناهج والتقنيات، ومن ثمَّ أن يضعها نصب عينيه في أثناء تلمُّسه لمسألة المنهج الذي يريد أن يتخذه لدى قيامه بالتصدي للموضوعات الإسلامية.
صحيح أن الفقه الإسلامي قد ابتدع مدرسة الرأي ومدرسة الحديث إلا أن هاتين المدرستين لم تتعدَّيا مجال الشعارات، ومن ثمَّ فإنه لم تظهر تطبيقات عملية ولا تقنيات أو مناهج بالمعنى العصري للتعبير يمكن الركون إليها واعتمادها، مع العلم أن وجود هذه المدارس بحد ذاته إنجاز مهم على صعيد الفكر الإسلامي لا يمكن إنكاره، بل إن أساس البحث المقارن يقوم على فكرة عرض الآراء والمدارس الإسلامية ومقارنتها بالآراء الغربية، ومن ثم تبنِّي ما يناسب التطور والتقدم والموضوعية.
فتح النَّوافذ
أخيراً، أرجو أن أكون قد وُفِّقت في عرض موضوع المنهج الحديث الذي أرى الأخذ به، وفي كل حال فإن غايتي هي فتح النوافذ وإن كانت ضيقة وإلقاء الأضواء
________________________________________

[الصفحة - 79]


على المناطق المظلمة، توصُّلًا للخروج من النفق المظلم المتمثل في المسألة الفكرية السائدة، حيث الجهل يحل محل العلم لأنه لا يمكن لهذه الأمة أن تنهض بغير فكر علمي خالص، بعيداً عن الأوهام والأضاليل.
وقبل أن أختم هذا البحث أود أن أشير إلى معيار مهم، في إطار المنهج الحديث الذي أدعو إليه، وهو معيار التمييز بين ما هو شرعي وبين ما هو فقهي. فأحكام الشرع واضحة لا لبس فيها، وهي واجبة التطبيق في كل زمان ومكان.
أمثلة:
1 ـ قاعدة ولا تزر وازرة وزر أخرى.
2 ـ قاعدة للذَّكر مثل حظ الأنثيين.
3 ـ قاعدة السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.
أما الأحكام الفقهية فهي آراء الفقهاء المتداولة عبر العصور، وإن كانت على قدر كبير من الأهمية إلَّا أنها لا ترقى إلى مستوى القاعدة الشرعية وتخضع لمفهوم التطوُّر والتغيُّر عبر الزمان والمكان.
إلا أن ما نشاهده ونلمسه هو أن بعضهم يخلط، عن قصد أو جهل، بين النوعين من القواعد، لأسباب مختلفة، في حين أن المنهج الحديث الذي ندعو إليه يهدف إلى التفريق بين هذين النوعين، وبالتالي العمل على التعامل مع القواعد الفقهية على أساس أنها قواعد غير ثابتة وغير مقدسة وقابلة للتطوُّر والتغيُّر وحلول قواعد أخرى محلها.
مثال:
إنَّ الإمام أبا حنيفة يرى أن شرط الكفاءة في الزواج يتمثل في الحسب والنسب والمال، في حين أن مذهب الإمام مالك يرى أن شرط الكفاءة في الزواج يتمثل في الدين خلافاً لما يراه المذهب الحنفي.
فإذا كنا نعدّ آراء الفقهاء أحكاماً شرعية فإنه يترتَّب على ذلك الخروج بأحكام متناقضة في الموضوع الواحد، وهذا غير مقبول في إطار الدراسات الإسلامية.
________________________________________

[الصفحة - 80]


لقد آن لهذه الأمة أن تستيقظ وأن تخرج من النفق المظلم وأن تضع المعايير والضوابط العلمية وصولًا إلى التقدم، لأن التاريخ لا يرحم، وبخاصَّة أن هناك يقظة فعلية قامت وتقوم في الجوار على أساس علمي من دون التخلِّي عن التراث، ما يقتضي منَّا السير في ركاب هذه اليقظة وهذه الطلائع التي من شأنها أن تبعث حضارتنا وأمتنا من جديد.
________________________________________

[الصفحة - 81]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف