البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المكانة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة للمرأة المسلمة

الباحث :  د فاطمة فكور
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  24
السنة :  السنة السادسة شتاء 1422هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  1727

المكانة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة للمرأة المسلمة

د. فاطمة فكور

حقوق المرأة في الإسلام ومهمّاتها

للمرأة، في الإسلام، حقوق اجتماعية كما للرَّجل، كما أنَّ لها مكانتها المرموقة واللاَّئقة بشأنها في المجتمع، فلا يمنعها مانع من المشاركة في النَّشاطات والفعاليَّات الجماعية والاجتماعية؛ فقد أُنيطت بها مسؤوليَّات ومهمَّات اجتماعية كثيرة على حدٍّ سواء مع الرَّجل، وقد تحدَّث القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة عن هذا النَّشاط أيضاً.

بيدَ أنَّ التَّكليف بالجهاد الابتدائي والهجومي مرفوعٌ عنها. أمَّا سائر أنواع النِّضال والكفاح، كالجهاد الدِّفاعي، أو القيام بالكثير من النَّشاطات المتقدِّمة أو الملازمة أو اللاَّحقة للحرب والجهاد، فلم يرفع قلم التَّكليف عنها، ورَفْعُ التَّكليف عنها إكرامٌ لها وإعزازٌ لشأنها، قال الله تعالى: {والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهمْ أولياءُ بعضٍ يامرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ ويقيمونَ الصلاةَ ويؤتونَ الزكاةَ ويطيعونَ اللهَ ورسولَهُ أُولئكَ سيرحمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ) } (1). فقد دلَّت الآية الشَّريفة على أنَّ المرأة كالرَّجل أُنيطت بها مهمَّة كبيرة، ألا وهي الولاية الاجتماعية، ولذا فإنَّ بإمكانها ممارسة مهمَّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر على جميع الأصعدة: السِّياسية، والاقتصادية، والثقافية، والحقوقية، وغير ذلك. وبعد التَّوسُّع في مفهوم (المعروف) و(المنكر) في الإسلام تتضح لنا ايضاً حدود المشاركة الاجتماعية للمرأة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوبة، 71 .

[الصفحة - 221]


وبناءً على ما تقدَّم، فإنَّ بإمكان المرأة مشاطرة الرَّجل في جميع المجالات، وعلى جميع الأصعدة، إلاَّ في موارد معدودة استُثْنيت من المشاركة فيها رفعاً لثقل التَّكليف عن عاتقها. لكن في مقابل ذلك حلَّت محلَّها تكاليف ووظائف أخرى تضاهيها في الأهمية، كالقضايا السِّياسية والحكومية التي هي على رأس القضايا الاجتماعية.
ولذا، نجد أنَّ للمرأة في صدر الإسلام مشاركةً جادّةً في القضايا السِّياسية، وحضوراً جادّاً وفاعلاً في ساحة الأحداث؛ حتّى أنَّ النَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد أخذ البيعة من النِّساء، وعلى انفراد امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها النَّبيُّ إذا جاءكَ المؤمناتُ يبايعنكَ على أنْ لا يشركنَ باللهِ شيئاً ولا يسرقنَ ولا يزنينَ ولا يقتلنَ أولادهنَّ ولا يأتينَ ببهتانٍ يفترينهُ بينَ أيديهنَّ وأرجلهنَّ ولا يعصينكَ في معروفٍ فبايعهنَّ واستغفرْ لهنَّ اللهَ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ } (2)وعقد معهنَّ ميثاقاً طبقاً للأسس والمعايير.وبذلك يكون (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد عرَّفَ لهذه الشَّريحة من المجتمع الإسلامي مسؤولياتها ومهمَّاتها السِّياسية والاجتماعية.
فالآية المباركة تحدَّثت عن موقف النِّساء في عهد النَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ومبايعتهنَّ للنِّظام الإسلامي الفتيّ، وكان ذلك في يوم فتح مكَّة بعد أن فرغ النَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من أخذ البيعة من الرِّجال، حيث توجَّه إلى أخذ البيعة من النِّساء لمَّا أردن مبايعته، فنزلت الآية الشَّريفة وأكَّدت ضرورة مشاركة النِّساء في الأمور السِّياسية، فكانت البيعة قائمة على ما ذُكر في الآية من شروطٍ كان يلزم على النِّساء الالتزام والوفاء للنَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بها.
أمَّا كيفيِّة هذه البيعة، فقد ذكر المؤرِّخون أنَّها كانت على مستوى المشافهة بين النِّساء والنَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وقيل: إنَّه (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان قد أمر بإناءٍ مدَّ يده الشَّريفة فيه، ثمَّ أمر النِّساء بمثل ما فعل، فكان بذلك قد تحقَّق أعظم ميثاق بين الفرد والدَّولة، وقيل: إنَّ أخذ البيعة من النِّساء كانَ من وراء حجاب (الثياب) (3), وقد روي أنَّ بيعة النِّساء لأمير المؤمنين (عليه ‏السلام) يوم الغدير كانت بمدِّ اليد في الإناء أيضاً.
هذا، وقد كانت للنِّساء مشاركة في النهضة الاجتماعية- السِّياسية الكبرى، ألا وهي الهجرة، وكانت هجرتهنَّ بمثابة هجرة الرِّجال بلا أي فرق، وقد أثنى الوحي على تلك الظَّاهرة، فوصفها بأنَّها ظاهرة أصيلة، تلك الهجرة كانت في زمانٍ حُرمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الممتحنة، 12 .
(3)انظر: مجمع البيان، 9/276.

[الصفحة - 222]


فيه المرأة من أكثر حقوقها ولم يكن لها حقّ المشاركة وإبداء الرأي في القضاياالاجتماعية، قال الله تعالى: {يا أيها الّذينَ آمنوا إذا جاءكمُ المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنَّ اللهُ أعلمُ بِإيمانهنَّ فإنْ علمتموهنَّ مؤمناتٍ فلا تَرجعوهنَّ إلى الكفارِ... } (4).
والسرّ في الامتحان المذكور للنِّساء، في الآية المباركة، إنَّما هو من أجل معرفة أنَّ خروجهنَّ لم يكن لأجل خلاف عائليّ أو عدم رغبة في أزواجهنَّ ؛ فقد ورد في شأن نزول الآية- كما في بعض التَّفاسير-: أنَّ الامتحان كان باستحلافهنَّ أنْ ما خرجن من بغض زوجٍ، ولا رغبة عن أرضٍ في أرضٍ، ولا التماساً لدنيا (5).
كما أنَّ بإمكان المرأة المشاركة الفعَّالة والجادَّة في النَّهضات الاجتماعية الأخرى أيضاً، وإحداث مسار رشيد وصحيح من أجل هداية المجتمع وإرشاده، وأفضل أنموذج على ذلك مشاركة المرأة في النَّهضة الحسينيَّة يوم عاشوراء، ومشاركتها في قضية تحريم التنباك، وفي الثَّورة الإسلامية في العقدين الأخيرين؛ فإنَّ ما لعبته من دور ثوريٍّ وحماسيٍّ آنذاك لم يكن ليخفى على أحد.
منصبان لا تتصدَّى لهما: الإمامة والمرجعيَّة
ويمكن للمرأة أيضاً ممارسة نشاطاتها الاجتماعية في جميع المجالات عدا التَّصدِّي للمسؤولية في منصبين اجتماعيين خطيرين:
أحدهما: الإمامة الّتي لها وضعها الاستثنائي الخاص، فإنَّه لا يجوز لها ارتياد هذا المنصب الخطير. نعم بإمكانها الوصول إلى مقام العصمة والولاية- اللَّذين هما جوهرتا النّبوَّة والإمامة والعمدة فيهما- ومن شأنها بلوغ ذلك، فإنَّ السيدة الكبرى فاطمة الزَّهراء(علیها السلام) قد بلغت هذا المقام السَّامي، إلاَّ أنَّ التَّكليف بذلك قد رُفع عن عاتق المرأة؛ لما في هذين المنصبين الخطيرين- أعني النّبوَّة والإمامة- من مصاعب وشدائد، كالقيام بالحروب والقتال وغير ذلك.
الثَّاني: التَّصدِّي للمرجعيَّة، فإنَّ بعض العلماء لم يشترط الذكورة فيها فيما لو توافرت للمرأة سائر شرائطها العامَّة الأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) الممتحنة، 10 .
(5)انظر: مجمع البيان، 9/273.

[الصفحة - 223]


على أنَّه قد ورد، في الأخبار، أنَّ المرأة ستلعب دوراً اجتماعيا مهمّاً في مستقبل الزَّمان، وأنَّها سوف تشارك في الثَّورة المهدويَّة والنَّهضة الكبرى للإمام القائم(صلوات الله عليه)، فتكون من الثلَّة الّتي يختارها الإمام (عليه ‏السلام) في نهضته. فمن تلك الأخبار ما ورد عن الإمام الباقر (عليه ‏السلام) أنَّه قال: «... ويجيء والله ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فيهم خمسون امرأة...» (6). وهذا الأمر يحكي لنا الدَّور الاجتماعي الخطير الذي ستزاوله المرأة في المستقبل، خصوصاً وأنَّ النُّخبة من أصحاب الحجَّة(عليه ‏السلام) في غاية الفهم والإدراك والمعرفة والاعتقاد السَّليم بالدِّين، فهم شخصيَّات فذَّة لا نظير لها. والدُّخول في هذه العصبة بحاجة إلى وعيٍّ دينيٍّ، ونبوغٍ فكريٍّ وعلميٍّ، ومقدرة نفسيَّة عالية. قال الإمام الصادق، عندما سأله أبو بصير: جُعلت فداك! ليس على الأرض يومئذٍ مؤمن غيرهم (أي أصحاب المهدي) ؟ قال(عليه ‏السلام): «بلى، ولكن هذه التي يُخرجُ الله فيها القائم، وهم النُّجباء والقضاة والحكّام والفقهاء في الدِّين...» (7).
وحينئذٍ، فضرورة الانتظار لعصر الظّهور الموعود تقتضي- على الأقل- أن يكون للمرأة في المجتمع المنتظر ثقافة ووعي دينيّ رشيد وتفقّه في الشَّريعة، وهوبحاجة أيضاً إلى خبرة في الإدارة الاجتماعية والإمساك بزمام الأمور، وأنَّه لا بدَّ للمرأة من أن تتّّصف بما يليق بهذا المقام الرفيع؛ لكي يتسنَّى لها الحضور والمشاركة في هذا الانقلاب العظيم والثَّورة العالمية الكبرى.
مزاولة القضاء، للفقهاء فيها آراء شتَّى
أمَّا في ما يتعلَّق بمزاولة النِّساء للقضاء، فإنَّ للفقهاء في ذلك آراءً وأقوالاً شتَّى: ففريق منهم لم يجوِّز لها ذلك، وادَّعى عليه بعضهم الإجماع، وفريق آخر منهم- هذا الرأي مزيج من رأي المتقدِّمين والمعاصرين- جوّز لها القضاء، فالمقدّس الأردبيلي(قدّس سرّه)- من متأخِّري المتأخِّرين- منع القول بإنكار القضاء للمرأة بشكلٍ مطلق، كما أنكر الإجماع المذكور عليه. والدَّليل الآخر الذي استدلَّ المخالفون به على عدم جواز القضاء للمرأة: ما ورد عن أبي خديجة، عن أبي عبدالله الصادق (عليه ‏السلام)، أنَّه قال: بعثني أبو عبدالله إلى أصحابنا، فقال: «قل لهم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6)انظر: تفسير العياشي، 1/65 عصر زندگي (عصر الحياة)، ص 75.
(7)عصر زندگي، ص 104، نقلاً عن منتخب الأثر، ص 458.

[الصفحة - 224]


إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارٍ في شيء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسَّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا؛ فإنِّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السُّلطان الجائر» (8).
فإنه ليس من المسلَّم به عند بعض الفقهاء إرادة خصوص جنس الذَّكَر من الرَّجل في قوله(عليه ‏السلام): «اجعلوا بينكم رجلاً»، بل المراد هو فرد من النَّوع الإنساني يكون قد بلغ هذه المرحلة من النُّضج الدِّيني، وله اضطلاع ونظر وتشخيص في أحاديث الحلال والحرام والقواعد المستنبطة منها.
إنَّ الكثير من التَّعابير التي جاء الخطاب فيها موجَّهاً إلى جنس الذَّكَر إنَّما هي خطابات عامَّة وموجَّهة إلى نوع الإنسان. والسِّرّ في توجيه الخطاب غالباً إلى الرَّجل هو أنَّ للرِّجال في المجتمع حضوراً بيِّناً وملموساً وتواجداً دائماً ومستمراً.
وعليه، فليس الجنس شرطاً في هكذا أمور، بل الأمر في تلك الخطابات على نحو القضية الخارجية.
ومن المفهوم العام للحديث الشَّريف يتَّضح أنَّ الإمام (عليه ‏السلام) قد أكَّد على عدم جواز التَّعاطي والتَّحاكم إلى حكَّام الجور، علاوة على أنَّه أكَّد على محورين آخرين :
1- أنَّ القاضي لا بدَّ من أن يكون من أهل الحقِّ وأتباع المذهب العدل.
2- أنَّه لا بدَّ من أن يكون عالماً بما يرتبط بشؤون القضاء.
فالمحور العام، في الحديث المتقدِّم، هو النهي عن الرُّجوع إلى المحاكم التَّابعة للطَّاغوت. وحينئذٍ، فأدلَّة القضاء تشمل كلّ إنسان مستجمع لشرائط القضاء الّتي من جملتها: العلم، والتَّقوى، ودقَّة النَّظر، والقدرة على اتِّخاذ الموقف والقرار بعيداً عن تحكُّم العاطفة والرقَّة فيه.
هذا، ويرى بعض الفقهاء أنَّ تسنُّم المرأة منصب القضاء لا يحتاج إلى دليلٍ أو شرطٍ خاصٍّ في حالة توافر شرائط القضاء العامَّة.
وممَّا استدلَّ به المانعون أيضا حديث آخر، وهو الحديث الذي عقد له الشَّيخ الحرّ العاملي في كتابه: «الوسائل» باباً تحت عنوان: «باب أنَّ المرأة لا تُولَّى القضاء»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8)الوسائل، 18/100.

[الصفحة - 225]


والذي لا يندرج تحته إلاَّ هذا الحديث، وهو أنَّ النَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قال: «يا علي، ليس على المرأة جمعة... ولا تُوَلَّى القضاء...» (9). ولم يعمل الفقهاء بالحديث المذكور في صلاة الجمعة بل أوجبوها على الرَّجل والمرأة سواء، فكيف يمكن القول بترك العمل بشطر وفقرة واحدة من الحديث والعمل بشطره الآخر ؟! وعلى أي حال، فوجه الاستدلال بالحديث المذكور غير واضح أيضاً.
ومما لا ريب فيه انَّ إبداء الرأي في موضوعٍ كهذا بحاجةٍ إلى إعمال ذوق اجتهادي وفقهي رفيع، ولا ينبغي التَّعامل معه على مستوى الشِّعار وطبقاً للمذاق الشَّخصي الخاصّ، هذا وقد قام جماعة من الفقهاء المعاصرين بعملٍ تحقيقيٍّ في هذا المجال، وذكروا أنَّ تولّي المرأة منصب القضاء مما لا إشكال فيه.
هذا، ولكن حتّى لو توصَّلنا- بعد التَّحرِّي الشَّديد والدراسة الفقهية الدقيقة- إلى أنَّ المرأة لا تُولَّى القضاء، فلا ينبغي عدّ ذلك منقصة لشأنها، بل تلك مسؤوليَّة رُفعت عن عاتقها، ذلك أنَّ القضاء من جملة الأعمال الشَّاقَّة للغاية، فالمحاكم وما يجري فيها من أحداث وما يرتادها من مجرمين وجناة ومدَّعين ومدَّعى عليهم وما شاكل ذلك من جانب، ومن جانبٍ آخر الاضطراب الذي يخامر القاضي من أجل إرضاء الله تعالى وإرضاء وجدانه وما يبذله من جهد في سبيل معرفة الحقّ،ومن ثمَّ الحكم بالعدل ومحاسبة الناس، ذلك كلّه يهزّ الإنسان من الأعماق، فمع أخذ ذلك كلّه بنظر الاعتبار يكون ارتياد منصب القضاء أمراً صعباً وفي غاية الخطورة، وقد ورد في الرّوايات من التَّعابير الرَّادعة والمحذِّرة ما يثقل على المتأمِّل فيها أدنى تأمُّل اقتحام هذا الميدان، فقد ورد عن الإمام الصَّادق (عليه ‏السلام) أنَّه قال:«القضاة أربعة: ثلاثة في النَّار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور، وهو يعلم، فهو في النَّار، ورجل قضى بجورٍ وهو لا يعلم فهو في النَّار، ورجل قضى بحقٍّ وهو لايعلم فهو في النَّار، ورجل قضى بالحقِّ وهو يعلم فهو في الجنة» (10).
وورد في أحاديث أخرى أنَّ القضاء من عمل الأنبياء، ففي حديث عن علي (عليه ‏السلام)، وقد ألقى صبيان الكُتّاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: «إنَّها حكومة، والجور فيها كالجور في الحكم...» (11).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9)نفسه، 96.
(10)الكافي، 7/407.
(11)الوسائل، 18/528، التَّهذيب، 10/150.

[الصفحة - 226]


وحينئذٍ - وبعد أخذ صعوبة ممارسة العمل القضائي بنظر الاعتبار - ألا يكون في رفع تلك المهمَّة عن شريحةٍ خاصَّةٍ من الناس نوعاً من الخدمة لهم ؟! وهل يكون رفع التَّكليف عنهم والإرفاق بهم استنقاصاً لهم ومحواً لشخصيتهم ؟ كلاّ، إنَّ في رفع ثقل مسؤولية القضاء عن عاتق المرأة- على فرض إثباته- نوعاً من الخدمة العظيمة لهذه الشَّريحة من المجتمع الإنساني، ذلك أنَّ القضاء كسائر الأعمال الصَّعبة والشَّاقة؛ من قبيل الجهاد، خصوصاً بعد الالتفات إلى أنَّ النِّساء أشدّ عاطفة ورقَّة من الرجال، وإلى أنَّ التأثُّر بالعواطف يشدِّد من الأزمة في هذا المجال.
وعليه، فالقضاء توظيف وتكليف ومواجهة، وليس امتيازاً ومنصباً !
المكانة الاجتماعية للمرأة
وفي ما يرتبط بالمكانة الاجتماعية للمرأة يمكن الإشارة إلى نحوين من أنحاء النَّشاط الاجتماعي:
أ- النَّشاطات الثقافيَّة والعلميَّة
لا يخفى أنَّ الإسلام رغَّب في طلب العلم وتحصيل المعرفة وإفشاء ذلك في أوساط المجتمع، كما شجَّع على ضرورة التَّكامل العلمي من دون فرق في ذلك بين الأفراد والطَّبقات، وفي الأيات الشَّريفة دلالة واضحة جدّاً على ذلك، كما انَّ في الأحاديث أيضاً تأكيداً حثيثاً على ضرورة التَّكامل المعرفي والنَّزعة العقليَّة في المجتمع، حتّى انَّه عرّف الدِّين بالعقل، قال أمير المؤمنين(عليه ‏السلام): «العقل شرع من داخل، والشَّرع عقل من خارج» (12), وللنَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في هذا المجال حديث معروف ومتواتر ذكره أهل العلم من المذاهب الإسلامية جميعها وأخذوا به. قال(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ» (13)ولم ترد لفظة «مسلمة» في بعض النُّصوص، فلفظة «مسلم» في تلك النُّصوص اسم جنس يشمل الرَّجل والمرأة كلفظة «مؤمن» و...، وهذا مما لا ريب فيه.
ثمَّ أنَّه لا يشترط إذْنَ الزَّوج في تعلُّم المرأة واكتسابها للكثير من العلوم؛ كتعلُّم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12)انظر: مجمع البحرين، 2/224، طبعة دفتر نشر فرهنك إسلامي.
(13)انظر: الحياة، 1/70.

[الصفحة - 227]


أصول الدِّين والعقيدة، وتعلُّم الأحكام الشَّرعية الواجب على النِّساء تعلُّمها، وهذا النَّحو من الأمور التَّكليفيَّة لا أثر لمنع الزوج من تعلّمه.
لقد أزيلت، بعد ظهور الإسلام، الموانع والعقبات عن طريق كلّ من أراد التعلُّم، خصوصاً هذه الشَّريحة، الأمر الذي أفسح للمرأة مجال الدُّخول في ميادين العلم والمعرفة، فلم يمض كثير من الوقت حتّى بلغت نسوةٌ من المعرفة بالدِّين ما بلغنَ، وحُزْنَ مقاماً رفيعاً في العلم والمعرفة، ولنذكر أنموذجاً لذلك، فقد روي- في حقِّ إحدى النِّساء المتعلِّمات والمنتهلات من تعاليم هذا الدِّين القويم- أنَّ زوج بريرة شكا زوجته (بريرة) إلى رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بأنَّها تركت البيت وخرجت، فدعاها رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وقال: «ارجعي إلى زوجك»، فقالت: أتأمرني يا رسول الله ؟ فقال: «لا، بل أنا شافع» (14). ويستفاد من هذه المحاورة الموجزة أنَّ هذه المرأة قد بلغت درجةً من التَّكامل في إدراك المفاهيم الدِّينية ومعرفة ضوابط أحكام الشَّريعة، حتى أنَّها صارت في صدد تحليل كلام النَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وعرضه على المقاييس الدَّقيقة عندما سألت: أتأمرني يا رسول الله ؟ أي هل أنَّ ذلك واجب بلحاظ كونك مقنِّناً ومشرِّعاً وأنًَّه أمر مولوي تشريعي، أو انَّه مجرد إرشاد من أجل إصلاح ذات البين ؟ فأيَّد (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ما فهمته بقوله: «لا، بل أنا شافع».
وقد استدلَّ الفقهاء وعلماء الأصول بالحديث المذكور في هذا الموضوع على أنَّ الأمر بالشَّيء، لو لم يقترن بقرينة، فهل يدلّ على الوجوب أو لا ؟وعلى أيَّة حال، فإنَّ هذا الأنموذج ونظائره من النَّماذج الكثيرة يكشف عن مستوى الإدراك الرَّفيع الذي بلغته بعض النِّساء في الجاهلية ممن لا معرفة لهنَّ بشيءٍ من الثَّقافة.
وأمثال هذه المرأة كثير في تاريخ الإسلام، بل كم لها من نظير في كلِّ عصر ومصر إلى يومنا الحاضر! وما نأمله من الرَّابطة النسوية المسلمة، بخاصَّة، والمفكِّرين بعامَّة، هو القيام بدراسة تاريخ هذه النَّماذج من النِّساء منذ عصر النَّبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وعصر الأئمة (عليه ‏السلام) وإلى زماننا الحاضر، وندعوهم جميعاً إلى الكتابة والتَّأليف في هذا المجال وجعله في خدمة الجيل الجديد، وإن كان لا يخفى على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)انظر: كفاية الأصول (للآخوند الخراساني), المجلد الأول، مباحث الأوامر.

[الصفحة - 228]


أحد وجود تآليف وتصانيف كثيرة قد سطِّرت في الكتب منذ العهد القديم، إلاَّ أنَّ موضوع المرأة المطروح في الكتب المؤلَّفة في زماننا هذا أقلّ رونقاً وجمالاً وساحريةً في البيان، إذ نأمل من جميع المفكِّرين- خصوصاً النِّساء من ربَّات القلم والفكر والبيان- ملء هذا الفراغ، والقيام بهذه المهمة وإتمامها على أحسن وجه.
ب- النَّشاطات الاقتصادية
إنَّ للنِّساء حقّ المشاركة في ميادين العمل جميعها بما في ذلك الأمور والقضايا الاقتصادية، كما أن لهنَّ حقوقاً مساويةً لحقوق الرِّجال في المجالات جميعها وعلى مختلف الأصعدة، فقد مُنحت النِّساء في أوروبا هذا الحقّ، ولكن بعد قرون، لا لشيء سوى لتحقيق أهداف الاستثمار في النِّظام الرأسمالي:
«... لقد جعلت الثَّورة الصِّناعية من المرأة يداً عاملةً وآلةً صناعيةً... حيث كان أرباب العمل يرجِّحون اليد النسوية العاملة على اليد العاملة من الرِّجال... وكان القانون، عام 1882، هو الخطوة الأولى في حرِّية نسائنا الأماجد، لقد حصلت نساء بريطانيا بموجب هذا القانون على امتيازات لا نظير لها، وذلك بمنحهنَّ حقّ الاحتفاظ بما يحصلنَ عليه من أجور عملهنَّ، وكان قد وضع هذا القانون من قبل أرباب المصانع ورجال من مجلس العموم ترغيباً منهم للنِّساء الانجليزيات من أجل العمل في المصانع...» (15).
المرأة أساس الأُسرة
لا تخفى أهميَّة الأسرة على أحد، كما لا يخفى الدَّور الأساس والبنَّاء الّذي تلعبه الأسرة في تربية الجيل وتنشئته، وما تمنحه من السَّكينة والطُّمأنينة للرَّجل، فالأسرة هي النَّواة الأولى للمجتمع، ولذلك نرى بعض الكتَّاب - ممَّن ينظر إلى حياة الإنسان نظرته إلى الآلة والماكنة، والذي كثيراً ما تحدَّث عن الأمَّهات الموظَّفات للإنجاب، وعن الأبوين البيولوجيين والوالدين المحترِفَين، وعن الأبناء المتولِّدين عن طريق الآلات والأجهزة الصناعية - لم يتمكَّنوا من التَّستُّر والتَّكتُّم على قلقهم ومخاوفهم من انهدام الأسرة وتفكّكها باعتبارها أساس المجتمع والحضارة البشرية، يقول تافلر: «... التفكّك في الأسرة هذه الأيام هو في الواقع بعض الأزمة العامَّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15)لذات فلسفة (لذَّات الفلسفة), ويل ديورانت ،ص 158.

[الصفحة - 229]


التي يمرّ بها النِّظام الصناعي، فها نحن جميعاً نشهد التَّفكُّك والتَّحلُّل في جميع المؤسّسات العصرية، حتى إنَّ النِّداء القائل: إنَّ العائلة سوف تتفكَّك وتتلاشى، وإنَّ الأسرة هي أهم موضوع... (16)قد طرق أسماعنا مراراً، فقد بلغت إحصائيَّة الطَّلاق في السنوات الأخيرة في الأسر الأمريكية إلى حدّ يكون فيه طفل واحد من بين سبعة أطفال تحت رعاية أحد الأبوين وتكفّله، وارتفعت هذه الإحصائيَّة في المدن إلى حدّ صار فيه طفل واحد من بين أربعة أطفال تحت رعاية أحد الأبوين» (17).
ويعتقد البروفسور والطَّبيب النَّفساني الدكتور «إيروين كرين برك»، الأستاذ في جامعة أنشتاين للعلوم الطِّبية: «إنَّ الناس يقدمون على الزَّواج نتيجة بناء وهيكلية خاصّين، فالأسرة طبق هذه النَّظرية كالأصل المتجذِّر يحمله الإنسان معه أينما ذهب، وهي بمثابة صمَّام الأمان تصونه وتحفظه من الحوادث والتَّطورات المستجدَّة.
والحاصل أنَّه كلّما كانت البيئة التي يعيش فيها الإنسان متزلزلة وحديثة البناء والأساس برزت أهميَّة الأسرة أكثر..» (18).
ويقول أيضاً: «... وعلى ايَّة حال، فالأمر المهم والحسَّاس الذي يبدو واضحاً من خلال هذه التَّطورات جميعها هو تواجد نغمة خفيفة في أفعال الإنسان- وهذا مالم يبحثه العلماء جيداً- النَّغمة التي كانت منذ القدم بمثابة القوّة التي تحفظ التَّعادل في المجتمع، تلك القوة التي خدمت الإنسان كثيراً، ألا وهي الأسرة...
ذلك الأمر الأزلي الذي يعمل آلياً وبكلِّ قوَّة وصلابة، الأمر الذي لم يتساءل عنه أحد من النَّاس بل أخذوه أخذ المسلَّمات... إن هذه السلسلة من الأحداث المتتالية والتي يمكن التَّكهُّن بها تمنح البشر جميعهم- من أي قبيلة أو مجتمع كانوا- الشّعور بالبقاء والثقة بوجود الأساس والرُّكن القويم الذي يتمكَّن الإنسان من الاعتماد عليه في مواجهة الأمور ومعالجتها... إذاً الدَّور الذي تلعبه الأسرة في حياة الإنسان يعدّ دائماً أحد أركان المحافظة على السَّلامة النَّفسية والرُّوحية للإنسان...» (19).
وجاء في كتاب »به سوى تمدّن جديد« (20): ومن جهةٍ أخرى، يعتقد «لوين تافلر» أنَّ أحد أهم ظواهر التَّيّار الثالث بزوغ مرحلة شوكة الأسرة والاحترام المتبادل فيها وأهميَّتها مرّة أخرى، ذلك أنَّ التيّار الثاني (الحضارة الصِّناعية) قد قضى تماماً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16)شوك آينده (صدمة المستقبل), الوين تافلر، ص 139 -249.
(17)موج سوم (التيار الثالث), الوين تافلر، 289و396.
(18)شوك آينده، ص 240.
(19)نفسه، 258و259.
(20)نفسه.

[الصفحة - 230]


على شوكة الأسرة، فذهب بذلك أدراج الرِّياح جميع ما كان يعدّ من خصائص الأسرة في مرحلة التَّيّار الأوَّل، وحينئذٍ فبدلاً من أن يكون التَّمريض ورعاية المريض في البيوت صار يُمارس في المستشفيات، وهكذا أُرسل الأطفال الصِّغار إلى المدارس ودور الحضانة، والطَّاعنين في السِّن إلى دور العجزة، وصار الأزواج يقضون أكثر أوقاتهم في الزِّيارات والولائم والمطاعم وأماكن التَّرف والنُّزهة، فما بقيَ من الأسرة سوى تلك الوشائج العاطفية التي يمكن أن تزول هي الأخرى بسهولة في يومٍ من الأيام. أما التَّيّار الثالث (عصر التَّقنية والتَّطوّرالتَّكنولوجي) فقد أحيا الأسرة من جديد، وأعاد لها وللبيت الشَّوكة والعزَّة المصادرتين؛ وذلك انَّ اغلب النَّاس صاروا اليوم يزاولون أعمالهم في البيت بعد غزو الحاسوب وجهاز الإرسال الألكتروني (الفاكس) وأجهزة الهاتف المنوَّعة وذات الامتيازات المختلفة، وغير ذلك من وسائل الارتباط المختصَّة بمرحلة التَّيّار الثالث... وحينئذٍ سوف يأخذ الكثير من الآباء في تعليم أبنائهم في البيوت مستعينين بالأجهزة ووسائل الارتباط المتطوّرة والحديثة، بل يمكن بوساطة ذلك أيضاً القيام برفع الضرورات الطِّبيَّة أيضاً- حتّى القيام بمثل العمليات الجراحية البسيطة و...- في البيت بالاستعانة بالحاسوب الأم المتَّصل بالمراكز الطِّبيَّة... والحاصل فلو قضى أفراد الأسرة أكثر أوقاتهم داخل البيت فأنَّه سوف تستحكم العلاقات العاطفية بينهم أيضاً، وبذلك سوف تقوى شوكة الأسرة وتزداد أهميتها بمراتب عمَّا كانت عليه في التَّيّار الثاني...».
إلى أن قال: «إنَّي لا اعتقد- ولما ذكرت من أسباب- أن يكون شيء من تلك الأمور هو الأساس في مجتمع المستقبل، بل البيت (الأسرة) هو الذي سوف يكون مركز الحضارة في المستقبل، وفي اعتقادي أنَّ الأسرة سوف تكون في التَّيّار الثالث ذات أهميَّة مذهلة، وسوف تدبّ فيها روح جديدة؛ فإنَّ رواج منهج التَّصنيع والاستهلاك، واتِّساع رقعة استعمال جميع الألكترونيات، واختراع أساليب حديثة في الاقتصاد، وآلية الصِّناعة والتَّصنيع المتزايد، إنَّ في ذلك كلّه مؤشِّرات لعودة الأسرة بوصفها الأساس في مجتمع المستقبل، الأسرة التي سوف يكون لها دور فاعل في مضاعفة النَّشاطات الاقتصادية والتَّربوية والاجتماعية في المستقبل، لا تحديد تلك النَّشاطات وتحجيمها» (21).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21)به سوى تمدن جديد (نحو حضارة جديدة), الوين تافلر، ص 12و13.

[الصفحة - 231]


إنَّ للمرأة في البيت- إلى جانب ما لها من أدوار أخرى ظاهرة وغير ظاهرة- دورين أساسيَّين، نشير إليهما في هذه الدِّراسة التَّقييمية :
1- إنَّ المرأة تؤدِّي دور إعادة بناء الشَّخصية من جديد، ولها القدرة والتَّأثير الإيجابي والمفيد على الرَّجل، فالاطمئنان والسَّكينة الّتي تعطيها المرأة للرَّجل لايمكن استبدالها بايّ شيءٍ أبداً. يقول« ويل ديورانت»: «إنَّ المرأة الّتي بإمكانها تبديل الرَّجل الخيالي والضَّائع المتحيّر إلى رجلٍ كلّه إيثار وعلاقة بالأسرة والأطفال، إنَّ مثل هذه المرأة سبب حفظ النَّوع وبقائه...» (22).
وقد رفع القرآن الكريم السّتار عن هذه الحقيقة، وذكر الدَّور المشروع الذي يمكن للمرأة أن تؤدِّيه، قال تعالى: {ومن آياتهِ أنْ خلقَ لكُمْ من أنفسكمْ أزواجاً لتسكنوا إليها وجعلَ بينكمْ مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون } (23).
فالرَّجل يجد في السَّكن إلى الزَّوجة الاطمئنان الكبير، وتكون الحياة الزَّوجية في ظلِّ ذلك كالزَّورق الذي يصل إلى ساحل الأمان، ويترك وراءه القلق والمخاوف والاضطراب والحيرة، حينها يتحرَّر الرَّجل في تفكيره وحياته من جميع القيود.
ثمَّ إنَّ الأسرة تعطي الرِّجال درس المسؤولية والتَّكاليف والمقرَّرات، حيث تبعث فيهم وبالتَّدريج حسّ الشّعور بالمسؤولية والالتزام، حتى تجعل من الرَّجل معتقداً بذلك، كما أنَّ الأسرة تعلِّم الرَّجل فنَّ الإدارة في إطارٍ صغيرٍ ومحدودٍ، وهذا امر في غاية الأهمية ولا نظير له في المؤسَّسات التَّعليمية جميعها، فإنَّه يستحيل إعطاء درس الإدارة والالتزام بهذا الشَّكل العيني الملموس؛ الدَّرس الإنساني والعاطفي في الوقت نفسه.
بناءً على ذلك، نجد أنَّ استعداد الرَّجل وقدرته على أداء دوره الصَّحيح في المجتمع وغير ذلك ممَّا يُتوقَّع منه من وظائف، نجد ذلك كلّه يظهر ويبلغ درجة الفعلية في ظلّ تواجد الرَّجل إلى جانب أسرته وزوجته.
2- الدَّور المهم الآخر للمرأة هو مهمَّة الأمومة ورسالتها، وهذا الدَّور أيضاً من أهم الأدوار الأساسية، ومن قواعد الأسرة وأركانها في بناء الإنسان وإعداده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22)لذات فلسفة، (لذَّات الفلسفة)، ص 49.
(23) الروم، 21 .

[الصفحة - 232]


وللرِّسالة المذكورة الّتي تحملها الأم مراحل طويلة تكون فيها الأم وبحقّ المربِّية الحقيقية للأولاد من حين انعقاد النُّطفة في الرَّحم وحتّى مرحلة دخول الطّفل إلى المدرسة.
كما يكون للأم في المراحل اللاَّحقة، وحتى آخر لحظات عمرها، تأثير جدِّي على سلوك أبنائها، بالرّغم من أنَّ تلك المراحل هي مراحل استقلالهم. ومن الطَّبيعي فإنَّ المرحلة التي تترك فيها الأم تأثيراً بالغاً هي مرحلة الرّضاعة والطّفولة، فإنَّ أبعاد شخصية الطِّفل جميعها تكمن في هذه المرحلة- الّتي تكون طويلة نسبياً- على يد الأم وفي أحضانها الدَّافئة. وفي هذه المرحلة يصل الطِّفل إلى ما ينبغي أن يصل إليه ويستغني بما قد اختزنه من الأم من رأس مالٍ أساسيّ وعطاءٍ ثرٍّ في هذه المرحلة، كما تكون الأجواء التَّعليمية أيضاً مبنيَّة على الأساس الذي وضعته الأم؛ حيث يمارس الطِّفل نشاطاته بناءً على ذلك. ولذا نجد أنَّ الإسلام قد أكَّد كثيراً على مرحلة الحمل، وما بعد الوضع، والرّضاعة وغيرها، وقد أوصى الأمهات بذلك، وأصدر بشأنه تعليماتٍ ترتبط بفسلجة البدن تشتمل على بيان كيفيَّة الرّضاع والطّعام المناسب وغير ذلك، كما أصدر بذلك تعليماتٍ نفسيَّة وتربوية لا بدَّ من توفيرها للأبناء، وذلك جميعه مؤثِّر جداً في الدَّور الأساسي الذي تقوم به المرأة في أداء مهمَّتها ورسالتها الخطيرة (الأمومة) في تربيتها للأبناء؛ ذلك انَّ أجمل ما يمكن للمرأة القيام به هو هذا الدَّور (الفن) الذي يعجز عن أدائه غيرها بمثل هذه الرَّوعة والجمال.
وعليه فـ «لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ قمَّة الرَّوعة والجمال في العالم تلك المرأة التي تُرضع صبيها لبن الصَّحة والسَّلامة».
وحينئذٍ، فإنَّه ينبغي على التَّعاليم الّتي تريد صالح المرأة والدِّفاع عن حقوقها والوقوف إلى جانبها وقفة إنسانية أصولية، ينبغي لها أن تلتفت إلى عمق هذا البعد - دور الأمومة - في حياة المرأة، وعدم التَّضحية به من أجل بعض الأمور الاجتماعية سريعة الزَّوال.
جاء في كتاب« لذَّات الفلسفة»: «كما يمكن أن يكون للمرأة نبوغ وإبداع في مجال الأمومة، فإنَّه يمكن أن يكون لها ذلك النُّبوغ أيضاً الذي للرَّجل في مجال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة - 233]


السِّياسة والأدب والحرب. أمَّا في ما يتعلَّق بمساواتها للرَّجل فإنَّه لا يصحّ الحكم بمساواة إبداع المرأة ونبوغها في ذلك المجال لما يتمتَّع به الرَّجل من قدرة على اداء مهمَّاته بمهارة... فالإبداع إنَّما يكون إبداعاً في ما إذا كان للشَّخص القدرة الكافية على أداء المهمَّات والوظائف الّتي وضعتها الطَّبيعة على عاتقه رجلاً كان أو امرأة» (24).
لقد أكَّد الإسلام كثيراً على دور الأم وعظمته لتستوثق وتستحكم علاقة الأبناء بقطب الرَّحى في الأسرة وتقوى عرى النِّظام العائلي أكثر فأكثر، كما أنَّه نجد في كلمات المخلصين من المفكِّرين- الذين شغلوا بالهم كثيراً من أجل إيجاد حلول أفضل تحسّن من الأوضاع في المجتمعات البشرية- توصيات كثيرة للنِّساء بعدم التَّغافل عن الدور الأصيل (دور الأمومة)، كما حذَّروهنَّ من الوقوع تحت تأثير الإعلام والتَّهريج في رفع شعار مساواة المرأة للرَّجل لئلاَّ يكون ذلك معوِّقاً وحجرعثرة في طريق أدائها للدَّور المذكور بصورة تامَّة وصحيحة، حيث إنَّ ترك العمل بذلك خسارة فادحة يكون من الصَّعب تفاديها بشيء، تلك الخسارة التي كثيراً ما نجد لها نماذج في الأطفال الذين يفقدون حنان الأم وأحضانها الدَّافئة، أو تلك الأسر الّتي تهدَّمت بمعول الطَّلاق.
«.. إنَّ الفتاة الشَّابة، ومن أجل أن تكون صالحة لتربية جيل من الأبناء النُّجباء، لا بدَّ من أن تكون قد أعدَّت نفسها لكسب العلوم والمعارف، لا من أجل أن يكون أبناؤها قضاة أو أساتذة فحسب» (25).
ولا بدَّ من إصدار تعليمات للنِّساء في خصوص دور الأمومة والتَّنبيه على أنَّه أهم أدوار المرأة في الحياة، حيث إن تكامل المرأة مادياً ومعنويّاً بل حتّى سلامتها الجسدية أيضاً منوط بأدائها لهذا الدَّور.
«... لا يصل جنس الأنوثة إلى التَّكامل المطلوب- على الأقل في ذوات الثَّدي- إلاَّ بعد تعاقب الإنجاب. فإنَّ العواقر من النِّساء سريعاً ما يصبنَ بأزمة عصبيّة حادَّة ربَّما لا تصاب بها غيرهنَّ من النِّساء، كما أنَّهنَّ سريعاً ما يفقدن الاعتدال النَّفسي، لكنَّ النِّساء- بصورةٍ عامَّةٍ- لا علم لهنَّ بأهميَّة الإنجاب وتأثيره على البدن، ولايدركن ضرورة ذلك من أجل التَّكامل، وحينئذٍ فليس من المنطقي عطف نظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24)لذات فلسفة، (لذَّات الفلسفة)، ص 247.
(25)إنسان موجود ناشناخته (الإنسان ذلك المجهول)، ص 103و314.

[الصفحة - 234]


المرأة عن وظائف الأمومة. كما أنَّه لا يصحّ أن نملي على الشَّباب من الذّكور ما نُمليه على الشَّابات من حيث طريقة التَّفكير، ونوع الحياة، والأهداف، واختيار القدوة، وغير ذلك».
إنَّه لا ينبغي لنا أن نفسح في المجال أمام ما يطرح من شعارات الحرِّية والمساواة بين المرأة والرَّجل لئلاَّ تتزلزل وتضعف هذه المهمَّة والرِّسالة الخطيرة وتذهب بأهداف الأمومة السَّامية أدراج الرِّياح، فإنَّ الخوف، الخوف كلّه ممَّا يحمله مستقبل الحضارة البشرية، وهذا التَّخوُّف لفت أنظار المفكِّرين أكثر نحو قضايا الأسرة والدَّور الأساسي الذي لا بدَّ للنِّساء من القيام به لكي لا تتزعزع عرى الأسرة، وحتّى تتمكَّن النِّساء من الإمساك بزمام الأمور أكثر، وحذار، ثم حذار، من أن تتجاوز المرأة ميادين عملها إلى ميادين عمل الرَّجل متناسية مهمَّتها ورسالتها الأولى والدَّور الفاعل لها في الحياة، فإنَّ الرِّسالة والدَّور اللذين تؤدِّيهما المرأة هما أخطر وأهم بكثير من أعمال الرِّجال ومن التَّقليد الأعمى لهم.
يقول« ويل ديورانت»: «... عندما يكون الإعلام عن حرِّية المرأة فعلى المطبِّلين لذلك أن يعلموا أنَّ الرَّجل لا ينقصه ولا يعوزه شيء، بل المهم هو كون المرأة متكاملة... فلو عجزت الطَّبيعة عن رعاية الأسرة والطِّفل وحفظهما فما ذلك إلاَّ لأنَّ المرأة قد تناست الطَّبيعة مدَّة من الزَّمان، ولكن لا يدوم الخروج على الطَّبيعة أبداً» (26).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26)لذات فلسفة،« لذَّات الفلسفة»، 149و154.

[الصفحة - 235]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف