البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التاريخ الشيعي في جبل عامل البدايات والتطوّرات

الباحث :  الشيخ علي حب الله
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  49
السنة :  السنة الثالثة عشر شتاء 1429هجـ 2008 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  4614
التاريخ الشيعي في جبل عامل
البدايات والتطوّرات

الشيخ علي حب الله (*)

المشهور والمعروف أن أبا ذر الغفاري أحد صحابة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، أسلم باكراً وحسن إسلامه، وقد أمره الرسول قبل الهجرة بالعودة إلى قومه (غفار)؛ لذا لم يشهد مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بدراً ولا أحداً ولا الخندق، ثم لحق برسول الله في المدينة. كما أن المشهور أنه كان من أصحاب أمير المؤمنين وبني هاشم عامة، وكذلك كان مناهضاً لسياسة عثمان بن عفان الخليفة الثالث في سياسته المالية والإدارية حتى نفاه إلى الشام، وكان معاوية بن أبي سفيان والياً عليها، ثم استقدمه عثمان المدينة بعد تبرّم معاوية منه، ثم نفي إلى الربذة، وهي قرية في جوار المدينة المنورة، وتوفي هناك.
من جهة اسمه ونسبه يبدو أن ثمة خلطاً واختلافاً فيه؛ فابن سعد في طبقاته يورد اسمه ونسبه على الشكل التالي: جندب بن جنادة بن كعيب بن صعير بن الوقعة بن حرام بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن حمزة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر(1).
وقد تقلّد أبو ذر مهاماً عديدة زمن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) كما تشير المصادر التاريخية، وشارك في جميع الغزوات والمعارك التي وقعت بعد الخندق على وجه التقريب، وتشير المصادر نفسها إلى تعيينه مسؤولاً عن المدينة أثناء غياب النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) في غزوة بني المصطلق وغزوة المريسع، وربما في غيرها حسب هذه المصادر، وبعد وفاة النبي
________________________________________
(*)باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، من لبنان.
(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى 4: 219، دار بيروت، 1957م؛ وبين المؤرّخين ـ كما قلنا ـ اختلاف، راجع حول هذه النقطة ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة 1: 301، المكتبة الإسلامية طهران، وكذلك 5: 186 وما بعدها؛ وأيضاً الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين في الحديث 3: 338 طبعة أولى، حيدر أباد الدكن، 1341هـ؛ وابن حزم، جمهرة أنساب العرب: 186، دار المعارف، مصر، 1962م؛ وابن عبد البر، الاستيعاب، القسم الأول: 252 طبع مصر؛ وابن حجر العسقلاني، الإصابة 4: 60 وما بعدها.

[الصفحة - 248]


نرى أبا ذر في معسكر أبي عبيدة الجراح أثناء توجه هذا الأخير إلى الشام في السنة الثالثة عشر للهجرة (2)، وكذلك شارك في الحملة التي وجّهت إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص، وفي عهد عثمان ينتقل أبو ذر للعمل تحت إمرة معاوية بن أبي سفيان، فيشارك معه في موقعتين وهما: أرض الروم، وقبرص (3).
هذا، وقد ورد في مدح أبي ذر جملة من الروايات منها قول النبي(صلي الله عليه و آله و سلم): «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» (4). وقوله: «أبو ذر في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده» (5). وقوله: «يا أبا ذر! إنك منّا أهل البيت» (6). وقوله: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» (7).
وكذلك نقل المؤرخون عنه حديثاً جرى بينه وبين الرسول، ووصية أوصاه بها، وكذلك رويت عنه أحاديث في الزهد وذم من يكنز المال. منها قوله: إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل (8). وقال له رجل: يا أبا ذر! إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز. وقوله: «ذو الدرهمين أشدّ حساباً من ذي الدرهم»(9).
وروي أن عثمان نظر إلى عير مقبلة، فقال لأبي ذر: ما كنت تحسب أن تحمل هذه؟ قال أبو ذر: رجالاً مثل عمر (10). وقال شيخ من أهل الشام: سمعت أبا ذر (رضي الله عنه) يقول: من أراد الجنة فليصمد صمودها (11).
والناظر في مجموع ما روي عنه وما قيل فيه ـ وهو قليل نسبياً ومحصور، ويمكن الاطلاع على مجموعه من الكتب العديدة المعتبرة ـ لا يجد طبقاً لذلك لا أقلّ في المصادر غير الشيعية في شخصية أبي ذر رجلاً يعيش همّ الدعوة لعلي(عليه السلام) ولا لأحقيته في الخلافة!!! بل قد روي عنه ما ربما يضادّ ذلك، فقد جاء في مسند أحمد بن حنبل عن أبي ذر عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) أنه قال: «اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة فعليكم بالجماعة، فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هدى» (12).
لكن في مقابل ذلك، جاء في الكشي عن أبي ذر: إن كانت بعدي فتنة ـ وهي كائنة ـ فعليكم بكتاب الله والشيخ علي ابن أبي طالب(عليه السلام)؛ فإني سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)
________________________________________
(2)الواقدي، فتوح الشام 1: 60 طبع مصر؛ مونتغمري واط، محمد في المدينة: 158 المكتبة العصرية، صيدا.
(3)ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 30: 77؛ البلاذري، فتوح البلدان: 158.
(4)الطبقات الكبرى 4: 228؛ المستدرك على الصحيحين 3: 342.
(5)الاستيعاب 1: 255.
(6)الشيرازي، الدرجات الرفيعة: 231.
(7)الواقدي، المغازي 2: 100.
(8)ابن عبد البر، العقد الفريد 1: 265.
(9)الحديثان أوردهما أبو نعيم الإصبهاني، حلية الأولياء 1: 162 ـ 164.
(10)الجاحظ، البيان والتبيين 3: 177 طبعة أولى، لجنة التأليف والترجمة والنشر، عام 1949.
(11)حلية الأولياء: 164.
(12)مسند أحمد 5: 145.

[الصفحة - 249]


يقول: علي أول من آمن بي وصدقني، وهو أول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو الفاروق بعدي يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة (13).
كان لا بد من الإضاءة على هذه الجوانب المهملة من حياة أبي ذر الغفاري بإبراز جوانب عديدة يمكن استنزافها في بيان النقطة الأهم في البحث حول مقدار أثر الغفاري في تشيع جبل عامل كحقيقة تاريخية، في حين أن الباحثين أسرفوا في الاقتصار على جانب واحد من جوانب حياته، وهو الزهد والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، مضافاً إلى ما في هذا الجانب من انتفاضة ثورية اجتماعية على الأوضاع المالية والإدارية السائدة في زمانه، كلّ ذلك على حساب طمس آرائه السياسية تجاه موضوع الخلافة، وهو الموضوع الحديث العهد آنذاك.
تاريخ التشيع في جبل عامل
لم يجاف محمد جابر آل صفا الحقيقة عندما قال: «لا أكتم أن البحث في تاريخ جبل عامل بوجه خاص عسير جداً، وعمل شاق، يكتنفه الغموض، ويحيط به الإبهام لقلة المستندات وضياع الوثائق(14).
هذا ما هو عليه الأمر فيما يخصّ تاريخ هذا الجبل وهذه المنطقة في العصور المتأخرة والحديثة؛ فما ظنك بحال تاريخه الذي يعود إلى ما يقارب 1550 سنة؟ كيف يمكن، والحال كذلك، نسبة تشيع أهل جبل عامل إلى أبي ذر كحقيقة تاريخية؟
تفيد المصادر التاريخية القليلة إلى تواجد أبي ذر في بلاد الشام في الفترة الواقعة بين عامي 23 ـ 30 هجرية، وهي الفترة التي حكم فيها الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فتكون إقامته التي قضاها في تلك البلاد سبع سنوات على الأرجح. وإذا كنا لا نعرف عن أبي ذر شيئاً خلال خلافة أبي بكر وعمر، فإن ذلك لا يسوّغ القول بأن فترة مكوثه في الشام تزيد عما ذكرنا. لكن لا يمكن لمجرد أن أبا ذر قضى تلك الفترة من الزمن في تلك المنطقة القول بأنه هو من بذر التشيع فيها.
ويظهر من التتبع في هذا المجال أن ما ذكره الحر العاملي شكّل محوراً لكل ما
________________________________________
(13)رجال الكشي: 9، مؤسسة الأعلمي، كربلاء.
(14)محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل: 15، دار النهار، بيروت، طبعة ثانية، 1981.

[الصفحة - 250]


كتب في هذا الموضوع، أعني موضوع التشيع وتاريخه في جبل عامل، لنورد أولاً ما قاله الحر العاملي في كتابه أمل الآمل في الفائدة الثالثة من مقدمته، قال: وثالثها: أن تشيعهم أقدم من تشيع غيرهم. فقد روي أنه لما مات رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لم يكن من شيعة علي(عليه السلام) إلا أربعة مخلصون: سليمان، والمقداد، وأبو ذر، وعمار، ثم يتبعهم جماعة قليلون اثني عشر، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفاً وأكثر ثم في زمن عثمان لما أخرج أبا ذر إلى الشام بقي أياماً فتشيع جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم، ثم لما قتل عثمان وخرج أمير المؤمنين(عليه السلام) من المدينة إلى البصرة ومنها إلى الكوفة تشيع أكثر أهلها ومن حولها، ولما تفرّقت عماله وشيعته كان كل من دخل منهم بلاداً تشيع كثير من أهل تلك البلاد بسببه، ثم لما خرج الرضا(عليه السلام) إلى خراسان تشيّع كثير من أهلها، وذلك مذكور في التواريخ والأحاديث.
فظهر أنه لم يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة، وقد كان أيضاً في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون، وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت أهل جبل عامل (15).
لكن لا يغيب عن بالنا أن الحرّ توفي سنة 1104هـ ولم يذكر مصدر معلوماته، وإذا كانت الوثيقة التاريخية هذا حالها كيف يمكن التعويل عليها؟! وكيف نفسّر النسج على منوالها من قبل المتأخرين؟
هذا، ونزيد على ما سبق، بأن المعلومات القليلة المتوفرة والتي يمكن عدّها مصادر تاريخية، لم تبين نقطة ضوء تساعدنا في فهرست المدن أو القرى التي يقال عن إقامته فيها. ويبدو أن هذا الغموض هو الذي حدا بالسيد محسن الأمين إلى القول: «ثم إن تشيع أهل جبل عامل على يد أبي ذر الغفاري الذي يشير إليه الحر العاملي وإن لم يرد به خبر يعتمد عليه، ولا ذكره مؤرخ، غير أنه يورد أن هذا الخبر، يمكن الاستئناس له بشيوعه بين أهل تلك البلاد، وبرأيه يعود ذلك إلى وجود مسجدين منسوبين إليه في تلك البلاد، أحدهما في قرية «ميس» والآخر في قرية «الصرفند». إلى أن يقول: «فإما أن يكون هو قد أنشأ هذين المسجدين عند تجوله في
________________________________________
(15)الحر العاملي، أمل الآمل: 13، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط 2، 1983.

[الصفحة - 251]


القرى، أو أن يكونوا قد بنوا في محل إقامته مسجداً نسبوه إليه (16).
إلاّ أن كلام السيد الأمين لم يفاجئنا بركاكة القيمة التاريخية لما ذكره، وإنما الدهشة فيما أفاده في نفس المصدر بقوله: لا ريب أن معاوية نفاه من دمشق إلى القرى، فجعل ينشر الدعوة لعلي وأهل بيته فيها ضدّ بني أمية، فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فأعاده إلى المدينة، ثم نفاه إلى الربذة؛ وذلك أن معظم كتب المؤرخين لم تذكر عبارة واحدة عن نشر أبي ذر الدعوة لعلي، وكل ما أشارت إليه هذه المصادر هو جدل أبي ذر مع الخليفة عثمان وواليه حول المسائل المالية والإدارية، وحول تطبيق أحكام القرآن، وخاصة الآيات المتعلقة بالناحية الاجتماعية.
وهكذا يبدو أن مسألة إثبات تواجد أبي ذر الغفاري في منطقة جبل عامل، وإن جاءت تشكو من إثبات دقيق، إلا أنه يمكن الانتصار له بأن تلك المنطقة كانت تعدّ ثغراً من ثغور المسلمين، وهذا ليس غريباً إذا أضفنا إلى معلوماتنا أن أمر المردة والجراجمة بدأ يتفاقم بعد ذلك في تلك المنطقة وصولاً إلى القدس، وهذه نقطة سنعود إليها بعد قليل.
وفي هذا الصدد يمكن الاستعانة بما أشار إليه المؤرخ «كمال الصليبي» حين قال: ولعلّ المسلمين اتخذوا أيضاً من تلك المواقع في جبل بيروت وصيدا وجبل عاملة المتصل بصور مراكز للمرابطة الدينية والعسكرية، تساند الحاميات القائمة في ثغور الساحل (17).
فإذا زاوجنا بين هذا الوضع وبين الجانب الذي تعمّدنا الإشارة إليه في شخصية الغفاري الجهادية والدينية، نصل إلى نتيجة مؤداها: استبعاد عدم مشاركة أبي ذر في المرابطة على هذه الثغور.
إلاّ أن هذا الاتجاه في إحكام الربط بين الوقائع والمستندات التاريخية لا يسوغ بحال الأخذ بمؤداها على غير صراط الاحتمال، وهو إن تمّ، أجنبي جداً عن موضوع التشيع المحتمل في تلك المنطقة على يد أبي ذر، والذي يبدو أن معالجة هذه النقطة وهذا الموضوع الخطير، والذي يعوزه الإسناد التاريخي، سيضعنا أمام اتجاه آخر، ألا وهو البحث عن تاريخ التشيع في المنطقة المذكورة، للخروج بنتيجة تؤدي إلى
________________________________________
(16)محسن الأمين، خطط جبل عامل 1: 66، مطبعة الانصاف، بيروت، 1960.
(17)كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان (643 ـ 1516م): 47، بيروت، 1979.

[الصفحة - 252]


الطريق الصحيح، وإن بصورة تراجعية تاريخياً.
يبدو أن ما دوّنه الرحالة العرب والأجانب خير تكئة لتنسّم أخبار أهل هذه المنطقة، «فأرنست رينان» أثناء زيارته لتلك البلاد يروي: أنه شاهد عائلة أو عائلتين، وعرف فيهما العنصر الإيراني الكردي الذي جاء بهم صلاح الدين (18). ويأتي «لورتيه» ليقول: إن الشيعة هم من ا لأكراد الذين جاءوا من الحدود الفارسية بعد هجرة كبيرة في القرن الثالث عشر (19). ويذكر «فانديك»: وأما المتاولة، ويقال لهم الشيعة فالظاهر من اعتقادهم وهيئاتهم أنهم من أصل فارسي (20). وغير خاف، أن مجرد التعويل على الظاهر بحاجة إلى دليل ثابت وبحث أكثر توغلاً في معرفة المصدر، إذ إنه لا تكفي الملاحظة الظاهرة والاستنتاج غير المبني على مصادر تاريخية، وهذا ما دفع «الأب لامنس» بصدد هذا الموضوع إلى القول: وكنت أنا ذاتي قد رأيت هذا الرأي فيما مضى على أنني أقرّ اليوم أنه يظهر مرجوجاً لكونه لا يعتبر الوثائق السابقة عصر الصليبيين كنصوص(21).
وتتضافر الوثائق حول هوية أهل جبل عامل، يحدثنا أدوارد روبنسون فيقول: نحن الآن في إقليم يدعى بلاد بشارة، ويضم القريتين يارون ومارون اللتين مررنا بهما ويمتد إلى سهل صور، يحد هذا السهل من الشمال نهر الليطاني، ويشمل ناحية مرجعيون، وبلاد بشارة إقليم كبير، عليه حاكم خاص به مركزه الآن في صور مع أن عاصمته الخاصة هي تبنين، والإقليم يضم عدة قرى عامرة أكثرية سكانها متاولة (22)، إلاّ أنه لم يبين أصلهم وتاريخهم.
وتفيد نصوص الرحالة (ناصر خسرو) الذي تمّت رحلته عام 437هـ ودوّن مشاهداته في كتابه الشهير (سفرنامه) الذي جاء فيه أنه شاهد طرابلس وجبيل وبيروت وصور، والتي يقول عنها: وتعرف مدينة صور بين ساحل الشام بالثراء، ومعظم سكّانها شيعة، والقاضي هناك رجل سنّي اسمه ابن أبي عقيل، وهو رجل طيب وثري (23).
إلاّ أن الهوية الشيعية لسكان منطقة صور كانت آنذاك ضمن فسيفساء شيعي تعيشه بلاد الشام قاطبة، لأن التاريخ يدلنا، أنه قبيل الحملات الصليبية، كان أمراء
________________________________________
(18)لامنس، مجلة المشرق، مقال بعنوان العناصر الفارسية في لبنان عدد 30 سنة 1932 ص772.
(19)المصدر السابق.
(20) فانديك كورتيليوس، المرآة الوضية في الكرة الأرضية: 132، طبعة ثانية، بيروت، 1939؛ والملاحظة نفسها يذكرها محمد كاظم مكي بقوله ـ في هذا المجال ـ : «لعل الباحثين والمؤرخين يعزون السكان في هذا الجبل إلى العنصر الفارسي، لما يلاحظونه من وحدة المعتقد بين أهله والشيعة في إيران. راجع: الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل: 130، دار الأندلس، بيروت، طبعة أولى، 1963.
(21)الأب لامنس، العناصر الفارسية في لبنان، مصدر سابق: 773.
(22)أدوارد روبنسون، يوميات في لبنان تاريخ وجغرافية 1: 18، وهي مذكرات دوّنت سنة 1838 وطبعتها وزارة التربية الوطنية، الطبعة الأولى، بيروت، 1949م.
(23)ناصر خسرو، سفرنامه: 48، ترجمة يحيى خشاب، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1970.

[الصفحة - 253]


طرابلس من بني عمار يؤمنون بعقائد الإمامية وأنه حتى القرن الثالث عشر الميلادي!، كان مشايخ الحمادية المتاولة يبسطون حكمهم على منطقة جبيل، وأنه كان يوجد في ضواحي بيروت كبرج البراجنة والشياح عدد من الشيعة الذين نالوا اعترافاً بهم من المماليك، وأن صيدا المعروفة اليوم بجبل عامل (وفي الماضي بجبل عاملة) مع ما يتصل بها ضمن الحدود الفلسطينية، كانت منذ عهد المقدسي ولا تزال، إلى عصرنا، أهم مراكز للمتاولة في البلاد السورية (24).
وكما ترى، فإن هذه الأقوال والآراء لم تبيّن أصل تشيّع هذه المنطقة وابتدائه (25)، وهو ما يجرّك عنوة إلى تلمّس المراجع القديمة.
يذكر البلاذري أن مدينة صور تمّ فتحها على يد الصحابي شرحبيل بن حسنة، وتمكن من فتحها سنة 13هـ، ثم قام معاوية بترميمها، واهتم بملء الفراغ السكاني الذي أصابها بعد نزوح الروم عنها، فأتى الفرس وأنزلهم فيها كما فعل بغيرها من المدن الساحلية، وأنه نقل من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن: صور وعكا وغيرها سنة 42هـ.
وروى هشام بن الليث الصوري عن أشياخه قالوا: نزلنا صور والسواحل وبها جند من العرب وخلق من الروم، ثم نزع إلينا أهل بلدان شتى فنزلوها معنا، وكذلك جميع سواحل الشام (26). ويتحدث اليعقوبي عن مدينة صور: وكان أهلها أخلاطاً من الناس (27)، ويصر «ابن رسته» على نسبة الشيعة المنتشرين في بلاد الشام إلى الطوارئ الفارسية القديمة، وأن قوماً من الفرس أتى بهم معاوية، ونقلهم إلى تلك البلاد (28)، وقد بنى هؤلاء الفرس في صور مسجداً عرف بمسجد الفرس(29).
إلى الآن، نصل إلى النتيجة التالية: إن المصادر المتوفرة عن تاريخ منطقة جبل عامل لا تساعد على معرفة بداية للتشيع فيها. لكن لماذا قد نزعج أنفسنا بتتبع مصادر متأخرة وبين أيدينا مصدر يعود إلى ما بين (375 هـ و380 هـ) وهي الفترة التي جاء فيها المقدسي (380 هـ) إلى جبل عامل، فقد صرّح في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم بأن أهل هذه المنطقة وما يجاورها شيعة، يقول: واليوم أكثر العمل على المذهب الفاطمي، ويقول أيضاً: ومذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسنّة، وأهل طبرية
________________________________________
(24)صالح بن يحيى، تاريخ بيروت: 182، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1927م؛ وحسن الأمين، دولة بني عمار في طرابلس، مجلّة المنهاج، العدد الأول.
(25) لا يخرج عن إطار ما سبق ما ذكره الشيخ أحمد رضا في مقالة له في مجلة العرفان مج 2: 239. وكذلك ما ذهب إليه الأمير شكيب أرسلان في مجلة المقتطف ونقلته مجلة العرفان مج 2: 448 والأمر نفسه عند الشيخ سليمان الظاهر، العرفان، مج30، ج 1ـ 2، تحت عنوان (أغلاط الأعلام)؛ وراجع الغدير 8: 287- 342؛ وأعيان الشيعة، ترجمة جندب بن جنادة.
(26) البلاذري، فتوح البلدان 1: 139 ـ 140 ـ 175، ابن قدامة، الخراج وصناعة الكتابة 290. وفي رأي آخر للبلاذري أنها فتحت على يد يزيد بن أبي سفيان أخو معاوبة، وعمرو بن العاص.
(27)البلدان: 327.
(28)الأعلاق النفيسة: 327، طبعة ليدن بريل؛ الأب لامنس، العناصر الفارسية: 775.
(29) تاريخ دمشق لابن عساكر (مخطوطة المكتبة التيمورية تاريخ 1041) مج 4، ورقة 136 و 26/ ورقة 115 وكان إمامه: إبراهيم بن إسحاق بن أحمد المقرئ، عن كتاب: صور من العهد الفينيقي إلى القرن العشرين، وثائق المؤتمر الأول لتاريخ مدينة صور: 132، عام 1996، إعداد منتدى صور الثقافي، برعاية: وزارة الثقافة والتعليم العالي، مقال للدكتور عمر عبد السلام تدمري؛ وعن فتوح البلدان أنّ معاوية عام 49هـ استقدم قوماً من زطّ البصرة 365.

[الصفحة - 254]


ونصف نابلس وقَدَسْ وأكثر عمان شيعة (30)، والمقدسي بهذا النص، يشير إلى نقطة مهمة وهي أن التشيع في هذه المنطقة كان على المذهب الفاطمي، وهو ما يعني أننا إلى الآن لا نعرف بدايات التشيع وفق المذهب الإمامي الإثني عشري.
لا يهمّ، ولنجعل ذلك بين قوسين، إذا كان العمل ما بين سنة 375 ـ 380هـ وفق المذهب الفاطمي غالباً، فهو يعني أنه يمكن السير مع العدّ التنازلي في شيوع هذا المذهب وانتشاره إلى بدايات الفتح الفاطمي لبلاد الشام عام (358هـ)، والفترة التي تحدّث المقدسي عن استقرار المذهب الفاطمي فيها كانت تحت حكم العزيز بالته (365 ـ 386 هـ) الذي يعتبر عهده عهد يسر ورخاء وتسامح ديني وثقافي إلا مع السنّة، فإنه قد اتبع معهم سياسة قاسية كان لها أثرها في تحويل كثير من السنيّين إلى المذهب الشيعي (31).
وعلى الظاهر، لا توجد مصادر يمكن أن يفهم منها وجود التشيع في هذه المنطقة قبل هذا التاريخ. لكن يمكن النظر إلى المسألة من جانب آخر وهو أنه وفقاً للأحداث السابقة على هذا التاريخ، هل يمكن القول بوجود التشيع بين أهل هذه المنطقة؟ وهو نظر بالعقد السلبي للقضية حسب اصطلاح المناطقة، ونتائج هذا النظر لا تقل أهمية من الناحية العلمية والتاريخية عن النظر بالعقد الإيجابي للقضية. وفي سبيل ذلك، نحن مضطرّون للعودة إلى عصر أبي ذر ثم القيام بمسح تصاعدي وصولاً إلى سنة 358هـ .
ثمة ما يدل على أن صور ومنطقتها ـ وهي قلب جبل عامل ـ كانت من أهم ثغور الشام عند المرابطين للجهاد والغزو، وأن هذا الأمر تم من وقت فتح تلك البلاد إلى زمن الأوزاعي (158هـ) الذي كان يفضل الإقامة والرباط فيها على بيروت، وهذا ما صرّح به لحسان بن سليمان الساحلي: عليك بصور فإنها مباركة مدفوع عنها الفتن، يصبح فيها الشرّ فلا يمسي، ويمسي فيها فلا يصبح، قبر نبي في أعلاها، ولو أنني استقبلت من أمري ما استدبرت ما عدلت بها بلداً (32)، وهو ما يدل على أن المرابطة في تلك المنطقة استوعب العصر الأموي بل يزيد عليه قليلاً لما رواه فرج مولى الزاهد المرابط، إبراهيم بن أدهم كما في حلية الأولياء. قال: كان إبراهيم بن أدهم رأى
________________________________________
(30)المقدسي، أحسن التقاسيم: 153، وما بعدها. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي: 406 «وفي هذه السنة ـ 264 هـ ـ وبعدها، غلا الرفض وفار بمصر والمشرق والمغرب.
(31)الخطط المقريزية 2: 286؛ وتاريخ الدولة الفاطمية: 28.
(32)تهذيب تاريخ دمشق 4: 140.

[الصفحة - 255]


في المنام كأنّ الجنة فتحت له، فإذا فيها مدينتان، إحداهما ياقوتة بيضاء، والأخرى من ياقوتة حمراء، فقيل له: أسكن هاتين المدينتين فإنهما في الدنيا، فقال: ما اسمهما؟ قيل: اطلبهما فإنّك تراهما كما أوريتهما في الجنة، فركب يطلبهما، فرأى رباطات خراسان، فقال: يا فرج ما أراهما! ثم جاء إلى قزوين، ثم ذهب إلى المصيصة والثغور، حتى أتى الساحل في ناحية صور، فلما صار النواقير ـ وهي نواقير نقرها سليمان بن داود على جبل على البحر ـ فلما صعد عليها رأى صور، فقال: يا فرج! هذه إحدى المدينتين، فجاء حتى نزلها، فكان يغزو مع أحمد بن معيوف، فإذا رجع نزل يَمْنَةَ المسجد، فغزا غزوة فمات في الجزيرة، فحمل إلى صور، فدُفن في موضع يقال له «مدفلة». فأهل صور يذكرونه في تشبيب أشعارهم، ولا يرثون ميتاً إلا بدؤوا بإبراهيم بن أدهم. قال القاسم بن عبد السلام: قد رأيت قبره بصور، والمدينة الأخرى عسقلان.
ومن الأمراء والمرابطين والغزاة الذين نزلوا بها ووصلتنا أسماؤهم في هذه الحقبة: الأسود بن بلال أمير البحر، وخالد بن حسفان الفارسي، وأبو علي حسان بن سليمان الساحلي الذي رابط فيها، وروى عنه أبو حفص عمر بن الوليد الصوري (33).
يُضاف إليه أن منطقة صور أصبحت داراً للصناعة الحربية، فتروي المصادر أن عبد الملك بن مروان أو في عهده على الأقل، جرى ترميم وتجديد بنائها بعد أن كانت خربة، والمظنون أن ذلك بفعل المردة والجراجمة الذين امتد أذاهم من بيت المقدس إلى الشمال السوري كما سيأتي، وقد ارتفع شأن منطقة صور بعد أن نقل إليها هشام بن عبد الملك دار الصناعة الحربية من عكا (34).
وكان في صور أيضاً أمير البحر «الأسود بن بلال المحاربي» الذي عيّنه هشام بدل «يزيد بن أبي مريم» بعد عزله. قام "الأسود" بغزوة إلى قبرص سنة (121هـ) ثم بغزوة إلى جزيرة أقريطش في السنة التالية، أو التي بعدها (35).
ونخلص إلى أن منطقة جبل عامل قد حظيت بثلاث خصال مع ساحل الشام عامة: أنها ثغر من ثغور المرابطة وأنها دار الصناعة البحرية، وأن إمارة البحر فيها، مما يدل على أنها منطقة مواجهة واضطراب، وهو ما يشكّل أهمية كبيرة في حماية الدولة الأموية في مواجهة البيزنطيين، وهو ما يفسر أيضاً الاهتمام الأموي الكبير بهذه
________________________________________
(33)حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 8/ 9 ـ 6/ 369؛ تاريخ دمشق 8/ ورقة 366؛تهذيب تاريخ دمشق4: 140.
(34)فتوح البلدان 1: 140 ـ 170.
(35)تاريخ الطبري 7: 67؛ تاريخ ابن الأثير 5: 518، طبعة صادر، تاريخ دمشق، مصدر سابق: 6، ورقة 1ـ 18. تهذيب تاريخ مدينة دمشق 3: 43.

[الصفحة - 256]


المنطقة. وهو ما يخبرنا بالقضية التالية: يستحيل أيّ وجود شيعي في هذه المنطقة طوال فترة الحكم الأموي، وحتى تنجلي هذه النقطة أكثر، نتعرض لجملة مواضيع ضمن النقاط التالية:
النقطة الأولى: توجيه النظر التاريخي إلى النصف الثاني من العقد الرابع للقرن الأول الهجري وهي فترة تسلم الإمام علي(عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان إلى زمن استشهاده في مسجد الكوفة. وفي هذه الفترة خاض الإمام(عليه السلام) ثلاثة حروب: الجمل، وصفين، والنهروان، وسنقصر النظر على معركة صفين وبالذات على المدد العسكري بالمقاتلين عند معاوية، وسنحاول استنطاق المصادر التاريخية حول هذا الموضوع.
تفيد هذه المصادر أن القدس والرملة كانتا موقعين لجند فلسطين، وتجمع الروايات أن عمر بن الخطاب قد قسَّم فلسطين نصفين، وجعل على كل قسم أميراً، ويروي الطبري عن سيف بن عمر فيقول: وفرق فلسطين على رجلين، فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة ابن مجزز وأنزله إلياء، فنزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي معه (36)وبقيت فلسطين وخاصة القدس عاصمة لجند فلسطين في أيام عثمان حتى بعد أن وحّدت أجناد الشام تحت إمارة معاوية، واحتفظت فلسطين بهذه الهوية التي لم يزدها الصراع على الخلافة بين الإمام علي(عليه السلام) ومعاوية إلا رسوخاً، حيث صارت فلسطين مسرحاً وحيداً للتحرك السياسي والعسكري للطرف الأموي في هذا الصراع، مع الأخذ بعين الاعتبار التداخل الجغرافي الإقليمي والتشابك الديموغرافي بين جندي الأردن وفلسطين ولبنان وجنوبه على الأقل.
كانت القوة العسكرية للطرفين المتنازعين تعتمد على ديوان الجند الذي يشكل المقاتلون من أبناء القبائل العربية غالبية جنده، إن لم يكونوا كل المقاتلين في هذه المؤسّسة، وكانت القبائل العربية في جند فلسطين ـ ووفقاً للخارطة الديموغرافية في ذلك الوقت ـ تشكّل حزاماً عسكرياً يمتد من غزة وضواحيها وعلى طول امتداد الحدود بين فلسطين ومصر وحتى مدينة آيلة عبر البحر الأحمر، ثم يستمر شرقاً حتى دومة الجندل شرقي عمان ليفصل بين الحجاز وبين مشارف الشام الجنوبية، ثم يمتد من مشارف الشام شمالي تبوك عبر جبال الشراة وعلى امتداد الغور والبلقاء حتى
________________________________________
(36)الطبري 1: 407؛ المنتظم 4: 193؛ تاريخ ابن خلدون 2: 106، الكامل 2: 349.

[الصفحة - 257]


مشارف دمشق، ومن هذه النقطة في الجولان يمتد غرباً ليغطي منطقة الجليل الشرقي والغربي والبقاع اللبناني لينتهي بمدينتي صور وعكا (37)، وكان معاوية يدرك الأهمية الإستراتيجية والعسكرية لهذه القبائل في الدفاع عن أرض الشام من الخطر المحتمل الذي يهدّد جانبه الأيمن فيما لو وقعت مصر بأيدي الإمام علي(عليه السلام)، وكذلك مدى ما يمكن أن تساهم به في الدفاع عن بلاد الشام الجنوبية من أيّ خطر يتهدّدها من الشرق، وقد استطاع معاوية خلال ولايته على الشام أن يضمن ولاء هذه القبائل ويستند إلى قوة المحاربين من أبنائها، وقد تحقّق ذلك بالفعل عندما شكلت القبائل الفلسطينية والأردنية القوة الرئيسية في جيش معاوية أثناء المواجهة العسكرية في صفين (38)، إلى جانب قوى أخرى منهم الفرس الذين جلبهم معاوية وأسكنهم ساحل الشام، ومنهم أيضاً تلك الأخلاط من الناس التي سكنت منطقة صور كما ذكر اليعقوبي.
إذن، كانت منطقة جبل عامل الداخلة في جند فلسطين منجماً للمقاتلين في جيش معاوية، وقد وجد بنو أمية الأمن والأمان بين أهل هذه المنطقة، فقد اختطّت مدينة الرملة (وهي منطقة اللد في شمال فلسطين الآن أو قريب منها) في أيام ولاية سليمان بن عبد الملك على فلسطين في خلافة أخيه الوليد بن عبد الملك. وبنى فيها قصراً وداراً صارت تعرف بعد ذلك بدار الصباغين، كما اختط للمسجد. لكن لم يتم بناؤه إلا في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (39).
وإزاء كل ذلك، كيف يمكن الحديث عن وجود شيعي في تلك المنطقة كدعوة سياسية؟!!
النقطة الثانية: توجيه النظر التاريخي إلى الحقبة الممتدة من سنة (49هـ) إلى سنة (66هـ)؛ ففي بداية هذه الحقبة شهد جبل عامل دخول قوات المردة والجراجمة إلى لبنان، وهي القوات التي ساندت البيزنطيين بعد انهيار دولتهم في سورية وما يليها من بلدان المشرق.
ووفقاً للمؤرخ البيزنطي «توافانس» وهو أول من أشار إلى المردة قال: في سنة 669 للمسيح دخل المردة لبنان واحتلوا كل ما يقع بين الجبل الأسود والمدينة
________________________________________
(37)حسين عطوان، الجغرافية التاريخية لبلاد الشام في العصر الأموي: 84 ـ 90، بيروت، 1987.
(38)انظر تفصيلاً بأسماء الوحدات المقاتلة لجنوبي الأردن وفلسطين، وقعة صفين لنصر بن مزاحم: 206؛ تاريخ خليفة بن الخياط 1: 222.
(39) فتوح البلدان: 170؛ أحسن التقاسيم: 165. وعن مبلغ عناية الأمويين بفلسطين وبلاد الشام ومنها جبل عامل، راجع: مجلة الأبحاث الصادرة عن كلية الآداب والعلوم ـ الجامعة الأمريكية بيروت، السنة 45، مقال خليل عثامنة، أستاذ التاريخ في بير زيت، فلسطين، بعنوان الوجه السياسي لمدينة القدس في صدر الإسلام ودولة بني أمية، سنة 1997.

[الصفحة - 258]


المقدسة، وانضم إليهم كثير من أبناء البلاد والعبيد والأسرى، فبلغ عددهم في مدة وجيزة عدة آلاف(40).
وعن أهل هذا الشعب يتحدث البلاذري فيقول: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل اللكام عند معدن الزاج، فيما بين بياس وبوقا، يقال لها: الجرجومة. وإن أمرهم كان في أيام استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطرق أنطاكية وواليها، فلما قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهمّوا باللحاق بالروم؛ إذ خافوا على أنفسهم فلم ينتبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم. ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجّه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري. فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح. فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام وأن لا يؤاخذوا بالجزية وأن ينقلوا أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حرباً في مغازيهم. ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح.. فكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرّة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم ويمالئونهم. فلما كانت أيام ابن الزبير وموت مروان بن الحكم وطلب عبد الملك الخلافة بعده لتوليته إياه عهده واستعداده للشخوص إلى العراق لمحاربة مصعب بن الزبير، خرجت خيل للروم إلى جبل اللكام وعليها قائد من قوادهم ثم صارت إلى لبنان وقد ضوت إليها جماعة كثيرة من الجراجمة وأنباط وعبيد أباق من عبيد المسلمين. فاضطر عبد الملك إلى أن صالحهم على ألف دينار في كل جمعة، وصالح طاغية الروم على مال يؤديه إليه لشغله عن محاربته وتخوّفه أن يخرج إلى الشام فيغلب عليه، واقتدى في صلحه بمعاوية (41).
وفي نصّ للإصفهاني: بنو الأحرار الذين عناهم أمية بن أبي الصلت في شعره هم الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن، وهم إلى الآن يسمون بني الأحرار بصنعاء، ويسمون باليمن الأبناء، وبالكوفة الأحامرة، وبالبصرة الأساورة، وبالجزيرة الخضارمة، وبالشام الجراجمة (42).
المهم أن المردة أو الجراجمة قد سيطروا على المنطقة الممتدّة من الجبل
________________________________________
(40)بطرس ضو، تاريخ الموارنة الديني والسياسي والحضاري 1: 281، دار النهار، بيروت، 1970.
(41)فتوح البلدان، نشر صلاح الدين المنجد، القاهرة 1957، القسم الأول: 189.
(42)الأغاني 16: 73، طبعة بولاق.

[الصفحة - 259]


الأسود ـ وهو القسم الشمالي من جبال العلويين المشرف على مدينة السويدية ـ إلى المدينة المقدسة أي أورشليم القدس، وهو ما يعني أن منطقة جبل عامل كانت داخلة تحت سيطرتهم، وأن جبال فلسطين وجبال لبنان مركز لشنّ الغارات على الدولة الأموية، وهكذا أنشأوا دولة مستقلّة ممتدة من شمال سوريا حتى جنوب فلسطين وجعلوا من لبنان قلب هذه الدولة المستقلة ومعقلها الأكبر، وضايقوا الدولة الأموية حتى اضطر معاوية إلى عقد الصلح معهم ومع الملك البيزنطي قسطنطين الرابع (بوغانات) وكذلك صالحهم عبد الملك بن مروان على ألف دينار كل جمعة.. واقتدى في صلحه بمعاوية حين شغل بحرب العراق فإنه صالحهم على أن يؤدي إليهم مالاً، وبقيت سيطرة المردة على المنطقة المذكورة إلى زمن نكبتهم سنة (66هـ) زمن الوليد بن عبد الملك إثر اتفاق له مع ملك الروم في قصة معروفة (43).
وكان من نتائج سطوة المردة أن استقدم معاوية قبائل من بلاد فارس وأقامها في مدن الشاطئ اللبناني، ومع ذلك استطاعوا مع البيزنطيين من الاستيلاء على هذا الشاطئ عام (59هـ) إلى أن عقد معاوية الهدنة مع الإمبراطور.
والإجراء نفسه اتخذه أبو جعفر المنصور سنة (141هـ)؛ فأسكن بعض العشائر في البلاد الخالية المجاورة لبلاد المردة فجلا الأمير فند بن مالك وأخوه الأمير إرسلان بجماعة من عشيرتهما من بلاد المعرة فنزلوا في وادي التيم في الحصن المعروف بحصن أبي الجيش، ثم تفرّقوا في جبل لبنان وعمّروا الخالي من أرضه (44)وهو يدل على أن خطرهم امتد إلى بداية العصر العباسي.
وكما ترى، فإن المشهد السياسي والعسكري للمنطقة في هذه الحقبة والتي بعدها لا يساعد على القول بتواجد شيعي فيها.
النقطة الثالثة: الشخصيات العاملية في العصر الأموي؛ حيث برزت في العصر الأموي شخصية عاملية مرموقة هي الشاعر عدي بن الرقاع العاملي من بلدة شقراء أو قريب منها، توفي ودفن في دمشق عام (95هـ)، كان عدي مقدماً عند بني أمية مدّاحاً لهم، خاصة الوليد بن عبد الملك، ويظهر أنه كان مقدّماً عنده على جرير، وقد جرت مهاجاة بينهما في محضر الوليد، ومن مشهور شعره قصيدته الهائية وتبلغ ثلاثة
________________________________________
(43)فتوح البلدان: 160 ـ 189 ـ 191.
(44) المنتخب من تاريخ المنبجي: 72، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار المنصور، طرابلس 1986، ومحمد الجندي، تاريخ معرة النعمان 1: 105، دمشق، 1663، وكرد علي، خطط الشام 1: 68.

[الصفحة - 260]


وأربعين بيتاً يمدح بها الوليد بن عبد الملك (45). ومن الشخصيات العاملية التي برزت في العصر الأموي الأسود بن بلال المحاربي (111هـ) وقد تقدّم ذكره، وبركة بن يزيد العاملي ومعن بن سالم العاملي، وكلاهما من أمراء البحر. وثعلبة بن سلامة العاملي (132هـ) وكان من الشخصيات العاملية التي وصلت إلى مركز الإمارة في الأردن والأندلس في عهد الدولة الأموية. يقول الطبري: مرّ مروان بالأردن فشخص معه ثعلبة بن سلامة العاملي وكان عاملاً عليها، وتركها ليس عليها والٍ حتى قدم عبد الله بن علي فولى عليها وقتل ثعلبة مع مروان سنة (132هـ) على نهر أبي فطرس على حدود جبل عامل الجنوبية (46).
ومن الشخصيات ثوابة بن سلامة العاملي، وكان أميراً على الأندلس في رجب سنة 127هـ (47). ومنها: همام بن معقل العاملي (بعد 60هـ) وهو من أشراف عاملة ملازماً لمسلمة بن عبد الملك(48).
هذا، ولم يذكر المؤرخون أن قام العامليون بثورة ضدّ الأمويين باسم أهل البيت أو للثأر من قتلة الحسين وغير ذلك.
النقطة الرابعة: يوجد ما يدلّ على أنه في زمن معاوية لم تكن الشيعة قد كوّنت فرقة دينية مستقلة؛ لأن مصطلح العثمانية والعلوية وما قاربها يشير إلى الخلاف السياسي القائم. حتى أنه لا يعرف للتشيع بداية عند مؤرخي الفرق الإسلامية، وأن سبب الاختلاف في معرفة نشوء حركة التشيع بشكل عام، يعود إلى كثرة الأحداث التاريخية التي كان لها أثرها في هذا المذهب، من هنا، اختلف الباحثون في مدى أهمية كل منها، وعدّها نقطة البداية في نشأة المذهب، ولعلّ أهم هذه الأحداث التي اتصلت بنشأة التشيع هي:
ـ وفاة النبي واجتماع السقيفة، وتخلّف علي(عليه السلام) عن البيعة.
ب ـ الفتنة زمن عثمان والتي بلغت الذروة بمقتله.
ت ـ موقعة صفين والتحكيم.
ج ـ مصرع الحسين(عليه السلام).
د ـ الجهود العلمية للإمام جعفر الصادق(عليه السلام).
________________________________________
(45)الجمحي، طبقات الشعراء: 89؛ الأغاني 9: 355؛ تاريخ دمشق المطبوع40: 133؛ ديوان عدي الرقاعي:33.
(46)الطبري 6: 384.
(47)حسين مونس، فجر الأندلس: 227، وما بعدها.
(48)خطط جبل عامل: 52؛ العقد الفريد 3: 367.

[الصفحة - 261]


والمرجّح أن السبب الأخير لعب أكبر الأثر في بذر نشؤ التشيع كفرقة دينية.
نخلص مما مضى إلى استبعاد بل استحالة أن يكون ثمة وجود شيعي في منطقة جبل عامل، بل والشام عامة طوال فترة الخلافة الأموية، أي حتى سنة (132هـ) وهو زمن سقوط الخلافة الأموية وبداية العصر العباسي.
جبل عامل من بداية العصر العباسي حتى سنة (358هـ)
ما أن استتبّ الأمر للعباسيين في البلاد حتى كان أهل جبل عامل والبقاع والجولان والأردن وقوداً للفتنة التي حدثت بين القيسية واليمنية، وقد كانت العصبية فيها على أشدّها في ساحل الشام. وفي سنة (195هـ) ظهرت الحركة السفيانية بزعامة علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية السفياني المعروف «بأبي العميطر» خرج معلناً أنه هو المهدي المنتظر، انطلاقاً من الفكرة التي شاعت وتردّدت عند سقوط الدولة الأموية من أن رجلاً من بني سفيان سيخرج ويعيد الملك للأمويين، وقد كانت صور ومنطقتها مساندة لحركة أبي العميطر، يحدثنا ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بأنه عند خروج أبي العميطر طلب المأمون من عمرو بن عيسى أن يقوم أحد الموالين لبني العباس بمواجهته، فتولّى هذه المهمة الحارث ابن عيسى الذي خرج إلى صور حينها كان أبو العميطر على دمشق فضبطها (صور) ودعا للمأمون (49).
وفي سنة 195هـ وهي السنة التي خرج فيها أبو العميطر، تغلّب على صيدا الخطاب بن وجه الفلس مولى بني أمية، وأعان أبا العميطر في خروجه (50)، وكانت نهاية حركة أبي العميطر في المعركة التي جرت في منطقة شبعا من وادي التيم كان فيها العامليون إلى جانب أبي العميطر.
وفي سنة 227هـ ثار تميم اللخمي الملقب بالمبرقع في لخم وجذام وعاملة وبلقين ضدّ العباسيين وصار إلى كورة الأردن، فوجّه إليه رجاء بن أيوب الحضاري، فسار إلى فلسطين، فأوقع بتميم اللخمي وأسره (51).
وفي سنة 264هـ أعلن أحمد بن طولون استقلال حكم مصر عن الخلافة العباسية وضم بلاد الشام إليه، وتفقد ساحل الشام ودخل صور التي أعجب ببنائها،
________________________________________
(49)تاريخ مدينة دمشق 55: 31.
(50)ابن الأثير، الكامل في التاريخ 4: 112.
(51)اليعقوبي 2: 480.

[الصفحة - 262]


واستعمل على دمشق أحمد بن وصيف حام جاء به من صور (52).
وزار صور في تلك الفترة قبل 277هـ خيثمة (343هـ) الأطرابلسي الذي أخذ الحديث عن علماء في طرابلس وصيدا، وحدّث في صور وسمع منه جماعة من أهلها، ولا تذكر المصادر أنهم من علماء الشيعة.
ومن مشاهير العلماء محمد بن إبراهيم الصوري (قبل 280هـ) قصد مصر، وحدّث بالفسطاط، وانتقل إلى أنطاكية، وقرأ عليه فيها، ثم حدّث ببغداد سنة (273هـ) روى عنه كثيرون، وآخر من روى عنه بالإجازة الإمام الطبراني ذكره البيهقي (458هـ)، ومن الإمامية الطوسي (465هـ)، والعسقلاني (852هـ) وذكرت كتب الترا جم أربعة من المحدّثين من أقاربه (53).
نعم، تذكر بعض المصادر تهمة التشيّع إلى خيثمة، يقول الأرمنازي الصوري: سألت أبا بكر الخطيب عن خيثمة بن سليمان فقال: ثقة، ثقة، قلت: يقال إنه كان يتشيّع، فقال: ما أدري غير أنه قد جمع فضائل الصحابة لم يخصّ واحداً عن الآخر (54).
وتعود جبل عامل إلى السلطة العباسية أواخر القرن الثالث للهجرة، لأن بين أيدينا خبراً يقول: إنّ العباسيين سيّروا القاضي محمد بن العباس بن الحرث الجمحي إلى ثغر صور، فقام بقيادة المراكب الحربية، وغزا في البحر غزاة انتصر فيها على الروم (55)وكذلك تولّى أسطول صور البحري العباسي شخصية مشهورة عرفت «بدميان الصوري» الذي كان مقرباً من الخليفة العباسي «المكتفي» (56).
ثمة قائمة بأعلام عامليين روت عن مشايخ السنّة، أو تقلّدت مناصب في الدولة العباسية، منها:
1 ـ إبراهيم بن أبي كريمة الصيداوي (قبل 166هـ) روى عن هشام الكناني، وروى عنه صدقة بن عبد السمين (57).
2 ـ الحكم بن عبد الله حُطّاف، أبو سلمة العاملي، روى عن عبادة بن نسي، والزهري (58).
3 ـ سعيد بن خالد بن أبي الطويل، من أهل صيدا، روى عن أنس بن مالك
________________________________________
(52)تاريخ دمشق 6: 61.
(53) الذهبي، تاريخ الإسلام 252؛ تاريخ بغداد 1: 396؛ البيهقي، السنن الكبرى 3: 421 ـ 10/ 252 الطوسي، الأمالي: 389؛ العسقلاني، لسان الميزان 5: 23؛ ابن ماكولا، الإكمال 6: 27؛ تاريخ دمشق 51: 153 و 56: 130.
(54)غيث بن علي الأرمنازي (509هـ) المجموع من المنتخب المنثور في أخبار الشيوخ عن تاريخ دمشق وصور: 115، المكتبة العصرية؛ تاريخ دمشق 17: 72.
(55)تاريخ دمشق 53: 305.
(56)الكامل 5: 42، عمر عبد السلام تدمري، لبنان من قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الأخشيدية: 88، جروس برس، طرابلس.
(57)تاريخ دمشق 7: 95.
(58)تاريخ دمشق 15: 11؛ تاريخ الإسلام: 90 ـ 416؛ ميزان الاعتدال 2: 337؛ تهذيب التهذيب 12: 118.

[الصفحة - 263]


(93هـ) ووائلة بن الأسقع (83هـ)، وروى عنه محمد بن شعيب الأموي (98هـ) (59).
4 ـ عبد الله بن هارون، أبو إبراهيم الصوري، حدّث عن الأوزاعي(158هـ) (60).
5 ـ هشام بن الغاز بين ربيعة بن عمرو الجرشي الصيداوي، كان على بيت المال لأبى جعفر المنصور (159هـ) (61).
6 ـ واصل بن أبي جميل، أبو بكر السلاماني، من أهل الجليل من أعمال صيدا حدّث عن مجاهد ومكحول (118هـ) وعطاء وطاووس، والحسن البصري، وروى عنه الأوزاعي (62).
7 ـ إبراهيم بن سليمان بن داوود الأسدي، ولد في صور، وهو من الحفاظ المجودين (272هـ)(63).
8 ـ محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن عبدوس بن جرير الصوري (300هـ) حدّث بصور (64).
9 ـ محمد بن راشد الصوري (قبل 280هـ) روى عنه الطبراني (65).
10- هارون بن محمد بن بكار بن بلال العاملي، حدث بدمشق (قبل 250هـ) (66).
11 ـ المسيب بن واضح بن سرحان، ليس عاملياً لكنه زار صور، وروى عنه بقي بن مخلد الأندلسي وسمع منه بها (246هـ) (67).
والقائمة تطول، وعليك بمراجعة المصادر السابقة، وكلها تدل على أن الملامح الثقافية والعلمية والاتجاهات الدينية بعيدة عن التشيع إلى زمن دخول جيوش المعز لدين الله الفاطمي بلاد الشام وعاملة سنة (358هـ). ولا يضرّ بهذه النتيجة وجود بعض الأشخاص الذين عرفوا بالتشيع من عاملة، لكنها لا ترفع الصبغة العامة عنها أمثال: خليد بن أوفى، أبو الربيع العاملي الشامي من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) (68)وعبد الله بن أيوب الجزيني من المنقطعين للإمام الرضا(عليه السلام) (69)وحبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) (231هـ)، لكن أول من قال بنسبة هذا الأخير إلى قبيلة عاملة، هو الحرّ العاملي (1104هـ) (70).
والنتيجة، أنه يمكن القول بكل ثقة واطمئنان، أن التشيع ابتدأ وجوده في جبل عامل سنة (358هـ) على وجه التحديد، مع احتمال وجود بذور جنينية له قبل ذلك بجهود الدعاة الفاطميين النشطين.
________________________________________
(59)تاريخ دمشق 21: 47؛ تهذيب التهذيب 4: 19.
(60)تاريخ دمشق 33: 341؛ لسان الميزان 3: 369.
(61)الجرح والتعديل 9: 67؛ تاريخ بغداد 14: 32.
(62)تاريخ دمشق 62: 372.
(63)تاريخ الإسلام: 61؛ شذرات الذهب 2: 162.
(64)تاريخ دمشق 51: 73، تاريخ الإسلام: 251؛ والطبراني، المعجم الصغير: 319.
(65)تاريخ الإسلام: 445.
(66)تهذيب التهذيب 11: 10؛ الجرح والتعديل 9: 97.
(67)تاريخ دمشق 58: 201.
(68)رجال النجاشي: 153؛ الفهرست: 186؛ التستري؛ قاموس الرجال 4: 199؛ رياض العلماء 2: 257؛ أمل الآمل 1: 82؛ أعيان الشيعة 6: 285 ـ 348.
(69)معالم العلماء: 152؛ أمل الآمل 1: 111؛ رياض العلماء 3: 184.
(70)أمل الآمل 1: 50، وتبعه الخوانساري، روضات الجنات 3: 7؛ والإصفهاني، نفحات الروضات: 186.

[الصفحة - 264]


التشيع (الإمامي) في جبل عامل
مهلاً.. إن التشيع الذي قلنا ببدايته سنة (358هـ) هو التشيع وفق المذهب الفاطمي، وينبغي استئناف النظر لمعرفة تاريخ بدء التشيع وفق المذهب الإمامي الجعفري الإثني عشري. وقبل ذلك يجب إيراد الأدلة على المدعى، وأولها ما ذكره المقدسي الذي دخل جبل عامل بين سنتي (375 ـ 380هـ) حيث صرّح بأن مذهب أهل هذا الإقليم وما يجاوره هو التشيّع يقول: واليوم أكثر العمل على المذهب الفاطمي (71).
وبرز في هذه الفترة شعراء مدحوا الدولة الفاطمية، منهم الشاعر عبد المحسن الصوري (339 ـ 419هـ) وقصائده في مدح العزيز بالله والحاكم بأمر الله وجماعة من وزراء الدولة الفاطمية مثبتة في ديوانه، وكذلك شعره في مدح أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك مَدَحَ أهل البيت محمد بن كشاجم الرملي الصيداوي (حياً 391هـ). ومن الشعراء أيضاً محمد بن علي بن محمد بن جناب الصوري (463هـ) كان شيعياً إسماعيلياً (72).
وأهم هذه الشخصيات هو محمد بن علي بن الحسن الصوري (487هـ) كان داعياً للفاطميين وللمذهب الشيعي الإسماعيلي، ومن أهم كتبه: "القصيدة الصورية" كتبها لبيان عقائد الإسماعيلية(73). وثمة ما يدل على وجود الإسماعيليين في جبل عامل حتى بعد سقوطه بيد الصليبيين عام 493هـ، فقد كتب وليم أسقف صور وصفاً مختصراً لهذه الفرقة في تاريخه عن الدويلات الصليبية فقال: يوجد في إقليم صور، أو بمعنى آخر فينيقيا، وفي دوقية تورتوز أناس يملكون عشرة قلاع قوية مع ما يتصل بها من القرى، وعددهم كما سمعنا مراراً حوالي ستين ألفاً أو يزيد، ومن عاداتهم أن يختاروا رئيسهم ليس بحقّ الوراثة، وإنما باعتباره الأفضل الذي يستحق الرئاسة، وهم يكرهون أن يخلعوا عليه أيّ لقب من ألقاب التبجيل، ويكتفون بتسميته «الأكبر»، ورابطة الولاء والطاعة التي تربط بين هؤلاء الناس ورئيسهم من القوة بحيث إنه لا يوجد أيّ عمل شاق أو صعب أو خطر يكلّفهم به إلا وأقدموا على أدائه بحماسة بالغة بمجرد أن يأمر به الرئيس، فإذا كان هناك مثلاً أمير يكرهه هؤلاء الناس أو لا يثقون فيه، فإن رئيسهم يعطي خنجراً لواحد أو أكثر من رعاياه، وبمجرد أن يتلقى
________________________________________
(71)المقدسي، أحسن التقاسيم: 154.
(72)تاريخ دمشق 45: 391؛ النجوم الزاهرة 5: 89.
(73)الداعي الإسماعيلي محمد بن علي بن حسن الصوري، تحقيق عارف تامر، المعهد الفرنسي، دمشق، 1955.

[الصفحة - 265]


أحدهم الأمر يخرج لأداء مهمته دون اعتبار لنتائج فعلته أو إمكانية الهرب بعد أدائها، وربما تأخذه حماسته لإنهاء مهمته إلى العمل والكدح فترة طويلة حتى تسنح له الفرصة لتنفيذ أوامر رئيسه. ونحن والعرب نسمّيهم الحشاشين، ولكننا لا نعرف أصل هذه التسمية (74).
كُتب هذا النص بين سنة (574 و580هـ)، ويؤيد هذه المقولة ما جاء في تاج العروس للزبيدي حين تحدث عن قلعة «أبي الحسن» وأن تاريخ عمارتها هو سنة (577هـ) عمرها أبو الحسن محمد بن الحسين بن نزار بن الحاكم بأمر الله، صاحب الدعوة الإسماعيلية، وكانت حماية طريق صيدا ودمشق تتم بواسطتها وبواسطة قلعة شقيف تيرون وجزين (75).
ويجب أن نفرض ضعف الإسماعيليين بسقوط الدولة الفاطمية في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي (589هـ)، وكذلك بسقوط قلاعهم الحصينة في بلاد فارس، وخاصة قلعة آلموت المطلة على بحر قزوين على يد جيوش المغول. وهذا ما يحدونا إلى القول بأن منطقة جبل عامل كانت داخلة في الحظيرة السنّية، خاصة بعد تزعم حسام الدين بشارة العاملي الذي كان والده أسد الدين العاملي وإخوته من المقربين إلى الملك العادل الأيوبي في مصر، فيما كان ابنه في خدمة الملك الظاهر بن صلاح الدين سنة 582هـ، وبعد معركة حطين سنة 583هـ والتي شارك فيها حسام الدين بشارة العاملي كوفىء بولاية عكا سنة 585هـ من صلاح الدين (76). وكذلك ولي إمارة بانياس سنة 586 إلى 588هـ.
وأمامنا وثيقة هي رسالة لابن تيمية بعث بها إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون الثاني (698 ـ 708هـ) بعد ما يعرف بمذابح كسروان والتي كان أهلها شيعة اتهموا بمعاملة الجنود المماليك الهاربين من أيدي القوات المغولية بعد سيطرة السلطان المغولي غازان خان على بلاد الشام معاملةً سيئة، وقد سبقها محاولتان فاشلتان، الأولى قادها نائب السلطان الأمير بدر الدين بيدرا سنة 691هـ والثانية سنة 699هـ، وكانت المذابح عام 705هـ هي الشاهد.
يميّز ابن تيمية في هذه الرسالة تمييزاً واعياً بين الشيعة الإمامية الإثني عشرية؛
________________________________________
(74)نقلاً عن برنارد لويس، الحشاشون: 15، ترجمة محمد العزب موسى، بيروت.
(75)خطط جبل عامل: 337؛ نقلاً عن تاج العروس؛ وحسن رضا، الصليبيون وآثارهم في جبل عامل: 140، بيروت، 1987.
(76)النوادر السلطانية لابن شداد (632هـ): 73، مصر؛ والنجوم الزاهرة 6: 109؛ الفتح القسي، عماد الدين الأصفهاني: 276.

[الصفحة - 266]


حيث ذكر أن من عقائدهم إيمانهم بالمهدي المنتظر، «.. وهذا (المنتظر) صبي عمره سنتان أو ثلاث أو خمس، يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة، وهو يعلم كل شيء، وهو حجة الله على أهل الأرض، فمن لم يؤمن به فهو ـ عندهم ـ كافر، وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط (77). وفي آخرها يقول: وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرّون بصلاة، ولا صيام، ولا حج، ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنّة والنار، من جنس الإسماعيليين والنصيرية والحاكمية والباطنية، وهم كفّار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين.
ومن هذا النص نعرف أن الوجود الإسماعيلي في لبنان قد انتهى فعلاً سنة 705هـ؛ ليتم بعدها فرز تلقائي إلى شيعة إمامية، ودروز ـ الباطنية ـ وإسماعيليين، وغيرهم حيث قطن الإمامية في جبل عامل، والدروز في جبل لبنان، وهاجر الباقي إلى شمال سوريا.
الدول الشيعية في العصر العباسي
إذا ألقينا نظرة شاملة إلى حال العالم الإسلامي في القرنين الرابع والخامس الهجريين، نجد ازدهار الدول الشيعية، فقد حكم البويهيون العراق وإيران، والحمدانيون سوريا، والفاطميون مصر وشمال إفريقيا، والزيديّون اليمن وشمال إيران، ومع أنها دول شيعية، كان الخلاف بينها على أشدّه، فقد انتهى حكم الحمدانيين على يد دولة شيعية أخرى هي دولة العقيليين الذين حكموا الموصل سنة 380 ـ 489هـ، هذا في شمال العراق، أما في سوريا فقد تسلّم الأمراء الشيعة المرداسيون الحكم في حلب بعد سقوط الحمدانيين، وبقوا فيها حتى سقوطهم على يد العقيليين أمراء الموصل سنة 482هـ إلى أن قضى عليهم السلاجقة السئة سنة 478هـ ، لكنّ التشيع بقي فيها إلى زمن نور الدين زنكي، حين اتخذ المذهب الحنفي سنة 541هـ .
وشهدت طرابلس حكم أمراء من الشيعة، هم بنو عمار حتى سقوطها على يد الصليبيين سنة 503هـ، وقد امتدّ سلطانهم إلى تخوم بيروت جنوباً وأنطاكية شمالاً،
________________________________________
(77)حول أحداث هذه المرحلة راجع: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك 1: 779 (مصر 1939م)، وتجد نصّ رسالة ابن تيمية في مجموع فتاوى ابن تيمية 28: 398، الرياض.

[الصفحة - 267]


والهرمل شرقاً.
وشيوخ بني عقيل أسرة ترجع إلى قبيلة كتامة المغربية، وكان شيوخ هذه القبيلة ممّن لهم الصدارة في المؤسّسات العسكرية والإدارية في الدولة الفاطمية، نذكر منهم الحسن بن عمار الذي كان من أبرز رجال الخليفة الفاطمي العزيز بالله، شغلت هذه الأسرة القضاء في طرابلس إلى أن استقلّوا بها سنة 464هـ، إلا أن وجودهم فيها بدأ من سنة 386هـ على الظاهر، أو بعده بقليل.
كانت طرابلس تحت حكم بني عمار الشيعية مركزاً اقتصادياً مهماً يصلح معه القول: إنها حلقة الوصل الاقتصادي بين أوروبا والشرق عامة، وليست هذه المنقبة الوحيدة لبني عمار، فقد قام أمين الدولة الحسن بن عمار بتأسيس دار العلم، وجلب لها الكتب النفيسة، وكان فيها مائة وثمانون ناسخاً، حتى بلغ مجموع ما فيها من الكتب ثلاثة ملايين كتاب، وإلى جانب دار العلم، أنشئت دار الحكمة، فقدم إليها الكثير من طلاب العلم حتى أصبحت طرابلس من أعظم المراكز العلمية في العصر الوسيط، يفد إليها طلاب العلوم والفنون من فقه، وحديث، ولغة، وأدب، وفلسفة، وطب، وهندسة، وفلك.
وإلى جانب الطلاب كان يفد إليها كبار العلماء لمراجعة المؤلفات، وكانت تعقد حلقات كبيرة لكبار العلماء. ويتحدث ستيفن نسيمان عن المكتبة فيقول: إنها أصبحت أروع مكتبة في العالم (78).
الكراجكي (449هـ) والتشيع
في هذه الأثناء، وفد إلى طرابلس عالم كبير من علماء الشيعة الإمامية هو أبو الفتح الكراجكي (449هـ) الذين يعتبر من الشخصيات التي أثمرتها الحركة العلمية في العراق وبالذات في بغداد والحلّة والنجف. كان الكراجكي من أبرز علماء الشيعة وفقهائهم ومتكلّميهم ورئيس المذهب، وكان عالماً بعلم النحو واللغة، والنجوم، والفقه، والطب، وعلم الكلام، ومن حملة الإجازات الكثيرة من علماء أهل السنّة.
تتلمذ الكراجكي على يد الشيخ المفيد (413هـ) والسيد المرتضى (413هـ)
________________________________________
(78)حول إنجازات بني عمار في طرابلس، راجع مجلة المنهاج، العدد الأول، مقال حسن الأمين: 163.

[الصفحة - 268]


وسلاّر والشيخ الطوسي (460هـ) وابن شاذان القمي. ترجم له السنّة فوصفوه بأنه رأس الشيعة، رحل في طلب العلم وتجول في البلاد، ولقي المشايخ، وأدرك الكبار ممن عددناهم، مكث في بغداد، والقاهرة، وحلب، وطبرية، وطرابلس، وصيدا، وصور، وبها توفي، وأكثر مكوثه في طرابلس وصور (79). وقد صنّف لأمراء بني عمار كتباً عديدة، وأكثر مكوثه كان بالديار المصرية.
من جهة أخرى، نقرأ من مؤلفات السيد المرتضى جملة من الكتب عبارة عن أجوبة لمسائل كانت ترد إليه من مناطق شتى، يمكن تصنيفها على الشكل التالي: الحجاز، التبانيات (تبنين) جرجان، حلب، الرس، الرملة، صيدا، طبرية، طرابلس، طوس، مصر، الموصل، ميافارقين. وبعضها رسائل متعدّدة: الطرابلسية الأولى والطرابلسية الثانية.
كيف نفسّر هذه الظاهرة في مؤلفات زعيم الإمامية آنذاك؟ مع وجود فرق شيعية عديدة في تلك البلاد، تكمن الإجابة في الخصوصية التي انفرد بها التشيع الإمامي آنذاك. وهي فتح باب الاجتهاد، فيما انكفأت الفرق الشيعية الأخرى في اتجاهات إما إلى إلغاء الفروع رأساً كما هو الحال مع الموحدين الدروز والنصيرية وغيرهما من الفرق التي سادت فيها الاتجاهات الباطنية والغلو. وإما إلى الجمود على بعض المصنّفات كما حصل الأمر في الدولة الفاطمية مع كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان.
هذا، ولا نعرف تاريخ الرسائل الواردة من جبل عامل خاصة أو بلاد الشام عامة، لكن المظنون أن ثمة بذور للتشيع الإمامي قبل مجيء أبي الفتح الكراجكي، فرضه الرغبة والإقبال على طلب العلم والسياحة في البحث عنه، وللأسباب أعلاه انفردت الإمامية في إشباع هذه الرغبات والميول العلمية. لذا وجدنا الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي يبعثون بالعلماء إلى تلك المناطق كما حصل مع ابن زهرة وابن البراج، غير أن بعضهم على جلالة قدرهم وسعة علمهم، لم يكونوا في منأى عن التأثر بالتيارات الفقهية والفكرية للمذاهب السنّية، حيث يحدثنا التاريخ تأثر بعضهم في العمل بالقياس المذموم عند الشيعة. وفي هذا الإطار؛ ولأن هناك صلات وثيقة بين فقهاء بغداد وشيعة هذه البلدان، تم إرسال أبي الفتح الكراجكي لرعاية
________________________________________
(79) سير أعلام النبلاء 18: 121 ـ 61؛ ومرآة الجنان 3: 70؛ لسان الميزان 5: 300؛ شذرات الذهب 3: 283؛ العبر 2: 492؛ الزركلي، الأعلام 6: 276 ـ 857؛ معالم العلماء: 18؛ تاريخ الإسلام وفيات سنة (449هـ): 236؛ تذكرة الحفاظ 3: 1127؛ الوافي بالوفيات 4: 130؛ اليافعي، مرآة الجنان 3: 70؛ جامع الرواة 2: 156؛ روضات الجنات 6: 209؛ معجم رجال الحديث 17: 357؛ مستدرك الوسائل 3: 497.

[الصفحة - 269]


الوجود الشيعي في بلاد الشام ومنها جبل عامل والحفاظ عليه، فكان ممثلاً للشيخ المفيد في مدينة صور.
وإذا كنا قد عرفنا سابقاً أن الكراجكي كان من حملة الإجازات العلمية من كثير من علماء السنّة، أمكننا الاستنتاج أن مهمة الكراجكي هي مواجهة الفكر الإسماعيلي وفقهائه، من أجل ذلك ذهب إلى مصر، ورأيناه يختصر كتاب الدعائم للقاضي النعمان وهو من جملة فقهاء «الحضرة» ويؤلف كتاب: الاختيار من الأخبار، وهو اختصار كتاب الأخبار للنعمان، يجري مجرى اختصار الدعائم، وكتاب: الإيضاح في أحكام النكاح في الخلاف بين الإمامية والإسماعيلية، وغيرها من الكتب التي ترنو إلى هدف واحد وهو ترسيخ الفكر الإمامي في مواجهة التيارات الأخرى.
الاستنتاج نفسه وجدته في المقدمة التي وضعها الشيخ عبد الله نعمة لكتاب الكراجكي كنز الفوائد، قال: ...قدر له أن يعيش في هذا الثغر الشامي وفي الساحل اللبناني، ليقوم بترسيخ العقيدة الإسلامية، والحدّ من النزعة الإسماعيلية يوم كانت فلسطين ولبنان تحت النفوذ الفاطمي.. واختار طرابلس قاعدة لانطلاقه لأن بني عمار شيعة.
انطلق الكراجكي يناظر ويجادل ويعلم بكل ما يملك من طاقة علمية وفكرية وصمد في وجه الموجة الإسماعيلية، واستطاع أن يحدّ من نشاطها حتى انحسرت عن أكثر هذه المنطقة، وحل محلّها الفكر الشيعي الإمامي، وأصبح مذهب الأكثرية لسكان الساحل.
نجح الكراجكي إذاً في نشر التشيع الإمامي في جبل عامل، وهو ما يفرض هجرة عاملية إلى مدن العلم في العراق طلباً للعلم، وثمة بعض الأسماء غير المشهورة، وقد شارفت حركة الكراجكي على النجاح لولا سقوط منطقة جبل عامل في أيدي الصليبيين سنة 493هـ وما أعقبها من سقوط الدولة الفاطمية وبداية الاضطهاد السنّي للشيعة في المنطقة وأبرزها مذابح كسروان، عندها قدّر للتشيع الإمامي أن يدخل مرحلة الجمود البارد حتى ظهور الشهيد الأول (786هـ) الذي يمكن معه القول ببداية التشيع الإمامي في جبل عامل خاصّة وبلاد الشام عامة بصورة فعلية وجادّة.
________________________________________

[الصفحة - 270]


الخاتمة
إنّ هذه النتيجة حول بداية التشيع عامة والتشيع الإمامي خاصّة في جبل عامل، يخالف بلا شك كل الآراء التي ذكرت حول هذا الموضوع، عدا ما تنبّه إليه السيد محسن الأمين، من أن تشيع أهل جبل عامل على يد أبي ذر، لم يرد به خبر يعتمد عليه، ولا ذكره مؤرخ، إلا تناقل الخلف له عن السلف، ويوجد مسجدين منسوبين إليه في تلك البلاد أحدهما في قرية ميس، والآخر في قرية الصرفند، إلى أن يقول: توفي أبو ذر بالربذة، فنسبة المشهد إليه غلط (80).
ولا يوجد تفسير لما ذكره الحر العاملي (1104هـ) من نسبة التشيع في جبل عامل إلى أبي ذر، ولنسج المتأخرين على منواله في هذه الدعوى، سوى هذا الحرص، وهذا الميل النفسي إلى أن يكون المقدّس وجلائل الأمور شأناً ابتدأ بأمر مقدّس وجليل.
* * *
________________________________________
(80)الأمين، خطط جبل عامل: 303، بيروت، 1983.

[الصفحة - 271]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف