البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الغلو والغلاة بين الماضي القريب والحاضر

الباحث :  أ. مختار الأسدي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  29
السنة :  السنة الثامنة ربيع 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  2517
الغلو والغلاة
بين الماضي القريب والحاضر

أ. مختار الأسدي (*)

كلمة في البدء
شاء الله، تعالى، أن يُبقي الغيب وكلمته ومفهومه سرَّاً من أسراره، سبحانه، يسعى العقل البشري سعياً حثيثاً لارتشاف شيءٍ منه، وحين يحنو، سبحانه، تفضيلًا وتكريماً، لصنف من البشر، قدّر عزّ وجل فضلهم، واصطفاهم وتلطّف عليهم بكرامة هنا أو معجزة هناك، يروح العقل البشري يتعاطى مع هذه الكرامات أو المعجزات ذات اليمين وذات الشمال، فمن الناس من ينكر هذه «الدلالات» الغيبية جملة وتفصيلًا، ويحوّل جميع مظاهرها أو تمظهراتها أو ظواهرها إلى أشياء لا أساس لها ولا صحة، فيما فرَّط آخرون فوهبوا لهؤلاء المصطفين الأخيار ما لا يمكن أن يُمنح فانتزعوا مختصات الله تعالى ووهبوها لهم، من دون أن يتوقَّفوا عند حد، فضاعت الحقيقة بين إفراط الصنف الأول وتفريط الصنف الثاني.
الأمر الذي نتمنى الوقوف عنده، في هذا البحث المتواضع، هو ألّا نجنح بين الصِّنفين، فنهبُ ما لا ولم يهبه الخالق لأناس أولياء نحبُّهم أو نعشقهم، هياماً أو تهويماً، أو على العكس نبخل على هؤلاء الأولياء بأن نبخسهم حتى ما وهبهم ربّهم من كرامات ومعجزات ليخرق مألوف الناس ويحقّ الحق على العالمين.
معنى الغلوّ وشيء من تاريخه
من الأمور المهمَّة التي أغلقت وتغلُق العقل البشري الإفراط والتَّفريط، ولعلّ
________________________________________
(*)کاتب و ناقد،من العراق

[الصفحة - 89]


قمة الإفراط والتفريط، في العقل الشيعي، هو ما شهده تأريخ التشيّع من غلوّ ما زالت خيوطه تكشف عن نفسها في نسيج هذا العقل المتحرّك، وتحت أسماء ومسمَّيات وعناوين وفرق ومذاهب بلغت من الكثرة والتنوّع، قديماً وحديثاً، ما لا يمكن حصره في قائمة أو قائمتين.
الغلوّ، لغةً، «هو الإرتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء... وغلا، في الدِّين، أي جاوز حدّه، وفي التنزيل {لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ} ... وقال بعضهم: غلوتُ في الأمر غلوّاً وغلانيةً وغلانياً، أي جاوزت فيه الحدّ وأفرطتُ فيه» (1).
أمَّا الغلاة، في تاريخ التشيّع، فهم جماعة «من المتظاهرين بالإسلام، وهم الذين نسبوا أمير المؤمنين علي والأئمة من ذريته (عليهم السلام)إلى الألوهية والنبوّة، وأضافوا لهم من الفضل، في الدِّين والدُّنيا، ما تجاوزوا فيه الحدّ، وخرجوا عن القصد، وهم ضلّال كفَّار حكم عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام)بالقتل والتَّحريق في النار، وقضى الأئمة (عليهم السلام)عليهم بالكفر والخروج عن الإسلام» (2).
ويقال: غلا، ويغلو في القول، إذا ارتفع عن الحدّ وجاوزه، قال عزّ وجلّ: {يَا اءَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى الله اءِلَّا الحَقَّ اءِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ اءَلْقَاهَا اءِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء/171].
والغلوّ نوعان: الأوَّل غلوّ ساذج وبريء وغير هادف، يترشّح عن انبهار فائر أو اندفاع عاطفي تفرضه حالات آنية وطارئة، يترشح عنها إعجاب زائد أو كراهية مفرطة ينتهيان إلى آراء ومواقف متطرِّفة لا تتناسب مع ما يقتضيه الحال والمآل.
والثَّاني: غلوّ واع هادف يأتي نتيجة تأمُّلات ومعاناة فكرية عميقة، في قضية دينيّة أو فكريّة، يستهدف أصحابه من خلاله الوصول إلى أغراض معيّنة وتحقيق أهداف خاصَّة مبيّتة.
ولعلّ أهم دوافع الغلوّ، أو أسباب نشوئه في العصور المتأخّرة، هو تشبُّث بعض المحتالين والماكرين من الصنف الثاني، وبزعم التصاقهم بالأئمة وهيامهم بهم والدعوة لهم، بقصد كسب الأنصار والمؤيدين من الأبرياء والبسطاء من عوام الصِّنف الأوَّل.
________________________________________
(1)ابن منظور، لسان العرب، ج15، ص 131.
(2)الشيخ المفيد، شرح عقائد الصدوق، ص 63.

[الصفحة - 90]


وهكذا انقسم الغلاة، في تاريخ التشيّع، إلى أكثر من مئة وخمسين فرقة، وكل فرقة تفسّر «حبّها» و «ولاءها» للأئمة على طريقتها الخاصة، وتتَّهم صاحبتها بالتقصير في هذا «الحب» أو ذاك «الولاء».
وقد بلغ بعضهم درجة وَضْع الأئمة في موضع الربوبية، والقول بحلول الجوهر الإلهي أو النوراني فيهم، وحلول اللاهوت في الناسوت، تماماً كما قال الغلاة من اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم (3).
ومن هؤلاء الغلاة المفوّضة الذين قالوا: إن الله خلق الأئمة، ثم اعتزل تاركاً لهم خلق العالم وتدبير شؤونه، ومنهم من يدين بـ «ثالوث مقدَّس» مكوّن من الأب، وهو علي، والابن وهو محمد، وروح القدس وهو سلمان الفارسي، ومن طريف أقوال بعضهم: إن يوم الأحد معناه علي، وإن يوم الاثنين هو الحسن والحسين (4).
ومنهم من يفسر قوله تعالى: {فالمدبّرات أمراً} أنَّ محمداً (صلي الله عليه و آله و سلم) هو المدبّر الأول، وأنّ عليَّاً (عليه السلام)هو المدبّر الثاني (5). ومن الفرق التي غالت في «علي» حتى عدّته نبياً أو إلهاً هي فرقة «الخناقية»، فأتباعها كانوا يخنقون من يخالفهم ويعدّون هذا العمل جهاداً خفياً(6). وهكذا فرقة «البشارية»، فأتباعها قالوا: إن علياً هربَ من الربوبية، واتّخذ له مكاناً في الأسرة العلوية الهاشمية (7)، وهناك فرقة «التشريعية»، وأتباعها زعموا أن الله تعالى حلّ في خمسة أشخاص هم: النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وهؤلاء هم خمسة آلهة لهم خمسة أشداد اختلفوا في تسميتهم (8). وأشهر هذه الفرق الغالية: الغرابية، وهي الفرقة التي تقول: إنَّ محمداً (صلي الله عليه و آله و سلم) كان أشبه بعليٍّ من الغراب بالغراب، وأن الله عز وجل بعث جبريل بالوحي إلى علي فغلط بمحمد، ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط (9).
وقال النوبختي، في كتابه «فرق الشيعة»: «الغلاة هم الذين غلو في حق أئمتهم حتى أخرجوهم عن حدود الخليقة، وحكموا فيهم بأحكام الآلهة»، وقال بعضهم: «لو شاء علي (عليه السلام)لأحيا عاداً وثمود وقروناً بين ذلك» (10). وأضاف: «اتفق الغلاة على نفي الربوبية عن الجليل الخالق، تبارك وتعالى، وإثباتها في بدن مخلوق، وذهبوا إلى أن البدن مسكن لله، وأن الله نور وروح ينتقل في هذه الأبدان» (11).
________________________________________
(3)موسوعة الفرق الإسلامية، الدكتور محمد جواد مشكور، الطبعة الأولى، 1995م، ص 94.
(4)الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية، ص 291.
(5)الفَرق بين الفِرَق، الاسفرائيني، ص 191.
(6)موسوعة الفرق الإسلامية، مصدر سابق، ص 237.
(7)م.ن، ص 651.
(8)م.ن، ص 306.
(9)كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي ج4، ص 183.
(10)أصول التشيع، هاشم معروف الحسني، ص 270.
(11)النوبختي، فرق الشيعة، ص 28.

[الصفحة - 91]


وقال أحد زعماء هذه الفرق: «إن الباري، تعالى، إنما خلق الإنسان على شكل اسم أحمد، فالقامة مثل الألف، واليدان مثل الحاء، والبطن مثل الميم، والرجلان مثل الدال» (12).
ويمكن أن نثبت عدّة قوائم لعشرات الأسماء التي ظهرت في التاريخ الشيعي وحُسبت عليه، إلّا أن الشيعة والتشيّع منها براء (13)، ومنها: المنصورية والزرارية والشيطانية والشميطيّة والسبعية والجناحية والذبابية والغرابية والنميرية والنصيرية والبيانية والرزامية وعشرات غيرها من هذه الفرق والطوائف و «القبائل» السياسية والعقيدية.
أسباب الغلوّ
يمكن حصر أهم أسباب الغلوّ في ما يأتي:
1 ـ انشداد العديد من الأقوام إلى تقاليدهم الدِّينيَّة القديمة، وتعلّقهم بها، وبخاصَّة إلى ما ورثوه من بيئاتهم المختلفة، كالمجسمة من اليهود، والمؤلّهة من النصارى، الذين مزجوا بين اللاهوت والناسوت، أو الذين آمنوا بالتناسخ والحلول.
2 ـ الظلم الذي حلّ بآل البيت (عليهم السلام)، والذي دفع جماعات منهم للمغالاة بحقهم، وتضخيم مشاعر التعاطف معهم إلى حدِّ إخراجهم عن حدودهم البشرية، وبخاصَّة أولئك المتقاعسين الذين لم ينصروا أئمتهم في حياتهم، فغلوا بهم بعد مماتهم.
3 ـ الوسط الفكري المضطرب واشتداد الصِّراع السِّياسي، وهو ما حدث يوم وفاة النبي محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، حين أنكر عمر بن خطاب، مثلًا، وفاته، وتوعّد بقتل كل من يقول بذلك. وهذا هو الظَّاهر، أما الباطن السياسي فلعله يخفي وراءه ما يخفي، وهكذا تبرز الخصومات المذهبية والتناحر العقدي فيتلبَّس الناس بهذا اللباس الديني أو ذاك، لتمرير مصالح عاجلة أو تجنّب صدامات دموية مؤذية.
4 ـ الرَّغبة في توفير الأمن من سطوة الحكَّام الظَّلمة؛ إذ يبتعد الغلاة عن مواجهة هؤلاء الحكام، وينأون بعيداً عن عالم السياسة، وينشغلون بسفاسف الغلوّ وترهاته؛ الأمر الذي يشجعه الحكَّام أنفسهم طبعاً، حيث ينصرف الناس بعيداً عن التفكير بأمورهم الحياتية والمعيشيَّة تاركين الحكَّام غارقين في ملذَّاتهم وشهواتهم،
________________________________________
(12)الملل والنحل، ص 154 ـ 165، والقائل هو أحمد بن الگيال زعيم (الگيالية).
(13)في أمالي الطوسي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: قال الصادق (عليه السلام) ، احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شرّ خلق الله، يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبية لعباد الله، والله، إن الغلاة لشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا... ثم قال (عليه السلام) : إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله، فقيل له: كيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: الغالي قد اعتاد الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله أبداً، وإن المقصّر إذا عرف عملَ وأطاعَ. (راجع أمالي الطوسي، ص 54).

[الصفحة - 92]


وهذا ما فعله فعلًا حكام الدولتين الأموية والعباسية، إذ تركوا الوعَّاظ يقصّون الأقاصيص والحكايات في المجالس وتجمعات الذكر.
5 ـ الهروب من العبادات والركون إلى اللهو والدِّعة وطلب العافية بإيجاد بدائل باهتة من أقاصيص وحكايات لا قيمة لها في الواقع، ولا علاقة لها بهموم الناس وآلامهم وآمالهم، وبحجة أن هذا الإمام أو ذاك فوق البشر، وأن له كياناً ذاتياً خاصاً لا يمكن أن يرتقي إليه أحد في سلوكه، فيُكتفى بـ «حبّه» فقط من دون «معرفته»، أو الاقتداء بسيرته، وبخاصَّة في مسائل البذل والتضحية، أو الاستشهاد في سبيل القيم والمبادى.
6 ـ فرض الهيمنة والوجاهة بافتعال علاقة وهمية مع هؤلاء الأئمة وإضفاء الكرامات والمعجزات عليهم، والقول: إنهم يفيضون على محبيهم من هذه الفيوضات والإشراقات، فيصبح هذا الدعيّ «باب» هذا الإمام، وذاك «بهاءه» وثالث وكيله وهكذا ـ كما سنرى ـ ولعلّ أخطر ما في منهج الغلوّ هو تسويغ الغلاة للمعاصي والذنوب بحجة أنهم لا يستطيعون الارتقاء إلى رتبة الأئمة المعصومين، وأن عصمتهم ذاتية، أي من عند الله وأنهم فوق مستوى البشر.
وحين يسلب الغلاة بشرية الأئمة (سلام الله عليهم)، كأن يقول أحدهم، مثلًا: إنَّ السيف لا يؤثِّر في جسد الإمام، في محاولة فارغة لاختراع كرامة أو معجزة مجعولة، فإنه ومن حيث لا يدري، لا يُبقي لهذا الإمام كرامة، باعتباره لا يستطيع أن يذنب بالطبع وأن قوّته خارقة، وبالتالي فإنه ليس شجاعاً، وقد يكون الجدار في نهاية التحليل أتقى من الإمام (عليه السلام)وأشجع، أعاذنا الله من هذا الإسفاف أو هذا الهراء، وأعاذ أئمتنا (عليهم السلام)الذين حُزّ وريد عظيم منهم، وجميعهم عظماء، وداست الخيل صدره، ولم يجد لنفسه ولعياله نفعاً ولا ضرَّاً من دون إرادة الله...
الفرق المعاصرة
الشيخيَّـــة
وهي فرقة معاصرة من فرق الغلاة اشتقَّت اسمها من اسم الشيخ أحمد بن زين الدين بن ابراهيم الإحسائي المولود عام 1157هـ (1743م). وعُرف بالبحراني نسبةً
________________________________________

[الصفحة - 93]


إلى البحرين التي نشأ فيها، وتلقّى فيها مبادى العلم قبل أن ينتقل إلى العراق لاستكمال دراسته الدينيّة، ومن العراق سافر إلى إيران متنقِّلًا بين يزد وقزوين وأصفهان وطهران. عُرفت «الشَّيخية» باسم «الكشفية»، أيضاً، نسبةً إلى مزاعم مؤسسها في كشف الأسرار ورفع الغشاوة وإنارة البصائر (14).
حقق الشَّيخ الأحسائي مكاسب مهمَّة خلال إقامته في مدينة يزد التي يكثر فيها أصحاب الديانة الزرادشتية، وتمكّن من كسب مودّة الشاه، فتح علي القاجاري، الذي كان ملكاً ساذجاً بسيطاً يؤمن بالأساطير والخرافات والتنجيم، فأفاض عليه الحدب والعناية السلطانية، الأمر الذي وفّر له مزيداً من الطمأنينة والراحة والاستقرار حتى خاطبه يوماً قائلًا بعد البسملة والحمد:
«... أما بعد، يقول العبد المسكين أحمد زين الدين، وردتْ عليّ من الناحية الرفيعة والجهة المنيعة إلى ناحية الجناب المكين، حامي الملّة والدين، طالب الحقّ واليقين، وجامع كل زين، سلطان البرّين وخاقان البحرين، حافظ الأمان، وحارس أهل الإيمان، عالي القدر والشأن، وسامي الرقية والمكان، السلطان بن السلطان بن السلطان، والخاقان بن الخاقان بن الخاقان...» (15).
ولما كان «الخاقان بن الخاقان» هذا مُعجباً بالرجل، كان كثيراً ما يوجّه إليه أسئلته واستفساراته «المهمة جداً»، ومنها: «الإستفسار عن كيفية نكاح أهل الجنة، وهل يمكن لأهل الجنة أن يتزوجوا أكثر من أربعة نساء؟ وكيفية الموت؟ وهل الحشر بالأرواح أو بالأجسام؟ وهل نعيم الجنّة مثل نعيم الأرض» (16)وأمثال ذلك من أسئلة البطر والترف.
وبعد محطَّة يزد هذه، انتقل الشيخ إلى كرمنشاه التي تقع على مفترق جميع الطرق البرية، ومنها انتقل إلى كربلاء لعلّه يحقق نجاحاً أكبر هناك، ولكنه اصطدم بتصدي الشيخ تقي القزويني له، ففنّد مزاعمه ودعاواه، وهكذا فعل علماء الشيعة في كربلاء، فاضطر إلى الفرار من هذه المدينة بعد أن زرع بذرة «البابيّة» فيها عبر تلميذه الشيخ كاظم الرشتي.
ويرى «الشَّيخية» أن الأئمة الإثني عشر هم العلّة المؤثرة في وجود
________________________________________
(14)القاموس الإسلامي، ج4، ص 207.
(15)أحمد الأحسائي، الرسالة السلطانية، ص 244، من المجلّد الثاني من مجموعة جوامع الكلم، طبع حجري، تبريز 1276هـ.
(16)أحمد الإحسائي، الرسالة الخاقانية، المجلد الأول من مجموعة جوامع الكلم، ص 120 ـ 130، خط أحمد بن محمد خوشنويسي تبريزي ـ تبريز.

[الصفحة - 94]


المخلوقات، وهم مظهر الإرادة الإلهية والمعبّرون عن مشيئة الله، ولولاهم لما خلق الله شيئاً، ولذلك فهم الغاية من الخلق، وكلّ ما يفعله فهو يفعله بوساطتهم، ولكن ليس من ذاتهم، وهم مجرد وسائط(17).
كما يعتقد «الشيخية» أن أصول الدين أربعة هي: التوحيد والنبوّة والإمامة والركن الرابع. ويعتقدون بأنَّ الركن الرابع هذا هو معرفة الشيعي الكامل، وهو الناطق الأول والوساطة بين الشِّيعة والإمام الغائب، إذْ يأخذ الأحكام من الإمام من دون وساطة ويوصلها إلى الآخرين (18).
ومن معتقداتهم تفسيرهم آيات القرآن الكريم تفسيراً باطنيّاً لتأييد وجهة نظرهم، كتفسيرهم لقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ اءِلَّا خَسَاراً} [الإسراء/82]، بأن المقصود من القرآن هو محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، وما هو شفاء ورحمة، أنه علي بن أبي طالب (عليه السلام) (19).
ويفسرون قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ اءُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ اءَمَّةٍ تُدْعَى اءِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية/28]بأن الكتاب هنا هو علي بن أبي طالب، وأن أعمال الخلائق في الدنيا تُعرض عليه يوم القيامة (20).
البابيّــة
البابيَّة مذهب باطني تأسس في إيران عام 1844 على يد الميرزا علي محمد رضا الشيرازي الذي زعم في «البيان» أنه «الباب» للإمام المهدي المنتظر (عج).
ولُقّب الميرزا علي محمد الباب، توفي والده وهو صغير، فكفله خاله الميرزا علي الشيرازي، وعهد به إلى الشيخ عابد، أحد تلامذة السيد كاظم الرشتي باذر بذور «الشيخية» التي مرَّ ذكرها.
يُعدّ «البيان» كتاب البابية المقدس، ويزعم الميرزا أن هذا الكتاب نزل عليه من سماء المشيئة الإلهية، فنسخ به القرآن الكريم، وصار فرضاً على كل مسلم أن يؤمن به.
العارف باللغة العربية المتفحّص لهذا الكتاب يكتشف، من أول وهلة، أنه كتاب بائس متهافت، مشحون بالأخطاء اللغوية والنحوية والبلاغية بحيث لا تخلو
________________________________________
(17)دائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين، ج14، طبعة دار المعرفة، بيروت، ص 12.
(18)موسوعة الفرق الإسلامية، مصدر سابق، موضوع الشيخية، ص 321.
(19)حياة النفس، الأحسائي وأصول العقائد، الرشتي، ص 152.
(20)م.ن، ص 255.

[الصفحة - 95]


صفحة من صفحاته من هذه الأخطاء الفاحشة، والكتاب مخطوط بخط الميرزا نفسه. وفي ما يأتي بعضٌ من نصوصه:
«قل، اللهم، إنك أنت فردان السماوات والأرض وما بينهما، تخلق ما تشاء بأمرك، إنك أنت أفرد الأفردين. قل، اللهم، إنك أنت فردان الفرادين، لتؤتين الفرد من تشاء، ولتنزعن الفرد عمن تشاء، ولتقدرن ما تشاء كيف تشاء لما تشاء، بما تشاء إنك كنت على ما تشاء مقتدرا... إنه كان فراداً فارداً فريداً، ولله فرادين السماوات والأرض وما بينهما... والله فردان مفترد متفارد».
وهكذا إلى ما لا نهاية له من هذا الهراء والإسفاف والانحدار.
ومن أفكار هذا «الباب» وفرقته أنهم ألغوا العديد من الشرائع، كالصلاة والصيام وأحكام الزواج والطَّلاق والإرث. وتفنّنوا في اختلاق الرؤى والأحلام. وألغوا فكرة الجهاد، ودعوا إلى مقارعة الخصوم عبر الدعوة بالموعظة الحسنة والكلمة الطيبة فقط، الأمر الذي استحسنته الماسونية العالمية ودوائر الاستعمار التي هيمنت على مقدِّرات المسلمين آنذاك.
كما دعوا إلى تحريم الحجاب على المرأة وإطلاق زواج المتعة بلا حدود، والترويج لما يُسمَّى حساب الجُمل واختلاق أرقام لكل حرف من حروف الكلمات وتطويع هذه الجمل والكلمات لما يخدم أهدافهم السياسيّة والمذهبيّة في استغفال البسطاء والسذَّج واستهبالهم.
أما تفسيرهم للقرآن، أو فهمهم له، فقد تعمّدوا التأويل والتفسير الباطني، فصارت آيات الله البيّنات تُفسَّر حسب الأذواق والأهواء، حتى صارت {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} مثلًا محمداً و {وَالقَمَرِ اءِذَا تَلاهَا}عليّاً، {وَالنَّهَارِ اءِذَا جَلاهَا} الحسن والحسين. و {وَاللَّيْلِ اءِذَا يَغْشَاهَا} الأمويين، وهكذا مما لا رأس له ولا ذيل ولا أساس، ولا يرتكز على ركن مكين من وحيٍ أو تنزيل، أو تفسير أو تأويل.
البهائية
أمَّا البهائية فهي عقيدة باطنية أخرى أسَّسها الميرزا حسين علي النُّوري، الملقّب بالبهاء أو بهاء الله (1817 ـ 1892)، وجاءت امتداداً لعقيدة البابية التي مرَّ ذكرها.
________________________________________

[الصفحة - 96]


يعتقد البهائيون بأنَّ الله، تعالى، عبّر عن نفسه خلال إبراهما وبوذا وكونفوشيوس وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وأخيراً البهاء الذي يشبه المهدي المنتظر (21)، ولا يختلفون عن البابيين إلّا في بعض الفروع والاجتهادات. وكتابهم المقدَّس الذي ألّفه الميرزا المذكور هو البديل عن كتاب «الباب» المعروف (البيان) الذي مرَّ ذكره، وهم في ظاهرهم يدعون إلى وحدة الأديان والإخاء بين بني البشر وإلغاء الفوارق العرقية والدينية والطبقية.
زعم مؤسِّس البهائية أن كتاب «الأقدس» هو الأكمل في الكتب الدينيّة المقدسة، وهو تاجها بل هو نسخ لكتاب الله (القرآن)، وأنه نزل عليه من سماء المشيئة الإلهية أيضاً، وقد حاول فيه محاكاة القرآن في السجع والإيقاع والوزن، ولكنه جاء شائناً ومتهافتاً ولا يختلف عن سابقه، ومثال ذلك:
«إنَّا ما دخلنا المدارس، وما طالعنا المباحث، اسمعوا ما يدعوكم به هذا الأمي إلى الله الأبدي، إنه خير لكم مما كنز في الأرض لو أنتم تفقهون» (22).
أمَّا تأويلهم لآيات القرآن الكريم فجاء مشابهاً لتأويل البابية وتفسيراتها، وبعيداً عن كل أصول التفسير والفقه وقواعد اللغة. فقد قالوا، في تفسيرهم للآية القرآنية الكريمة {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} بأن الحياة الدنيا هي «محمداً» والآخرة هي «الميرزا حسين علي البهاء» (23). وهكذا في تفسير قوله تعالى: {اءِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، أي ذهبَ ضوؤها، وهي الشريعة الإسلامية واستُبدلت بشريعة البهاء، {وإذا الوحوش حشرت} ، أي أنشئت لها حدائق للحيوانات، {وَاءِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ، أي أنشئت فيها البواخر. وهذا لا يختلف طبعاً عن تفسير بعضهم{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} بالحسن والحسين، و {مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} بالإمام علي والزهراء سلام الله عليهما، أو {اءِنَّ الله لَا يَسْتَحْيِي اءَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} فالبعوضة هي أمير المؤمنين، وما فوقها هو رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) (24).
ويزعم البهائيون أن الإنسانية وصلت إلى درجة من التحلّل والفساد جعلتها تحتاج إلى شريعة جديدة، فأباحوا الربا، مثلًا، ودعوا إلى الزواج من المحارم باستثناء زوجة الأب، وأعفوا النساء من الاغتسال بعد الحيض والاكتفاء
________________________________________
(21)الموسوعة السياسية، م1، ص 578.
(22)الأقدس: 121، وهو المنشور في كتاب «البابيون والبهائيون» للأستاذ عبد الرزاق الحسني.
(23)حقيقة البابية والبهائية، مصدر سابق، ص 169.
(24)تفسير القمي، 1/35، والآية في سورة البقرة 2: 26.

[الصفحة - 97]


بالوضوء (25)، وأشاعوا الإباحية ونسخوا تعاليم الدين المقدَّسة في عفَّة النساء وحشمتهن، وقد تجلّت هذه الدعوة في أول ظهور لميرزا حسين علي البهاء في مؤتمر مدينة رشت شمالي إيران؛ حيث اقترب من «قرّة العين» (26)، ودفعها من وراء الستار لتظهر على الحضور بكامل زينتها وتبرّجها، وتدعو للتحرر من قيود الدين والعودة إلى «هذا الصدر الجميل»! ـ حسب تعبيرها الداعر ـ وما يعفّ القلم عن ذكره...
القاديانية
لم يَقتصر انتشار الفرق الباطنية على إيران وبعض الدُّول العربية، وإنما انتقل إلى الهند وباكستان، في أواخر القرن التاسع عشر، أي بعد استقرار الحكم الانجليزي في تلك البلاد. فقد انتشرت، هناك، الفرقة القاديانية برئاسة مؤسسها القاضي غلام أحمد القادياني (1839 ـ 1908) الذي زعم أنه المسيح الموعود، وأنَّه التجلّي الأعظم للحجة المنتظر (27).
سُمِّيت هذه الفرقة بالقاديانية نسبة إلى مؤسسها «القاضي القادياني» هذا، المولود في مدينة «قاضيان» في مقاطعة البنجاب، كما سُمِّيت بالأحمدية نسبة إلى اسمه غلام أحمد، وانفرد القاديانيون بجملة مبادى أهمها:
1 ـ محاربة مبدأ النبوّة وختمها المقدّس.
2 ـ محاربة مبدأ الجهاد وإسقاطه.
3 ـ الدعوة لطاعة الإنجليز والولاء لهم (28).
وأكثر ما أكّده القاديانيّون أن الجهاد يجب أن يُشنّ بالوسائل السِّلميَّة، وليس بالوسائل العسكرية(29). وفي ذلك يقول غلام أحمد: «لقد ظللتُ، منذ حداثة سنّي، وقد ناهزتُ اليوم على الستين، أجاهد بلساني وقلمي لألغي فكرة الجهاد التي يدين بها البعض والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة (أي الحكومة الإنجليزية) وعدم الجهاد ضدها أصلًا، لأنَّها أحسنت إلينا، وأرى أن كتاباتي قد أثّرت في قلوب المسلمين» (30). ويضيف: «لقد استطعت أن أقلع ألوف الناس عن فكرة الجهاد التي كانت من وحي العلماء الجاحدين» (31).
________________________________________
(25)يمكن مراجعة ذلك وغيره في نصوص كتابهم «الأقدس».
(26)وهي امرأة داعرة معروفة، وقد مارست دوراً كبيراً في إشاعة الرذيلة والتهتك حتى انتهت إعداماً.
(27)البهائية، حقيقتها وأهدافها، ضاري محمد الحياني، واسط، بغداد 1989، ص 34. عن القادياني والقاديانية: أبو حسن الندوي، ص 38، الدار السعودية للنشر. القاديانية: إحسان ظهير، ص 19، المكتبة العلمية بالمدينة المنوّرة، ط1، سنة 1967.
(28)القاديانية والاستعمار الانجليزي، عبد الله سلوم السامرائي، ص 11.
(29)موسوعة المورد، منير البعلبكي، ج1، ص 58.
(30)المفتي محمود، المتنبي القادياني، ص 8.
(31)الميرزا غلام أحمد، من الرسالة المقدمة إلى الحكومة الإنجليزية، المصدر نفسه، ص 9.

[الصفحة - 98]


واعتمد القاديانيّون تأويل القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وأخذوا بمبدأ الحلول والتناسخ، ورأوا أن روح الله حلّت في روح «الزعيم المؤسس»، وراحت تكشف له من أسرار الملكوت ما لا تكشف لغيره، فسمَّى نفسه «النَّبي الظلّي».
وقد تدرَّج الميرزا في عالم الغيب خطوة خطوة، فأثبت المعجزات والخوارق التي تكسبه صيتاً عالياً، ثم الكشف والإلهام والكرامات والعلم الباطني والعلم اليقيني والتكلُّم على صفات النبوة وخصائصها، ثم الحديث عن درجات الصالحين والصدِّيقين والشهداء، وأخيراً عن الفيض والظلّية والامتداد وهكذا.
وعندما اصطدم الميرزا بفكرة ختم النبوة في محمّد (صلي الله عليه و آله و سلم) في قوله تعالى:{اليَوْمَ اءَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَاءَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاءِسْلَامَ دِيناً} ، رجع إلى الفيض والتأويل مخترقاً هذا الثابت بقوله: «إن القول بختم النبوَّة وإغلاق بابها يستلزم انقطاع الفيض، وهذا فيه شؤم ونحس وتكذيب بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ اءُمَّةٍ اءُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لأن إغلاق النبوَّة لا يتلاءم وخير الأمة»، إلى أن يقول: «إنني لستُ نبياً أو رسولًا... ولكني ظل كامل ومرآة تنعكس فيها الصورة المحمديّة بشكل كامل» (32).
دوافع هذه الفرق وأهدافها
من قراءة متأنِّية لأسباب نشوء الفرق المذكورة ودوافعها، نرى أن هناك قاسماً مشتركاً يكاد يجمع بين الجميع، وهو خدمة أغراض ومصالح سياسية لهذه الدولة أو تلك، أو هذا الحاكم أو ذاك.
فحالما تقوم دولة من الدول، أو ثورة من الثورات، في هذه البقعة من الأرض أو تلك، لا سيما الدول الإسلامية، تقوم السفارات الأجنبية بالبحث عن مواطن اصطياد وحياكة، أو اقتناص، عملاء لحفظ مصالحها داخل هذه الدُّول.
ولمَّا كان الحسّ الديني فاعلًا في المجتمعات الإسلامية، فإن المصالح الأجنبية لا يمكن تحقيقها إلّا بالتسلّل إلى التجمُّعات الدينية وإذكاء نيران الفتن وإشعال حرائق «عقديَّة» في ما بينها، واستثمار هذه الحرائق والفتن لإدارة الصراعات الناتجة عنها والتعيُّش عليها.
________________________________________
(32)راجع الميرزا محمود بن المؤسس، حقيقة النبوة، ص 272، والميرزا غلام أحمد: نزول المسيح. وقادياني مذهب، ص 199.
[الصفحة - 99]
وهكذا نلاحظ أن ظهور، الشيخية والبابية والبهائية بشكل جلي، أو إظهارها، أصبح مرتعاً خصباً لهذه النشاطات الأجنبية؛ حيث راحت السفارات تدق على الأوتار العقيدية والمذهبية لهذه الفرق من أجل إنشاء المزيد من الكيانات والاستقطابات السياسية تحت هذا الغطاء الديني أو ذاك.
فبعد ادّعاءات أحمد الأحسائي، مؤسس فرقة الشيخية، توجَّهت عناية السفارات الخارجية في إيران إلى إسناده ودعمه، الأمر الذي قاد إلى بروز البابية والبهائية المذكورتين، فكانتا أفضل سبيلين لإحداث شرخ كبير في العقيدة والوجود الإسلاميين من خلال دعم جهود هاتين الفرقتين ونشاطهما، ومباركتهما واعتبارهما ساحتي عمل جديدتين للسياسيين، وافتعال المعارك العقديَّة الوهمية بين المسلمين وإضعاف الصفّ الإسلامي.
فقد أكّدت عشرات الوثائق دعم السفارة الروسية، في طهران مثلًا، لكينازد الكورني الذي نشر مذكراته في مجلة «الشرق» الناطقة باسم الخارجية الروسية، فأورد هذا الجاسوس الروسي ـ الذي كان مترجماً للسفارة الروسية في طهران، ورقيِّ إلى منصب الوزير المفوض ثم إلى منصب السفير (33)أنّ حسين علي بهاء كان يتردّد على السفارة الروسية، ولكنّ البهائيين تنصلوا من هذه التهمة، الأمر الذي أثبتته الوقائع والأحداث ومن المصادر البهائية نفسها. إذ من خلال هذا الرجل، وعلاقته بالباب، استطاعت الحكومة الروسية أن تجعل من الميرزا صنيعة لها للإخلال بالأمن في بلاد إيران والبلدان الإسلامية المجاورة، وإشغالها بحرب داخلية حول العقيدة والأحلام والكرامات، وما يعنيه الرقم 19، مثلًا، وحساب الجمل والفيوضات (الملكوتية والجبروتية)! وما إلى ذلك.
وقد انكشفت العلاقة بين الباب وروسيا عندما تدخّلت الأخيرة، عبر قنصليتها في طهران، تدخُّلًا مباشراً لإنقاذ الميرزا من الإعدام، ولكن بعد أن سبق السيف العذل.
ولم يفُت أجهزة الدعاية اليهودية أن تسخّر كتّابها للدفاع عن البابيين دفاعاً مستميتاً وتعرّفهم للعالم، وهذا ما فعله «غولدزيهر» اليهودي المتعصّب، حين راح
________________________________________
(33)حقيقة البابية والبهائية، مصدر سابق، ص 116 نقلًا عن «الحقائق الدينية في الردّ على العقيدة البهائية» بقلم محمد حسين آل كاشف الغطاء.

[الصفحة - 100]


يتكلم عن البابية ويدافع عنها، ويضفي على رجالاتها لقب البطولة، وبخاصَّة على غانيتهم الفاجرة (قرّة العين) المارّة الذكر (34).
وهذا يعني أن أطروحة البابية لم تبقَ بعيدة عن الأنظار وقتاً طويلًا، إذ سرعان ما انتشرت دعوتها، وراح دعاتها يجهرون بها ويروّجون لها، الأمر الذي دعا علماء إيران إلى التضييق على الباب علي محمد الشيرازي ودعوته إلى المناظرة والمناقشة. فانعقدت لهذا الغرض مجالس متعددة في مناسبات مختلفة، ظهر فيها ضعف الباب وتهافُت أفكاره وعدم قدرته على الدفاع عما يتعلّق بالبابية والمهدوية والنبوية والألوهية، وادّعاء نسخ الشريعة الإسلامية...
وتبيّن، من خلال هذه النِّقاشات والمناظرات، أنه كان يفتقد إلى أقلِّ قَدْر من المعارف والعلوم الإسلامية التي تؤهّله للاستنباط من الكتاب والسنّة، وكان يتردد في إجاباته متذرعاً أنه «تعلم الصرف مثلًا في الصغر وقد نسيه الآن» (35)وأنه «أطلق عنان النحو من قيوده» (36)لتسويغ أخطائه النحوية.
ونتيجة إحكام اللحمة بين الأمة الإيرانية والمجتهدين، والمقاومة التي أبداها الشعب الإيراني بزعامة العلماء الواعين، تم إلقاء القبض على الباب وأودع في السجون، وظلّ يتنقل من سجن إلى سجن حتى استقر به المقام في نهاية المطاف في سجن «ماه كو»، ومنه إلى سجن «جهريق» إلى أن توفي محمد شاه سنة 1848م/1264هـ.
وبعد وفاة هذا الشاه، استغل البابيون هذه الحادثة لإثارة الثورات في مناطق إيران المختلفة وتحريض الناس ضد ناصر الدين شاه...
وهنا أصبح لزاماً على الحاكم الجديد أن يضع حدَّاً لهذه الاضطرابات، فتمَّ إحضار الباب إلى تبريز من قلعة جهريق مجدَّداً، فلبث ثلاثة أيام ثم نفّذ فيه حكم الإعدام يوم الأربعاء 28 شعبان 1266هـ وله من العمر 31 سنة (37). وبعد إعدامه، طافوا بجثمانه في أسواق المدينة وأزقتها، وأخيراً ألقوه على حافة خندق معزول طعمةً للهوام والسباع.
هذا على صعيد البابية، أما البهائية «فلقد اعترفت الدولة الروسية رسمياً
________________________________________
(34)العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 242 و243، وقصة «قرّة العين» هذه مسألة جديرة بالقراءة والمتابعة لمن يرغب في التفصيل وكيف أنها تطيّبت وتزيّنت وتبرّجت وخرجت سافرة مكشوفة الصدر على المؤتمرين في حضرة «الباب»، وهي تُرغّب الحضور بصدرها الخلّاب وطيبها الجذاب هازئةً بالعرف والدين ومنهج رب الأرباب.
(35)محمد فاضل، الحرب في صدر البهاء والباب، دار التقدم بشارع محمد علي، مصر، الطبعة الأولى 1329هـ، ص 184.
(36)اعتضاد السلطة، فتنة الباب، ص 21.
(37)محمد محمدي اشتهاردي، ارمغان استعمار، ص 45 و46.

[الصفحة - 101]


بالبهائيين؛ إذ سمحت لهم ببناء معهد (مشرق الأذكار) بمدينة عشق آباد وافتتاح مدرسة بهائية بها، ووفّرت لهم أنواع الحماية اللازمة، من الترخيص باجتماع البهائيين إلى طبع المصنّفات البهائية ونشرها...» (38).
وتؤكّد المصادر التاريخية الموثَّقة أنَّ حسين علي بهاء وشقيقه قد حازا على الجنسية العثمانية أثناء إقامتهما في بغداد، ولكنهما لم يلبثا أن تخلَّيا عنها لصالح الجنسية الإنجليزية التي عُرضت عليهما بتوفير الحماية والدعم لكل من سار في ركابها ورعى مصالحها في المنطقة... (39).
وكان من جملة ما نفّذه هذان الرمزان البهائيان وأبناؤهما أنَّهم، حينما عضّ الجوع الناس وحلّ الفقر وانتشرت الأمراض في أوساط المجتمع الإيراني ومنه البابيُّون أنفسهم، أداروا الظهر له، فكان عباس أفندي يوزع الدنانير الذهبية على سيدات لندن وأوروبا سعياً إلى إدخال السرور عليهن، وضماناً لانتشار الأمر البهائي وتأمين الصلح والسلام العالميين بينهن... (40).
وأكثر من ذلك، كان عباس أفندي يعمل في خدمة الإنجليز بتخزين المواد الغذائية وتسليمها، في ما بعد، للجيوش الإنجليزية في زمن كانت ترزح فيه كل من إيران وتركيا تحت نكبة الجوع والقحط. وأقصى ما كان يرجوه من وراء ذلك هو الحصول على لقب «اللورد» ووسام الشرف الانجليزي في وقت كانت جميع شعوب الدنيا تشكو من تسلّط الانجليز وهيمنتهم واستعبادهم...
وكان أصدق مثال على ولاء عباس أفندي هذا إلى الانجليز ما جاء في اللوح المشهور الذي أعدّه لملك بريطانيا (جورج الخامس)، وتوجّه إليه بدعاء مأثور قائلًا فيه: «... هو الله.. اللهم إن سرادق العدل قد خرجت أطنابها على هذه الأرض المقدسة، في مشارقها ومغاربها، ونشكرك ونحمدك على حلول هذه السلطة العادلة والدولة القاهرة الباذلة القوة في راحة الرعية وسلامة البرية. اللهم أيّد الامبراطور الأعظم جورج الخامس، عاهل انكلترا، بتوفيقاتك الرحمانية، وأدم ظلَّه الظليل على هذا الإقليم الجليل بعونك وصونك وحمايتك، إنك أنت المقتدر المتعالي العزيز الكريم...» (41)، حيفا 17 دسمبر (كانون الأوَّل) 1918م.
________________________________________
(38)البهائية من النشأة إلى التاريخ المعاصر، مصدر سابق، ص 143، عن عبد الحسين آوره، الكواكب الدرية (بالفارسية) ج2، ص 55.
(39)المصدر نفسه، ص 154.
(40)أمان الله شفا، نامه أي از سن بالو، ص 218.
(41)البهائية من النشأة إلى التأريخ المعاصر، ص 163.

[الصفحة - 102]


هذا وقد أنعمت الحكومة الانجليزية على عباس أفندي بوسام علّقته على صدره ليبقى علامة أبدية على تبعيته لها...؛ وذلك بعد أن أوحى لها بأنَّ أكثر الإيرانيين قد التحقوا بالطائفة البهائية، وأنه عن قريب سيقع الالتحام الكامل والشامل بين الملّتين الإيرانية والانجليزية (42).
أمَّا اليهود فقد حاولوا، بكل ما لديهم من وسائل، لتثبيت مركز الميرزا حسين البهاء، وبلغ الأمر بهم «أن استخلصوا من دفائن العهد القديم وتنبؤات أسفاره ما يُنبى بظهور بهاء الله وعباس، وزعموا أن كل آية تشيد بمجد يهود أنها تعني ظهور مخلّص العالم في شخص بهاء الله، كما نسبوا جزءاً كبيراً من الإشارات والتلميحات التي في الأسفار إلى جبل الكرمل الذي تجلَّى منه نور الله وأضاء الكون... ولم ينسوا أن يستخرجوا مما يحتويه سفر دانيال من الرؤى ما يُنبى بقيام الحركة التي أوجدها الباب...» (43).
وأسفرت البهائية عن وجهها الصهيوني بعد موت الميرزا شوقي أفندي رباني، حبرهم الثَّالث بعد البهاء وابنه، إذ اجتمع المجلس الأعلى للطائفة البهائية في إسرائيل، وانتخب صهيونياً أمريكياً اسمه «ميسون» ليكون رئيساً روحياً لجميع أفراد الطائفة البهائية في العالم (44).
وقد استبشر البهائيون خيراً عندما تمَّ لليهودية العالمية ما أرادت سنة 1948م ظلماً وعدواناً، وعدُّوا يوم تأسيس إسرائيل دليلًا على مزاعم مرشدهم الميرزا حسين؛ إذ جاء في كتابهم: «هذا يوم فاز فيه الكليم بأنوار القديم، وشرب زلال الوصال من هذا القدح الذي به سُجّرت البحور. قل تالله الحقّ أن الطور يطوف حول مطلع الظهور. والروح ينادي من في الملكوت: هلّموا وتعالوا يا أبناء الغرور، هذا يوم فيه سرع كرم الله شوقاً للقائه، وصاح الصهيون: قد أتى الوعد، وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي العزيز المحبوب...» (45).
كما أصدر شوقي أفندي «أمراً إلى جميع المحافل البهائية في العالم ليؤسس كلّ منها فرعاً له في إسرائيل، طبقاً لخطة المحفل الأكبر للسنوات العشر في قيام المملكة الإسرائيلية في الأراضي المقدسة، وقد أعلنها حضرة عبد البهاء في خطابه
________________________________________
(42)م.ن، ص 164.
(43)العقيدة والشريعة، جولدزيهر، ص 250.
(44)دائرة معارف القرن الرابع عشر (العشرين)، 2/377.
(45)الأقدس، ص 118.

[الصفحة - 103]


بالمؤتمر الرابع للدعاية الذي انعقد في نيودلهي، وقال: إننا ندعو المجتمع البهائي، بجميع طبقاته، لأن يبادر في العشر سنوات من قيام دولة إسرائيل...» (46).
من جانبها، بذلت إسرائيل جهوداً كبيرة في مجال توفير الحماية للبهائية وتأمين انتشارها باستخدام مختلف الوسائل والأساليب التي تمكِّنها من تحقيق ذلك... ومن جملة هذه الأساليب ما يأتي:
1 ـ عملت وسائل الإعلام الإسرائيلية على التعريف بالبهائية وشرح معتقداتها وتحليل توجُّهاتها، واستجابت هذه المؤسسات الاعلامية إلى التوصيات الصادرة، تصريحاً أو تلميحاً، عن قادة الصهيونية، فانطلقت في عملية دعائية كبيرة لفائدة البهائية، فقد صرح لطف الله حكيم عضو الهيئة البهائية العالمية في إسرائيل قائلًا: «إن الجرائد الإسرائيلية، الناطقة باللغة العبرية أو العربية أو الانجليزية، قد نشرت مقالات مفصّلة عن الديانة البهائية والمقام الأعلى» (47).
2 ـ بثّ راديو إسرائيل برنامجاً خاصاً باللغة الإنجليزية عن البهائية بتأريخ 29 ديسمبر (كانون الأوَّل) 1952م، لم يكن القصد منه التعريف بالبهائية فحسب، وإنما الإسهام في ترويجها والدعاية لها حتى تكسح جميع المحافل العالمية، فقد ورد في هذا البرنامج: «إن إسرائيل اليوم ليست مركزاً للديانة الكليمية والمسيحية والإسلام فقط، وإنما هي أيضاً مركز لديانة رابعة، وهي الديانة البهائية التي اختارت هذه الأرض لتكون مركزاً لها... وأن أمنية أي فرد بهائي هي السفر إلى بلاد إسرائيل لزيارة رمس مولاه» (48).
3 ـ النتيجة الطبيعية لجميع هذه التصريحات والإشارات والتلميحات هي أن إسرائيل اعترفت بالبهائية اعترافاً رسمياً حسبما صرّح شوقي أفندي نفسه (49).
هامش سياسي واضح
ويخلص المراقبون، في دائرة المعارف الشيعية، إلى أن هذه الفرق والحركات ـ وآخرها الحركة الإخبارية ـ إنما هي إفراز للصراع الدفين بين المؤسسة الدينية من جهة والسلطة الصفوية من جهة أخرى، والسياق التاريخي يشير إلى أن الشاه عباس الصفوي كان مستفيداً من دعم هذه الحركة لإضعاف نفوذ الفقهاء السياسيين
________________________________________
(46)مجلة أخبار أمري، عدد 4، 1953، اءُرگان محفل ملّي بهائيان.
(47)المصدر نفسه، عدد 6/7 مهر ـ آبان 1332.
(48)المصدر نفسه، عدد 1 و2 ارديبهشت 1332.
(49)الأيام التسعة هي الأعياد البهائية، وهي: النوروز والرضوان، ذكرى ميلاد الباب وميلاد بهاء الله، وعيد بعثة الباب وغيرها، عن توقيعات مباركة حضرت ولي أمر الله، ص 290.

[الصفحة - 104]


والمؤسسات التي بُنيت على أكتافهم منذ عهد المحقّق الكركي، المتوفى سنة 940هـ (50).
ويقدّم مراقبون، أو باحثون آخرون، قراءة أخرى مشابهة لهذه القراءة خلاصتها أن الاستعمار يعمل دائماً على اصطناع فرق ومذاهب، داخل البلدان الإسلامية، بصورة فرقة شيعية متطرفة في العراق مثلًا، والثانية بصورة فرقة سنّية في الحجاز، يُطلق على الأولى اسم الشيخية بزعامة الشيخ أحمد الأحسائي وتلميذه كاظم الرشتي، وتقوم على أساس رفع الأئمة إلى حدّ التأليه، فيما تُسمّى الثانية «الوهابية»، وتقوم على أساس توجيه الاتّهامات إلى الشيعة وتكفيرهم في قوالب جافة ومتعصّبة ومتحجّرة، إذ تصمهم بالشرك وتكفّر كبار علمائهم، مثل الملا صدرا والملا محسن المعروف بالفيض الكاشاني (51)، متجاوزة عليهم إلى حد الشتائم، فتصف الكاشاني بأنه من أهل الغي والضلال وتطلق عليه اسم «مسيء» بدل «محسن»، وتسمّي محيي الدين بن عربي باسم «مميت الدين»، وتصف كتابه «الفتوحات» بـ «الحتوفات»، وتعدّه كافراً وملحداً...
واللَّافت أن الفرقة الشيخية ترعرعت في العراق، والعراق كان، آنذاك، جزءاً تابعاً للدولة العثمانية السنيّة المذهب التي حدّدت نشاط علماء الشيعة، ولكنها أطلقت العنان لعلماء الشيخية (52)لمواصلة دورهم في مهاجمة الوهابية وتسعير الفتن المذهبية بين مكّة وكربلاء، أو بين أهل العراق وأهل الحجاز... وهذا ما حصلت ذروته في غزوة الوهابيين لمدينة كربلاء واستباحتها وقتل الآلاف من أهلها، وتهديم المراقد المقدسة تحت شعارات مذهبية لم تقل إن لم تزد تهافتاً عن شعارات الطرف الآخر وإفراطه وتفريطه.
فليس من باب المصادفة، مثلًا، أن ينبري أحد دعاة «الجهاد» من أجل تحرير فدك «بدل تحرير فلسطين» في مدينة سبزوار الإيرانية، فيرفع دعوى قضائية مستخدماً الاستمارة التي توزعها المحاكم لأصحاب الشكاوى، وذلك ضد أبي بكر مطالباً باسترجاع جميع بساتين فدك، وفاقاً للاستمارة الآتية:
________________________________________
(50)دائرة المعارف الشيعية، ج2، ص 235. وإن كان بعضهم يرى أن الحركة الإخبارية إنما جاءت ردَّة فعل على منهج الأصوليين في محاولتهم وضع الأحكام التَّسويغيَّة للسياسة السلطانية الصفوية، وهذا ما يحتاج إلى بحث تأريخي وفكري معمّق لتفكيك بعض الشخصيات عن عموم التيار أو بالعكس.
(51)الوهابية، نقد وتحليل، د. همايون همتي، ص 22، عن قصص العلماء، ص 53.
(52)م.ن، ص 22 و23.

[الصفحة - 105]


المدّعي: السيد حسين علي الواعظي
المدّعى عليه: أبو بكر بن أبي قحافة
موضوع الدعوى: مزرعة فدك (53)
واستند الوهابيون إلى كتاب «شرح الزيارة» الذي كان ألّفه الشيخ الأحسائي؛ حيث غالى فيه في الأئمة، وأجاز لعن الخلفاء الثلاثة وسبّهم، فاستصدر بعض علماء أهل السنّة فتوى بجواز قتل الشيعة، وسمحت الدولة العثمانية للوهابيين بالغارة على العتبات المقدسة في العراق وحصول الذي حصل في النجف وكربلاء، ومعاملة أهالي هاتين المدينتين على أنهم «مشركون» و «كفار»!!
وهكذا يرى الباحثون أن أساس نشوء مثل هذه الفرق والحركات إنما يبدأ اجتهاداتٍ شخصية تقوم على تمجيد الذات وتقديسها، وشق طريق جديد لحشد المؤيدين والأنصار، وتتم تغذيته من قبل المتربصين بالمسلمين، عن طريق الدعم المادي والمعنوي حتى ينتهي الأمر بمذاهب وعقائد يقتتل المسلمون على إثبات حقَّانيَّتها، وينشغلون عن أمورهم الدنيوية وفقه معاشهم ومشاكلهم، ويخوضون في جدالات وسجالات عقديَّة لا أوَّل لها ولا آخر حتى يقعوا جميعهم صرعى مخطط سياسي يسهّل على خصومهم افتراسهم والإجهاز عليهم جميعاً في نهاية المطاف... وهذا ما حصل ويحصل دائماً عندما تختلف الأهواء، وتتدافع المصالح، وتسقط الراية الكبيرة التي يلتف حولها الناس لمواجهة الخصوم الحقيقيين.
على هامش الغلوّ المعاصر
لعل أوضح خيوط التَّشابه، بين غلاة الأمس وغلاة اليوم، هو استخدام الألفاظ والعبارات في تأويلات متعمّدة وتوجيهات مقصودة تهدف إلى إعداد المتلقّي لتقبّل فكرة صارخة، عسيرة على الهضم، عصيّة على الفهم، يُترك تفسيرها أو تأويلها لمفسّرها أو مؤوّلها، تماماً كما تُترك اللوحة في ما يُسمَّى الفن التشكيلي لإيضاحات صاحبها وتفسيراته وذوقه وتأويلاته.
ولمَّا كانت تعريفات العصمة والمعصية والوحي والشفاعة والتوسل والولاية التكوينية وعوالم الملكوت والجبروت موضع اختلاف بين الناس أو فهمهم، يأتي
________________________________________
(53)راجع كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، الشهيد الدكتور علي شريعتي، ترجمة الأستاذ حيدر مجيد، دار الأمير، بيروت، الطبعة الأولى 2002، ص 295.

[الصفحة - 106]


بعض الكتّاب الشيعة اليوم، أو المحسوبون عليهم، لتأويل «السهو والمعصية والوحي والإيحاء ونور الجبروت ونور النور وسرّ النور والسرّ المستودع في فيض النور» لما يخدم الهدف الذي يبيّتون النيّة من أجل الوصول له، أو إيصال القارى أو المستمع البسيط إليه.
«يُروى عن جابر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)أنه قال: أمرنا سرّ مستور في سرّ، وسرّ مستسرّ، وسرّ لا يفيده إلّا سرّ، وسرّ على سرّ، مقنّع بسرّ»، وروي أيضاً أنه قال: «أمرنا سرّ مستور في سرّ، مقنّع بالميثاق: من هتكه أذلّه الله» (54).
وعن سند آخر لابن محبوب عن مرازم، قال: «قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أمرنا هو الحقّ وحق الحق، وهو الظاهر وباطن الباطن، وهو السرّ وسرّ السر، والسرّ المستتر، وسرّ مقنع بسرّ»، إلى أن يأتي أحدهم ليؤكّد تفسيره لهذا السرّ، أو سرّ السرّ، أو سرّ سرّ السرّ بأنه «عبارة عن محل تجلِّيات الأسرار الجبروتية»، قائلًا: «للربوبية سرّ لو كُشفت بَطلت النبوّة»، معترفاً أن هذا في سرّ الله تعالى، أما في سرّ النبوّة، فيقول: «للنبوّة سرّ لو ظهر لبطَل العلم»، وهذا «للعلماء سرّ لو أظهره الله لبطلت الأحكام»، والأخطر من ذلك كله كما يقول هذا الكاتب المعاصر: «للربوبية سر لو ظهرت بَطلت الربوبية» (55).
أما تفسير هؤلاء المعاصرين لهذه الأسرار والبواطن والألطاف فلا يختلف كثيراً عن تفسير السابقين، فقد قالوا: «ولا فرق بين الأحد والأحمد إلّا ميم الممكنات التي غرقَ فيها كل شيء»(56). وأكثر من ذلك: «إن الله سبحانه وتعالى خلق عالم الملك ـ وهو عالم الناسوت ـ على وزان عالم الملكوت ـ وهو عالم الأرواح ـ، والملكوت على وزان الجبروت ـ وهو عالم العقول ـ حتى يستدلّ بالملك على الملكوت وبالملكوت على الجبروت» (57). وهو قريب مما كتبه بعضهم، قال: «إن إمام العصر صار عبداً، ولمَّا صار عبداً صار ربَّاً، فالعبودية جوهرة كنهها الربوبية»، مضيفاً: «إن هناك رياضة روحية خاصّة تمكّن الذين يمارسونها من رؤية ومشاهدة واقعة يوم عاشوراء»، و «إن الزهراء هي ليلة القدر ومنزل القرآن» (58).
ومن هذه التأويلات أيضاً تفسيرهم للآية القرآنية الكريمة {الُ نُورُ السَّمَاوَاتِ}
________________________________________
(54)الأسرار الفاطمية، مصدر سابق، ص 51 عن بصائر الدرجات، 1، 48.
(55)الأسرار العلوية، الشيخ محمد فاضل المسعودي، الطبعة الأولى 1421هـ/2000م، تقديم السيد عادل العلوي، ص 41.
(56)الأسرار الفاطمية، مصدر سابق، ص 51، 31.
(57)م.ن، ص 19.
(58)مقتطفات ولائية، آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني، مصدر سابق، طبعة سنة 1996، ص 39، 41، 91.

[الصفحة - 107]


{وَالَأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة} ، المشكاة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) فيها مصباح، المصباح علي (عليه السلام)، في زجاجة، الزجاجة: الحسن والحسين، كأنها كوكب دري هو علي بن الحسين، يوقد من شجرة مباركة محمد بن علي، زيتونة: جعفر بن محمد، لا شرقية: موسى بن جعفر ولا غربية: علي بن موسى الرضا.. (59)وهكذا إلى ما لا أساس له ولا ارتكاز، تماماً كما هو أساس ارتكاز هذا المؤلف الذي وصف الإمام علي (عليه السلام)بأنه «النقطة المستحيلة التأويل» (60).
ويعني بها ما عناه صاحب هذا الوصف بأنها «قبة سيد الأوصياء» ـ حسب تعبيره ـ.
هي باء مقلوبة فوق تلك الـ نقطة المستحيلة التأويلِ
والتي يضيف بعدها في كتابه نفسه:
«إن الثمرة اليانعة التي نجتنيها من كل هذه الأحاديث النورية أن جوهر الأديان السماوية، عموماً وعلى الإطلاق، متقوّم بالنورية المحمدية العلوية المقدسة» (61).
وعن «التمازج الحقيقي المعنوي بين الحقيقتين النوريتين: المحمدية والعلوية»! يحاول الكاتب المعاصر أن يوصي «المحبين» بأن يطيلوا النظرة في هاتين «الحقيقتين النوريتين» لتفسير امتزاج الشهادة الثانية مع ما سمَّاه «الشهادة الثالثة المقدسة»، أي «أشهد أن علياً ولي الله»، فيروح قائلًا: «إن هذا التمازج المعنوي ظاهر في الجنبة النورية الذاتية، وفي الجنبة العرضية، وما يرتبط بهما من آثار خارجية لا بمعنى الحلولية، أو التناسخ، أو الوحدة في الوجود والموجود معاً، من دون الكثرة واختلاف المراتب وتباين المظاهر، وإنما من جهة توحّد الجوهرية فيها بلحاظ جامعية الأسماء الحسنى المشرقة في كل من الحقيقتين جمالًا وجلالًا» (62).
ويصل الأمر بهذا الكاتب إلى أن يقول في «تنبيهٍ» له على ما أورده من أن علياً (عليه السلام)حجة على الخلائق أجمعين: «وتنبيه على أن أمير المؤمنين أفضل النبيّين والمرسلين (لاحظ بلا استثناء)؛ حيث ثبت من طريق المؤالف والمخالف، أن الله سبحانه سماه أمير المؤمنين، وأمّره على ذرية آدم وهم ذرّ وأقرّوا له بذلك، والأمير أفضل من المؤمّر عليه» (63)أي أنه تعالى ـ حسب هذا الرأي ـ أمّره على جميع الأنبياء بلا استثناء، بمن فيهم نبينا محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) طبعاً!!!
________________________________________
(59)الشهادة الثالثة المقدسة، عبد الحليم الغزي، ط1، سنة 1414هـ، قم المقدسة، نقلًا عن كتاب روضة الأمثال، الشيخ أحمد الكوزة كناني.
(60)م.ن، ص 7.
(61)م.ن، ص 172.
(62)م.ن، ص 179.
(63)م.ن، ص 372.

[الصفحة - 108]


وفي معرض تقديسه «للشهادة» التي لم يؤكّد وجوبها نبي أو إمام، بل إنها ليست واجبةً ولا جزءاً أصلًا من الأذان والإقامة بإجماع فقهاء الشيعة، يضع هذا الكاتب فصله السابع تحت عنوان «الشهادة الثالثة المقدسة وقُطَيْرة (لاحظ قُطيرة) من بحار بحار بحار خصائصها المنيفة». ثم يضع لكل «قطيرة» عنواناً جاء بعضها كما يأتي:
[نور نبوي علوي]... إنها أصل الإسلام ومعدنه نسبةً لقوله تعالى {اءِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الاءِسْلامُ} ، وإنها «حقيقة السلم» التي أمر الله تعالى بدخولها بقوله: {أدخلوا في السلم كافة} ، وهي «روح الإيمان بل هي الدين بكل معانيه ومضامينه... بل هي الحق وحق الحق، وهي الصراط الإلهي المستقيم، وهي السبيل الإلهي القويم، وإنها حقيقة الهدى والهداية، وكذلك هي مشرق النور الإلهي الشريف، وهي معنى الحياة الواقعية، وهي الرحمة الموصولة الواسطة، وإنها النعمة الإلهية السابغة، وهي الحسنة الحسنى التي لا مثلها حسنة...». وأخيراً وليس آخراً «إنها هي الوسيلة التي تقودنا إلى النجاة الحتمية، والطريقة التي من استقام عليها فاز واهتدى» (64)، مركّزاً في ذلك كله على الآيات القرآنية الكريمة المؤوّلة طبعاً؛ حيث يأخذ كلمة واحدة من كل عبارة، وينتزع لها من القرآن الكريم آية أو آيات ويطبقها على «مشروعه» فيأخذ «الوسيلة» مثلًا في كتاب الله، ويستشهد بها على أن الوسيلة هذه هي «الشهادة الثالثة»، أو ما تعنيه، «وابتغوا إليه الوسيلة»، و «يبتغون إلى ربهم الوسيلة».
و «يُدخل من يشاء في رحمته»، والرحمة هي ولاية علي. «وكذّب بالحسنى»، أي الويل لمن كذّب بولاية علي. و «أسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة» فالظاهرة: النبي والباطنة: علي. و {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} ونور الله هنا هو علي. وهكذا في {آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} ، وعشرات بل مئات الآيات القرآنية الكريمة المشابهة.
ولا يتردَّد في أن يختتم كتابه بنجوى لا توجّه إلّا إلى الخالق، سبحانه، فيقول مخاطباً عليّاً (عليه السلام): «يا ملاذي ويا حرزي، ويا كهفي الحصين، فوالله لا أفوز سيدي إلّا إذا قبلتني ـ ولك المنة والثناء ـ عُبيداً للعبيد، عبيد عبيدكم، يا مولى الموالي» (65).
________________________________________
(64)م.ن، ص 439 ـ 454.
(65)ولا نريد أن نسيء الظن هنا بالمتوسلين بالأئمة (عليهم السلام) وتفسيرهم للآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيل الله لعلكم تفلحون [المائدة/35]، ولكننا نودّ التنبيه أن بعضهم سحب وسيلة التوسّل هذه إلى العلماء والفقهاء المنصوبين من قِبل الأئمة، إذ كتب أحدهم قائلًا: «بل الظاهر من كتاب (تفسير القرآن والعقل) ـ وإن كنا لم نعثر على هذا المصدر ـ هو شمول الآية الكريمة للمنصوبين من قبل الأئمة (عليهم السلام) كالفقهاء في زمن الغيبة أيضاً، فإنهم وسيلة إلى التوسل إلى الله تعالى، ولا بأس بذلك لأنهم مما يُتقرّب بهم الله تعالى بسبب نصب الأئمة لهم...». والغريب أن هذا الكاتب يضيف قائلًا: «إذ ليس لكل أحد أن يتّصل بالله من دون واسطة، فلو أراد أحد لا يكون من شأنه ذلك أن يتصل من دون الواسطة يهوي ويسقط... فالاتصال في زمن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)والوصي (عليه السلام) يكون لازماً، بل في زمن الغيبة يكون الاتصال بحبل المنصوبين، لأن يتصل الحبل إليهم يكون لازماً...» ـ راجع كتاب (التوسل) ـ دائرة معارف الفقه الإسلامي ـ إيران، قم، الطبعة الأولى، سنة 2001، ص 13، 14.

[الصفحة - 109]


ولعلّ أغرب ما قرأتُ لهذا الكاتب، في تفسير دعاء معروف يقول: «اللهم إني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها» قوله: إنَّ هذا السر هو «الجنين» محسن الذي تقول بعض الروايات إن الزهراء (عليها السلام)أسقطته في محنتها واعتداء القوم عليها، «وإن هذا الدعاء كان ضمن الوصايا المهمة التي أعطاها الإمام الحجة بن الحسن (عج) للسيد المرعشي النجفي في إحدى تشرّفاته بلقاء الإمام الحجة»، علماً بأن الكاتب يؤكّد أن هذا الحديث لا سند له في أي كتاب من الكتب المتداولة، ولم يُروَ عن أي معصوم من أهل بيت العصمة ـ حسب تعبيره ـ وأنه موجود فقط في كتاب: «فاطمة بهجة قلب المصطفى»، ص 252 بلا سند ولا تحقيق (66).
ويكتب بعضهم قائلًا: إنها كانت تلد من رجلها أو إظفرها، وقد كُتبت في ذلك المقالات، وربما استُشهد بالأحاديث والروايات لإثبات هذه «المناقب والكرامات»!! مبتعدين تماماً عن عظمة هذه الإنسانة الخالدة في تضحيتها وزهدها وصبرها وجهادها ومعاناتها على أرض الواقع، وكأنها ليست هي التي كنست بيتها حتى اغبرَّت ثيابها، وطحنت بالرحى حتى مجلت (تقشَّرت) يداها، وكأن بيتها لم يكن كوخاً، وفراشها لم يكن جلد كبش، وعباءتها ليست من أجلّة الإبل مخيطة من اثني عشر مكاناً، وهي بنت المصطفى وزوجة المرتضى التي رفضت حطام الدنيا كله، ونذرت نفسها للفقراء والجياع والمستضعفين وخدمة دين خاتم النبيين وسيد المرسلين، ناسين أو متناسين أنها ـ سلام الله عليها ـ لم تضع عقداً على صدرها، ولم ترتدِ الحرير ولا الديباج، ولم تجلس في قصرٍ منيف وسط الجواري والوصيفات، ولم تطالب بامتيازات وشأنيات، ولم تردّ يوماً طالب حاجة وقف على بابها، وكثيراً ما كانت تقول: «كيف أردّ الخير وقد نزل بابي»، «يا بنيّ الجار قبل الدار»، سلام عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها وكل الأسرار المستودعة فيها، من نبل وصبر وعظمة وإيثارٍ وتضحية وجهاد وفضائل قلّ أن وجدت، بل لم توجد في غيرها من نساء العالمين على امتداد العصور والأزمان (67).
من الأسرار الفاطمية إلى الأسرار العلوية
ومن الأسرار الفاطمية إلى الأسرار العلوية، في كتاب آخر، تفضَّل بالتقديم له أحد العلماء تحت عنوان: «البارقة الحيدرية في الأسرار العلوية»، وجاء فيه: «إلّا إنه
________________________________________
(66)السيد المرعشي النجفي هو أحد مراجع الشيعة الكبار في قم في النصف الأخير من القرن العشرين وأن الكاتب كتب كتابه الذي أورد فيه هذا اللقاء تحت عنوان «قبسات من حياة سيدن الأستاذ المرعشي النجفي»، ص 124 بعد وفاة المرجع المذكور بعدة سنوات.
(67)راجع بحار الأنوار، ج73.

[الصفحة - 110]


لو كان لله عزّ وجلّ أن يتجسّد، سبحانه وتعالى، ولا يتجسَّد، لتجسّدَ في مثل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)» (68)وإن كان (حفظه الله) قد عرّف، في هامش هذه الجملة، الحرف «لو» بأنه حرف امتناع لامتناع، كما أنحى باللَّائمة على الغلوّ والغلاة، وأظهر عدم ارتياحه من الشيخ الصدوق الذي كان يرى أن من لم يعتقد بسهو النبي فهو من الغلاة، قائلًا: «فأمسى ما يعتقده الشيخ الصدوق، عليه الرحمة، في سهو النبي، وفي الشهادة الثالثة، من الشاذ النادر، والنادر كالمعدوم لا وقع له» ـ حسب تعبيره ـ وأضاف: «ولا يخفى أن علماءنا الأعلام قد صنّفوا وألّفوا في الشهادة الثالثة مؤلَّفات كثيرة وبلغات مختلفة» (69)مؤكداً أن الشهادة الثالثة هي روح الأذان والإقامة (لاحظ) تماماً كما أن «الصراط المستقيم» هو «ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)» (70)حسب تفسيره أو تطبيقه للآية الكريمة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} وأمثالها.
ولم يَفُت مؤلِّف الكتاب أن يغوص في «بحث الشخصية الروحية والمقامات الملكوتية لأمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام)متحفظاً عن الاقتراب مما سماه «الأسرار المودعة في هياكلهم التوحيدية»، تاركاً معرفتهم المعرفة النورانية لأصحابهم، من أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد ـ حسب قوله ـ، لأن أمرهم «صعب مستصعب»، لا يتحمله أو يحتمله ـ حسب إيراده ـ إلا ملك مقرَّب أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»، مشيراً إلى معنى السرّ وكيف أنه «عبارة عن محل تجليات الأسرار الجبروتية»، وهو «ما يخص كلّ شيء من الحق عند التوجّه الإيجابي إليه»، وإن كان أشار قَبْل صفحة واحدة إلى أن هذا «السرّ» «لا يحتمله (حتى) ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»، مضيفاً: «والله ما كلّف الله ذلك أحداً غيرنا» أي «أهل البيت فقط» (71).
أما ما قاله محبّ معاصر آخر بحق أمير المؤمنين (عليه السلام)فللقارى الكريم وحده حق التعليق أو التعقيب. يقول:
يا نقطة الإمكان والأكوان يا من للنهار وللظلام مدبرُ
لك ملك ما في العالمين وأنت في الأشياء تفعل ما تشاء وتقدر
________________________________________
(68)الأسرار العلوية، الشيخ فاضل المسعودي، الطبعة الأولى، 1421هـ، 2000م، ص 10.
(69)م.ن، ص 15 و16.
(70)م.ن، ص 17 و18.
(71)م.ن، ص 28، 38 و39، 35.

[الصفحة - 111]


قد حزتَ دون الكائنات مراتباً فيها عقول الأنبياء تتحير
يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا مهلك يا مُنشرُ
أنت الصفات وليس مثلك في العلى شيء أيا من في العلى متصدّر (72)
ويعلِّق ناشر الكتاب الذي وردت فيه هذه الأبيات قائلًا: «إن هذه الأبيات من بعض مقاماتهم الملكوتية، سلام الله عليهم، وإنهم محالّ مشيئته وألسن إرادته» (73).
ولعل أغرب ما يعتقد به هؤلاء، أو يصدقون به، بل يروّجون له، أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بال يوماً في قارورة وأعطاها إلى أم سلمة فشربتها ورآها ولم ينهها عن ذلك (74)، وهكذا في ما يوردونه من معتقدات مخالفة لما أجمع عليه علماء الشيعة، بل علماء المسلمين، وراحوا يحكون قصصاً وحكايات لا نفع فيها ولا طائل وراءها، وكل همهم أن يثبتوا أن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) لم يُر على غائط قط، وأن الأرض كانت تبتلع فضلاته (75).
أما ما ورد في «مدينة المعاجز»، فعن عبد الله بن مسعود، وعلى سبيل المثال فقط، أنه قال: «أتيت فاطمة، صلوات الله عليها، فقلتُ لها: أين بعلك؟ فقالت: عرج به جبرئيل إلى السماء. فقلتُ: في ماذا؟ فقالت: إن نفراً من الملائكة تشاجروا في شيء، فسألوا حكماً من الآدميين، فأوحى الله إليهم أن تخيَّروا، فاختاروا علي بن أبي طالب (عليه السلام)» (76). ولا أدري هل الملائكة يتشاجرون فعلًا مع علمنا أنهم ما خُلقوا إلّا ليفعلوا ما يؤمرون كما نصّ القرآن الكريم بلا توجيه أو تأويل؟! ونظن أن الكاتب المحترم يقصد الجن هنا وليس الملائكة.
أما ما روي عن المقداد بن الأسود فأشدّ وأنكى، قال: «قال لي مولاي (أي علي (عليه السلام)) يوماً: إئتني بسيفي، فأتيتُ به، فوضعه على ركبته، ثم ارتفع إلى السماء وأنا أنظر إليه حتى غاب عن عيني، فلما قرب الظهر، نزل وسيفه يقطر دماً، فقلتُ: يا مولاي، أين كنت؟ فقال: إن نفوساً في الملأ الأعلى اختصمت فصعدتُ فطهرتها، فقلتُ: يا مولاي، وأمر الملأ الأعلى إليك؟ فقال: يا ابن الأسود، أنا حجة الله على الخلق في سماواته وأرضه، وما في السماء من مَلَك يخطو قدماً على قدم إلّا بإذني، وفيّ يرتاب المبطلون» (77).
________________________________________
(72)مسائل عقائدية في الغلوّ والتفويض، الخلق والرزق، الدكتور علاء الدين القزويني، الطبعة الثانية 1998، ص 83، نقلًا عن «الأنوار اللامعة في حياة ميرزا حسن الحائري الإحقاقي»، منشورات مكتبة الإمام الصادق، ص 61 و62. والشاعر القائل هو الميرزا المذكور نفسه.
(73)م.ن، ص 56.
(74)مسائل عقائدية، ص 88، نقلًا عن رسائل الحكمة للشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي، الدار العالمية، بيروت، ط1، 1993م، ص 260، والرسالة التطهيرية، محمد باقر الاسكوني، ص 63، ومجلة «الفجر الصادق» التي تصدر في الكويت العدد الثالث، ص 7، ولا أدري هل يتناسب هذا الفعل مع ما نعرفه عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الذي كان يقول دائماً: أدّبني ربي فأحسن تأديبي ، وهل يتناسب مع وصف ربه له: وإنك لعلى خلق عظيم ؟!
(75)م.ن، ص 89.
(76)م.ن، ص 90، عن عبد الرسول الاحقافي، الولاية، بيروت، ط1، سنة 1992، ج1، ص 109.
(77)إحقاق الحق، الميرزا موسى الاسكواني، ص 392، ولا أدري هنا أيضاً كيف يختصم الملائكة، وهم كما نصّ القرآن الكريم «يفعلون ما يؤمرون»!

[الصفحة - 112]


فعجب ممَّا قاله الأوَّلون ـ إن صحّ هذا القول أو هذا النقل ـ وعجب ممَّا قاله المحدثون.
إن مثل هذه الأقاصيص والحكايات التي يترفَّع عنها أمير المؤمنين وسيدة النساء وجميع الأنبياء والأوصياء (سلام الله عليهم أجمعين) هي التي وضعتنا، بل ما زالت تضعنا، في خانة الغلوّ المؤسف. وتحشرنا في مواقع الدفاع عن الكرامات والمعجزات والبحث في أرشيف الروايات التي لا سند لها في «علم الرجال»، بدل أن تطلقنا لأخذ دورنا في مواقع الهجوم وصياغة الواقع وصناعة التأريخ، كما حاول غير مفكر ومصلح، كالإمام الخميني والشهيد محمد باقر الصدر والسيد محسن الأمين إلخ...
بكلمة أخرى، ربما تكون هذه الحكايات، جميعها أو بعضها، خطوات ـ وخطوات غير مقصودة إن شاء الله ـ لاغتيال هذا العقل أو منعه من الحضور في واقع الإنسان ومعركة الميدان، إذ لا فائدة بالتأكيد أو لا قدرة على الاقتداء بسلوكٍ وتصرّف لبطل قادرٍ على أن يرفع باب خيبر بإصبع واحد، أو طفلٍ رضيع يمدّ يديه من قماطه فيقطع حيّة مرعبة نصفين كانت دخلت مدينة الرسول عنوة، ولم يقدر أحد على مواجهتها من سكان المدينة (78).
________________________________________
(78)مثل هذه القصة وغيرها كثير ترويها بعض المجالس أو الجلسات من دون الإشارة إلى مصادرها أو التحقيق في سندها، راجع كتاب: «الإمام علي» للدكتور علي شريعتي، ترجمة علي الحسيني، ص 189.

[الصفحة - 113]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف