البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إطلالات على التَّاريخ: الافتراء على ابن العلقمي ونصير الدِّين الطُّوسي

الباحث :  السيد حسن الأمين
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  21
السنة :  السنة السادسة ربيع 1422 هجـ 2001 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  3731
إطلالات على التَّاريخ:
الافتراء على ابن العلقمي ونصير الدِّين الطُّوسي

السيد حسن الأمين (*)

رأينا، في مقال سابق (المنهاج، العدد 20)، من هو المستعصم الذي وضعته الأقدار في مواجهة «هولاكو». وسنرى، في هذا المقال، عبث العابثين بالتاريخ، المشوِّهين له، عارضين لبعض مفترياتهم، كاشفين حقيقة تلك المفتريات.
في التُّهم الموجّهة لابن العلقمي
قال كاتب، وهو يتحدَّث عن سقوط بغداد بيد «هولاكو»، ما يأتي:
1 ـ «لقد كان نصير الدِّين الطوسي على علم بما كان يبيِّته ابن العلقمي، والدَّوادار للإطاحة بالخليفة العباسي (المستعصم) وإسناد الخلافة للعلويِّين أو لأحد الأمراء العباسيِّين».
2 ـ ونسب لـ «حبيب السير» قوله: «إن حادثة بغداد إنَّما وقعت بناء على مشاورة الخواجا نصير الدِّين الطوسي من جهة، ومن جهة أخرى الوزير المكَّار (ابن العلقمي) الذي مهَّد السبيل لحملة المغول، وهو الذي مزَّق جيش الخلافة في أطراف البلاد، ثم أرسل رسولًا إلى هولاكو، وأخبره بتفرُّق العساكر. كما أرسل رسالة أخرى إلى هولاكو: إنه بعد وصول جيوشكم إلى بغداد سأقطع علاقتي بالعبَّاسيين الذين سينقطع أثر دابرهم».
نقل الكاتب هذا القول من دون أن يعلِّق عليه بكلمة، ما يدلّ دلالة واضحة على أنَّه يتبنَّاه ويأخذ به.
________________________________________
(*)مؤرِّخ و باحث من لبنان

[الصفحة - 190]


3 ـ وقال، وهو يحلِّل كلام رشيد الدِّين فضل الهمذاني: «ثم إنَّ إصرار ابن العلقمي، الوزير العبَّاسي، على هولاكو في الهجوم على بغداد...».
4 ـ وقال في مكان آخر: «وقد أثارت هذه الحوادث الوزير ابن العلقمي، فحملته على مكاتبة هولاكو واستدعائه لطي بساط العبَّاسيين».
والمقصود بـ «هذه الحوادث» في كلام الكاتب: هجوم ابن الخليفة بجنده على محلَّة «الكرخ» في بغداد وارتكابه الفظائع من القتل والهتك والإحراق...
هذه هي التُّهم الصَّريحة التي وجَّهها الكاتب إلى الوزير المفترى عليه (ابن العلقمي) الذي كنَّا قد أشرنا إلى بعض سيرته في مقال سابق في («المنهاج» العدد 16، ص 118)، وهي التُّهم التي أدخل فيها معه نصير الدين الطوسي، والتي شارك فيها الكاتب من سبقه من المفترين في افتراءاتهم، من دون أن يحسب أي حساب للحقائق التاريخية التي تصفع كل باطل جاء به المبطلون!
فما هي الحقائق في ذلك؟
نريد، أوَّلًا، أن نفنِّد الزعم القائل إن ابن العلقمي «هو الذي فرَّق جيش الخلافة في أطراف البلاد»، إضعافاً للدِّفاع عن بغداد، كما نقل الكاتب عن «حبيب السير» متبنِّياً قوله هذا!
إن أمر الجيش لم يكن بيد ابن العلقمي، ولا كان هو الذي يفرض جمعه أو تفريقه أو الإنفاق عليه. ولم تكن له أية صلاحية في شأن من شؤونه. وإن صحَّ تفريق الجيش، فإن الذي يكون قد أمر بتفريقه هو الرجل المسؤول عن ذلك ومن بيده أمر تصريف شؤون الجيش، وهو غير ابن العلقمي كما سنبيِّنه في ما يأتي من نصوص تاريخية جاءت في كتاب «الحوادث الجامعة». فقد أورد مؤلِّفه، وهو يذكر حوادث سنة 650هـ ما يأتي:
«وفيها فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم ولحقوا ببلاد الشام» (1).
ومن حوادثهم أنهم طالبوا بزيادة أعطياتهم، ولما رفض الشرابي قائد الجيش طلبهم، حاولوا الإخلال بالأمن وطالبوا بإخراج المحبوسين منهم، ثم خرجوا إلى
________________________________________
(1) الحوادث الجامعة، ص 261.

[الصفحة - 191]


ظاهر بغداد وأقاموا هناك بضعة أيام مظهرين الرحيل، ثم سألوا الصفح عنهم عندما اجتمع بهم أحد الشيوخ الزَّاهدين.
وقد وصف مؤلِّف كتاب (الحوادث الجامعة) ما جرى بما يأتي.
«وفي شعبان حضر جماعة المماليك الظاهرية والمستنصرية (2) عند مشرف الدين؛ إقبال الشرابي، للسلام على عادتهم، وطلبوا الزيادة في معايشهم، وبالغوا في القول، وألحّوا في الطلب، فرد عليهم وقال: ما نزيدكم بمجرد قولكم، بل نزيد منكم من نزيد إذا أظهر خدمة يستحق بها، فنفروا على فورهم إلى ظاهر السور، وتحالفوا على الاتفاق والتعاضد، فوقع التَّعيين على قبض جماعة من أشرارهم. فقبض منهم اثنان، وامتنع الباقون وركبوا جميعاً وقصدوا باب البدرية، ومنعوا الناس من العبور، فخرج إليهم مقدم البدرية وقبّح لهم هذا الفعل، فلم يلتفتوا إليه، فنفذ إليهم سنجر الياغر فسألهم عن سبب ذلك، فقالوا: نريد أن يخرج أصحابنا وتزاد معايشنا. فأنهى سنجر ذلك إلى الشرابي، فأعاد عليهم الجواب: إن المحبوسَيْن ما نخرجهما وهم من مماليكنا الذين نعمل بهم ما نريد، ومعايشكم ما نزيدها فمن رضي بذلك يقعد، ومن لم يرض وأراد الخروج من البلد فنحن لا نمنعه. وطال الخطاب في ذلك إلى آخر النهار، ثم مضوا وخرجوا إلى ظاهر البلد فأقاموا هناك مظهرين للرحيل، فبقوا على ذلك أياماً، فاجتمع بهم الشيخ السبتي الزاهد، وعرّفهم ما في ذلك من الإثم ومخالفة الشرع. فاعتذروا وسألوه الشفاعة لهم، وأن يحضر لهم خاتم الأمان ليدخلوا البلد، فحضر عند الشرابي وعرّفه ذلك، وسأله إجابة سؤالهم، فأخرج لهم خاتم الأمان مع الأمير شمس الدين قيران الظاهري والشيخ السبتي، فدخلوا والشيخ راكب حماره بين أيديهم، وحضروا عند الشرابي معتذرين، فقبل عذرهم، وكانت مدة مقامهم بظهر السور سبعة أيام».
وبعد وفاة الشرابي، كان أمر الجيش وكل ما يتعلَّق بشؤونه بيد مقدَّم الجيش مجاهد الدين أيبك الدوادار الصغير، خصم ابن العلقمي وعدوه اللَّدود، فقد كان هو الذي يتولّى منصب قائد الجيش.
وما ذكره مؤلِّف «الحوادث الجامعة» يعطينا صورة واضحة عمَّا كانت عليه حال
________________________________________
(2) كان الدوادار الصغير، مجاهد الدين أيبك نفسه، من المماليك الشراكسة، وهؤلاء المماليك الظاهرية والمستنصرية، كانت تتألف منهم جمهرة في الجيش. ويقول الذّهبي، في «سير أعلام النبلاء»، عن الشرابي: جعل سنة ست وعشرين وستمئة مقدم جيوش العراق (ص 370، ج23). ويصف الدوادار بأنه مقدم جيش العراق (ص 371).

[الصفحة - 192]


الجيش في بغداد من التَّخرُّق والتشرذم والفوضى قبل تولي ابن العلقمي الوزارة. ثم استمر ذلك حتى وصول جيوش المغول. وإن المسؤولين عن ذلك هم الشرابي ومجاهد الدين أيبك، الدوادار الصغير، وأمثالهما، ممَّن كان إليهم التصرُّف بأمر الجيش.
ومن أعاجيب هذا الكاتب ما ذكره عن اتفاق ابن العلقمي والدوادار على الإطاحة بالمستعصم!.. مع أن هذين الإثنين لم يتَّفقا في حياتهما على شيء، بل كانت العداوة بينهما مستمرة على أشدها. أما عن المؤامرة فننقل ما ذكره المؤرخ رشيد الدين فضل الله الهمذاني بنصه ليرى القارى أن الأمر كان على عكس ما ذكره الكاتب. قال الهمذاني: «ولما لمس (الدوادار) في نفسه القوة، ورأى الخليفة المستعصم عاجزاً لا رأي له ولا تدبير وساذجاً، اتفق مع طائفة من الأعيان على خلعه وتولية آخر من العباسيين في مكانه. وعندما علم مؤيد الدين بن العلقمي نبأ تلك المؤامرة، أخبر الخليفة على انفراد قائلًا: يجب تدارك أمرهم».
فصاحب المؤامرة إذن هو الدوادار، والذي قاومها وأفشى سرها للمستعصم هو ابن العلقمي، كما أنه لم يكن عند المتآمرين تفكير بإسناد الخلافة للعلويِّين كما يزعم الكاتب، بل إلى آخر من العبَّاسيين، لأن المتآمرين هم في الأصل أضداد العلويِّين.
أمَّا عن اتهام ابن العلقمي بالتعامل مع المغول فنقول: إنّ الأصل في إرسال هذه التهمة هو عدو ابن العلقمي الدوادار، فقد قال المؤرخ رشيد الدين فضل الله الهمذاني ما نصُّه:
«ولما كان الدوادار خصماً للوزير، فإنّ أتباعه من سفلة المدينة وأوباشها كانوا يذيعون بين الناس أن الوزير متفق مع هولاكو».
هذا هو الأصل في كل ما ذكر. أما ما ذكر بعد ذلك، فهو ما توسَّع به المتوسِّعون وأضافه المفترون.
وإذا كان سفلة المدينة وأوباشها هم أصل التهمة، فإن سفلة التاريخ وأوباشه هم من تبنَّاها ونشرها.
________________________________________

[الصفحة - 193]


عدوٌّ عريق في عداوته يريد أن ينال من عدوّه، فينشر في أوساط السَّفلة والأوباش إشاعة، فيأتي بعد ذلك من توافق هذه الإشاعة هواهم فيفرغها كل واحد منهم في القالب الذي يختاره حتى يبلغ بهم التناقض مداه، ثم يولع بعضهم بالافتراء فيضيف أشياء لم يقل بها الذين سبقوه ممَّا سنراه في ما كتبه الدكتور جعفر خصباك فنأخذه بنصِّه لأن أي اقتباس منه أو اختصار يفسده.
قال الدكتور جعفر خصباك:
«وجَّه بعض المؤرِّخين المسلمين إلى الوزير مؤيِّد الدِّين بن العلقمي تهمة في غاية الخطورة خلاصتها أنه خان سيِّده الخليفة، المستعصم بالله، ودينه الإسلام، وجلب على قومه القتل والذلّ والخراب بمكاتبة هولاكو طاغية التتار وإطماعه بفتح العراق، بل دعوته لذلك وتهيئة الأمور له بأساليب متعددة، منها: إشارته على الخليفة بتسريح أكثر جنوده، وتشجيعه على عدم إنفاق المال في سبيل الاستعداد العسكري، وتهوين أمر المغول أمامه، ودعوته للخروج لمواجهة هولاكو حينما أحاط هذا ببغداد للتغرير به بحجَّة حضور عقد نكاح ابنة هولاكو لابن الخليفة. وسبب ذلك أن الوزير كان شيعيَّاً رافضيَّاً وأنه كان يريد الانتقام من أهل السنَّة خصوصاً طائفة من مستشاري الخليفة كابنه أبي بكر وقائد عسكره مجاهد الدين الدويدار الصغير، لأنهم أوقعوا بمحلة الكرخ الشيعية، سنة 654هـ، وقتلوا العديد من أهلها وسبوا نساءها ونهبوا دورها، وكان في المحلة أقارب للوزير.
ولعل من المفيد أن نستعرض أهم ما ورد من أقوال المؤرِّخين في هذه التهمة الخطيرة: قال أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل (المتوفى سنة 665هـ 1262م) عن حوادث سنة 656هـ/1258م أن التتار استولوا على بغداد بمكيدة دُبِّرت مع وزير الخليفة (3). وأعاد قطب الدين اليونيني البعلبكي (المتوفى سنة 726هـ/1325م) العبارة نفسها، ثم أضاف إليها قوله: إن هولاكو تهيأ في سنة أربع وخمسين وستمائة لقصد العراق، وسبب ذلك أن «مؤيد الدين بن العلقمي، وزير الخليفة، كان رافضياً وأهل الكرخ روافض وفيه جماعة من الأشراف، والفتن لا تزال بينهم وبين أهل باب البصرة، فاتفق أنه وقع بين الفريقين محاربة، فشكا أهل باب
________________________________________
(3) تراجم رجال القرنين السادس والسابع، ص 198.

[الصفحة - 194]


البصرة وهم سنية إلى ركن الدين الدوايدار والأمير أبي بكر ابن الخليفة، فتقدَّما إلى الجند بنهب الكرخ، فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم، فشكا أهل الكرخ ذلك إلى الوزير، فأمرهم بالكف والتغاضي، وأضمر هذا الأمر في نفسه وحصل بسبب ذلك عنده الضغن على الخليفة». وبعد أن أشار اليونيني إلى الخليفة المستنصر بالله وحال الجند في عهده، عاد إلى ابنه المستعصم وقال: «وكاتب الوزير ابن العلقمي التَّتر، وأطمعهم في البلاد، وأرسل إليهم غلامه وأخاه، وسهَّل عليهم ملك العراق، وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد فوعدوه بذلك وأخذوا في التجهيز لقصد العراق، وكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في أن يسيِّر إليهم ما يطلبونه من آلات الحرب فسيَّر إليهم ذلك. ولمّا تحقق قصدهم علم أنهم إن ملكوا العراق لا يبقون عليه فكاتب الخليفة سرَّاً في التحذير منهم وأنه يعدّ لحربهم، فكان الوزير لا يوصل رسله إلى الخليفة، ومن وصل إلى الخليفة منهم بغير علم الوزير أطلع الخليفة وزيره على أمره».
ثم يمضي اليونيني فيصف تقدُّم جيش هولاكو إلى بغداد وهزيمته لعسكرها وإحاطته بها، ثم يعود فيقول: «فحينئذ أشار ابن العلقمي، الوزير، على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته، وسأله أن يخرج إليه في تقرير زواج ابنته من ابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم لا يؤثر إلّا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف بعساكره عنك فتجيبه إلى هذا، فإنه فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن يفعل ما تريد، فحسن له الخروج إليه فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره، فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة» (4).
وقال شمس الدين الذهبي (المتوفى سنة 748هـ/ 1347م)، في كلامه عن وقائع سنة 648هـ/1250م ما يأتي: «وأما بغداد فضعف دست الخلافة وقطعوا أخبار الجند الذين استنجدهم المستنصر وانقطع ركب العراق. كل ذلك من عمل الوزير ابن العلقمي الرافضي جهد في أن يزيل دولة بني العباس ويقيم علوياً، وأخذ يكاتب التتار ويراسلونه والخليفة غافل لا يطلع على الأمور ولا له حرص على المصلحة» (5).
________________________________________
(4) ذيل مرآة الزمان، ج1، ص 85 ـ 89.
(5) دول الإسلام، ج2، ص 118.

[الصفحة - 195]


وقال عبدالله بن فضل الله الشيرازي الذي ألف كتابه حوالى سنة 729هـ/ 1328م ما معناه أن الخليفة المستعصم بالله كان منصرفاً إلى الراحة واللهو، وكان وزيره ابن العلقمي مستبدَّاً بالأمور حتى أنه لم يكن يحترم المقرّبين إلى الخليفة ولا يظهر تأدُّباً في مخاطبته إياهم، وقد تغيرت نيته إزاء الخليفة بسبب واقعة الكرخ، لأن ابن الخليفة أرسل جنوداً أغاروا عليها وأسروا البنين والبنات، وبينهم العلويَّات، فبعث ابن العلقمي لذلك رسالة إلى تاج الدين محمد بن نصر الحسيني، أحد سادات العصر، وعندما فرغ البادشاه هولاكو سنة 654هـ/ 1256م من فتح قلاع الملاحدة وأرسل بالرسل يبشرون بالنصر في المشارق والمغارب، أرسل ابن العلقمي في الخفاء رسولًا إلى هولاكو أظهر الإخلاص والطاعة وزيَّن مملكة بغداد في خاطره، وذم الخليفة، وقال لهولاكو إنه إذا توجه بسرعة فسوف تسلم له مملكة بغداد، ولكن هذا لم يعتمد على قوله لأن حصانة بغداد وكثرة جنودها كانت أمراً مشهوراً في الأقاليم السبعة، وكان ملك العالم أوغوتاي في أول جلوسه على العرش قد أرسل القائد جرماغون بجيش فتَّاك فهزم من قبل الخليفة المستنصر بالله، ولذلك فإن البادشاه طلب من رسول ابن العلقمي ما يؤكِّد صحة أقواله ليطمِّن بذلك خاطره الشريف. وعندما زحفت جيوش هولاكو على بغداد واطمأن ابن العلقمي لنجاح مكيدته، قال للخليفة: إن الجم الغفير من سلاطين وملوك الأطراف أظهروا، والحمد لله، إخلاصهم وطاعتهم وسمعة الخليفة كبيرة وحكمه نافذ وماله كثير، فمن الخير توفير أموال الخزينة وعدم صرفها على الجند، فكان الخليفة منصرفاً لسماع الأغاني والاجتماع بالجواري والمغنيات، وابن العلقمي يفرق الكلمة ويشرد جميع الأفراد وينفر الجنود في الوقت الذي انتشرت فيه أخبار جيش المغول، وكان الشرابي والدوايدار يحذران الخليفة منه وابن العلقمي يسخف أقوالهما» (6).
وقال ابن شاكر الكتبي (المتوفى سنة 764هـ/ 1362م) في كلامه عن الوزير ابن العلقمي: «ولم يزل ناصحاً لأصحابه وأستاذه حتى وقع بينه وبين الدوايدار لأنه كان متغالياً في السنة وعنده ابن الخليفة، فحصل عنده من الضغن ما أوجب سعيه في دمار الإسلام وخراب بغداد على ما هو مشهور لأنه ضعف جانبه وقويت شوكة التتار بحاشية الخليفة... وأخذ يكاتب التتار إلى أن جرَّأ هولاكو وجرَّه على أخذ
________________________________________
(6) تاريخ وصاف الحضرة، طبعة الهند، ج1، ص 27 ـ 38.

[الصفحة - 196]


بغداد» (7). وقال عنه أيضاً: «وحكي أنه لما كان يكاتب التتار تخيل أنه أخذ رجلًا وحلق رأسه حلقاً بليغاً، وكتب ما أراد عليه بالإبر ونفض عليه الكحل وتركه عنده إلى أن طلع عليه شعره، وغطَّى ما كتبه فجهزه وقال: إذا وصلت أؤمرهم بحلق رأسك ودعهم يقرؤون ما فيه. وكان في آخر الكلام «اقطعوا الورقة» فضربت عنقه. وهذا في غاية المكر والخزي» (8).
وقال تاج الدين السبكي (المتوفى سنة 771هـ/ 1369م) أنه لما توفي المستنصر بالله كان أكبر الأمراء وأعظمهم الدوايدار والشرابي، وهما اللذان أقرَّا المستعصم لضعفه ولينه وأقاماه واستوزرا ابن العلقمي، «وكان فاضلًا أديباً، وكان شيعياً رافضياً في قلبه غل على الإسلام وأهله، وحبَّب إلى الخليفة جمع المال والتقليل من العساكر، فصار الجنود يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات». ثم كرَّر الكاتب المذكور رواية مكاتبة بن العلقمي للتتار، وعزا ذلك إلى رغبته في الانتقام من الأمير أبي بكر ابن الخليفة والدوايدار قائد الخليفة، لأنهما أوقعا بالكرخ، ووصف طريقة مكاتبة التتار بما يأتي: «إنَّه حلق رأس شخص وكتب عليه بالسواد وعمل على ذلك، وأصار المكتوب كل حرف كالحفرة في الرأس ثم تركه عنده حتى طلع شعره وأرسله إليهم». وأضاف السبكي إلى ذلك قوله إن الوزير كتب إلى نائب الخليفة في أربيل تاج الدين محمد بن الصلايا، وهو شيعي أيضاً، رسالة يقول فيها: «نهب الكرخ المكرم والعترة النبوية، وحسن التمثيل بقول الشاعر:
أمور تضحك السُّفهاء منها ويبكي من عواقبها اللَّبيب
فلهم أسوة بالحسين حين نهب حريمه وأريق دمه.
أمرتهم أمري بمنعرج اللِّوى فلم يستبينوا الرُّشد إلَّا ضحى الغد
وقد عزموا، لا أتم الله عزمهم، ولا أنفذ أمرهم، على نهب الحلَّة والنِّيل، بل سوَّلت لهم أنفسهم أمراً، فصبر جميل والخادم قد أسلف الإنذار وعجَّل لهم الاعتذار.
فكان جوابي بعد خطابي لا بد من الشنيعة بعد قتل جميع الشيعة ومن إحراق كتاب الوسيلة والذريعة، فكن لما نقول سميعاً وإلا جرّعناك الحمام ولآتيناهم بجنود لا قبل لهم بها، ولأخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون.
________________________________________
(7) فوات الوفيات، ج2، ص 313.
(8) م.ن، ص 315. ونقول: نسي ابن شاكر الكتبي أن يبيِّن لنا كيف استطاع صاحب الرأس المكتوب عليه بالإبر، تحمُّل آلام الإبر، وهي تُغرس في رأسه، ولا سيَّما أن الرسالة المزعومة كانت طويلة. ويعلق الدكتور مصطفى جواد على هذا القول مستهزئاً: «فليت شعري من خبّر بهذا الفعل لو صح!؟ ابن العلقمي؟ أم الذي قُطع رأسه؟ أم المغول، وهم يعدّون هذا من أهم أسرارهم؟! ونقول: لم يخبرنا هذا المؤرخ المبدع!! عن الأداة التي حفرت بها تلك الحفر!! ولا عن حالة صاحب الرأس وهم يحفرون في رأسه الحفرة بعد الحفرة!!

[الصفحة - 197]


ووديعة مني لآل محمد أودعتها إذ كنت من أمنائها
إذا رأيت الكوكبين تقاربا في الجدي عند صباحها ومسائها
فهناك يؤخذ ثأر آل محمد لطلابها بالترك من أعدائها
فكن لهذا الأمر بالمرصاد وترقَّب أوَّل النحل وآخر الصاد» (9).
وقال عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (المتوفى سنة 808هـ/ 1406م): إن هولاكو لمَّا رجع إلى بلاد الإسماعيلية، وقصد قلعة آلموت بلغته «في طريقه وصية من ابن العلقمي، وزير المستعصم ببغداد، في كتاب ابن الصلايا صاحب أربيل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقمي رافضياً هو وأهل محلته بالكرخ، وتعصب عليه أهل السنَّة، وتمسَّكوا بأن الخليفة والدوايدار يظاهرانهم، وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بأربيل، وكان صديقاً له، بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند» (10).
وعندما نصل إلى أواخر القرن العاشر الهجري نجد أن قصَّة سقوط بغداد وخيانة الوزير ابن العلقمي تتسع إلى حد غير معقول وتختلط بأقاصيص غريبة على يد الشيخ حسن الدياربكري (المتوفى سنة 990هـ/ 1582م)؛ حيث كتب يقول: إن الوزير «ابن العلقمي الرافضي كان قد كتب إلى هولاكو، ملك التتار في الدست، أنك تحضر إلى بغداد وأنا أسلمها لك. وكان قد داخل قلب اللعين الكفر، فكتب هولاكو أن عساكر بغداد كثيرة فإن كنت صادقاً في ما قلته وداخلًا في طاعتنا فرّق عساكر بغداد ونحن نحضر. فلما وصل كتابه إلى الوزير دخل إلى المستعصم وقال: إن جندك كثيرة وعليك كلفة كبيرة والعدو قد رجع من بلاد العجم والصواب أن تعطي دستوراً لخمسة عشر ألف من عسكرك وتوفر معلومهم، فأجاب المستعصم لذلك فخرج الوزير لوقته ومحا اسم من ذكر من الديوان، ثم نفاهم من بغداد ومنعهم من الإقامة بها، ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى، ومحا اسم عشرين ألفاً من الديوان، ثم كتب إلى هولاكو بما فعل. وكان قصد الوزير بمجيء هولاكو أشياء منها أنه كان رافضياً خبيثاً وأراد أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى العلويين، فلم يتم له ذلك من عظم شوكة بني العباس وعساكرهم، ففكَّر أن هولاكو قد يقتل المستعصم وأتباعه ثم يعود لحال سبيله وقد زالت شوكة بني العباس، وقد بقي هو على ما كان عليه من
________________________________________
(9) طبقات الشافعية الكبرى، ج5، ص 109 ـ 112.
(10) العبر وديوان المبتدأ والخبر: ج5، ص 1149.

[الصفحة - 198]


العظمة والعساكر وتدبير المملكة، فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانع لضعف العساكر ولقوته، ثم يضع السيف في أهل السنة. فهذا كان قصده لعنه الله. ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد ركب وقصدها إلى أن نزل عليها، وصار المستعصم يستدعي العساكر ويتجهَّز لحرب هولاكو، وقد اجتمع أهل بغداد وتحالفوا على قتال هولاكو وخرجوا إلى ظاهر بغداد ومضى عليهم بعساكره فقاتلوا قتالًا شديداً وصبر كل من الطائفتين صبراً عظيماً وكثرت الجراحات والقتلى في الفريقين إلى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد، وانكسر هولاكو أقبح كسرة وساق المسلمون خلفهم وأسروا منهم جماعة، وعادوا بالأسرى ورؤوس القتلى إلى ظاهر بغداد ونزلوا بخيمهم مطمئنين بهروب العدو، فأرسل الوزير ابن العلقمي، في تلك الليلة، جماعة من أصحابه فقطعوا شط دجلة، فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون فغرقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم، وصار السعيد منهم من لقي فرساً يركبها، وكان الوزير قد أرسل إلى هولاكو يعرّفه بما فعل ويأمره بالرجوع إلى بغداد فرجعت عساكره على بغداد وبذلوا فيها السيف» (11). وأضاف هذا الكاتب رواية جديدة عن مصير ابن العلقمي بقوله: «فلم يلبث أن أمسكه هولاكو بعد قتل المستعصم بأيام ووبّخه بألفاظ شنيعة معناها أنه لم يكن له خير في مخدومه ولا دينه فكيف يكون له خير في هولاكو ثم إنه قتله شر قتلة» (12).
في نقد هذه التُّهم ورفضها
هذه هي خلاصة النصوص التي وردت باتهام الوزير مؤيِّد الدين بن العلقمي، ومثل هذه التهم ليست غريبة في أيام المحن العامَّة والكوارث الخطيرة، وقد كان سقوط بغداد بأيدي المغول الوثنيين وقتلهم خليفة المسلمين حدثاً عظيماً هزَّ العالم الإسلامي وترك جرحاً عميقاً في قلوب المسلمين جعلهم يفتِّشون عمّن كان السبب فيه، وكان الوزير شيعياً في وقت كان للدِّين فيه سيطرة عظيمة على النفوس والمنازعات الطائفية شديدة في بغداد، وكان يحتل اسميَّاً المنصب الثاني في دولة الخليفة وأعداؤه يتربَّصون به الدوائر، والأحوال العامة في تدهور، والمغول يطرقون أبواب البلاد من دون أن يكون أمامهم استعداد عسكري واضح، وقد قتل الخليفة واستبيحت بغداد، ولم يقتل الوزير، بل إنه كان أحد جماعة عهد إليهم بإعادة تنظيم
________________________________________
(11) الشيخ حسن بن محمد بن الحسن الدياربكري، تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، ج2، ص 420 و421.
(12) م.ن، ص 421.

[الصفحة - 199]


إدارة العراق فلم لا توجَّه إليه التهمة وقد جمع إليه الخيانة من أطرافها كما يبدو ذلك لأول وهلة!؟ وقد سبق للخليفة الناصر لدين الله أن اتهمه خصومه بخيانة تشبه ما وجِّه لابن العلقمي، ولكنها أعظم خطراً، وأورد ياقوت الحموي إشاعة كانت تتردد في عهده وهي أن علويَّاً كان مقدَّماً على أحد أبواب نيسابور قاعدة خراسان، راسل المغول خلال غزوهم هذا الإقليم، يتعهد فيه بتسليم البلد إليهم مقابل جعله متقدماً عليه فأجابوه إلى ذلك وعندما فتحوا المدينة المذكورة كان هو أول من قتلوهم فيها (13). وقد أدَّت بنا دراساتنا للتهمة الموجهة للوزير ابن العلقمي، بعد قراءة المصادر التي أوردتها، وتفهّم طبيعة الغزو المغولي منذ بدايته وأحوال العراق والعالم الإسلامي المعاصر، إلى رفضها بناء على الأسباب الآتية:
أوَّلًا: إن التُّهمة تحدِّد البداية التاريخية لخيانة ابن العلقمي بمراسلته هولاكو بعد استباحة محلة الكرخ الشيعية سنة 654هـ/ 1256م، خصوصاً بعد فراغ الفاتح المذكور من فتح قلاع الإسماعيلية أو خلال محاصرته لها في السنة المشار إليها، ولكن الحقيقة هي غير ذلك، لأن هولاكو كان يسير إلى غزو العراق قبل هذا التاريخ ببضع سنين، وأنه كان يعمل طبقاً لأوامر عليا صدرت إليه قبل وصوله بلاد الإسماعيلية أي قبل وقوع حادثة الكرخ.
ولعل الأمر يتضح بمعرفة الحقائق الآتية:
أ ـ كان غزو العراق أمراً تتضمّنه طبيعة الغزو المغولي الذي كان يستهدف السيطرة على العالم، وقد استولى المغول فعلًا على أكثر الصين وأواسط آسيا وإيران وأوروبا الشرقية، وبقيت بلاد الإسماعيلية والعراق وسورية ومصر جيباً جغرافياً وعسكرياً كان لا بد من الاستيلاء عليه، وهذا ما قام به هولاكو. وإذا كان العراق قد سقط بأيدي المغول نتيجة لخيانة وزيره ابن العلقمي فكيف نفسِّر سقوط جميع هذه البلاد الممتدة من المحيط الهادي إلى أواسط أوروبا، ومن هم الخونة الذين سلَّموها إلى الأعداء؟ ثم كيف نفسِّر احتلال هولاكو لسورية واستعداده للزحف على مصر؟
ب ـ من الأحداث التي تلقي ضوءاً على رغبة المغول في ضم العراق إلى منطقة نفوذهم، قبل سنين عديدة من استيلائهم الفعلي عليه، المقابلة التي جرت بين
________________________________________
(13) معجم البلدان، ج5، ص 332.

[الصفحة - 200]


الأمبراطور كيوك خان بمناسبة تنصيبه على العرش المغولي سنة 644هـ/ 1236م ورسول الخليفة؛ حيث هدّد الخان ذلك الرسول موعداً ومنذراً.
ج ـ إن زحف هولاكو على العراق واحتلاله إياه إنَّما تمَّ بناء على أوامر عليا أصدرها أمبراطور المغول مانغو خان سنة 651هـ/1253م بفتح البلاد الغربية التي ضمنها العراق وسورية ومصر، يؤيِّد ذلك التقرير الذي رفعه «جانغ ته» الذي أرسله «مانغو خان» إلى أخيه هولاكو ودوَّنه أحد الصينيين المسمى «ليو» المتصلين بالسفير المذكور، وما ورد في كتاب التاريخ الصيني للأسرة المغولية التي حكمت الصين والذي أمر بوضعه أحد أباطرة الصين، وتم إعداده سنة 772هـ/ 1270م وقد ورد في كلا المصدرين أن مانغو خان أمر أخاه هولاكو، سنة 651هـ/ 1253م، بالزحف لاحتلال البلاد الغربية وإخضاع خليفة بغداد (14). وقد سبق هذا التاريخ حادثة الكرخ بثلاث سنوات على أقل تقدير، وقد أيد ذلك ابن العبري (15) والكتاب الموسوم بالحوادث الجامعة(16) ورشيد الدين فضل الله (17).
ثانياً: أمَّا القول إن الوزير كان يسيطر على الخليفة تماماً، وإلى درجة أنَّه كان يمنع الرسل الذين يحذّرونه من خطر المغول فمردود، لأن الأدلَّة تشير إلى أن الوزير كان ضعيفاً غير مسموع القول، وليس له نفوذ على الخليفة الذي كان واقعاً تحت نفوذ أعداء الوزير، وخصوصاً مجاهد الدين الدويدار الصغير، الشركسي الذي كان قائداً للجيش والدليل على ذلك ما يأتي:
أ ـ إن الخليفة لم يعهد بالوزارة إلى ابن العلقمي سنة 642هـ/ 1244م إلا بعد أن عرضها على مربِّيه صدر الدين ابن المظفر علي بن محمد النسيار شيخ الشيوخ فامتنع عليه (18).
ب ـ إن استباحة محلة الكرخ سنة 654هـ/ 1256م إنما تمَّت نتيجة لأوامر الخليفة القاضية بكف الشقي الكرخي الذي قتل أحد سكان محلة «قطفتا» السنية، كما أن إيقاف الاستباحة بعد أن أفلت زمام الأمور من يد الحكومة بتسلُّط الغوغاء وأهل الفوضى إنما صدر من قبل الخليفة أيضاً. وكان في محلة الكرخ أقارب للوزير فلو كان له أي نفوذ في الدولة وهو في منصب وزير، وهو منصب يقابل رئيس
________________________________________
(14) E.Bretchneider. Medieval Reserches from Eastern Asiatic Sources, I.P. 109 - 121. ويحدِّد عطا ملك الجويني بداية تفكير مانغوخان بفتح هذه البلاد بسنة 649هـ/1251م.
(15) تاريخ مختصر الدول، ص 263.
(16) الحوادث الجامعة، ص 267.
(17) جامع التواريخ، ج2، قسم 1 (النسخة المترجمة) ص 238، انظر: النصر الفارسي، ج2، ص 687.
(18) العسجد المسبوك، ج2، الورقة 193.

[الصفحة - 201]


الوزراء في عصرنا، لمنع استباحة المحلة المذكورة، أو لأوقفها عند حدها حفظاً لأقاربه على الأقل(19).
جـ ـ في الخلاف الذي وقع بين الوزير والدويدار الصغير قائد الجيش، لم يأخذ الخليفة برأي الوزير بل إنه صفح عن الدويدار مع عظم التهمة التي نسبت إليه.
د ـ إن هولاكو كان يراسل الخليفة ويطلب منه نجدة وينذره بالقدوم إليه منذ أن كان يحاصر قلاع الإسماعيلية، وكان الخليفة يستشير الوزير والدويدار وغيرهما من أفراد حاشيته وخواصه، وكانت نصائح الوزير معقولة تدل على تفهم لطبيعة الخطر المغولي من جهة ولأحوال العراق من جهة أخرى، ولم تكن تتضمن تغريراً بالخليفة ولا تآمراً عليه، ولكن الخليفة كان يهمل نصائح الوزير، ويأخذ برأي خصومه خصوصاً الدويدار الصغير.
هـ ـ وفي ما يتعلَّق بمنع الوزير للرُّسل من الوصول إلى الخليفة فإن الأدلَّة لا تؤيد ذلك، لأن الخطر المغولي كان يهدد العراق منذ أيام الخليفة الناصر لدين الله، أي منذ أن كان المستعصم بالله صبياً صغيراً. وقد استمر هذا الخطر أيام الظاهر لدين الله والمستنصر بالله وأمره ذائع معروف وأخباره يعرفها الخاص والعام، والمعروف أن المستشارين أيام الخطر العسكري هم العسكريون لا المدنيون، ولم يكن الوزير عسكرياً، فكيف يعتمد عليه الخليفة من دون قواد الجيش وأمرائه، وقد قدَّمنا أن الوزير لم يكن صاحب نفوذ على الخليفة بل إن النفوذ الحقيقي كان بأيدي الفئة العسكرية وعلى رأسها الدويدار الصغير عدو الوزير. ثم كيف كان يستطيع الوزير أن يمنع الرسل من الوصول إلى الخليفة؟ وهل كان يلقي بهم في السجن؟ وما هي الأمثلة على ذلك؟ وإذا كان يفعل هذا، فهل كان يستطيع منع أفراد العائلة العباسية من تحذير الخليفة أو الوقوف بين رجال الدولة الآخرين كصاحب الديوان وعارض الجيش والنقباء والمحتسب وغيرهم وإخبار الخليفة بحقيقة الأمر؟ ولو صحَّت هذه التهمة على الوزير لكان معناها أنه كان يترأس مؤامرة كبرى يشترك فيها أكثر رجال الحكومة، لكن المصادر التاريخية تبيِّن أن المراسلات كانت قائمة بين هولاكو والخليفة فعلًا، وأنها لم تكن سرية لأن الخليفة كان يستشير فيها حكومته وأن
________________________________________
(19) انظر: في حوادث استباحة الكرخ، ص 23.

[الصفحة - 202]


الخليفة أرسل ابن الجوزي إلى هولاكو، وأن هذا الرسول كان مخلصاً للخليفة بدليل أن هولاكو قتله بعد فتح بغداد (20).
ثالثاً: أمَّا عن تآمر الوزير مع المغول لينصِّب علوياً خليفة للمسلمين بدلًا من المستعصم بالله، فهو أمر مردود أيضاً، لأن علاقة العلويين بالعباسيين كانت طيِّبة في هذه المرحلة. وقد عرض المستنصر بالله على رضي الدين أبي القاسم، علي بن موسى بن طاووس (المتوفى سنة 664هـ/1265م) أن يذهب رسولًا إلى سلطان التتر فرفض ذلك، وعرض عليه أن يكون وزيراً ولكنه رفض أيضاً (21). وقد قتل المغول الفاتحون العديد من العلويين، ومنهم السيد شرف الدين بن الصدر العلوي، وكان محترماً في الدولة العباسية وروسل به الملوك. وقد قتلوا نقيب العلويين، علي ابن النقيب الحسن بن المختار وعمر بن عبدالله بن المختار العلوي حاجب باب المراتب، كما قتلوا نقيب مشهد موسى الكاظم (22) وأحرقوا المشهد نفسه.
يضاف إلى ذلك: كيف يرضى العلويون بتنصيب أحدهم خليفة للمسلمين من قبل المغول الوثنيين؟ وهل كان الوزير يستطيع تدبير مثل هذا الأمر الخطير من دون استشارة كبار العلويين فمن هم هؤلاء؟ أمّا اتهام الوزير بأنه كان يعمل على إطماع المغول بالعراق ليكون نائباً لهم فهو مردود لأنه ـ أي الوزير ـ كان يشغل منصب الوزارة في دولة الخليفة، وليس هناك ما يدل على أنه كان سيمنح منصباً أعلى من ذلك.
رابعاً: اختلفت الرِّوايات التي تعين رسل الوزير إلى هولاكو، فمنهم من قال: إنه أرسل أخاه، ومنهم من قال: إنه أرسل غلامه، ومنهم من قال: إنه راسل هولاكو بوساطة ابن الصلايا العلوي، صدر أربيل، يضاف إلى ذلك أننا نلاحظ ما يأتي:
أ ـ إنَّ كل ما قيل عن رسل الوزير إنَّما كان مجرَّد ترديد لإشاعات لا تستند إلى أي دليل، فليس هناك حتى من ادعى أنه رأى رسل ابن العلقمي إلى هولاكو، وقبض عليهم، أو تحدث معهم أو شهدهم يدخلون على هولاكو.
ب ـ إن هولاكو، في مراسلاته مع الخليفة، طلب مواجهة عدد من كبار رجال الدولة العباسية، ولكنه لم يقصر طلبه على الوزير وحده في أية مرَّة من المرات، وكان من المعقول أن يفعل ذلك لو كانت هناك اتصالات سرية بينهما.
________________________________________
(20) انظر: الحوادث الجامعة، ص 328.
(21) رضي الدين على بن موسى بن طاووس، كشف الحجة لثمرة المهجة، ص 113 و114.
(22) العسجد المسبوك، ج2، الأوراق 192 و193.

[الصفحة - 203]


جـ ـ إن ابن الصلايا العلوي الذي تزعم بعض المصادر أنه كان صلة بين الوزير وهولاكو لا يمكن أن يكون قد قام بالعمل الخياني هذا لأنه أحد الناس الذين أمر هولاكو بقتلهم (23).
خامساً: إن الوَضْع والتَّكلُّف يتّضحان من نصوص الروايات التي تتهم الوزير، فهو يحلق رأس رسوله ويكتب عليه بالإبر، أو يجعل الكتابة على رأسه كل حرف كالحفرة، وهو يخرج إلى هولاكو ليتوثق لنفسه، ثم يعود إلى الخليفة ليبلغه أن هولاكو يرغب في زواج ابنته من ابن الخليفة، وإن الأصلح الخروج مع أعيان الدولة لحضور عقد النكاح في وقت كان فيه الجيش المغولي يحيط ببغداد ويضربها بالمنجنيق. والمعروف أن هولاكو لم يجلب معه إحدى بناته عند زحفه على العراق. وهو يبعث إلى ابن الصلايا العلوي رسالة متكلَّفة في أسلوبها وأفكارها مثل: «فكان جوابي بعد خطابي، لا بد من الشنيعة بعد قتل الشيعة... إلخ» ومثل: «فكن لهذا الأمر بالمرصاد وترقب أول النحل وآخر الصاد» وغير ذلك...
سادساً: إن الزعم بأن الخلفاء السابقين للمستعصم بالله، وخصوصاً المستنصر بالله، كانوا يتخذون جيوشاً كبيرة وإن الوزير ابن العلقمي عمل على صرفها وتفريقها ليسهل أمام هولاكو غزو العراق أمر مردود للسببين الآتيين:
أ ـ ليس هناك دليل يؤيِّد اتخاذ أولئك الخلفاء جيوشاً كبيرة، بل يبدو أن العكس هو الصحيح، فجيش الناصر لدين الله، وهو أكثر الخلفاء العباسيين اهتماماً بالأمور العسكرية ورغبة في التوسع، لم يستطع الوقوف أمام الخوارزميين، ومنهم السلطان جلال الدين منكوبرتي الذي لم يستطع بدوره الوقوف أمام المغول، لأنهم هزموه وشرَّدوه، فكيف يستطيع الجيش العباسي وحده الوقوف أمامهم؟
يضاف إلى ذلك أن غزوات المغول للعراق تكررت أيام المستنصر بالله، وكان الخوف منهم يسيطر على البلاد، ولو كان لدى الخليفة جيش كبير لهاجم المغول في قواعدهم، وهي إيران، مع أنهم لم يكونوا في عهده على ما وصفهم أستاذ داره غير «سرايا متفرقة وغارات متفقة» (24)، ولكن قوات الخليفة التي وقفت لمحاربتهم كانت ضعيفة وقليلة العدد.
________________________________________
(23) الحوادث الجامعة، ص 337.
(24) كشف الحجة لثمرة المهجة، ص 147 و148.

[الصفحة - 204]


ب ـ كيف يستطيع الوزير إقناع الخليفة بصرف أكثر جنوده والاكتفاء بالقليل منهم في وقت كان الخطر المغولي يهدد الدولة العباسية والعراق، وكان للخليفة مستشارون عسكريون على رأسهم الدويدار الصغير عدو الوزير؟؟
سابعاً: هناك مصادر مهمة لم ترد فيها أية إشارة إلى خيانة الوزير مثل كتاب «جهانكشاي» لعطا ملك الجويني، وهو أحد المصادر الرئيسية في تاريخ المغول، وقد سرد الأحداث إلى نهاية احتلال جيش هولاكو لقلاع الإسماعيلية وتدميره لدولتهم، والمفروض أن مراسلات الوزير مع هولاكو إنما جرت أيام تلك الأحداث، ولم يشر عطا ملك الجويني إلى أية مراسلات من هذا النوع مع أنه كان شديد الصلة بهولاكو، وكان في رفقته عند زحفه على بغداد، في حين أنه ـ أي الجويني ـ أورد التهمة المنسوبة إلى الناصر لدين الله من أنه راسل ملوك الخطا. ولم ترد التهمة كذلك في الرسالة المنسوبة إلى نصير الدين الطوسي (ت 672هـ/ 1273م) وقد رافق هولاكو إلى بغداد وكان كثير الاطلاع على خفايا الأمور. ولا يذكرها عبد الرحمن سنبط بن فنيتو الأربلي في كتابه «الذهب المسبوك» مع أنه عراقي معاصر للحوادث، ولا يذكرها كذلك أبو الفرج بن العبري في كتابه «تاريخ مختصر الدول» مع أنه معاصر اتصل بالمغول وعرف أخبارهم بينما يرفض التهمة ابن الطقطقي (وضع كتابه سنة 701هـ/ 1230م)، وفوق هذا كله يفصّل رشيد الدين فضل الله أحداث الفتح، ويشير إلى التهمة بأن مصدرها الدويدار الصغير عدو الوزير. ورشيد الدين مؤرخ عرف بصلته الشديدة بسلاطين المغول وأخبارهم وتاريخ شعوبهم، وقد اطلع على المصادر الإسلامية والمغولية، ولم تكن له أية مصلحة في الدفاع عن الوزير (25).
ولا حجة لمن يقول: إن هذه المصادر كتبت في ظل المغول وتحت ضغطهم، لأن عبدالله بن فضل الله الشيرازي الذي عرف بوصّاف الحضرة لمدحه سلطان المغول الأيلخاني محمد خدابنده، شدد التهمة على الوزير وقدم كتابه إلى السلطان المذكور. كما لم يردنا من الأخبار ما يفيد أن حكام المغول كانوا يأمرون الكتَّاب والمؤلفين بالدفاع عن الوزير، بل هناك من المصادر الإسلامية من يزعم أن هولاكو قتل ابن العلقمي لأنه خان مخدومه الخليفة ولم ترد التهمة في كتاب ابن الفوطي البغدادي: «تلخيص مجمع الآداب»، وهو معاصر كبير الاطلاع.
________________________________________
(25) انظر: جامع التواريخ، ج2، قسم 1 (الترجمة)، ص 272 ـ 274، النص الفارسي في المرجع الأصلي، ج2، ص 702 ـ 704.

[الصفحة - 205]


ثامناً: إن سلامة شخص الوزير وداره ومشاركته في اللجنة التي أعادت تنظيم بغداد والعراق بعد الفتح لا تقوم حجة على خيانته، لأن صاحب ديوان الخليفة المستعصم بالله، أي وزير ماليته، وحاجب الباب في عهده، أي مدير شرطة العاصمة، قد عوملا المعاملة نفسها، كما سلم أقرب مستشاري الخليفة إليه صديقه عبد الغني بن الدرنوس، وسلم الابن الأصغر للخليفة مع أخواته فاطمة وخديجة ومريم (26). وقد كان هولاكو بحاجة إلى من يدبِّر أمر العراق بعد فتحه، وكان الوزير وصاحب الديوان وحاجب الباب خبيرين بأموره، فأشركهم في لجنة عهد إليها أمر تنظيمه. ومن المحتمل أن هولاكو أعجب بالوزير عند مقابلته له نيابة عن الخليفة فاستبقاه. والأرجح أن شفاعة نصير الدين الطوسي له كانت أهم سبب في نجاته (27).
تاسعاً: تجمع الروايات على أن هولاكو لم يفرِّق، في استباحته لبغداد، بين السنِّيين والشيعيين، بينما استثنى النصارى. والمعقول أن ابن العلقمي لو كان قد اتفق مع المغول على تسليم بغداد لهم انتقاماً من السنيين لحفظ له المغول جميل عمله فلم يقتلوا الشيعة على الأقل.
عاشراً: أما سقوط بغداد نفسها فلم يكن للوزير أي دخل فيه لأنه تم بعد هزيمة جيش الخليفة بقيادة الدويدار واستيلاء المغول على أسوار المدينة، وسبب ذلك تفوُّق المغول الواضح في العدد والعدد والقيادة والمعنوية.
والخلاصة ليست هناك دلائل تدين ابن العلقمي، وقد كان سقوط بغداد أمراً متوقَّعاً منذ تدمير المغول لدولة خوارزم وقتلهم آخر سلاطينها جلال الدين منكوبرتي سنة 628هـ/ 1230م. ولو أراد المغول فتح العراق آنذاك لما وجدوا صعوبة في ذلك. وخيانة ابن العلقمي، لو صحَّت، ما كانت تعمل أكثر من تشجيع هولاكو على قصد العراق وما كان هذا، في حاجة إلى تشجيع لأنه كان يحمل أوامر عليا بالفتح أصدرها إليه الأمبراطور مانغو خان ومعه جيش متفوِّق على عدوّه تفوقاً ساحقاً في العدد والعدَّة لم يستطع الإسماعيلية إيقافه بالرغم من كثرة عدد حصونهم وامتناعهم في جبال عالية وقمم شاهقة، بينما تقع بغداد في سهل فسيح تسهل الإحاطة بها وقطع الميرة عنها.
________________________________________
(26) الحوادث الجامعة، ص 329 ـ 332.
(27) ابن الطقطقي، تاريخ الدول الإسلامية، ص 338.

[الصفحة - 206]


ويبدو أن إلصاق تهمة سقوط بغداد بالوزير إنما غايتها تسويغ الإهمال والتسيب اللذين سيطرا على إدارة العراق منذ بداية الغزو المغولي لدولة خوارزم سنة 616هـ/ 1219م. وقد كانت الخطَّة الصحيحة المناسبة آنذاك هي محاربة المغول منذ أول ظهورهم في بلاد ما وراء النهر وخراسان، وليس التفرُّج على هجماتهم وفظائعهم وانتظارهم عند أسوار بغداد ثم اتهام الوزير بأنه السبب في سقوط المدينة.
حقيقة التُّهم الموجَّهة إلى نصير الدِّين الطوسي
ويبدو أن ما حمل «الدياربكري» على اختلاق كذبته الفاضحة بالزَّعم أن هولاكو قتل ابن العلقمي جزاءً له على خيانته للخليفة، هو أن من سبقوه اتخذوا من بقاء ابن العلقمي حيَّاً بعد فتح بغداد، ثم مشاركته في اللجنة التي أعادت تنظيم بغداد والعراق، دليلًا على اتهامه بما اتهموه به، ثم تبيَّن لمن جاء بعدهم أن ليس في هذا ما يمكن أن يكون دليلًا على إثبات التهمة، لأنه ليس الوحيد الذي سلم من القتل ثم شارك في اللجنة الإدارية، بل كان ذلك شأن غيره من أركان الدولة العباسية، فارتأى «الديار بكري» أن يتجاوز ما ذكره من قبله وأن يخترع خبر قتل هولاكو لابن العلقمي، هكذا بكل سهولة، بل بكل وقاحة.
جنگيز وهولاكو من طينة واحدة: طينة الطغيان والظلم وسفك الدماء وتخريب العمران. وكل منهما هاجم الوطن الإسلامي وانتصر عليه. وقد كان مصير البلدان الإسلامية التي افتتحها هولاكو، في أول مرة، مصير المدن التي افتتحها جدَّه جنگيز.
ففي عهد جنگيز انطلق جنده في بخارا يقتلون وينهبون ويهدمون ويهتكون الأعراض، ثم أشعلوا فيها النيران. وكذلك فعلوا في سمرقند وغير سمرقند في كل ما فتحوه من بلاد.
مضى جنگيز في ما مضى به من إحالة الشر في نفسه لأنه كان يمضي بلا كابح يلوي عنانه ويروِّض جماحه ويثني من انطلاقه..
وكذلك فعل هولاكو في جميع المدن التي اجتازها وصولًا إلى مدينة «تون» التي خرَّبها وقتل جميع أهلها عدا النساء الشابات، على ما يذكر الجويني، مضافاً
________________________________________

[الصفحة - 207]


إليهن أصحاب المهن على ما يذكر الهمذاني. وبعد «تون» كان الوصول إلى قلاع الإسماعيليين، فكانت مذبحة «خورشاه».
وفي قلاع الإسماعيليين أُسر نصير الدِّين الطوسي فاستبقاه هولاكو حيَّاً مع طبيبين كانا بين الأسرى. واستبقاؤه لنصير الدين الطوسي لأنه كان عازماً على بناء مرصد كبير، وكان نصير الدين من كبار علماء الفلك، فلا غنى لهولاكو عنه. وكذلك كان شأن الطبيبين فقد كان بحاجة إلى الأطباء. فأقر الثلاثة أن يسيروا في ركابه فكان لا بد لهم من الطاعة لأن التمرُّد عاقبته القتل.
من دون الدخول في التفاصيل ننقل هنا عبارة المؤرِّخ محمد المدرسي التي قال فيها: «فضلًا عن مقام الطوسي العلمي استطاع بتأثيره على مزاج هولاكو أن يستحوذ تدريجياً على عقله وأن يروِّض شارب الدماء...».
هذا القول من خير ما قيل عن علاقة نصير الدين الطوسي بهولاكو. وبعد تخريب «تون» وقتل أهلها، وبعد مذبحة «خورشاه»، وبعد استحواذ الطوسي على هولاكو توقف التخريب وتوقفت المذابح. وذلك لأنَّه صار لهولاكو كابح عن الإيغال في التخريب والقتل، يتمثل بشخص نصير الدين الطوسي.
وكان من فضل العالم الكبير على العالم الإسلامي، باضطراره لمصاحبة هولاكو، أن لم يكن مصير قزوين وهمذان والدينور وكرمنشاه وحلوان وأسد آباد والبصرة وتستر وكل مدن خوزستان ثم بغداد، وبعد ذلك ديار بكر ومدن الجزيرة وحماه وحمص والمعرة ثم دمشق مصير بخارا وسمرقند، وكل ما كان في طريق جنگيز الطويل من مدن: حرقاً واستباحة.
ولا مصير المدن التي فتحها هولاكو حتى قلاع الإسماعيليين وأسر نصير الدين فيها، مصيرها في الفجائع والنكبات والإحراق والقتل والنهب.
لقد أجبر هولاكو بجبروته نصير الدين الطوسي على السير في ركابه قصداً لاستغلال علمه، ولكن الطوسي عرف بعلمه وعقله وتدبيره كيف يستغل هولاكو، فانهزم الطغيان أمام الإيمان والعلم والعقل الكبير المدبر.
________________________________________

[الصفحة - 208]


يوجز الزركلي، في كتابه «الأعلام»، وصف الطوسي قائلًا: «فيلسوف كان رأساً في العلوم العقلية، علَّامة بالإرصاد والمجصطي والرياضيات. علت منزلته عند هولاكو فكان يطيعه في ما يشير به عليه».
لم يكن مستطيعاً أن يحول بين هولاكو وبين الفتح، ولكنه استطاع بإخلاصه وإيمانه وقوَّة شخصيته أن يحول بين هولاكو وبين السَّير على طريقة جنگيز في شرور هذا الفتح.
لم تتعرَّض أي مدينة إسلامية للإحراق والتخريب والهتك والقتل في الزحف المغولي الهولاكي منذ التقاء نصير الدين الطوسي بهولاكو، عدا مدينة الموصل التي لم يعرض لها المغول بشيء أول الأمر إلى أن عادت فثارت عليهم فنالها ما نالها من الأذى، وعدا حلب في بلاد الشام، ما يحتاج إلى توسُّع ليس هذا مكانه.
يقول الدكتور جعفر خصباك: «هولاكو لم يجر على سنّة جده جنگيز خان بتخريب أكثر أو كل المدن التي تقع في طريق زحفه وقتل سكَّانها. ويبدو أن الصورة التي رسمها المؤرخون لفاتح بغداد المغولي إنما هي انعكاس للأعمال التي قام بها جده في ما وراء خراسان...».
ونقول: إن سيرة هولاكو ـ كما ذكرنا من قبل ـ كانت سيرة جده حتى وصوله إلى قلاع الإسماعيليين واصطحابه نصير الدين الطوسي. والدكتور خصباك كان يتحدث عن العراق فقط، وهو في كتابه لم يتجاوز العراق، لذلك لم يتحدث عن العسف في غير العراق، ومن هنا كان حديثه سليماً.
ثم يقول: «... ومن هذا كله يبدو أن عبارات التخريب التي أوردها المؤرخون عمَّا جرى للمدينة (بغداد) مبالغ فيها، لأن المعالم الرئيسية للمدينة كقصور الخليفة والمدارس والأسواق وغالب المحلات بقيت من دون أن يصيبها غير تخريب محدود أمكن إصلاحه في وقت قصير...».
ونقول: كان من الطبيعي أن يحدث بعض التخريب في اليوم الأوَّل من فتح بغداد، فإن تلك الجموع الهائجة من المغول التي اقتحمت بغداد كان من العسير في
________________________________________

[الصفحة - 209]


الساعات الأولى، الحؤول بينها وبين انطلاقها الجامح فحدث ما حدث. ولكن أمكن إيقافها بسرعة عن التمادي في الجموح، بفضل التدخل الحازم لنصير الدين الطوسي.
وأكثر من ذلك، فقد حمل الطوسي هولاكو على إعادة تعمير ما تخرب «بنفقة الدولة» جاء في «الحوادث الجامعة» وفي «جامع التواريخ»، وهذان الكتابان معاصران مشاهدان: «إن هولاكو أمر بإصلاح ما خرب من المدينة (بغداد) وترميم أسواقها وإعادة أعمال أهلها إلى ما كانت عليه سابقاً...» (28).
وصاحب «مراصد الاطلاع» الذي كتب كتابه بعد فتح بغداد يتحدَّث عن محلات بغداد العامرة. هذا فضلًا عن دار الخلافة ودار الدويدار الكبير وجامع الخليفة الذي احترق وأعيد إصلاحه، والمدرسة النظامية وسوقها والمدرسة المستنصرية ومدرسة الأصحاب ومدارس وربط أخرى.
________________________________________
(28) الحوادث الجامعة، ص 333. وجامع التواريخ، ج2، قسم 1، ص 595.

[الصفحة - 210]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف