البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإمامة والنَّفس البشريَّة

الباحث :  الدکتور سعيد يعقوب
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  20
السنة :  السنة الخامسة شتاء 1421 هجـ 2001 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2015
عدد زيارات البحث :  1386
الإمامة والنَّفس البشريَّة

الدکتور سعيد يعقوب (*)

المفهوم الحقيقي للإمامة
هناك قطاع واسع من المسلمين يعدّ الإمامة فرعاً من فروع الدِّين، وهناك قطاع آخر، أقلّ عدداً، يعدُّها أصلًا من أصول الدِّين يُكمّل مفهوم النُّبوَّة.
وبالرُّجوع إلى المعاجم، نجد أن الجذر اللغوي للإمامة هو «أمَّ»، والإمام هو الذي يُقتدى به، وجاءت كلمة الإمام بمعنى الكتاب، وبمعنى الطريق الواضح، وجاءت بمعنى الدَّليل، ويُؤَمُّ فلان أي يُقصد. وفي محيط المحيط: الإمام هو قيِّم الأمر والمصلح له. وحين نقرأ قول الإمام علي (عليه السلام): «إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيء به من وَلِجَها» (1) نجد أن الاكتفاء بالأصل اللغوي للكلمة لا يكفي ولا يفي بالغرض، لذا لا بدَّ من الاهتمام بمفهوم الإمامة كما هو متأصِّل في عمق النفس البشرية، ومن حيث أن هذا المفهوم أصبح شأناً اجتماعياً.. إذ إن للإمامة مفهوماً تترتَّب عليه نتائج أكثر شمولية وأشد تعقيداً من جملة القضايا والمناصب الإدارية والسياسية والاجتماعية.
لقد وصف الإمام علي (عليه السلام) أهل البيت بأنهم «أبواب الحكم وضياء الأمر» (2)، وهناك عدَّة مواضع، في القرآن الكريم، وفي السنة الشريفة، تربط بين أهل بيت النبوَّة وبين الضِّياء والنور، ما يفهم منه أن الابتعاد عنهم وتركهم هو دخول في الظلمة والتمسك بهم هو انفتاح على النور..
فإن كان هذا هو المفهوم الحقيقي للإمامة، فهل يعني ذلك أنها لا تشمل
________________________________________
(*) باحث من سورية
(1) نهج البلاغة، بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط1، ص 385.
(2) المصدر نفسه، ص 260.

[الصفحة - 104]


القيادة بالمعنَيَيْن السياسي والاجتماعي للكلمة؟ بالعكس فإن مفهوم الإمامة يشمل، أوَّلًا، البعد الشمولي الذي يحقّق متطلبات النفس البشرية، ويشمل، ثانياً، البعد القيادي الدنيوي، على أن هذا لا يزيد الإمامة شرفاً ولا ينقصها عزّاً، وقد قال الإمام علي (عليه السلام): « الله م إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منَّا منافسةً في سلطان ولا التماساً لشيء من فضول الحُكَّام» (3).
وقال الإمام، أيضاً، معبّراً عن المعنى الشمولي للإمامة: «أيُّها النَّاس، إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديت إليكم ما أدَّت الأوصياء إلى من بعدهم» (4).
دور الإمام في حياة الناس
يتحدَّث علماء الآثار والأنتروبولوجي عن وجود دائم لرموز عباديّة عند مختلف الأمم، ومنذ القدم، بحيث يصعب فصل الدين، أو الأساليب التي تعبِّر عن العبادات، عن مسيرة البشرية.
فالتديُّن، بمعنى ركون الإنسان إلى اعتقاد من نوع ما، فكراً من جهة وتعلُّقاً عاطفياً من جهة أخرى، يتناغم مع الإنسان ويتوافق مع نفسيته وفطرته التي فُطر عليها..، فليس هناك إنسان غير محتاج إلى دين ما: معتقدات معيَّنة (5).
طبعاً، هذا من أساس الفطرة، وقبل أن تتدخل مجموعة الاحتياجات الغريزية واللذات الجسدية، فتحجب هذه الفطرة مع مرور الأزمنة والأجيال عند بعض الناس. وإن أغلب آمال الناس وميولهم تنبع من عالم ما وراء الطبيعة حسب تعبير وليم جيمس.
حين نقرأ الآية القرآنية الكريمة، حين يقول تعالى في إبراهيم (عليه السلام): {وإذ ابتلى ابراهيم ربُّه بكلمات فأتمَّهن قال إني جاعلك للناس إماماً} ، وحين نرى أن الآلوسي حمل «العهد»، في هذه الآية، على الإمامة وجعلها شاملة للنبوَّة والخلافة، وهذا رأي كثير من المفسرين، نستخلص أن إبراهيم حاز هذه المرتبة كما حازها محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) أيضاً بأحقيته بإبراهيم: {وإن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا }
________________________________________
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه، ص 368.
(5) راجع أريك فروم.

[الصفحة - 105]


{النبيّ} ، كما حازها علي (عليه السلام) أيضاً في حديث المنزلة: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، وفي حديث «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، الله م وال من والاه.. الخ». وقد أدى الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) الأمانة كاملة، حين قام بإبلاغ المسلمين عن أئمتهم رحمة بهم، وبذا فإن قلوب المسلمين تلتفت إلى الإمام الجامع لخصال النبوَّة والخلافة والإمامة والذي تلجأ إليه النفس بالفطرة كما ذكرنا.
إن الدور الذي يقوم به الإمام في حياة الناس هو دور إنساني شامل، باعتبار الوشائج التي تربطه بالأنبياء بعامة، ولهذا الدور جدلية دائمة مستمرة في ما بين النفس البشرية وبين تعلقها وأملها، فهي بطبيعتها ميَّالة نحو السعادة غير راغبة بالشقاء (6)، وهي باحثة لا محالة عن هدف وباحثة أيضاً عن مرشد إلى هذا الهدف.
وإن هذه النقطة نجدها في أدبيات الإنسان منذ أقدم عصوره حتى عصور الكتابة، أدبياته التي تعبر عن مشاعره وتأملاته. والواقع أن الهدف الإنساني متعلق بالمثال فإن حظي بمرشد تحسّسَ لذةً وإن لم يعثر عليه شعر بالضيق والخواء.
ولننظر إلى هذه الفقرة من «ملحمة جلجامش» التي تجمع تصوُّرات البشر ما بين الألف الرابع والألف الثاني قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين. وهذا المقطع هو:
«هو الذي رأى كل شيء فغنّي بذكره يا بلادي، وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها، وهو الحكيم العارف بكل شيء، لقد أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة وجاء بأنباء ما قبل الطوفان» (7).
هذا المقطع يكشف عن حقيقة تطلُّع النفس وبحثها عن الإمام، فالذي يتمتع بهذه القدرات هو الذي يتعلَّق به النَّاس ويستضيؤون بنور معارفه ويسيرون مطمئنِّين باتباع خطاه..
هكذا إذن تنظر البشرية إلى أئمتها منذ أقدم العصور وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. أما من لا يرى كل شيء، ولا يعرف جميع الأمور، وليس بحكيم عارف، ولا يتمتع بحاسة تجعله يبصر ما وراء الظواهر بحيث يمكنه أن يبلغ الأسرار، ويكشف عن الخفايا المكتومة، ويعي ما حدث للأمم السابقة، من لا يملك ذلك لا
________________________________________
(6) راجع كتابنا: «علم النفس والطب النفسي عند العرب»، دمشق: دار الجليل، 1991، والطبعة الانجليزية للكتاب 984 أمريكا و1989، بومباي.
(7) د. فاضل عبد الواحد علي، من ألواح سومر إلى التوراة، بغداد، ط1، 1989، ص 130.

[الصفحة - 106]


يشكل غاية التطلُّع الإنساني حتى لو كان يتمتَّع بأهلية القيادة السياسية والاجتماعية، وحتى لو كان على المستوى الشخصي نظيف الكف واللسان والعقل والروح. أعني حتى لو كان راشداً فإنه سيفتح المجال لوصول خليفة غير راشد ليتسلَّم قيادة الناس.
فالناس، في أعماقها، لا تريد قائداً يملأ جانباً اجتماعياً محدَّداً، أو جانباً اقتصادياً أو سياسياً، فهذه الجوانب يمكن أن تتوافر في أشخاص أفذاذ، لكن ليس لهذه الجوانب من قدسيَّة، كما، وهذا مهم، ليس لها ثبات يحرص الإنسان والمجتمع عليه، بل هي شؤون إدارية، إن صح هذا التعبير، تعتني بشؤون الإنسان في ما يخصُّ حياته ومعاشه وأموره اليومية. وهذه الشؤون توكل إلى زعماء يصلون إلى الزعامة بغير طريق بحسب الأنظمة المرعية الإجراء، وهؤلاء من حق الناس محاسبتهم وتغييرهم إن لزم الأمر. وإن استشهدنا بتاريخنا الإسلامي، فحين تسلَّم أبو بكر الصديق (رض) صرَّح محقّاً: «إنَّني وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوِّموني» الخ..
قلت: هؤلاء الزعماء والقادة والخلفاء يمرُّون في تاريخ الأمم، منهم الصالح والمخلص، ومنهم من هو دون ذلك، في جميع الأزمنة والبلدان، وهم في الأحوال جميعها لا يعبِّرون عن الحقيقة الإنسانية متمثلة بتعلق النفس بالكامل والمقدس الذي إن وجد لا يمكن أن يحل محله أحد، ولا يلغي حضوره زمن ولا جغرافيا..
تجلّي الإمامة في الإمام علي (عليه السلام)
وبمطالعة الأدبيَّات الدِّينية القديمة، ومتابعة نمو المشهد الديني في مسيرة البشرية، نرى تراكم التصوُّرات البشرية بخصوص الرَّمز المقدس الديني ونتأكد من ذلك.. وهنا ننتقل إلى قول مهم للإمام علي (عليه السلام)، وهو يعبر عن تجلِّي الإمامة فيه بحيث تصبح الخلافة، أو أي منصب دنيوي، دون مكانته: «و الله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت».
ولست هنا بصدد الحديث عن تعارض ذلك مع علم الغيب الذي اختصَّ الله نفسه به، إذ لا تعارض هنا. وللحديث مجال آخر، لكن أوردت هذا النص لمقارنته مع النص البابلي سالف الذِّكر الذي يعبِّر الإنسان به عن انموذجه الأمثل الذي ينبغي
________________________________________

[الصفحة - 107]


للنَّاس أن تتغنَّى به، لأنه حظي بما لا يحظى به شخصٌ عادي، فهو عارف بما مضى وبما سيجي، وهذه رتبة وليست برتبة زعيم أو قائد أو رئيس، وإنما هي رتبة النبوّة أو الإمامة، رتبة فيها قداسة تدافع عنها الأمَّة بدافع إيماني بها، مستسلمة بشكل من الأشكال يختلف حسب الأمة والزمان لحقيقة أنها خاصية غيبية، لذلك فإن الشخصية التي تتمتع بهذه الخصائص تؤدِّي في حياة الناس والمجتمعات دوراً يترك أثراً بالغاً في الوجدان الشعبي الجمعي، وتصعب إزالة هذا الأثر مهما تطاول عليه الزمن.. وعادة فإن الإمام الذي تمتَّع بهذه الخصال يكون في حياته قد قام بالاعتناء بتربية النفس البشرية وتهذيبها وبناء الإنسان وفق منهج متشابه إلى حد كبير في جميع هذه الشخصيات.
الإمامة في الإسلام
لقد شكَّل الإسلام الدِّين الإلهي الأعمّ الأشمل بما استوعبه من شرائع سماوية سابقة، وبما أفاض به الله على الناس من رحمته، حين بعث محمَّداً، وما قام به محمد من إعداد شخصيَّة الإمام علي (عليه السلام)، فقد أرسل الله محمداً رحمة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وتجسَّد نور امتداد هذه الرحمة في علي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، «أنت وأنا أبوا هذه الأمَّة». وتأسيساً على ما قدَّمنا من فهم للنبوة والإمامة وعالميتهما وعدم حصرهما في زمن أو أمة أو عصر، نرى كيف كان خطاب الإمام علي موجَّهاً نحو تربية الإنسان ليصبح صافي السريرة متفهماً لفطرته، غير عابى بهموم الحياة وشجونها، غير خاضع لغرائزه ورغباته.. وكان الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك الأئمة جميعهم (عليهم السلام) من بعده، ينقلون إلى الناس ما ينفعهم ويريبهم من توجيهات بعدة طرق:
الطريقة الأولى: تتجلَّى في ممارساته لشؤون الحياة. وإذا أردنا أن نتعرف إلى ممارسة الإمام علي (عليه السلام) لشؤون الحياة الخاصة به، يمكن الرجوع إلى كتب السير والتواريخ.
الطريقة الثانية: تتجلى في أنه يتمثَّل كل ما يتبناه من قيم، وبأنه كان إسلاماً متحركاً، أو كان قرآناً يمشي بين الناس، أي طريقه القدوة والمثال.
________________________________________

[الصفحة - 108]


الطريقة الثالثة: في كلامه المباشر مع الناس، أي في خطبه وأقواله، وهي التي سنبحثها في هذا المقال...
إن من يتمعَّن في كلام الإمام (عليه السلام) وخطبه التي وصلتنا سيجد إشارات كثيرة إلى ضرورة أن يتذكر الإنسان، دائماً، نهايته التي ستأتيه حتماً واليوم الآخر والحساب، وسيلمس القارى مقدار حبِّ الإمام علي للإنسان وخوفه عليه من الخاتمة. حبه للإنسان أياً كان فهو «إمّا أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق» كما قال (عليه السلام).
خذ مثلًا هذه الفقرة من إحدى خطبه (8):
«واعلموا عبادَ الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، فمن كان أطول منكم أعماراً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وأجسادهم بالية وديارهم خالية وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيَّدة والنمارق الممهَّدة الصُّخور والأحجار المسندة والقبور اللاطئة الملحدة».
ففي هذا لفت الأنظار الأحياء إلى من سبقهم في إعمار الأرض، ثم رحل عنها كأن لم يكن ولم يبق إلَّا عمله..
وكلام الإمام ليس مواعظ فقط، بل إنَّ الحركة التي تؤدِّيها هذه الكلمات تظهر فيها روح الرسالة التي تعمل على بناء الإنسان وتحثه على صياغة نفسية غير قلقة تعرف ما تريد فتبحث عنه وتعرف ما لا تريد فتتركه... وإن هذا الكلام لم يقتصر على إنسان قاله لآخرين وقد مضى ومضوا فلا جدوى منه بعد ذلك، بل هو كلام سرى في نسغ الحياة البشرية إلى يوم الدين.. وهذه إحدى خصائص الإمام علي (عليه السلام) والأئمة جميعهم (عليهم السلام)، فهم كما ذكرنا لا يمارسون دوراً قيادياً كدور أي قيادي أو زعيم في التاريخ الإنساني، بل إنهم موكلون بمنصب إلهي لا يبطل عمله ولا يزول أثره، مهمته إظهار نور الله الذي تعمل شياطين الإنس والجن على إخفائه، و الله متمُّ نوره ولو كره الكافرون..
أنظر إلى هذه الكلمات من الخطبة السابقة نفسها: «وكأنْ قد صرتم إلى ما
________________________________________
(8) النهج، م.س، ص 470 و471.

[الصفحة - 109]


صاروا إليه، وارتهنكم ذلك المضجع، وضمَّكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو تناهت الأمور وبعثرت القبور، هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وَرُدُّوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون».
فكأني بالإمام الشفوق الرحيم على أهل الأرض جميعاً يحذرهم من يوم يقدمون فيه على ربِّهم وهم ظالمو أنفسهم، وقد كان بوسعهم ألَّا يكونوا كذلك..
صحيح أن كلماته (عليه السلام) لا تخرج ولا تحيد عن كلام الله والرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) في أن الإنسان كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه، فعليه أن يتجهز إلى هذا اللِّقاء بالتَّقوى وسلامة القلب «إلَّا من أتى الله بقلبٍ سليم»، وسنجد في أقوال الإمام وأعماله جميعها، وكل صغيرة وكبيرة من حياته، تمثيلًا مباشراً للحقيقة التي أكدنا عليها وأشرنا إليها، الأمر الذي يجعل منه ذلك المصداق الواقعي لحقيقة المثال الذي تصبو إليه النفس الإنسانية عامة..
قد يقول قائل: إن الإمام لم يبتدع هذه الحقيقة ولم يخترعها من خلال صياغة خطاب يحمل الجنس البشري على النظر إلى مصيره.. فأقول: نعم هذا صحيح، فقد كان علي انعكاساً للحقيقة المحمَّدية التي ختم الله بها رسالاته إلى الناس، وقد قال علي نفسه: «علم علمه الله نبيّه فعلّمنيه» (9)، فهذا علم من عند الله وما عند الله لا ينفد...
وإن المعارف التي يحملها الأئمة ويحاولون نقلها للناس لا تنتقل بهذه البساطة، وقد قال الإمام (عليه السلام): «إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة» (10).
ويصف الإمام الناس الذين يتعلَّقون بالآخرة التي هي «خير وأبقى»، كما هي «خير لمن أتقى» فيقول: «كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها فكانوا كمن ليس منها، عملوا فيها بما يبصرون وبادروا فيها ما يحذرون، تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة» (11).
إن من يقرأ نهج الإمام علي، ولندع جانباً ما فيه من بلاغة، فإنه سيشعر بنور الوحي وإيقاع الغيب، ويدور في فلك إنساني يحيط بأطراف الكون ويحث النفس البشرية على أن تقفز فوق همومها وتتطلع إلى ما هو أبعد... إلى ضرورة رفع الظلم
________________________________________
(9) المصدر نفسه، ص 75.
(10) المصدر نفسه، ص 387.
(11) المصدر نفسه، ص 476.

[الصفحة - 110]


تطبيقاً لقوله تعالى: {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} .. انظر ب الله عليك إلى قول قاله الإمام نبع من أعماقه، فدخل أعماق كل نفس حتى عودة النفوس إلى باريها، يقول: «و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت» (12)..
إن ما قاله الإمام وما فعله يجعل من الزهد طبعاً أصيلًا في النفس، وليس هدفاً يسعى للوصول إليه، قارن إن شئت هذا النوع من الزهد مع زهد المتصوِّفة، على الأقل في أقوالهم، لتجد أن كلًّا منهم من معينه مقتبس (13). وليس الزهد أن تمتنع عن لذائذ الدنيا، بل هو عدم جعل الدُّنيا همًّا يلهي الإنسان عن الاقتناع بأن روحه يمكن أن تسمو وتعلو، بدليل وجود المثال فوق سطح الأرض.
هذه الأقوال جميعها التي ذكرناها للإمام علي، وكان بالإمكان، لولا خشية الإطالة، أن نذكر من أقوال الأئمة الآخرين (عليهم السلام) وأعمالهم الشيء الكثير المشابه، هذا كله من أجل أن نوضح ماهية الإمامة وكيف تسعى من أجل سلامة الإنسان وسعادته وأنها امتداد لكلام الله سبحانه، كما أنها استمرار للحفاظ على النبوَّة ودوام اتصال الناس بخالقهم، لأنه لا يُقبل عقلًا أن الله أنهى صلته بخليفته في الأرض بمجرد انتقال الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) إلى جوار ربه... وأن هذه الصلة قد اقتصرت على وجود القرآن الكريم بين أيدي الناس لأنه كتاب فيه محكم ومتشابه، وأنه كتاب «لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم» وأنه «حمَّال أوجه»...
الإمامة أصل من أصول الدِّين
ومن هذا نستنتج أن الإمامة أصل من أصول الدين، ولا يمكن أن تكون مجرَّد فرع من الفروع، وأن الدور الذي يؤدِّيه الإمام في حياة الناس دور يقوم على بناء إنسان متمسِّك بحبل متين من المعرفة، متوازن نفسياً، جعل قلبه مع الله ، فهداه الله إلى التطلع نحو مثال، هذا المثال تاقت إليه النفس الإنسانية منذ فجر التاريخ حتى يصبح الإنسان تاريخاً..
وبما أن الإمام هو المثال الذي فطرت النفس على الشوق إليه فهو موجود في كل خلية من خلايا الإنسان، فلا حاجة للسؤال أين هو الإمام إذن؟
________________________________________
(12) المصدر نفسه، ص 468 و469.
(13) راجع مقالنا، «العليون الأربعة والتصوف»، المنهاج، العدد 18.

[الصفحة - 111]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف