البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التَّشيُّع المُفْترى عليه(4) مداخلات وهوامش نقديَّة على كتاب «تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه» لأحمد الكاتب

الباحث :  الشيخ خالد أباذر العطيَّة
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  19
السنة :  السنة الخامسة خريف 1421 هجـ 2000 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2015
عدد زيارات البحث :  1686
التَّشيُّع المُفْترى عليه(4)

مداخلات وهوامش نقديَّة على كتاب
«تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه» لأحمد الكاتب

الشيخ خالد أباذر العطيَّة

مناقشة الشبهة الخامسة: (خفاء دلالة حديث الغدير وعدم فهم الصحابة منه، ومن سائر النصوص الأخرى الواردة بحق علي (عليه السلام) ، معنى النصّ بالخلافة).
هقال «الكاتب»: «وإذا كان حديث الغدير يعتبر أوضح وأقوى نصّ من النبيّ بحقّ أمير المؤمنين، فإن بعض علماء الشيعة الإمامية الأقدمين، كالشريف المرتضى، يعتبره نصّاً خفياً غير واضح بالخلافة؛ حيث يقول في الشافي: (إنا لا ندّعي علم الضرورة في النص، لا لأنفسنا ولا على مخالفينا، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرّح بادّعاء ذلك).
ولذلك فإنَّ الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير، أو غيره من الأحاديث، معنى النَّص والتَّعيين بالخلافة، ولذلك اختاروا طريق الشورى، وبايعوا أبا بكر كخليفة من بعد الرسول، مما يدلّ على عدم وضوح معنى الخلافة من النصوص الواردة بحقّ الإمام عليّ، أو عدم وجودها في ذلك الزمان»ق (1).
ملاحظة عامّة حول الطرح الاستدلالي لهذه الشبهة
إنّ أوَّل ما يلفت النظر، في ما ذكره «الكاتب»، في هذه الشبهة، هو صياغتها الاستدلالية المفكّكة وعدم الترابط المنطقي بين ما ساقه فيها من مقدِّمات وما خلص
________________________________________
(1)تطور الفكر السياسي الشيعي، م.س.، ص 22.

[الصفحة - 96]


إليه من نتائج، فهو يذكر، أوَّلًا، أنّ حديث الغدير يعدّ أوضح نصّ من النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) وأقواه بحقّ أمير المؤمنين ـ وهو يقصد عند الشيعة طبعاً ـ ولكنّه يستثني من هذا الإجماع الشيعي واحداً من علماء الشيعة الإمامية الأقدمين، وهو الشريف المرتضى، فيزعم أنّه «يعتبره نصّاً خفيّاً غير واضح بالخلافة».
والنتيجة التي خلص إليها ضمناً من هذا الاستثناء ـ كما يفهم ذلك من بقية كلامه ـ أنّ حديث الغدير ليس فيه دلالة على إمامة عليّ وخلافته للنبيّ. وقدرتّب على هذه النتيجة غير المسوّغة منطقياً نتيجة أخرى سوّغ فيها فعل الصحابة بمبايعتهم أبي بكر خليفة من بعد الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، زاعماً أنّ ذلك الفعل كان ممارسة منهم للشورى تعكس؛ إمّا عدم وضوح معنى الخلافة من النصوص الواردة بحقّ الإمام عليّ (عليه السلام) على فرض صحّتها وصدورها من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أو عدم وجود تلك النصوص في زمان الصحابة من الأساس، وتأخّر وضعها واختلاقها من قبل الشيعة في زمن متأخّر عن زمنهم.
والمُلاحظ أنّ المحور الذي يدور عليه كلام «الكاتب» هذا هو إنكار وجود ما يدلّ على إمامة عليّ (عليه السلام) وخلافته للنبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) من الحديث النبوي الشريف، ولكنه بدلًا من أن يكيّف هذا الإنكار ويناقش النصوص المدّعى ثبوتها وثبوت دلالتها على خلافه، ومن جملتها نصّ الغدير الذي أشار إليه، كما يقتضيه المنهج العلمي المتّبع في أمثال هذه البحوث، نجده يلجأ تارةً إلى التذرّع برأيٍ مزعوم نسبه إلى أحد علماء الشيعة القدماء (الشريف المرتضى) واستند فيه إلى عبارة قمشها من كلامه، وزعم أنّه عدَّ فيها حديث الغدير «نصّاً خفياً غير واضح بالخلافة»، وتارةً أخرى إلى التذرّع بفعل الصحابة، أو فعل بعضهم على الأصح، بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) في عزوفهم عن مبايعة علي (عليه السلام) ومبايعتهم أبي بكر بالخلافة. وكلٌّ من محاولتي «الكاتب» هاتين ليس فيها ما يقنع بصحة الاستنتاج الذي خلص إليه في ما يتعلّق بحديث الغدير أو غيره من أحاديث الإمامة والخلافة.
فكون المرتضى، وهو على أية حال، واحد من علماء الشيعة فحسب، يعدّ حديث الغدير، كما يزعم «الكاتب»، «نصّاً خفيّاً غير واضح بالخلافة» لا يدلّ في حدّ ذاته بالضرورة، على فرض صحة نسبة هذا الرأي إليه، على أنّ رأيه هذا هو الرأي
________________________________________

[الصفحة - 97]


الفصل في هذا الحديث، لا سيما وأنّه مخالف لإجماع سائر علماء الشيعة، كما يقرّ بذلك «الكاتب» نفسه. كما أنّ مبايعة بعض الصحابة أيضاً لأبي بكر واختيارهم طريق الشورى، كما سمّاه، لا يكشف بالضرورة عن أنهم «لم يفهموا من حديث الغدير أو غيره من الأحاديث معنى النص والتعيين بالخلافة» إلّا على أساس نظرية عدالة الصحابة وامتناع مخالفتهم للنبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) لأي سبب كان، وهي نظرية تفتقر إلى الدليل، بل الدليل قائم على خلافها، كما يقرُّ بذلك بعض علماء أهل السنَّة المحقِّقين (2).
فهاتان ثغرتان منطقيَّتان واضحتان في الطرح الاستدلالي لهذه الشبهة تكشفان عن اختلالٍ في طريقة تفكير صاحبها ومنهجه البحثي، أو تكشفان في أغلب الظن عن رغبته العمياء في تسويغ آرائه المسبقة ولو على حساب موضوعيَّة البحث ونزاهته.
وتبقى بعد ذلك عدة ملاحظات أخرى تفصيلية تتعلق كل واحدة منها بفقرة محدَّدة من فقرات كلام «الكاتب» في هذه الشبهة:
الملاحظة الأولى: خطأ ادّعاء «الكاتب» أنّ المرتضى يعدّ حديث الغدير نصّاً خفيّ الدلالة على الخلافة
إن ادّعاء «الكاتب» أنّ الشريف المرتضى يعدّ حديث الغدير «نصّاً خفيّاً غير واضح بالخلافة» ادّعاء باطل وفِرْية مفضوحة على الرجل يمكن اكتشافها بعد مراجعة لكتاب «الشافي» الذي قمش منه «الكاتب» العبارة التي استشهد بها في شبهته.
وقد سبق بيان هذه الملاحظة في سياق ما تقدَّم من ملاحظات منهجية على الفصل الأول، وصفوة ما سبق بيانه فيها مع مزيد من التوضيح:
إن الشَّريف المرتضى قسّم النصوص القولية الدالّة على إمامة عليّ (عليه السلام) وخلافته للنبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) إلى قسمين:
أحدهما: نصوص حصل العلم لسامعيها من الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) بمراده منها بالاضطرار والبداهة، «وهو النصّ الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالإمامة والخلافة، ويسمّيه أصحابنا النصّ الجلي، كقوله (عليه السلام): (سلّموا على عليّ بأمرة المؤمنين) و (هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا).
________________________________________
(2) من هؤلاء العلماء: الإمام الغزالي في كتابه «المستصفى»، قال: «إنّ من يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته عنه (أي عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)) فلا حجّة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ، وكيف تُدَّعى عصمتهم من غير حجة متواترة، وكيف يُتصوَّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف المعصومان؟ كيف! وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه. فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم، فيه ثلاثة أدلة قاطعة»، ج1، ص 135.وانظر في مناقشة حجيّة سنّة الصحابة بنحو موسّع كتاب «الأصول العامة للفقه المقارن» للعلّامة السيّد محمد تقي الحكيم، ص 135 ـ 143، 439 ـ 442، دار الأندلس، بيروت، وكتاب نظرية عدالة الصحابة، للأستاذ أحمد حسين يعقوب، ط الأولى مطبعة الخيام، الأردن.

[الصفحة - 98]


وهذا القسم تفرّد بنقله الشيعة الإمامية، وإن كان بعض من لم يفطن إلى ما ينطوي عليه من دلالة على الإمامة والخلافة من أصحاب الحديث المخالفين للشيعة قد روى شيئاً منه».
والقسم الآخر: نصوص حصل العلم لسامعيها من الرسول بمراده منها أيضاً، ولكننا لا نجزم أنّهم علموا النص بالإمامة منها اضطراراً، وإنما يجوز أن يكونوا «علموه استدلالًا من حيث اعتبار دلالة اللفظ وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن»، أي بوساطة القرائن والشواهد التي تعيّن دلالة اللفظ وتحدّدها من بين عدة معانٍ له محتملة ابتداءً.
إنّ هذا التقسيم لنصوص الإمامة هو، في رأي المرتضى، بالنسبة لمن سمعها من الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) مباشرة وبلا وساطة، أما بالنسبة إلينا نحن وأمثالنا من أجيال المسلمين المتأخرين عن زمان الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) الذين سمعوها من الرواة ونقلة الأخبار، فإنها تندرج جميعاً، في رأيه، في قسم واحد من حيث كونها جميعاً تفتقر، في ثبوت صدورها عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وكذلك في معرفة دلالتها والمراد منها، إلى الاستدلال، وليس شيءٌ منها قد حصل لعامة المسلمين العلم الضروري بصدوره أو بدلالته، على حدّ علمهم مثلًا، بوجوب الصلاة وصوم شهر رمضان وتحريم الخمر؛ بداهة أن الشيعي وغير الشيعي محتاج في تحصيل العلم بصدورها وثبوتها إلى معرفة مصادر روايتها وتمحيص طرقها وأسانيدها، كما أنّ مخالفي الشيعة ينكرون دلالتها على الإمامة وإن سلّمو بثبوت أصلها، والشيعة أنفسهم يحتاجون في إثبات دلالتها إلى الاستدلال وإبطال ما أوّله مخالفوهم بها (3).
هذا كلّه ذكره المرتضى في كتابه في الجزء والفصل والسياق نفسه الذي رجع إليه «الكاتب»، ونسب إليه فيه أنه يعدّ حديث الغدير «نصّاً خفيّاً غير واضح بالخلافة»، واقتطع منه تلك العبارة التي استشهد بها على ذلك.
وفي ضوئه يتضح مقصود المرتضى من مصطلح «النص الخفي» الذي قال إن علماء الشيعة السابقين جعلوا حديث الغدير أحد مصاديقه، كما يتضح أنّ الأمر ليس كما زعمه «الكاتب»، من أنّ المرتضى يشكّك في دلالة حديث الغدير وغيره من
________________________________________
(3) الشافي في الإمامة، 2/67 و68.

[الصفحة - 99]


نصوص الإمامة ويعترف، وهو أحد علماء الشيعة الكبار، بخفاء تلك النصوص المطلق؛ بحيث لا سبيل إلى تبيّن دلالتها على الإمامة وإثبات هذه الدلالة.
كما يتَّضح أيضاً معنى العبارة التي اقتطعها «الكاتب» من سياقها ليستشهد بها على ما نسبه إلى المرتضى، وكنّا قد ذكرنا في الموضع الذي سبقت الإشارة فيه إليها من هذا البحث (4) أن المرتضى(ره) قد ذكر تلك العبارة في سياق ردّه على ما ادّعاه القاضي عبد الجبار في كتابه «المغني» من أنّ الشيعة يزعمون حصول العلم الضروري للمسلمين بالنصّ على إمامة عليّ (عليه السلام) وذلك على حدّ علمهم بضروريات الدين الإسلامي من وجوب الصلاة وصوم شهر رمضان وأمثالهما من الأحكام، فيكون معنى عبارة المرتضى المشار إليها في ضوء ذلك وفي ضوء تعريفه للنص الجلي والنص الخفي اللَّذين سبق ذكرهما هو نفي ما ادّعاه القاضي عبد الجبار ونسب إلى الشيعة القول به من ذلك، وإثبات أنهم يقولون بأن العلم بالنص على إمامة علي (عليه السلام) وخلافته للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) إنما يحصل بالاستدلال.
وممَّا يؤكد هذا الذي ذكرناه، بخصوص رأي المرتضى في حديث الغدير، ويقطع كلَّ عذر «للكاتب» في إساءة فهمه وحمله على غير محمله الواضح الصريح، أنّ المرتضى عقد لحديث الغدير، في موضع آخر من كتابه «الشافي»، بحثاً استغرق ستاً وستين صفحة ردّ فيه على ما أثاره القاضي عبد الجبار المعتزلي من شبهات حول هذا الحديث، مبيّناً في البداية الوجه المعتمد عنده في الاستدلال به على النصّ على إمامة علي (عليه السلام) وخلافته للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، وذلك بقوله:
«إنّ النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) استخرج من أمّته في ذلك المقام الإقرار بفرض طاعته، ووجوب التصرّف بين أمره ونهيه، بقوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟» وهذا القول وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فالمراد به التقرير، وهو جار مجرى قوله تعالى: {ألست بربّكم} فلما أجابوه بالاعتراف والإقرار رفع بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال عاطفاً على ما تقدّم: «فمن كنت مولاه فهذا مولاه»، وفي روايات أخرى: «فعليّ مولاه الله مّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله»، فأتى (عليه السلام) بجملة يحتمل لفظها معنى الجملة الأولى التي قدّمها
________________________________________
(4) المنهاج، العدد 16، ص 84 ـ 86.

[الصفحة - 100]


وإن كان محتملًا لغيره، فوجب أن يريد بها المعنى المتقدّم الذي قرّرهم به على مقتضى استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم، وإذا ثبت أنّه (صلي الله عليه و آله و سلم) أراد ما ذكرناه من إيجابه كون أمير المؤمنين (عليه السلام) أولى بالإمامة من أنفسهم، فقد أوجب له الإمامة؛ لأنه لا يكون أولى بهم من أنفسهم إلّا في ما يقتضي فرض طاعته عليهم، ونفوذ أمره ونهيه فيهم، ولن يكون كذلك إلّا من كان إماماً» (5).
ثم فصّل المرتضى بعد ذلك الحديث عن صحة خبر الغدير وثبوته عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قائلًا: «إنَّ الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به، وأكثر رواة أصحاب الحديث يروونه بالأسانيد المتّصلة، وجميع أصحاب السير ينقلونه ويتلقونه عن أسلافهم خلفاً عن سلف، نقلًا بغير إسناد مخصوص، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة، وقد أورده مصنفو الحديث في جملة الصحيح. فقد استبد هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار؛ لأن الأخبار على ضربين: أحدهما لا يعتبر في نقله الأسانيد المتّصلة، كالخبر عن وقعة بدر وحنين والجمل وصفّين، وما جرى مجرى ذلك من الأمور الظاهرة التي نقلها الناس قرناً بعد قرن بغير إسناد معين وطريق مخصوص، والضرب الآخر يعتبر فيه اتصال الأسانيد، كأكثر أخبار الشريعة. وقد اجتمع في خبر الغدير الطريقان معاً مع تفرّقهما في غيره من الأخبار...
وما نعلم أن فرقة من فرق الأمّة ردّت هذا الخبر واعتقدت بطلانه وامتنعت من قبوله، وما تجمع الأمّة عليه لا يكون إلّا حقّاً عندنا وعند مخالفينا، وإن اختلفنا في العلَّة والاستدلال» (6).
وبعد أن أجاب المرتضى على ما قد يثار من تساؤلات حول الإجماع على صحة حديث الغدير، انتقل إلى تفصيل ما أجمله في وجه الاستدلال به على النصّ على إمامة عليّ (عليه السلام)، فتحدّث أولًا عن المعنى الحقيقي في اللغة للفظ «مولى» الوارد في الحديث، وأنّه هو «الأولى» بالشيء، مستشهداً بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذا اللفظ الوارد أيضاً في العديد من آيات القرآن الكريم، وبالحديث الشريف وبأشعار العرب.
________________________________________
(5) الشافي، 2/260 و261.
(6) م.ن، 2/261 و262.

[الصفحة - 101]


ثم تحدّث بعد ذلك عن الدليل على أن المراد بلفظة «مولى» في حديث الغدير هو «الأولى»، وعن دليله على أنّ لفظة «أولى» تفيد معنى الإمامة، مبيّناً ثلاثة طرق للاستدلال على إفادته لها. ثم ناقش في النهاية المعاني التي أوّل بها القاضي عبد الجبار وغيره من مخالفي الشيعة حديث الغدير مفنِّداً كلَّ ما أثير حول دلالته على الإمامة من شبهات (7).
وفي الجزء الثالث من «الشافي» أجمل المرتضى رأيه السالف في حديث الغدير فقال: «قد دللنا على ثبوت النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) بأخبار مجمع على صحتها متفق عليها، وإن كان الاختلاف واقعاً في تأويلها، وبيّنا أنّها تفيد النصَّ عليه بغير احتمال ولا إشكال، كقوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» و «من كنت مولاه فعليّ مولاه» إلى غير ذلك» (8).
كما أجمل المرتضى رأيه هذا في حديث الغدير أيضاً في بعض رسائله وأجوبته المجموعة في كتاب «رسائل الشريف المرتضى»، نجد ذلك في رسالته في شرح القصيدة المذهبة (شرح الأبيات من 102 إلى 105)، وفي جوابه على مسألة تضمَّنت شبهة تتعلق بحديث الغدير (9).
وبعد، فادّعاء «الكاتب» أن المرتضى يعدّ حديث الغدير «نصّاً خفيّاً غير واضح بالخلافة» لا يمكن حمله، في ضوء ما سلف بيانه من كتاب المرتضى الذي رجع إليه، إلّا على أحد محملين:
أحدهما: أن «الكاتب» قد أساء فهم ما قرأه من كتاب المرتضى، وأخطأ في إدراك معناه على رغم أن ما قرأه كان نصّاً واضحاً لا يستعصي فهمه على القارى العادي.
والآخر: أن «الكاتب» قد خان الأمانة العلمية وافترى على المرتضى بما لم يقله في كتابه، محاولةً منه لإيهام القارى بأن واحداً من كبار علماء الشيعة القدماء يرى في حديث الغدير مثل رأيه.
وأدع للقارى ترجيح المحمل الأليق، في نظره، من هذين المحملين، استناداً إلى ما عرفه حتى الآن من منهج «الكاتب» وطريقته في البحث!
________________________________________
(7) م.ن، 2/262 ـ 325.
(8) م.ن، 3/99.
(9) رسائل الشريف المرتضى، 3/129 ـ 133، 4/251 ـ 254، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ.

[الصفحة - 102]


الملاحظة الثانية: خطأ ادّعاء «الكاتب» أنّ الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير النصّ على إمامة عليّ (عليه السلام) وخلافته
إنّ قول «الكاتب»: «إنّ الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير أو غيره من الأحاديث معنى النصّ والتعيين بالخلافة» تكذِّبه وتشهد بخلافه تلك الأحاديث المشار إليها نفسها، كما تكذّبه مواقف الصحابة من تلك الأحاديث عند سماعهم لها من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وردود أفعالهم تجاهها، بمن فيهم ذلك النفر من المهاجرين والأنصار الذين بادروا بعد وفاة النبي إلى مخالفتها وقاموا بإبرام البيعة لأبي بكر في اجتماع السقيفة وحملوا غيرهم من بعدُ على متابعتهم فيها.
أمّا تلك الأحاديث نفسها فإنّ بعضها من الوضوح والصراحة بحيث ينتفي معهما أيّ احتمال لإرادة معنىً آخر غير معنى النصّ على إمامة عليّ (عليه السلام) وولايته لأمور المسلمين من بعد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ويقطع كلَّ عذر في تأويلها بخلاف ذلك؛ فقول النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في حديث يوم الدار (10): «إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم..» نصّ صريح بالخلافة، وقد زاده النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) وضوحاً وصراحة بقوله بعد ذلك: «فاسمعوا له وأطيعوا»؛ لأنّ السمع والطاعة هما من مقتضيات الولاية والإمرة ومن لوازمهما.
وكذلك قوله (صلي الله عليه و آله و سلم) في حديث الغدير (11): «من كنت مولاه فعلي مولاه» المحفوف بعديد من القرائن والشواهد اللفظيَّة والحالية التي تجعل من إرادة أي معنى آخر منه غير النصّ على إمامة عليّ وخلافته من بعد النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) نوعاً من الخروج عن مقتضيات الحكمة وقواعد البيان، كما أوضح ذلك علماء الشيعة عند شرحهم لمدلول هذا الحديث المؤيَّد كذلك بالعديد من الأحاديث الأخرى المشابهة له في لفظه ومعناه (12).
ومن النصوص الجليَّة التي لا تقبل التأويل أمره (صلي الله عليه و آله و سلم) يوم غدير خم، عقب الحديث المتقدم، من كان معه من المسلمين بأن يسلِّموا على عليّ (عليه السلام) بأمرة المؤمنين(13)، فهذا الأمر إلزام لهم بمبايعة عليّ (عليه السلام) وليّاً لأمورهم من بعده؛ إذ ليس لـ «أمير المؤمنين» معنىً إلّا هذا.
________________________________________
(10) تقدم ذكر حديث يوم الدار في مناقشة الشبهة الثانية.
(11) انظر في دلالة حديث الغدير: الجزء الأول من كتاب «الغدير» للعلّامة الأميني، وكذلك «المراجعات» للإمام شرف الدين، المراجعة 58 و60.
(12) منها قوله (صلي الله عليه و آله و سلم) لعلي ـ كما في حديث ابن عباس ـ: «أنت وليُّ كل مؤمن بعدي» (انظر: مسند أحمد بن حنبل، 5/25، ح 3062، ط دار المعارف بمصر)، ومنها: قوله لجماعة وقعوا في علي، والغضب يُبصر في وجهه ـ كما في حديث عمران بن حصين ـ: «ما تريدون من علي؟ إنَّ علياً مني وأنا منه، وهو وليُّ كل مؤمن بعدي» (انظر: جامع الترمذي، 5/296، ح 3796، مصنّف ابن أبي شيبة، كتاب الفضائل ـ فضائل علي (عليه السلام) ح58، ومنها: قوله (صلي الله عليه و آله و سلم) لبريدة الأسلمي: «لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه، وهو وليُّكم بعدي» (انظر: مجمع الزوائد، 9/127، خصائص أمير المؤمنين للنسائي، ص 24 ط مصر).
(13) حديث الأمر بالتسليم على علي (عليه السلام) بأمرة المؤمنين متواتر عند الشيعة، ورواه من أهل السنّة الإمام الطبري في كتاب «الولاية» عن زيد بن أرقم (انظر: الغدير، للأميني، 1/270 ط1 = 1/508 ط مركز الغدير، قم 1416هـ ـ 1995م)، ورواه ابن عساكر عن بريدة الأسلمي، «قال: أمرنا رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أن نسلِّم على علي بأمرة المؤمنين ونحن سبعة وأنا أصغر القوم يومئذٍ» (ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر، 2/260). وهذا الحديث مؤيد بعدة أحاديث أخرى أثبتها محدّثو أهل السنة، منها: حديث أنس بن مالك، قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): يا أنس اسكب لي وضوءاً، ثم قام فصلّى ركعتين، ثم قال: يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد المرسلين، وقائد الغرِّ المحجلين، وخاتمة الوصيين، قال أنس، قلت: الله م اجعله رجلًا من الأنصار وكتمته، إذ جاء علي، فقال: من هذا يا أنس؟ فقلت: علي، فقام مستبشراً فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق علي بوجهه. قال علي: يا رسول لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل؟ قال: وما يمنعني وأنت تؤدي عنّي، وتسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي». روى ذلك الحافظ أبو نعيم في «حلية الأولياء» بسنده عن الحارث بن حصيرة عن القاسم بن جندب عن أنس، وقال في آخره: «روى جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن أنس نحوه» (حلية الأولياء، 1/63 و64). ورواه أيضاً ابن عساكر في تاريخ دمشق (ترجمة الإمام علي في تاريخ ابن عساكر، 2/259). وبذلك يتضح خطأ ما ذكره ابن أبي الحديد بقوله: «وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) بـ «أمير المؤمنين»، خاطبه بذلك جلّة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في أخبار «المحدِّثين» وإن عاد بعد ذلك فقال: «إلّا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى، وإن لم يكن اللفظ بعينه، وهو قول رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «أنت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة»، وفي رواية أخرى: «هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين». واليعسوب: ذكر النحل وأميرها. روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في «المسند» في كتابه «فضائل الصحابة»، ورواهما أبو نعيم الحافظ في (حلية الأولياء)» (شرح النهج، 1/12 ـ 13).


[الصفحة - 103]


إنّ هذه الأحاديث وما شاكلها في دلالتها الواضحة جديرة بأن تقطع كل شك وتزيل أي غموض أو إبهام يمكن أن يحيطا بما هو دونها وضوحاً وصراحةً من سائر أقوال النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم)، وأفعاله الأخرى المأثورة عنه في شأن عليّ (عليه السلام) والتي يصعب حصرها لكثرتها، وحينئذٍ ننفتح على كمٍّ هائل من النصوص الدالّة على إمامته وخلافته يصعب معها كثيراً أن نتصوّر أن الصحابة الذين سمعوها من النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) لم يفهموا منها ذلك!
هذا كلُّه من حيث دلالة تلك الأحاديث في حدِّ ذاتها.
أمّا من حيث ردود أفعال الصحابة تجاهها أو تجاه الشخص المعنيّ بها بعد سماعها من النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) ومواقفهم التي تكشف عمّا فهموه من معناها، فقد حفظت لنا مصادر السنّة والسيرة وتأريخ عصر صدر الإسلام على السواء بعض النصوص وسجّلت بعض المواقف التي تعكس بوضوح فهم الصحابة الكامل، وبالأخص وجوه المهاجرين والأنصار، معنى النصّ والتعيين منها.
فمن ذلك: ما جاء في آخر حديث يوم الدار الذي سبق ذكره بعد قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».
«قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع».
فواضح من ضحك القوم وقولهم لأبي طالب ما قالوه أنهم تعجّبوا من أن يجعل النبي الولاية والخلافة من بعده في الأمر الذي جمعهم لأجله لشاب حديث السنّ على شيوخ قومه وذوي السنّ والمنزلة منهم بمن فيهم أبوه! ولو كان ذلك متعلِّقاً بأمر شخصي بينهما لما كان هناك داع لأن يقول النبي: «فاسمعوا له وأطيعوا»، وما كان هناك من داع لما فعلوه وما قالوه.
ومن ذلك: خبر تهنئة الصحابة عليّاً (عليه السلام) بالولاية بعدما أعلنها رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يوم الغدير وأَمَرهم بالتسليم عليه بأمرة المؤمنين، قال زيد بن أرقم:
«فعند ذلك بادر الناس بقولهم: نعم سمعنا وأطعنا.. وكان أول من صافق
________________________________________

[الصفحة - 104]


النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وعليّاً: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والأنصار وباقي الناس إلى أن صلّى الظهرين في وقت واحد، وامتدّ ذلك إلى أن صلّى العشاءين في وقت واحد، وواصلوا البيعة والمصافقة ثلاثاً» (14).
وللمحدّثين عناية خاصة برواية ما قاله عمر بن الخطاب بالخصوص في تهنئة عليّ (عليه السلام) وهو: «هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» (15)، وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: «بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم» (16).
رووا ذلك عن جمع من الصحابة، منهم: البراء بن عازب، وعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأنس بن مالك (17).
ولا شك في أن وقوع التهنئة، في حدّ ذاتها، فضلًا عن وقوعها بالصيغة التي أمر بها النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم): «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، أو بالصيغة التي قالها عمر بن الخطاب، دليل واضح على أن الصَّحابة قد فهموا من مجموع ما ذكره النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في خطبة الغدير وبالأخص قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» معنى الإمامة والولاية العامة على المسلمين من بعده، إذ لا يناسب التهنئة من المعاني المحتملة لكلمة «مولى» إلّا هذا المعنى.
وممن عكس هذا الفهم لكلمة «مولى» في تهنئته من الصحابة حسان بن ثابت وسجّله شعراً في قصيدة له مشهورة استأذن النبي في إنشادها يومئذٍ، وقال من جملتها:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمٍّ وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ونبيّكم فقالوا: ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا (18)
فلما فرغ من شعره هذا قال له النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم): «لا تزال ياحسان مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (19).
________________________________________
(14)الغدير، للأميني، 1/508 ط مركز الغدير = 1/270 ط الأولى، نقلًا عن كتاب الولاية لمحمد بن جرير الطبري.
(15) المصنّف لابن أبي شيبة، كتاب الفضائل، فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ح55، مسند أحمد بن حنبل، 4/345، ح1508 ط دار الكتب العلمية: بيروت، تفسير الطبري، 3/428.
(16) ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر، 2/76 ح579، مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) لابن المغازلي الشافعي، ص 18، ح24.
(17) انظر في روايات تهنئة عمر عليّاً (عليه السلام) بالولاية: كتاب «الغدير» للأميني، 1/510 ـ 527 ط مركز الغدير، قم، 1416هـ ـ 1995م.
(18) أحصى العلّامة الأميني في كتابه «الغدير» اثني عشر حافظاً من حفّاظ أهل السنّة ممن روى شعر حسّان في حديث الغدير، وستاً وعشرين من حفّاظ الشيعة وعلمائهم، انظر: الغدير، 2/65 ـ 73.
(19) الفصول المختارة من العيون والمحاسن، للشريف المرتضى، ص 290 و291، دار المفيد، بيروت، 1414هـ ـ 1993م.

[الصفحة - 105]


قال الشيخ المفيد: «وممّا يشهد بقول الشيعة في معنى (المولى) وأنّ النبي أراد به يوم الغدير الإمامة، قول حسّان بن ثابت على ما جاء به الأثر... فلولا أنّ النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أراد بالمولى الإمامة لما أثنى على حسّان بإخباره بذلك، ولأنكره عليه وردّه عنه» (20).
ومن ذلك: موقف بعض الصحابة، وكان فيهم عمر بن الخطاب، من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في مرضه الذي توفي فيه لمّا أراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلُّون بعده، فمنعوه من ذلك وأكثروا من اللغو والاختلاف، وقال عمر كلمة أغضبته، فأخرجهم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) من حجرته.
وهذا الموقف سجّلته أوثق مصادر الحديث عند أهل السنّة (21)، وهو الذي سمّاه عبد الله بن عباس «رزية يوم الخميس»، وقد حدث بعد شهرين أو ثلاثة من حادثة غدير خم وحديثها المعروف، ولا شك في أن سببه الوحيد المتصور أنَّهم «علموا أنّه (صلي الله عليه و آله و سلم)، إنما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النصّ بها على عليّ خاصّة، وعلى الأئمة من عترته عامة، فصدُّوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثاني في كلام دار بينه وبين ابن عباس» (22)، قال في آخره: «لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أنّي علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلّا إمضاء ما حتم» (23).
قال ابن أبي الحديد: «ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً» (24).
ومن ذلك: موقف بريدة الأسلمي وقبيلته أسلم لمّا جاءوا بعد بيعة السقيفة، فركَّز بريدة رايته وسط قومه ثم قال: «لا أبايع حتى يبايع عليّ، فقال عليّ (عليه السلام): يا بريدة أدخل في ما دخل فيه الناس فإنّ اجتماعهم أحبّ إليّ من اختلافهم اليوم». روى ذلك إبراهيم بن محمد بن هلال الثقفي(25) بسنده عن سفيان بن فروة عن أبيه (26).
وفي رواية له أخرى عن عبد الله بن الحسن: «أَبَتْ أسلم أن تبايع، وقالوا: ما
________________________________________
(20) م.ن، ص 291.
(21) رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها: كتاب العلم، باب (40) كتابة العلم، ح114، ومنها: كتاب المرض، باب (17) قول المريض: قوموا عنّي، ح 5669، كما رواه مسلم في كتاب الوصية من صحيحه، باب (5) ح 1637.
(22) المراجعات، للإمام شرف الدين، ص 260.
(23)، شرح النهج لابن أبي الحديد، 12/21، وانظر أيضاً: 12/79.
(24)، شرح النهج لابن أبي الحديد، 12/21، وانظر أيضاً: 12/79.
(25) صاحب كتاب «الغارات» من علماء القرن الثالث، نشأ بالكوفة وانتقل إلى أصفهان ومات بها سنة 283هـ (الوافي بالوفيات، 6/220).
(26)، الشافي في الإمامة، 2/243 و244.

[الصفحة - 106]


كنا نبايع حتى يبايع بريدة؛ لقول النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) لبريدة: «علي وليّكم من بعدي»، فقال عليّ (عليه السلام): يا هؤلاء إن هؤلاء خيّروني أن يظلموني حقّي وأبايعهم أو ارتدّت الناس حتى بلغت الردة أحداً، فاخترت أن أُظلم حقّي وإن فعلوا ما فعلوا» (27).
فلولا أنّ بريدة وقومه فهموا من قول النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم): «علي وليّكم من بعدي» النصّ على ولايته لأمور المسلمين وخلافته فيهم من بعده لما امتنعوا من مبايعة غيره حتى يأذن لهم هو بذلك.
ومن ذلك: ما عكسته بعض النصوص التاريخية التي تحدّثت عن قضية الخلافة بعد النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) ووصفت اتجاهات الرأي العام في مجتمع الصحابة يومئذ في هذه القضية، ومن الذي كان عامة المهاجرين والأنصار يتوقعون تولّيه للخلافة ويعتقدون أنه هو المعهود إليه بها من النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) دون غيره، فمنها:
ما رواه الزبير بن بكّار عن محمد بن إسحاق، قال: «وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، فقال الفضل بن العباس: يا معشر قريش، وخصوصاً يا بني تيم، إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها دونكم، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتنا لغيرنا؛ حسداً منهم لنا وحقداً علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه» (28).
ومنها: ما رواه الزبير أيضاً عن «محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة، قال: حدّثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قال: لمّا بويع أبو بكر واستقرّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا عليّ بن أبي طالب، وهتفوا باسمه، وإنّه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام»(29).
وعكس الطبري في تاريخه وأبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة (30) ما يقرب من هذه الصورة عن اعتقاد الصحابة أو جلّهم، في الأقل، بحق عليّ (عليه السلام) بالخلافة، وهذا الاعتقاد يستند بالطبع إلى أدلة عرفوها ونصوص سمعوها من النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم). وفي عبارة الفضل بن العباس التي تضمنتها الرواية الأولى تصريح
________________________________________
(27) الشافي في الإمامة، 2/243 و244.
(28) شرح النهج، 2/21.
(29) م.ن، 2/23.
(30) تاريخ الطبري: 3/202، شرح النهج، 2/49.

[الصفحة - 107]


بذلك. وهو يتفق تماماً مع ما ذكره علي (عليه السلام) نفسه في كتاب بعثه إلى أهل مصر قال من جملته: «فلمّا مضى (عليه السلام) تنازع المسلمون الأمر من بعده، فو الله ما كان يلقى في رُوعي ولا يخطر ببالي أنَّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلي الله عليه و آله و سلم) عن أهل بيته ولا أنّهم مُنَحُّوه عنِّي من بعده..» (31).
ومن ذلك: ما كاشف به عمر بن الخطاب عبد الله بن عباس في غير مرّة، من أنّ علياً (عليه السلام) كان هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ولكن قريشاً منعته منه، وما صرّح به ابن عباس لعمر من أن الله هو الذي اختار عليَّاً لخلافة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم).
ومن روايات هذه المكاشفة والمصارحة: ما رواه الطبري عن ابن عباس، وروى مثله ابن أبي الحديد عن عبد الله بن عمر، قالا: «فقال (أي عمر): ياابن عباس أتدري ما منع قومكم منهم (من أهل البيت) بعد محمد؟ فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يُدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة، فتبجَّحوا على قومكم بَجَحاً بَجَحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفِّقتْ. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام، وتُمِطْ عني الغضب تكلَّمتُ. فقال: تكلَّم يابن عباس، فقلت: أمّا قولك يا أميرَ المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة، فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال: {ذَلِكَ بأنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أنْزَلَ الله فَأحْبَطَ أعْمَالَهُمْ} .
فقال عمر: هيهات و الله ياابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أفُرّك عنها، فتزيل منزلتك مني؛ فقلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلًا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً! فقلت: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: ظلماً؛ فقد تبيّن للجاهل والحليم، وأما قولك: حسداً، فإنّ إبليس حسد آدم؛ فنحن ولده المحسودون؛ فقال عمر: هيهات! أبت و الله قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسداً ما يحول، وضِغْناً وغشّاً ما يزول...» (32).
________________________________________
(31) نهج البلاغة، كتاب 62.
(32) تاريخ الطبري، 4/223، شرح النهج، 2/53.

[الصفحة - 108]


ومن روايات هذه المكاشفة ما روي عن ابن عباس أيضاً: «قال: دخلت على عمر يوماً فقال: يا ابن عباس، لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته، رياءً. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمِّك ـ يعني علياً ـ قلت: وما يقصد بالرياء أميرَ المؤمنين؟ قال: يرشّح نفسه بين الناس للخلافة، قلت: وما يصنع بالترشيح! قد رشّحه لها رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) فصرفت عنه. قال: إن كان شاباً فاستصغرت العرب سنّه، وقد كمل الآن...».
قال ابن أبي الحديد: «نقلت هذا الخبر من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب» (33).
ومن رواياتها أيضاً: ما ذكره أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة عن ابن عباس، قال: «قال لي: يا ابن عباس، أما و الله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، إلّا أنّا خفناه على اثنين... فقلت: ما هما يا أمير المؤمنين؟ قال: خفناه على حداثة سنّه، وحبّه بني عبد المطلب» (34).
ومن رواياتها أيضاً: ما ذكره الراغب الأصفهاني في «محاضرات الأدباء» عن ابن عباس، قال: «كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس، فقرأ آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب، فقال: أما و الله يا بني عبد المطلب لقد كان عليٌّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر، فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلته، فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين، وأنت وصاحبك وثبتما وافترعتما الأمر منَّا دون الناس؟... فقال: إنّا و الله ما فعلنا الذي فعلناه عن عداوة، ولكن استصغرناه وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.
قال: فأردت أن أقول: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يبعثه، فينطح كبشها، فلم يستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك؟
فقال: لا جرم، فكيف ترى؟ و الله ما نقطع أمراً دونه، ولا نعمل شيئاً حتى نستأذنه» (35).
ومن ذلك: ما كاشف به عثمان بن عفّان عليّاً (عليه السلام) وعبد الله بن عباس في غير مرّة أيضاً من أن الأمر (الخلافة) قد جعله رسول الله لعليّ، ومن روايات ذلك:
________________________________________
(33) شرح النهج، 12/80.
(34) شرح النهج، 6/50، وانظر أيضاً، 12/82.
(35) محاضرات الأدباء، 4/478.

[الصفحة - 109]


ما رواه الواقدي في كتاب «الشورى» عن ابن عباس، قال: «شهدت عِتَاب عثمان لعليٍّ (عليه السلام) يوماً، فقال له في بعض ما قاله: نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً! فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتَك لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، ولستَ بدون واحد منهما، وأنا أمسّ بك رَحِماً، وأقرب إليك صهراً، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لك، فقد رأيناك حين تُوفّي نازعتَ ثم أقررت...
فقال عليّ (عليه السلام): أما الفرقة، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً، وأُسهِّل إليها سبيلًا، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه، وأهديك إلى رشدك، وأما عتيق وابن الخطاب فإن كانا أخذا ما جعَله رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لي، فأنت أعلم بذلك والمسلمون، ومالي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين...» (36).
ومن رواياته: ما أخرجه الزبير بن بكار في «الموفَّقيات» في حوار طويل دار بين عثمان وابن عباس، قال عثمان من جملته: «ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فو الله ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه!». وقال ابن عباس من جملته: «وأما صرف قومنا عنّا الأمر فعن حسدٍ قد و الله عرفته، وبغيّ قد و الله علمته، ف الله بيننا وبين قومنا!» (37).
وصفوة المعنى الذي نخلص إلى تأكيده، في ضوء ما سبق من نصوص ومواقف، هو: إنّ الصحابة ـ خلافاً لما يدّعيه «الكاتب» ـ قد فهموا من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) معنى النصّ على إمامة عليّ (عليه السلام) وخلافته؛ لأنّ النصوص، من جانب، إمّا بمجردها، أو بوساطة ما يحفّ بها من قرائن وشواهد، كانت تقتضي منهم، بوصفهم من أهل اللغة، ذلك الفهم؛ ولأن الصحابة، من جانب آخر، قد عكسوا ذلك الفهم وسجّلوه على أنفسهم تاريخياً في ردود أفعالهم ومواقفهم من تلك النصوص سواء في حياة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أم بعد وفاته.
أسباب مخالفة نصوص الإمامة
ويبرز هنا سؤال مهمّ، وهو: لماذا، إذن، خالف الصحابة تلك النصوص وبايعوا أبا بكر بالخلافة بعد وفاة الرسول؟
هناك جوابان على هذا السؤال يمكن استخلاصهما من النصوص التي سبق
________________________________________
(36) شرح النهج، 9/15. و(عتيق) هو اسم أبي بكر.
(37) الموفقيات، 606، تحقيق الدكتور سامي العاتي، منشورات الشريف الرضي، قم: 1416هـ، وانظر أيضاً، شرح النهج: 9/9.

[الصفحة - 110]


عرضها، والتي عكست موقف بعض الصحابة الذين أسَّسوا لهذه المخالفة وتزعَّموها تجاه قضية النصّ على إمامة علي (عليه السلام) وخلافته للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، كما عكست أيضاً، في مقابل ذلك، موقف علي (عليه السلام) وابني عمِّه: عبد الله بن عباس، وأخيه الفضل:
أحدهما: جواب أولئك الصحابة، ويتلخّص في ثلاثة أسباب:
الأول: إنهم خافوا أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم فيطغون ويفخرون على سائر بطون قريش.
الثاني: إنّهم استصغروا سنّ علي (عليه السلام) وكبُر عليهم أن يولّوه عليهم وفيهم الشيوخ وزعماء البطون.
الثالث: إنهم خافوا حدوث الفتنة؛ لأنَّ علياً قد وَتِر قريشاً في معارك الإسلام وقتل قادتها وأبناءها، فمن المحتمل أن تنتفض عليه ولا تطيعه ويتعرّض الإسلام بذلك للخطر.
والآخر: جواب علي (عليه السلام) وعبد الله بن عباس وأخيه الفضل، ويتلخّص في سببين:
الأول: الحسد الناشى من حبّ الرئاسة.
الثاني: العداوة والأحقاد القديمة.
ومن الواضح أن الجواب الأول هو محاولة من أصحابه للاعتذار عن مخالفة النصوص بأنَّها كانت مبنية على اجتهاد منهم ورؤية استصلاحية تستهدف مصلحة الإسلام وتجنيب الكيان الاجتماعي الإسلامي الجديد أيَّ هزة داخلية تعرّضه لخطر الانقسام أو الارتداد، وبالتالي فهي ـ من وجهة نظرهم ـ مخالفة مشروعة، ولا تستلزم تفسيقاً أو تكفيراً لأصحابها.
لكنّ المنظِّرين للعقيدة السياسية السنِّية المبنيّة على شرعنة حكم الخلفاء على كل تقدير، والتماس الأعذار لمن أيّدهم من الصحابة وسوَّغ موقفهم في تجاوز نصوص النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في شأن من يخلفه لم يأخذوا بهذا الجواب؛ لأنَّهم أدركوا أنّ فيه اعترافاً بمخالفة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) على أية حال، واجتهاداً في مقابل نصوصه؛ الأمر الذي
________________________________________

[الصفحة - 111]


قد يجرّ إلى تفسيق هؤلاء، فآثروا بدلًا من ذلك إنكار دلالة النصوص من الأساس، ونفي أن يكون الخلفاء أو أحدٌ من الصحابة قد فهموا منها النصّ على إمامة علي (عليه السلام) وخلافته للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، وبالتالي فهم لم يرتكبوا خطأً، ولم يخالفوا نصّاً جليّاً أو خفيّاً من نصوص النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم)، معتمدين في ذلك، من نحوٍ أول، على تأويل تلك النصوص، ومن نحوٍ ثانٍ، على مقولة عدالة الصحابة واستحالة مخالفتهم للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) (38).
وقد اقتفى «الكاتب» أثر هؤلاء المنظِّرين في كلا طريقيهم هذين، وهو معصوب العينين من دون أن يكلّف نفسه محاولة إقناع القارى بما أوّلوا به تلك النصوص، أو بما سوّغوا به تلك المقولة!
الملاحظة الثالثة: تشكيك «الكاتب» في صدور حديث الغدير وغيره من نصوص الإمامة
تتعلَّق هذه الملاحظة بقول «الكاتب»، بعد العبارة التي ناقشناها في الملاحظة السابقة: «ولذلك اختاروا طريق الشورى، وبايعوا أبا بكر كخليفة (كذا) من بعد الرسول، مما يدل على عدم وضوح معنى الخلافة من النصوص الواردة بحق الإمام علي، أو عدم وجودها في ذلك الزمان».
ومحل الملاحظة من هذا القول هو قوله: «أو عدم وجودها في ذلك الزمان»، فهذا القول يؤكد ما سبقت الإشارة إليه في نهاية الملاحظة الثانية من اقتفاء «الكاتب» أثر منظِّري العقيدة السياسية السنِّية في تسويغ مبايعة أبي بكر بالخلافة على قاعدة القول بعدالة الصحابة، ويزيد عليه خطوة أبعد في ذلك الاتّجاه بتشكيكه في صدور نصّ الغدير وما شاكله من نصوص الإمامة والخلافة من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) من الأساس، وإثارة احتمال كون تلك النصوص موضوعة ومختلقة من قبل الشيعة في زمن متأخر عن زمن الصحابة.
و «الكاتب» يريد بذلك أن يحصر قارئه بين خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا مصادرة فهمه اللغوي لنصوص الإمامة وما يحفّ بها من قرائن وشواهد لغوية وحالية توضِّح معناها وتؤكِّده، أو مصادرة تلك النصوص نفسها وإسقاطها جميعاً من الاعتبار! وهذا
________________________________________
(38) قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه (المغني): «إنّ ما جرت عليه أحوال الصحابة يمنع من ادّعاء هذا النصّ (النصّ على عليّ (عليه السلام) بالإمامة) في الأصل؛ لأنه لو كان صحيحاً.. لكان يجب أن يكون معلوماً لجميعهم، ولو كان كذلك لكانت الأمور التي جرت في الإمامة لا تجري على الحدِّ الذي جرت عليه، بل كان يجب أن يكونوا مضطرين إلى معرفة إمامة أمير المؤمنين كاضطرارهم إلى أنّ صلاة الظهر واجبة، وصوم شهر رمضان واجب، وحجّ البيت واجب، ولو كان كذلك ما صحّ ما قد ثبت عنهم من مواقف الإمامة والمنازعة فيها... ولا يمكن بعد ذلك إلّا نسبة جميعهم إلى الارتداد والنفاق» نقلًا عن (الشافي في الإمامة) ملخّصاً، 2/125. وقال المرتضى (ره) في جواب ذلك: «الذي يذهب إليه أصحابنا وهو الذي أشار إليه أبو جعفر ابن قبة، رحمه الله ، في كتابه المعروف بـ «الإنصاف»: «أن الناس بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لم يكونوا دافعين بأسرهم للنصّ وعالمين بخلافه مع علمهم الضروري به، وإنّما بادر قوم من الأنصار لما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) إلى طلب الإمامة، واختلفت كلمة رؤسائهم بينهم، واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرين، فقصدوا السقيفة عاملين على إزالة الأمر عن مستحقِّه، والاستبداد به، وكان الداعي لهم إلى ذلك غلبة رغبتهم في عاجل الرئاسة، والتمكّن من الحلّ والعقد، وانضاف إلى هذا الداعي ما كان في نفس جماعة منهم من الحسد لأمير المؤمنين (عليه السلام) والعداوة له لقتل من قتل من آبائهم وأقاربهم، ولتقدّمه واختصاصه بالفضائل الظاهرة، والمناقب الباهرة، التي لم يخل من اختصّ ببعضها من حسد وغبطة، وقصدٍ بعداوة، وأنسهم بتمام ما حاولوه بعض الأنس تشاغُل بني هاشم بمصيبتهم وعكوفهم على تجهيز نبيّهم (عليه السلام) فحضروا السقيفة ونازعوا في الأمر وقووا على الأنصار وجرى ما هو مذكورٌ. فلما رأى الناس فعلهم وهم من وجوه الصحابة ممن يحسن الظنّ بمثله وتدخل الشبهة بفعله توهّم أكثرهم أنهم لم يتلبسوا بالأمر ولا أقدموا فيه على ما أقدموا عليه إلّا بعذر يسوّغ لهم ذلك ويجوّزه، فدخلت عليهم الشبهة، واستحكمت في نفوسهم، ولم ينعموا النظر في حلّها فمالوا ميلهم، وسلموا لهم، وبقي العارفون بالحقّ والثابتون عليه غير متمكّنين من إظهار ما في نفوسهم، فتكلّم بعضٌ ووقع منهم من النزاع ما قد أتت به الرواية، ثم عادوا عند الضَّرورة إلى الكفّ والإمساك وإظهار التسليم مع إبطان الاعتقاد للحقّ، ولم يكن في وسع هؤلاء إلّا نقل ما علموه وسمعوه من النصّ إلى أخلافهم ومن يأمنونه على نفوسهم فنقلوه، وتواتر الخبر به عنهم» (الشافي، 2/126 و127).

[الصفحة - 112]


ما لم يفعله أشد غلاة السلفية ومتعصِّبيهم في مواقفهم من تلك النصوص، فقصارى ما فعله هؤلاء ـ إلى جانب تأويل مفاد تلك النصوص بالقول إن النبي قصد بها إلى تسجيل فضائل علي وأهل بيته والتنويه بمناقبهم وليس النص على إمامتهم وخلافتهم ـ هو التشكيك بصدور آحادٍ من تلك النصوص والقول بضعف أسانيدها، أما التشكيك بصدورها جميعاً والقول بوضعها واختلاقها في زمن متأخر عن زمن الصحابة جملة وتفصيلًا، فهذا ما لم يفعله حتى ابن تيمية والجبهان (39).
مناقشة الشبهتين السَّادسة والسَّابعة: (دخول الإمام علي (عليه السلام) في عملية الشورى التي أعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطّاب، ـ ومحاججته لأهلها بفضائله وعدم إشارته إلى موضوع النصّ عليه، يدلّان على التزامه بنظام الشورى).
هقال «الكاتب»: «وممّا يؤكِّد كون نظام الشورى دستوراً كان يلتزم به الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعدم معرفته بنظام الوراثة الملكية العمودية في أهل البيت، هو دخول الإمام في عملية الشورى التي أعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، ومحاججته لأهل الشورى بفضائله ودوره في خدمة الإسلام، وعدم إشارته إلى موضوع النصِّ عليه أو تعيينه خليفة من بعد الرسول، ولو كان حديث الغدير يحمل هذا المعنى لأشار الإمام إلى ذلك، وحاججهم بما هو أقوى من ذكر الفضائل»ق (40).
إنّ الشبهتين اللَّتين تضمّنهما كلام «الكاتب» السابق أثارهما المعتزلة في سجالهم الكلامي مع الشيعة الإمامية منذ القدم، وقد سجّلهما القاضي عبد الجبار (41) المعتزلي في كتابه «المغني» حكاية عن أبي هاشم الجُبَّائي (42)، حين قال:
«وكيف رضي أمير المؤمنين أن يكون في الشورى مع ما ترون (43) فيه من القول حالًا بعد حال؟ وكيف جاز أن لا ينكر على عمر قوله: إن وُلِّيت من أمر المسلمين شيئاً فلا تحمل بني هاشم على رقاب الناس؟ وهلّا قال له: أنا إمام المسلمين، وقد عرفت النصّ عليَّ والإشارة إليّ، فليست لي حاجة إلى أن أُولَّى؟! فكيف لم يذكر هذا النصّ الظاهر فيعتدّه في مناقبه حتى صار الأمر إليه، وفي وقت الحاجة، مع أنه كان يعدّ مناقبه في المحافل والمشاهد في أيام معاوية وقبله؟» (44).
________________________________________
(39) يمكن الوقوف على تواتر حديث الغدير وحديث الثقلين واستفاضة غيرهما من نصوص الإمامة وصحة أسانيدها في مصادر أهل السنة في العديد من المؤلّفات المخصّصة لذلك، ومن أهمها:1 ـ الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، للشيخ عبد الحسين الأميني.2 ـ حديث الثقلين، إصدار دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة.3 ـ عبقات الأنوار في مناقب الأئمة الأطهار للسيد مير حامد حسين.4 ـ غاية المرام، للسيّد هاشم البحراني.5 ـ إحقاق الحق، للسيّد المرعشي التستري.6 ـ دلائل الصدق، للشيخ محمد حسن االمظفر.7 ـ المراجعات، للسيّد عبد الحسين شرف الدين.
(40) تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 23.
(41) عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسد آبادي، قاضي القضاة، كان شيخ المعتزلة في عصره، ولي القضاء بالريّ ومات فيها سنة 415هـ. (الأعلام للزركلي، 3/273 و274).
(42) أبو هاشم الجبّائي: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفّان، كان هو وأبوه أبو علي الجبائي من رؤساء المعتزلة في عصرهما، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت «البهشمية» نسبة إلى كنيته. توفي سنة 321هـ، و«جُبّى» بالضم ثم بالتشديد والقصر بلد أو كورة من عمل خوزستان (الكنى والألقاب، للشيخ عباس القمي: 2/141 و142، الأعلام: 4/7 و8).
(43) في الشافي: «تردَّد».
(44) المغني في أبواب التوحيد والعدل، الجزء المُتِم العشرين (في الإمامة)، القسم الأول، ص 122، الدار المصرية للتأليف والترجمة، د.ت.

[الصفحة - 113]


أسباب دخول الإمام عليّ (عليه السلام) في الشورى
وقد أجاب علماء الشيعة السابقون على الشبهة الأولى، وهي دخول الإمام علي (عليه السلام) في الشورى التي شكّلها عمر بن الخطاب قبيل وفاته لاختيار الخليفة من بعده بثلاثة أجوبة تضمّنت ثلاثة وجوه أو أسباب دفعت الإمام (عليه السلام)، جميعها أو بعضها، للدخول في تلك الشورى، نقلها عنهم المرتضى في كتابه «الشافي»، وهي:
الوجه الأول: «إنّه (عليه السلام) إنما دخلها ليتمكّن من إيراد النصوص عليه والاحتجاج بفضائله وسوابقه وما يدل على أنه أحق بالأمر وأولى، وقد علمنا أنه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدىء بالاحتجاج، وليس هناك مقام احتجاج وبحث، فجعل (عليه السلام) دخوله ذريعة إلى التنبيه على الحق، بحسب الإمكان على ما وردت به الرواية؛ فإنّها وردت بأنّه (عليه السلام) عدَّد في ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو ذكّر بها».
الوجه الثاني: «إنه (عليه السلام) جوَّز أن يسلّم القوم الأمر له، ويذعنوا لما يورده من الحجج عليهم، بحقّه فجعل الدّخول في الشورى توصّلًا إلى مستحقه، وسبباً إلى التمكين من الأمر والقيام فيه بحدود الله ، وللإنسان أن يتوصّل إلى حقّه ويتسبَّب إليه بكلّ أمر لا يكون قبيحاً».
الوجه الثالث: «إنَّ السَّبب في دخوله (عليه السلام) كان التقيّة والاستصلاح؛ لأنّه (عليه السلام) لما دُعي إلى الدخول في الشورى أشفق من أن يمتنع فيتسبّب منه الامتناع إلى المظاهرة والمكاشفة، وإلى أن تأخر من الدخول (كذا) في الشورى إنّما كان لاعتقاده أنّه صاحب الأمر دون من ضمّ إليه، فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على إظهار الرضا والتسليم» (45).
ولعلّ الوجه الأخير من هذه الوجوه الثلاثة يحتاج وحده دون الوجهين الأوَّلين إلى مزيدٍ من البيان والإيضاح ليتبيَّن في ضوء ذلك تماماً المعنى المقصود من التقيَّة والاستصلاح اللذين دفعا الإمام ـ بحسب هذا الوجه ـ للدخول في عملية الشورى.
وقبل ذلك لا بدَّ من أن نضع في الحسبان حقيقة مهمَّة لها أثرها الكبير في
________________________________________
(45) الشافي، 2/151 و152.

[الصفحة - 114]


معرفة مصدر الالتباس وسوء الفهم في هذه الشبهة، وفي فهم حسابات الإمام علي ودواعيه ـ أياً يكن نوعها وحقيقتها ـ التي أفضت به إلى الدخول في عملية الشورى ومبايعة الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وهذه الحقيقة هي:
الفرق بين الإمامة وتولّي سلطة الخلافة
إنّ الإمامة الثابتة لعلي وبقية أئمة العترة الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام) بموجب النصوص الشرعية هي في جوهرها منصب إلهي يعيّن الله صاحبه من خلال النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ليستحفظه علوم الوحي والتنزيل وسنن الهدي النبوي وليكون امتداداً له في القيمومة على رسالته حتى لا تخلو الأرض من حجَّة ومن شهيدٍ على الناس.
وهذا المنصب هو امتداد لمنصب النبوَّة وشبيه به من حيث وظيفته ومسؤولياته إلّا من حيث عدم تلقِّي صاحبه للوحي، كما يقتضي ذلك قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»، أو قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه» (45) وغير ذلك.
كما أن هذا المنصب ثابت ومستمر في حياة البشرية على الأرض، ولا يستطيع أحد أن يجرِّد الإمام منه أو يمنعه عنه، وذلك بمقتضى قوله (صلي الله عليه و آله و سلم):
«إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردّا عليَّ الحوض..».
وقوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».
وقوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي» (47).
فهذه النصوص لا معنى محصَّل لها إلّا بناء على استمرار منصب الإمامة من بعد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في عترته وأهل بيته.
وتتفرَّع عن هذا المنصب الإلهي وتترتَّب عليه، من الناحية العمليَّة، مسؤوليتان أو وظيفتان للإمام (عليه السلام):
________________________________________
(45) الشافي، 2/151 و152.
(46) انظر في دلالة هذه الأحاديث على إمامة علي (عليه السلام): الغدير، للأميني: 1/609 وما بعدها، المراجعات: المراجعة (30 ـ 34) و(58 ـ 60)، دلائل الصدق، 2/251 ـ 254.
(47) انظر: دلائل الصدق، 2/304 ـ 310، 311 ـ 314، الأصول العامة للفقه المقارن، للسيد محمد تقي الحكيم، ص 164 ـ 187، مذهب الإمامية، للدكتور عبد الهادي الفضلي، ص 29 ـ 48، مركز الغدير، بيروت، 1417هـ ـ 1996م.

[الصفحة - 115]


إحداهما: تبليغ الناس ما استحفظهم النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) من علوم الوحي والتنزيل ومن أحكام هديه وسنَّته، وتحديد موقفهم في ضوء ذلك من مختلف القضايا التي تواجههم.
والأخرى: خلافة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في الحكم والولاية على أمور المسلمين العامة.
كل ذلك بمقتضى النصوص السابقة وغيرها أيضاً.
وهاتان الوظيفتان ثابتتان للإمام نظرياً، ولكنه قد لا يتمكن من القيام بهما عملياً، كليّاً أو جزئياً. فوظيفة خلافة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في حكم الأمة الإسلامية والولاية على أمورها السياسية والاجتماعية قد مُنع الأئمة (عليهم السلام) من القيام بها وأقصوا عنها تماماً باستثناء مدة قصيرة من حياة الإمام علي (عليه السلام) بعد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم).
أمَّا وظيفة تبليغ ما استُحفظوا من علوم الوحي وسنن الهدي النبوي وتحديد الموقف الشرعي للناس، في ضوء ذلك، من مختلف القضايا والوقائع التي تواجههم، فقد سمحت الظروف والأوضاع السياسية المتفاوتة في لينها وشدّتها لهم بالقيام بها حيناً إلى حدٍّ غير قليل، وحيناً إلى حدٍّ قليلٍ جداً، ولم تسمح بالقيام بها في حين ثالث مطلقاً حتى أفضى التدبير الإلهي أخيراً إلى غيبة الإمام الثاني عشر وتواريه عن الأنظار.
والنتيجة التي نستخلصها في ضوء جميع ما تقدم هي: إنَّ الإمامة لا تعني فقط خلافة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في الحكم، ولا تقتصر وظيفتها على قيادة الأمة الإسلامية سياسياً واجتماعياً فحسب، فهذه لا تمثِّل إلّا جانباً، من مسؤوليات الإمام ووظائفه، ولا تتعدَّى كونها أثراً واحداً من آثار منصبه الإلهي لا أكثر، فإذا حصل ما يمنع الإمام من القيام بوظيفته هذه وأكرهه ذلك على الإغضاء عن حقّه في ممارسة الحكم والسكوت عن المطالبة به، بل وحتى القبول بتولّي غيره للحكم بدلًا منه، فإنّ ذلك لا يعني أنّه قد تخلّى عن منصبه الإلهي في الإمامة بوصفه حجةً على الخلق وشهيداً على الناس بعد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، ولا يتنافى مع اعتقاده في نفسه أنه هو صاحب هذا المنصب وصاحب الحق في ممارسة ما يترتب عليه من مسؤوليات ووظائف وإن مُنع من بعضها.
________________________________________

[الصفحة - 116]


وهذا ما حدث تماماً للإمام علي (عليه السلام) حينما مُنع من حقِّه في الحكم بعد وفاة النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم)، ووجد نفسه مضطراً بحكم الظروف والأوضاع السياسية المحيطة به إلى مبايعة الخليفة الأول ومن بعده الخليفة الثاني، ثم الدخول في الشورى لاختيار الخليفة الثالث ومن ثم مبايعته هو أيضاً.
وبذلك يتَّضح مصدر الالتباس وسوء الفهم في هذه الشبهة ولا يبقى مسوِّغ لطرحها من الأساس.
دخول الإمام (عليه السلام) الشورى تقيَّةً واستصلاحاً
ويبقى، بعد ذلك، أن نبحث في الأسباب والظروف التي أجبرت الإمام (عليه السلام) على الدخول في الشورى، وبذلك نعود إلى النقطة التي بدأنا منها مناقشتنا لهذه الشبهة، وهي إيضاح المعنى المقصود من التقية والاستصلاح اللذين دفعا الإمام للدخول في الشورى، حسب الوجه الثالث من الوجوه التي فُسِّر بها ذلك، فنقول باختصار:
إنّ الأسباب التي دعت الإمام علي (عليه السلام) للدخول في عملية الشورى هي، من حيث الجوهر، الأسباب نفسها التي دعته من قبلُ إلى الكفِّ عن المنازعة في أمر الخلافة ومبايعة الخليفة الأول ومن بعده الخليفة الثاني، والتي كانت، باختصار، عبارة عن:
أولًا: تجنّب حدوث فتنة في الصَّفّ الإسلامي تتمثَّل في مواجهة مسلّحة مع السلطة الفعلية وقاعدتها القرشية، كان الإمام يقدِّر أنّها سوف تقع إذا ما استمرّ في معارضته وإحجامه عن البيعة، وطالب علناً بحقِّه في الخلافة، وهو ما أسماه المرتضى بـ «المظاهرة والمكاشفة»، وتكون نتيجتها المحتومة قتله وقتل أنصاره القليلين وضياع حقِّه وحقِّ عترته نهائياً في الخلافة. وهذا هو المقصود في كلام المرتضى بـ «التقيّة».
ثانياً: مراعاة مصلحة الإسلام العليا في تلك المرحلة من تاريخ الأمة الإسلامية التي كانت تستدعي توحيد صفوف المسلمين وإسناد السلطة الفعلية ـ التي لم يكن
________________________________________

[الصفحة - 117]


من الممكن تغييرها على أية حال ـ في مواجهة خطر المرتدِّين والمنافقين الذين قوي تحرّكهم ضد الإسلام بعد تولِّي أبي بكر للخلافة واستمر حتّى قبيل وفاته، وفي دعم حركة الفتح الإسلامي التي أخذت بالتنامي والاتساع بعد تولّي عمر بن الخطاب الخلافة. وهذا هو المقصود في كلامه بـ «الاستصلاح».
وحينما نصل إلى دخول الإمام (عليه السلام) في الشورى، ونبحث عن وجود هذه الأسباب وراءه، فإنّنا نجدها لا تزال باقية على رغم مرور حوالى ثلاثة عشر عاماً على حدوثها، بل إنّ مرور تلك المدة وما حصل فيها من تطوّر في الأوضاع السياسية والاجتماعية قد قوّى هذه الأسباب وأكّدها، وذلك لاعتباراتٍ عديدة:
أولها: إنّ سلطة الخلافة القائمة قد ترسّخت قوتها وتعاظمت هيبتها خلال تلك المدة، لا سيما في عهد الخليفة الثاني الذي أدار الحكم بحزمٍ وقوّة، وبسط سلطة الدولة الإسلامية على مساحة واسعة من العالم خارج حدود الجزيرة العربية، وحقّق لها بفضل الفتوحات التي قام بها رخاءً اقتصادياً لم تكن تتمتع به في بداية عهده وفي عهد الخليفة الأول الذي سبقه.
كلُّ ذلك قد ضاعف بالطبع من حصانة هذه السلطة ضد أي معارضة لها يبديها الإمام علي (عليه السلام) تأخذ أسلوب المجاهرة بعدم شرعيتها والتحدّي لقرارها القاضي بإدخاله في الشورى وإلزامه بنتيجتها وبالآليَّة المحدّدة لعملها؛ ذلك القرار الذي شكّل عنصر الإلزام الصريح فيه والمدعوم بإجراءات مسلَّحة مسوِّغاً كافياً للإمام (عليه السلام) لعدم مخالفته وتحدّيه؛ نعرف ذلك من رواية حادثة تشكيل الشورى التي تُجمع عليها المصادر التاريخية، والتي ورد فيها قول الخليفة الثاني لأبي طلحة الأنصاري:
«يا أبا طلحة، إنّ الله عزّ وجلّ طالما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلًا من الأنصار؛ فاستحِثّ هؤلاء الرّهط حتى يختاروا رجلًا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حُفْرتِي فاجمع هؤلاء الرّهط في بيت حتى يختاروا رجلًا منهم، وقال لصُهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قَدِم؛ وأحضِر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من
________________________________________

[الصفحة - 118]


الأمر؛ وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة ورضُوا رجلًا وأبى واحد فاشدَخْ رأسه ـ أو اضرب رأسه بالسيف ـ وإن اتّفق أربعة فرضُوا رجلًا منهم وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما، فإن رضيَ ثلاثةٌ رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم، فحكّموا عبدَ الله بن عمر؛ فأيّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلًا منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس» (48).
ثانيها: إنّ سلطة الخلافة القائمة تمكَّنت مع مرور الزمن من تعزيز شرعيتها في نظر الناس بفضل بقائها في الحكم مدة كافية، وإدارتها الناجحة لشؤونه بصفة عامة من جهة، وبفضل السياسة الصارمة التي اتبعتها في منع تدوين السنَّة النبوية الشريفة والتشدُّد في روايتها حتى لا تظهر النصوص الدالّة على حقّ الإمام علي (عليه السلام) بالخلافة من جهة أخرى. وبذلك صار من الصعب على الإمام (عليه السلام) تحدّي شرعية تلك السلطة والمجاهرة ببطلان الأساس الذي قامت عليه من خلال رفضه الدخول في عملية الشورى.
وممّا يشير إلى ما أحرزته سلطة الخلافة من نجاح في تعزيز شرعيتها اشتراط عبد الرحمن بن عوف، الذي آل إليه أمر اختيار الخليفة الجديد بعد عمر في نهاية مباحثات الشورى، على عليّ (عليه السلام) وعثمان العمل وفق سيرة الشيخين لكي يسلَّم من يقبل منهما بهذا الشرط مقاليد الخلافة (49)، الأمر الذي يدلّ على أنَّ شرعية خلافة الشيخين أصبحت أمراً مقرّراً في أذهان الناس، بل إن خلافتهما أصبحت مثالًا يحتذى به.
ثالثها: إنّ ما تحقق من إنجازات في المدة السابقة من عمر الدولة الإسلامية، سواء على صعيد بنائها واستقرارها الداخلي، واستئصال شأفة الشرك والكفر في محيطها العربي القريب من مركزها، أم على صعيد توسّع رقعتها الجغرافية وانتشار الإسلام في العالم الخارجي بوساطة الفتوحات التي قامت بها على حساب أمبراطوريتي الروم والفرس وديانتيهما الرئيسيتين، النصرانية والمجوسية، إن كلّ ذلك قد أكّد للإمام نظرته الاستصلاحية التي بنى عليها سابقاً موقفه في مسالمة سلطة الخلافة القائمة وإطاعتها ما دامت غير متجاوزةٍ إلّا على حقِّه الخاص في الخلافة،
________________________________________
(48) تاريخ الطبري، 4/229.
(49) المصدر نفسه، 4/233.

[الصفحة - 119]


وجعله يحرص أكثر من السابق على تماسك الجبهة الداخلية وعدم تصديعها بنزاع على السلطة يؤثر سلباً على ما تحقق للدولة الإسلامية من مكاسب وإنجازات وما ينتظرها من مسؤوليات.
أسلوب الإمام في المطالبة بحقّه في مباحثات الشورى
تلك إذن هي الظروف والأسباب التي جعلت الإمام علي (عليه السلام) ـ بحسب الوجه الثالث من الوجوه التي سبق ذكرها ـ يتفاعل مع قرار إدخاله في الشورى، وباتّضاحها تتّضح أيضاً الظروف والأسباب التي جعلته يكتفي في محاججة أهل الشورى بتذكيرهم بالنصوص الواردة بحقِّه من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، ولا يسلك سبيل الصدام والمواجهة الحدِّيَّة مع الخليفة الثاني الذي أمر بتشكيل الشورى ومجاهرته بعدم شرعية خلافته وخلافة الخليفة الأول الذي سبقه، وبأنَّه هو الإمام والخليفة المنصوص عليه من قبل الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، وأنه ليست به حاجة إلى أن يُستخلف من خلال الشورى أو غيرها، الذي هو مفاد شبهة المعتزلة الثانية التي أخذها عنهم «الكاتب» وسلف نقل كلامهم فيها، والتي تساءلوا فيها عن معنى عدم سلوك الإمام علي (عليه السلام) هذا السبيل في محاججة الخليفة الثاني وأهل الشورى التي شكّلها لو كان يعتقد حقّاً بالنصّ عليه، فإنّ الأسباب التي فرضت عليه ذلك هي التي فرضت عليه الدخول في الشورى في أول الأمر.
على أنّ قول «الكاتب»، في الشبهة الثانية المشار إليها آنفاً، إنّ الإمام (عليه السلام) اقتصر في محاججته لأهل الشورى بذكر فضائله ودوره في خدمة الإسلام، ولم يشر إلى موضوع النصّ عليه أو تعيينه خليفةً من بعد الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) ينطوي على مغالطة واضحة؛ لأنَّ ما أسماه بالفضائل تبعاً للمعتزلة وغيرهم من منظِّري العقيدة السياسية السنِّية ليس هو في الواقع إلّا ما نصَّت عليه النصوص التي يعتقد الشيعة الإمامية أنّ النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قد أفهم الصحابة بوساطتها النصّ على إمامة علي (عليه السلام) وخلافته من بعده. وقد تلطَّف الإمام (عليه السلام) في تذكير أهل الشورى بما فهموه من تلك النصوص بذكر بعضها لهم ومناشدتهم الَ أن يشهدوا له بها إن كانوا سمعوها من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، ومن تلك النصوص ـ طبقاً للرواية المختصرة والمستفيضة التي اعترف بصحتها ابن
________________________________________

[الصفحة - 120]


أبي الحديد المعتزلي ـ(50) حديث الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه»، وحديث المنزلة: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»، وحديث «لا يؤدي عنِّي إلّا أنا أو رجل منِّي» الذي قاله النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) حين أرسل عليّاً خلف أبي بكر ليأخذ منه سورة براءة ويبلِّغها للناس بدلًا منه.
فهذه الأحاديث وغيرها، لو لم تكن واردة أصلًا في شأن الخلافة ولها علاقة وثيقة بها، لما احتجَّ بها الإمام (عليه السلام) في موقع التشاور حول من يستحقُّ الخلافة ويتولّاها!
والغريب أن يقول «الكاتب» مع كل ذلك: «ولو كان حديث الغدير يحمل هذا المعنى لأشار الإمام إلى ذلك، وحاججهم بما هو أقوى من ذكر الفضائل»!
فأي إشارة يمكن أن يأتي بها الإمام (عليه السلام) في مقام إثبات النصِّ عليه من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أبلغ من ذكر الأحاديث التي تضمّنت هذا النصّ ومنها حديث الغدير؟ أم إنّ الإشارة إلى النصّ لا تكون بنظر «الكاتب» ونظر المعتزلة إلّا بأن يقول لعمر بن الخطاب ولأهل الشورى: أنا إمام المسلمين ولست أنت ولا أبو بكر الذي تقلّد الخلافة من قبلك.. وخلافتكما معاً باطلة وقد عرفتم النصّ عليّ والإشارة إليّ ولا حاجة لي بأن أولّى من قبلك أو من قبل أهل الشورى!
لقد خاطب الإمام (عليه السلام) قومه وتكلّم معهم بلسانهم في صدر القرن الأول الهجري ولم يكلِّمهم بلسان متكلِّمي المعتزلة في القرنين الثالث والرابع، فوقت التنظير والتحليل الكلامي لم يكن قد حان بعد. كما إنّ الإمام، من جهة أخرى، لم يكن في موقع المصادمة والمجابهة التي تفضي به إلى امتشاق السيف ومقاتلة سلطة الخلافة القائمة وقاعدتها القرشيّة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وحقّاً إنَّ الأحاديث التي احتجَّ بها الإمام (عليه السلام) قد تضمّنت فضائله، ولكنها أية فضائل؟ هل هي مجرّد مزايا وخصال مناقبية ذاتية سجّلها النبيّ في إطار المفاخرة والتمجيد الشخصي بابن عمِّه، وليس لها أي غرض أو بُعد ديني وسياسي خارج ذلك الإطار، كما يحاول «الكاتب» أن يقول؟ أو أنّها بيان وبلاغ من النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) للأمة بموقع الإمام عليّ (عليه السلام) منه ومن رسالته ودوره في الوصاية على هذه الرسالة وقيادة
________________________________________
(50) شرح النهج، لابن أبي الحديد، 6/167.

[الصفحة - 121]


مسيرة الأمّة وفاقاً لها من بعده، كما يقول الشيعة الإمامية، وكما بيّنوه وشرحوه وأقاموا الأدلّة والشواهد عليه؟
ذلك ما نختلف مع «الكاتب» عليه، ولكنه تحاشى أن يتوقّف عند نقطة الخلاف هذه ولم يذكر أدلّته على ما ارتآه فيها مصادراً بذلك النتيجة من دون أن يكلِّف نفسه بيان مقدماتها المنطقية.
الإمامة ليست وراثة ملكية
وتبقى، في نهاية مناقشتنا لهاتين الشبهتين، ملاحظة أخيرة تتعلَّق بوصف «الكاتب»، في بداية كلامه الذي نقلناه عنه، إمامة عليّ وأبنائه (عليهم السلام) بأنها «نظام الوراثة الملكية العمودية في أهل البيت»؛ فإنه من الغريب والمؤسف أن يصدر هذا الخطأ من باحث نشأ في أوساط الشيعة وقرأ كتب علمائهم ودرس آراءهم ومعتقداتهم التي يجمعون فيها على أنّ إمامة أهل البيت لم تكن بالقرابة والوراثة ولم يتوارثها الأئمة (عليهم السلام) كما يتوارث أبناء الملوك الحكم عن آبائهم في أنظمة الحكم الملكيَّة، وإنما كانت بالاصطفاء والنصّ الإلهي الموحى به إلى النبيّ (صلي الله عليه و آله و سلم) والمبلّغ عن طريقه إلى الناس تحديداً في عليّ (عليه السلام) وإجمالًا في الأحد عشر من عترته، ينقل السابق منهم النصّ على اللاحق ويسمّيه.
وليس ذلك بدعاً في دين الإسلام وإنّما هي سنّة الله في أنبيائه وأوصيائهم السابقين الذين لم يقل أحد إنّ النبوة أو الوصاية استمرت في أبنائهم حسب «نظام الوراثة الملكية العمودية»، وإنما استمرت فيهم بالاصطفاء الإلهي وبالوحي والنصّ: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم} )آل عمران/32 و33(.
للبحث صلة
________________________________________

[الصفحة - 122]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف