البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفِرق و المذاهب تحقیق في النشأة و المعالم (1)

الباحث :  الأستاذ صائب عبد المجید
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية صيف 1418 هجـ 1997 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2015
عدد زيارات البحث :  1638

الفِرق و المذاهب تحقیق في النشأة و المعالم (1)

الأستاذ صائب عبد المجید (*).

«إنّما بَدءُ وقوعِ الفتن أهواءٌ تُتَّبَع، وأحكامٌ تُبتَدَع، يُخالَفُ فيها كتابُ اللَّه، ويتولَّى‏ عليها رجالٌ رجالاً على‏ غير دين اللَّه»
علي بن أبي طالب، نهج البلاغة ـ الخطبة 50.
العوامل الأساسيّة في نشأة الفِرق والمذاهب‏
هناك عوامل أساسيّة إليها يرجع تمزّق وحدة الأُمّة بعد الرسول الأكرم(ص) وانشعابها إلى‏ فرق متعدّدة، تميّزت كلّ واحدة منها بشي‏ء من الأُصول وكثير من الفروع التي أصبح بعضها شعاراً للفرقة لا تفرّط فيه، وإن لم يكن له أصل في الدين، ولا يشاركها فيه غيرها وإن كان هو السنّة الخالصة!
وسوف يقتصر بحثنا هنا على‏ العوامل الأساسيّة في نشأة الفرق، مع التعريف المركّز بالفِرق المندَرجة تحت كلّ واحد من هذه العوامل، غير ناظرين إلى‏ المذاهب الفقهيّة وأُصولها، فهذه الأخيرة رغم كونها وثيقة الصلة بما نحن فيه ـ كما سيظهر من بعض الأمثلة الآتية عرضاً ـ إلاّ أنّ لها ميدانها الآخر الفسيح الذي يخرج عن دائرة هذا البحث.
لذا فسوف ينقسم هذا البحث بحسب تقسيم العوامل الأساسيّة في نشأة الفرق والمذاهب.. والتي أثبت لنا التحقيق التاريخيّ أنّها تنحصر في ثلاثة، هي:
1 ـ الواقع التاريخيّ للخلافة، ونظام الغلبة، والمشروع الثقافيّ الذي صحبهما.
2 ـ الكلام والفلسفة.
3 ـ التطرّف الدينيّ.
________________________________________
(*)باحث إسلامي من العراق.

[الصفحة - 117]


وقد يستقلّ عامل واحد في تكوين فرقة، كما قد يشترك عاملان أو العوامل الثلاثة معاً في تكوينها.
العامل الأوّل: الواقع التاريخي للخلافة ونظام الغَلَبة
كيف كان الواقع التاريخيّ للخلافة سبباً في نشأة المذاهب، وكيف ترك أثره في تحديد معالمها؟
لا شكّ في أنّ الواقع التاريخيّ هو الذي أفرز مبدأ «سنّة الشيخين» مرجعاً تشريعيّاً بعد الكتاب والسنّة! ذلك المبدأ الذي وُضِعتْ بذرته الأُولى يوم أثبت الشيخان قدرتهما في السقيفة بعد نزاع، وأفلحا في سَوق الناس إلى البيعة، فتابع الواجمُ الذاهل، وألقى‏ المعارض بيديه، عَقَبَ ذلك إدارةٌ قويّة تميّزت بالحزم في اتّخاذ القرار وفي إنفاذه، ماليّاً كان أو اجتماعيّاً أو عسكريّاً أو دينيّاً، ولا بدّ من أن يصحب ذلك كلّه وجود صنف من الناس الذين جُبِلوا على طاعة القويّ الحازم الذي يمتلك زمام المبادرة، وربّما شدّتهم إليه مصلحة أو رأي، ممّا يزيد الحاكم سؤدداً، وقرارَه هيبةً ونفوذاً حتّى لا يحول دونه حائل، فترى‏ مبكّراً رجالاً من ذلك الصنف يهاجمون آل الرسول ونفراً من مقدّمي أصحابه أوَوا إليهم، لا يوقفهم وازع! وسائر الناس من ورائهم تلجمهم رهبة القرار الحازم والجرأة في التنفيذ..
وسارعت الألوف بعد ذلك في تلبية نداء الحرب مع إخوان لهم من المسلمين امتنعوا عن نقل الزكاة إلى الخليفة اعتراضاً على شخصه وطريقة انتخابه ولم يكفروا بحكم الزكاة، فقاتلوهم استجابة للقرار الحازم الذي لا إذن للحوار فيه ولا رجعة عنه، كما قاتلوا آخرين ارتدّوا عن الدين صراحةً، سواء، وعاملوهم بالأُسلوب نفسه حين ساوى‏ قرار الخليفة الحازم بين حجز الزكاة عنه وبين الردّة!
وهكذا كان ينفِّذ القرار الحازم بكلّ قوّة ومن دون أن تكون هناك نافذة للردّ والحوار والمناقشة، وإن حدث طرف من ذلك فالحسم دائماً لصالح قرار الخليفة نفسه، وجرى‏ ذلك في الأُمور الدينيّة والتشريعيّة بالقوّة نفسها، فمن دون أدنى‏ «مقاومة» تذكر ينفَّذ قرار الخليفة في منع رواية أحاديث النبيّ(ص) والإفتاء بسنّته، ومنع تدوينها، وفي تعطيلها أحياناً، حتّى يصبح قرار التعطيل هو السنّة وتعود السنّة الأُولى‏ بدعة!
________________________________________

[الصفحة - 118]


ولقد تحقّق هذا في تفاصيل الصلاة، وفي مناسك الحجّ، وفي أحكام الأحوال الشخصيّة، وفي الحقوق الماليّة، وغير ذلك، بل نجح قرار الخليفة حتّى‏ في صناعة عبادة جديدة، كما هو شأن صلاة التراويح، على الرغم من أنّ صانعها نفسه يصفها بالبدعة، إلاَّ أنّها تصبح بعد قليل هي السنّة الثابتة، ومن خالفها فقد أحدث في الدين!
من ذلك كلّه وأمثاله برز مبدأ جديد لم تعرفه الأُمّة من قبل، ولا دعا إليه كتاب ولا نبيّ، فكان أساساً في ظهور فريق جديد يتمحور حوله، ذلك هو مبدأ «سنّة الشيخين»!
ولمّا كان هذا المبدأ قد ولد بفعل قمّة الهرم السياسيّ، ومن ورائه الجمهور العامّ الذي ينتظم في سلك الطاعة، لم يتّخذ طابع مقولات الفِرق الحادثة، بل ظهر كأنّه الأصل الذي عليه الناس، فمن خالفه فقد خالف «جماعة المسلمين» وأحدث في الأُمّة فرقة جديدة لا تمنح «سنّة الشيخين» موقع المرجعيّة! كأنّ الأصل في الدين هو هذا وليس العكس!
ثمّ إنّ هذا الواقع قد تمخّض عن نظام جديد في الخلافة، وهو نظام «الغَلَبة»! ذلك النظام الذي قاد الجمهور العامّ الداخل في سلك الطاعة إلى مزيد من المبادى‏ء الجديدة التي تحلّ دائماً بدائلَ عن المبادى‏ء الأصيلة التي أقرّها القرآن الكريم والسنّة المطهّرة.. ولكونها أيضاً قد انبعثت من «القمّة» بتأثير الخلافة ومشاريعها الدينية والسياسيّة والثقافيّة النافذة على عامّة الناس، فقد اكتسبت موقع الأصالة، وصارت من مميّزات «الجماعة» التي من خالفها كان مبتدعاً، داعياً إلى فتنة!
وفي الكلام الآتي مزيد من التفصيل:
إنّ نظام الغَلَبة هذا، الوليد الطبيعيّ لنظريّة الخلافة المستجدّة بعد الرسول، قد حصر الدين والدنيا في كلمة واحدة، ولكن بعد أن أجرى‏ عليها قدراً كافياً من «التعديل»! فحين قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } [النساء/4: 59]رأينا أنّ اللَّه تعالى قد أنزل بيننا قرآناً، وأنّ رسوله قد رحل وترك لنا سنّةً، فالذي بقي بيننا إنّما هو { أُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ } الذين سيكونون القادة لنا في طاعة اللَّه ورسوله.
ومنذ اللحظة الأُولى‏ لرحيل الرسول ابتدأت التعديلات تجري على الركن الثالث المتبقّي؛ فأُلغي أوّلاً حقّ اللَّه تعالى وحقّ الرسول في اختيار أُولي الأمر، ليصبح هؤلاء ليسَ المؤهِّلين الذين ينبغي أن تُسند إليهم الأُمور، بل أولئك الذين أمسكوا بزمام الأمور،
________________________________________

[الصفحة - 119]


فاكتسب «أولوا الأمر» معنىً جديداً، وألغى مع ذلك حقّ الأُمّة في هذا الأمر، في قرار لا يقوم إلاّ على إلغاء الحقوق الثلاثة معاً وفي آنٍ واحد، ذلك حين يكون من حقّ نفرٍ معدودين على الأصابع: رجل واحد أو اثنين أو خمسة، أن يحدّدوا طريقة الاختيار وفق ما يرون، ثمّ يختارون وفق مقاييسهم الخاصّة، ثمّ يُملون اختيارهم على الأُمّة بجميع الأساليب اللازمة لتثبيته! فامتلك «أُولو الأمر» من جرّاء هذا امتيازات جديدة رفعتهم فوق مستوى‏ رقابة الأُمّة، ومنحتهم صفة الهيمنة وصلاحيّات التحكّم بالركنين الأوّلين (الكتاب والسنّة) يحيون منهما ما يشاؤون ويميتون ما يشاؤون ويخرقون ما يشاؤون.. ومن الطبيعيّ جدّاً أن يخلُف هذا التطوّر مزيد من «التعديل» يثبّت هذه الامتيازات ويقطع جميع السبل التي من شأنها أن تحول دون ممارستها، فكان أوّل تلك التعديلات: إلغاء اعتبار كلمة { مِنْكُمْ } الضابطة لأُولي الأمر، ليصبح هذا المقام مشاعاً والناس فيه سواء ما نطقوا بالشهادتين!
فلمّا كانت ثمّة عقبات تمثّلت في «خصائص» أقرّها القرآن والعقل والعرف السويّ ينبغي أن يتحلّى‏ بها وليّ الأمر، كالعدالة والعلم بالدين وبالسياسة معاً والصلاح، فقد توجّه «التعديل» إلى‏ هذه الخصال ليطالها جميعاً، فتصبح ولاية الأمر حقّاً للجائر الجاهل الفاسق، بل حتّى‏ لو عاش عبداللَّه بن أُبَيّ لصحّت له! فلقد واللَّه تسلّمها رجال ما هم بأحسن حالاً من شيخ المنافقين ابن أُبَيّ بعد أن أسرفوا في دماء الصالحين الذين يأمرون بالقسط، وبعدما زوّروا في معالم الدين وبدّلوا في أحكامه، ممّا عجز عبداللَّه بن أُبَيّ عن يسير منه!
ومع كلّ هذه «التعديلات الدستوريّة» التي أُجريت لصالح «أُولي الأَمْرِ» فإنّ الواجب الملقى‏ على عاتق الأُمّة قد أُبقي على حاله، فما زالت الأُمّة ملزمةً بطاعة «أُولي الأمر» ومسالمة من سالمهم ومحاربةً من حاربهم، تماماً كما لو كان وليّ الأمر قد جاء باختيارٍ من اللَّه ومن رسوله أو من الأُمّة بإجماعٍ تامٍّ صحيح، وقد توفّر على جميع تلك الخصائص المعروفة من العدل والعلم والصلاح!
فلم يعد في ظلّ هذا الفقه حفظ الدين وإقامة حدوده هو الغاية، ولا حفظ الأُمّة وتوفير حقّها في الأمن والمساواة وأسباب الهداية والمعرفة كذلك.. بل أصبحت الغاية الوحيدة هي حفظ العرش لشخص الحاكم الذي اعتلاه وأمسك بالسيف من فوقه، وليس مهمَّاً بأيّ طريقة اعتلاه! إنّما على هذا الدين أن يوفّر له شرعيّته ويحرّم مخالفته، ثمّ يطاوعه
________________________________________

[الصفحة - 120]


كيف يشاء.. وعلى الأُمّة كذلك أن تعلم أنّ كلّ وجودها إنّما هو لحفظ سلامة العرش لصاحبه ما دام حيّاً!
وهذا هو الأصل في أوّل افتراق وقع في الأُمّة بعد غياب رسول اللَّه(ص)، وقد تمدّد مع الزمن ليكتسب كلّ مقوّمات الفرقة الواقعيّة، سياسيّاً وفكريّاً وعقيديّاً وفقهيّاً، حين انحصرت مصادره بالأبواب التي فتحها الأُمراء أو أذِنوا بها، وأدار ظهره لغيرها ممّا حاربه الأُمراء وحظروه، فصار ما يصدر عن المصادر المأذونة هو الدين والعقيدة والثقافة، فلا شكّ بعد ذلك أن يروا ما خالفه بدعاً في الدين منكراً!!
ومن هذا الأصل نفسه اكتسبت هذه الفرقة، في ما بعد، اسمها الذي تميّزت به «أهل السنّة والجماعة».
نشأة التسمية بأهل السنّة والجماعة
تكاملت هذه التسمية على مرحلتين؛ عُرف في المرحلة الأُولى لقب «الجماعة»، أطلقه الأُمويّون على العام الذي تمّ فيه تسليم الملك لمعاوية وانفراده به، فقالوا: «عام الجماعة» (1).. لكنّها الجماعة التي تأسّست على الغَلَبة ولصالح الفئة الباغية، بلا نزاع في ذلك! ورغم ذلك فقد بقي الانتماء للجماعة رهناً بطاعة الحاكم والانصياع لأمره حتّى بالباطل، ومن تمرّد على الحاكم في إحياء سنّة أماتها أو إطفاء بدعة أحياها، فهو خارج على‏ الطاعة مفارق لـ «الجماعة» مستحقّ للعقاب النازل على المفسدين في الأرض! فهكذا كان قضاؤهم على الصحابيّ الجليل حُجر بن عديّ الذي كان ينكر على المغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه سبَّهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وكلّما تمادوا في ذلك صعّد من إنكاره، فكتب زياد إلى معاوية في حُجر وأصحابه: إنّهم خالفوا «الجماعة» في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة، فخرجوا بذلك من الطاعة (2)! فقتلهم معاوية، واحتجّ بقوله: إنّي رأيتُ قتلهم صلاحاً للأُمّة، وأنّ بقاءهم فساد للأُمّة (3)! يقول ابن العربي: جعله معاوية ممّن سعى‏ في الأرض فساداً ـ يعني حُجر الخير ـ (4)!!
هكذا، فالصلاح والفساد إنّما يحدّده معاوية، وليس للَّه حكم ولا شريعة! شأن أيّ حكم استبداديّ ليس له أدنى‏ صلة بالدين.
________________________________________
(1)انظر: محمّد بن عبد الهادي المصري، أهل السنّة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى، ص 60. ط. مكتبة الغرباء ـ إستانبول 1413هـ/1992م.
(2)تاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب، 2/230، ط. دار صادر ـ بيروت.
(3)مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، 6/241، ط. دار الفكر ـ بيروت 1405هـ/1984م.
(4)العواصم من القواصم أبو بكر ابن العربي، ص 220، ط/2، ط. دار الجيل ـ بيروت 1407هـ/1987.

[الصفحة - 121]


وما زالت مخالفة أهواء الأُمراء تُعدّ خروجاً على «الجماعة» ودخولاً في الفتنة، حتّى لو كان المخالف لهم سبط رسول اللَّه(ص) وريحانته سيّد شباب أهل الجنّة! يقول ابن العربي في تسويغ قتل الحسين(ع): «ما خرج عليه أحد إلاَّ بتأويل، وما قاتلوه إلاَّ بما سمعوه من جدّه المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، والمحذِّر من الدخول في الفتن! وأقواله في ذلك كثيرة، منها قوله(ص): إنّه ستكون هناتٌ وهنات، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأُمّة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» (5)! وكأنّ النبيّ(ص) كان يخاطب الحكّام الذين سيملكون وإن كانوا فراعنة الزمان، ولم يكن خطابه للمؤمنين الذين أخذ عليهم الميثاق: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحقّ أطراً»!
هكذا قُلب الدين رأساً على عقب حين جُرِّدت كلمة «الأمير» من كلّ مقوّماتها وضوابطها الشرعيّة لتصبح لقباً من نظير «الفرعون» و «النمرود» و«القيصر» و«كسرى‏» التي كانت الأُمم الأُخرى‏ تُلقّب بها الحاكمين! ويصبح { الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } [آل عمران/21] مفسدين في الأرض، خارجين على «الجماعة» ساعين في الفتنة!
وبقيت الجماعة رهناً بطاعة «الخليفة» من دون النظر إلى‏ طريقة استخلافه، وإلى دينه أو أخلاقه أو عقله.. خطب الوليد بن عبد الملك يوم بويع له بالخلافة، فقال: «أيّها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الواحد! أيّها الناس من أبدى‏ لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه» (6)!
هذه هي فلسفة الطاعة والجماعة عندهم، والتي بقيت تميّز أهلها من غيرهم ممّن لا يعتقد بالولاء لحكّام الجور والفساد..
أمّا ما يدّعيه بعضُهم من أنّ «الجماعة» مأخوذة من متابعة إجماع الصحابة وإجماع السَّلَف، فإنّما هي دعوى لا يسندها الواقع بشي‏ء، فأيّ أمر هذا الذي أجمع عليه السَّلَف ثمّ تميّزت به هذه الطائفة من غيرها من الطوائف؟! لكنّ المشكلة تكمن في أنّهم اختزلوا مساحة «السَّلَف» لتشمل فقط القائلين بإمامة كلّ متغلّب وحرمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يراه «الأمير» فساداً! فمن هنا كان السَّلَف في هذه القضيّة إنّما هو عبداللَّه بن عمر في رأيه الشاذّ! ومرّة أُخرى يكون ابن عمر هو السَلَف حين يقول بالتفضيل بين الصحابة بحسب
________________________________________
(5)المصدر نفسه، 244 و245.
(6)البداية والنهاية ابن كثير الدمشقي، 9/85، ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت 1413هـ/1992م.

[الصفحة - 122]


الترتيب الذي فرضه الواقع التاريخيّ وناصره الأُمويّون‏ (7)! وهكذا مع سائر القضايا التي تميّزوا بها.. وهيهات أن تجد قضيَّةً أجمع عليها علماء السلف، والصالحون منهم، ثمّ تمسّكت بها هذهِ الفرقة من دون غيرها! أمّا العكس فأمثلته كثيرة، في العقيدة وفي الفقه معاً: فحين كان إجماع الصحابة على أنّ الصحابيّ لا يُقطع بعدالته، بل قد يُتّهم بالكذب والغشّ والخيانة والزنا، ويعزّر ويقام عليه الحدّ، وتردّ أحاديثه ويكذَّب عليها، لا يختلفون في ذلك كلّه قيد شعرة وتاريخهم ثابت فيه، وعليه سائر المسلمين.. خالف فيه أهل «الجماعة» وقالوا بعدالة الصحابيّ، ذلك المبدأ الذي روّج له الأُمويّون، وكان من أحسن ما نفعهم من مبادى‏ء ابتدعوها!
ولمّا كان إجماع الصحابة وعلماء الطبقة الأُولى‏ من التابعين على تسطيح القبور، وقال به كثير من المسلمين، خالف فيه «أهل السنّة والجماعة» لحديث سفيان التمّار، وهو من رجال العهد الأُمويّ، لم يدرك أحداً من الصحابة بل حدّث عن التابعين من طبقة محمّد بن الحنفيّة وسعيد بن جبير وعكرمة (8)، فهو أوّل من روى‏ «تسنيم القبور»، فقال البيهقي في التوفيق بين حديث سفيان والأحاديث المتقدّمة عليه الصريحة بالتسطيح، ما نصّه: «فكأنّه ـ أي قبر النبيّ(ص) ـ غُيّر عمّا كان عليه في القديم! فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبد الملك وقيل في زمن عمر بن عبد العزيز، ثمّ أُصلح»، فالتسنيم إذن أمويّ الميلاد، أمّا علّته فهي في آخر كلام البيهقي إذ واصل يقول: «وحديث القاسم بن محمّد ـ في التسطيح ـ أصحّ وأولى أن يكون محفوظاً، إلاّ أنّ بعض أهل العلم من أصحابنا استحبّ التسنيم في هذا الزمان لكونه جائزاً بالإجماع، وأنّ التسطيح صار شعاراً لأهل البدع» (9)! وأهل البدع هنا مصطلح جامع لمن لم يخضع للولاء الأمويّ معتقداً صحّته، وفي طليعتهم الأُمّة المتمسّكة بالولاء لآل رسول اللَّه(ص)، والذين تميّزوا باسم «الشيعة» وأطلق عليهم التاريخ لقب الرافضة! تُرى كيف أصبحت السنّة الصحيحة شعاراً لأهل البدع من دون «أهل السنّة والجماعة»؟!
ومثل ذلك يقال مع صيغة الصلاة على النبيّ إذا ذُكر، فقد أصبحت الصلاة المسنونة شعاراً «لأهل البدع»!! والصلاة البتراء الذي حُذف منها «آل محمّد» شعاراً «لأهل الجماعة» تأثّراً بالنزعة الأُمويّة.. وأمثلة هذا الباب كثيرة تصلح وحدها موضوعاً لدراسة مستقلّة.
________________________________________
(7)انظر: أبو الفرج بن الجوزي، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، ص 228، ط. دار هَجَرَ للطباعة ـ الجيزة/ مصر 1409هـ/1988م.
(8)انظر: أبو الحجّاج يوسف المزري تهذيب الكمال: 143 و144، ط. مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1406هـ/1985م.
(9)البيهقي، السنن الكبرى 4ر 3 و4، ط. دار الفكر ـ بيروت (لا.ت).

[الصفحة - 123]


أمّا لفظ «السنّة» فلم يظهر مقروناً بلفظ «الجماعة» في بادى‏ء الأمر، بل ظهر بمفرده أوّلاً في العهد الأمويّ أيضاً للتمييز بين المنتظمين في سلك «الجماعة» وبين الآخرين الذين ما زالوا يؤمنون بقداسة الدين التي تأبى‏ أن يكون رجال بني أُميّة هؤلاء زعماء له ناطقين باسمه، فإذا قيل: «أهل السنّة» فإنّما يراد بهم أهل الطاعة و«الجماعة» أنفسهم، وأمّا الآخرون فهم أهل البدَع.. ولعلّ أوّل ظهور لهذا التقسيم هو الذي جاء في حديث ابن سيرين (المتوفّى سنة 110هـ) القائل: «كانوا لا يسألون عن الإسناد حتّى وقعت الفتنة، فلمّا وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد، ليُحدَّث حديث أهل السنّة ويُترك حديث أهل البدعة» (10).
وكان ابن سيرين رجل علم وعبادة، مبتعداً عن السلاطين لا يجي‏ء إليهم ولا يعيبهم، وكان صلباً أمامهم‏ (11)، ولم يكن له ذكر في القرّاء الذين نهضوا على الحجّاج سنة 82ه (12).. فمن هم أهل البدع عنده؟
لقد وجدناه يقول في معاوية بن أبي سفيان: «كان معاوية لا يُتَّهم في الحديث عن النبيّ(ص)»(13). فهل كان معاوية في من يُستثنى‏ من أهل البدع، أم أنّه عنده من أهل السنّة؟
إنّ الميزان الذي وضعوه لتمييز البدعة من السنّة هو الواقع التاريخيّ للخلافة والثقافة التي أفرزها ذلك الواقع، فلم يكن لَعْنُ عليٍّ والحسن والحسين والبراءة منهم بدعة، لكن تفضيل عليّ على عثمان وحده بدعة!!
فليس معاوية وحده مستثنى، بل عقيدته هذه كلّها ليست ممّا يخدش في السنّة! وغداً سوف يأتي «خليفة» آخر أشدّ عداءً لآل رسول اللَّه(ص) من معاوية فلا يمنع ذلك من أن يسمّى «ناصر السنّة» ذلك هو المتوكّل العبّاسيّ.. قيل فيه ذلك لأنّه وضع حدّاً للمعتزلة الذين كانوا يمتحنون الناس على القول بخَلق القرآن، ونَصر الإمام أحمد بن حنبل وأفرج عنه وانتصر لعقيدته، فكان أحمد قد سُمّي «إمام السنّة» لصبره على تلك المحنة (14)، وقالوا في المتوكّل: أظهر السنّة وتكلّم بها في مجلسه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنّة ونصر أهلها.. (15).
وهو الذي أحيا السنّة وأمات التجهّم‏ (16).. وذلك رغم قولهم فيه: كان فيه نَصبٌ ظاهر وانهماك على اللّذات والمكاره‏ (17)!!
________________________________________
(10)صحيح مسلم، المقدّمة ـ باب 5، الكفاية في علم الرواية، 122، وانظر: أهل السنّة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى، ص 59، م.س.
(11)سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/615، ط. مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1406هـ/1985م.
(12)انظر: تاريخ خليفة بن خيّاط، ص 221، ط. دار الفكر ـ بيروت 1414هـ/1993م.
(13)سير أعلام النبلاء، 4/612. م.س.
(14)أهل السنّة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى، ص 57، م.س. عن ابن تيميّة في «منهاج السنّة».
(15)تاريخ خليفة بن خيّاط، ص 478، سير أعلام النبلاء، 12/31.
(16)شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي، م‏1 - ج‏2/114، ط. دار الفكر ـ بيروت 1409هـ/1988م.
(17)المصدر نفسه، م‏1 - ج‏2/114، سير أعلام النبلاء، 12/35.

[الصفحة - 124]


وكان شديد البغض لعليّ(ع) ولأهل بيته، يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولاّهم بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه، وهو أصلع، ويرقص بين يدي المتوكّل، والمغنّون يغنّون: «قد أقبل الأصلع البطين ـ خليفة المسلمين» يحكي بذلك عليّاً(ع)، والمتوكّل يشرب ويضحك..
وكان يُبغض من تقدّمه من الخلفاء ـ المأمون، والمعتصم، والواثق ـ في محبّة عليّ وأهل بيته، وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنَّصب والبغض لعليّ، منهم: عليّ بن الجهم الشاعر الشامي، وأبو السِّمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أُميّة، وابن أُترجّة العبّاسيّ الهاشميّ‏ (18).. وهدم قبر الحسين(ع) وهدم ما حوله من المنازل وأمر أن تُحرث وتزرع، ومنع الناس من إتيانها (19)! صحيح أنّ هذا الفعل لم يكن مرضياً لديهم، بل وصفه بعضهم بأنّه السَّيِّئة التي غطّت على جميع حسنات المتوكّل‏ (20)، لكن هذا الصنع كلّه لم يُخرج المتوكّل من أهل السنّة إلى أهل البدعة!!
كيف ميّزوا بين «أهل السنّة» و «أهل البدعة» في هذا العهد؟
ـ سئل «إمام السنّة» أحمد بن حنبل في من قدّم عليّاً على عثمان في الفضل، فأجاب: «هذا أهلٌ أن يُبدَّع» (21).
ـ وسأله المتوكّل عن أشخاص من أهل العلم، مَن منهم يصلح للقضاء؟ فكتب إليه فيهم فرداً فرداً، ثمّ ختم كتابه بقوله: «إنّ أهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يُستعان بهم في شي‏ء من أُمور المسلمين، فإنّ في ذلك أعظم الضرر على الدين، مع ما عليه رأي أمير المؤمنين أطال اللَّه بقاءه من التمسّك بالسنّة والمخالفة لأهل البدع» (22)! فما زال المتوكّل مع ما عليه من النصب ومجالس السخرية بالإمام عليّ(ع)، ما زال متمسّكاً بالسنّة، مخالفاً لأهل البدع!
ـ وما زال أحمد بن حنبل يوثّق أشدّ الناس نصباً وتمادياً في شتم عليّ وأهل البيت، ويطريهم أحسن الإطراء، ولنا في «حريز بن عثمان» وحده دلالة كافية، هذا الذي كان يستعيض عن ذكر اللَّه بشتم الإمام عليّ، يقول فيه أحمد بن حنبل «ثقة، ثقة، ثقة» وهو في الوقت نفسه يقول: «كان يحمل على عليّ» (23)!!
________________________________________
(18)الكامل في التاريخ إبن الأثير، 7/55 و56. ط. دار صادر، بيروت 1403م/1982.
(19)المنتظم، إبن الجوزي، 11/237، الكامل في التاريخ، 7/55، سير أعلام النبلاء، للذهبي 12/35، البداية والنهاية، ابن كثير، 10/347.
(20)الكامل في التاريخ، م.س. 7/56.
(21)مناقب الإمام أحمد بن حنبل، إبن الجوزي، ص 218. م.س.
(22)المصدر نفسه، ص 252.
(23)انظر: تهذيب الكمال، 5/568/1175، ترجمة حريز بن عثمان.

[الصفحة - 125]


ـ أمّا القسم الآخر من «أهل البدعة» فهم «الجهميّة» المعطّلة الذين عطّلوا الصفات وقالوا بخلق القرآن.
كيف أظهر المتوكّل السنّة ونَشَرَ الحديث؟
تحت مثل هذا العنوان كتب ابن الجوزي: إنّ المتوكّل أشخص الفقهاء والمحدّثين، وكان فيهم: مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبداللَّه الهروي، وعبداللَّه وعثمان ابنا محمّد بن أبي شيبة وكانا من حفّاظ الناس، فقُسمت بينهم الجوائز، وأُجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكّل أن يجلسوا للناس وأن يحدّثوا بالأحاديث التي فيها الردّ على المعتزلة والجهميَّة، وأن يُحدّثوا بالأحاديث في الرؤية (24)..
ومثل هذه الأجواء سوف تفتح باباً فسيحاً للكذب ووضع الحديث، كالذي حدث في فضائل الصحابة زمن معاوية، فوضعت أحاديث كثيرة في الصفات تفيد التجسيم، وفي الرؤية، وفي قِدَم القرآن ممّا ليس له أصل في الإسلام، ولم يُعْرَف قبل هذا التاريخ‏ (25).
وفي هذه الأجواء نشطت عقيدتا «التشبيه» و «التجسيم» المنحرفتان، إفراطاً في ردّ عقيدة «التعطيل» المنحرفة الأُخرى‏ التي تعزّزت في عهودِ ثلاثة من الحكّام العبّاسيّين تعاقبوا على الحكم، وهم: المأمون، والمعتصم، والواثق، وكان لهذه العقائد المنحرفة ظهور قبل هذا التاريخ، وسوف يأتي ذكرها في محلّه إن شاء اللَّه تعالى‏.
إلى‏ هنا يبدو أنّ لقب «أهل السنّة» كان له ظهور فعليّ في هذه المرحلة بالذات، مرحلة أحمد بن حنبل والمتوكّل، في خضم الصراع الفكريّ حول العقيدة في الصفات وقضيّة القرآن؛ أهو قديم أزليّ قِدم الخالق جلّ جلاله، أم هو حادث مخلوق للَّه تعالى؟! ذلك الصراع الذي كان مصحوباً بالعنف في أكثر مراحله.
وفي الوقت نفسه كان له ظهور أكثر من قبل في الصراع الدائر حول قضيّة الإمامة والخلافة والتفاضل بين الصحابة والموقف من النزاعات الواقعة بينهم، وتعود الزيادة في الظهور إزاء هذا الموضوع لتطوّر حركة التنظير فيه، وتراكم الآراء المتلاحقة، من دون أن يحدث تغيير في المتبنّيات الأساسيّة.
________________________________________
(24)المنتظم، 11/207. م.س.
(25)انظر: العلل المتناهية، إبن الجوزي، 1/20 ـ 41 ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت 1403هـ/1983م، اللآلى‏ء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة السيوطي، 1/3 - 33 ط. دار المعرفة ـ بيروت 1404هـ/1983م.

[الصفحة - 126]


وقد تقدّم الحديث عن لقب «الجماعة». أمّا اجتماع الشطرين في التسمية ب: «أهل السنّة والجماعة» فلم يثبت بالتحديد أوّل ظهور له، لكنّه على الأقلّ لم يكن ظاهراً حتّى هذه المرحلة التي نحن بصددها.
متى اعترف «أهل السنّة» بخلافة عليّ؟
لا شكّ في أنّه ليس كلّ من صوّب خلافة أبي بكر وعمر وعثمان قد أسلم دينه لمعاوية، يُثبت منه ما يشاء كيف يشاء ويمحو ما يشاء! بل منهم كثيرون لعنوه، وكثيرون تبرّأوا منه، وكثيرون خطّأوه وأدركوا حجم الفساد الذي أدخله على هذا الدين وألقاه على كاهل هذه الأُمّة.
واستمرّ هذا الوعي فيهم في جميع العصور، ولعلّه في عصرنا الحاضر أشدّ تألّقاً وأكثر أنصاراً.. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ أزمنة الصراع الطائفي تغذّي العصبيّة، فتذهب بكلّ قولٍ أو موقفٍ تبدو عليه بصمات الاعتدال والموضوعيّة، ليظهر فقط ما يغذّي العصبيّة وهي في أوج حاجتها إليه، فتبرز المواقف الشاذّة، وغير المسؤولة، وحتّى الجبانة والذليلة، ليشتدّ التمسّك بها، ويُتّخذ أصحابها «سَلفاً» أولى أن يُقتدى‏ بهم من دون غيرهم.. وفي مزدحم العصبيّات تغلّب على «أهل السنّة والجماعة» الرأي الشاذّ الذي لا يعترف بخلافة الإمام عليّ(ع)، ودان به حتّى أهل العلم والفقه والحديث منهم، حتّى ثبّتها أحمد بن حنبل، لكن بقيت في زمنه محلّ نزاع إلى أن استقرّت كما ثبّتها، وفق الترتيب التاريخيّ، الذي جعله مقياساً للتفاضل بينهم أيضاً!
قيل لسفينة مولى رسول اللَّه(ص): إنّ هؤلاء يزعمون أنّ عليّاً(ع) لم يكن بخليفة! قال: كذبتْ أستاه بني الزرقاء! يعني بني مروان‏ (26).
وأوّل من حذف اسم عليّ من الخلفاء هو معاوية حين كان يخطب فيذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثمّ يتحدّث عن نفسه وسياسته ولا يذكر عليّاً(ع)، بل يذكره في آخر خطبته بالشتم والسبّ واللعن! ذلك لأنّ له منزلة في قعر جهنّم لا يبلغها إلاّ بلعن أخي رسول اللَّه وصفيّه!
ومضى‏ بنو أُميّة على ذلك في جميع أحوالهم، في السرّ والعلن، حتّى رُوي عن سليمان بن عبد الملك أنّه نظر في المرآة أيّام خلافته فأعجبه شبابه، فقال: «كان محمّد نبيّاً
________________________________________
(26)سنن أبي داود، ح/4646 ط. دار التراث العربي ـ بيروت.

[الصفحة - 127]


وكان أبو بكر صدّيقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حييّاً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً» فيقفز من عثمان إلى معاوية فيزيد حتّى يبلغ ذكر نفسه فيقول: «وأنا الملك الشابّ»(27). فحتّى‏ في مثل هذه الأحاديث لا يذكرون عليّاً(ع) بالخلافة!
ودخلت رؤيتهم هذه في الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ(ص)!! كحديث رؤيا الميزان الذي يوزن فيه النبيّ(ص) وأبو بكر فيرجح النبيّ(ص)، ويوزن أبو بكر وعمر فيرجح أبو بكر، ويوزن عمر وعثمان فيرجح عثمان، ثمّ يرتفع الميزان!!
وعزّز ذلك كلّه الحديث الموقوف على ابن عمر في التفضيل الذي يقول إنّهم كانوا على عهد رسول اللَّه(ص) يفاضلون فيقولون: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ يسكتون فلا يذكرون أحداً بعدهم!! والعلّة كلّها أنّ الذي جاء بعد عثمان في الخلافة عليّ، ولو كان الزبير أو سعداً أو طلحة لما سكت ابن عمر ولا سكتوا.
فترسّخت تلك الرؤية، حتّى أصبحت من الثوابت التي تُميّز «الجماعة» ثمّ «أهل السنّة» حتّى جاء أحمد بن حنبل، فأظهر التربيع في الخلافة! وكتب بذلك في جوابه إلى مسدّد بن مسرهد يصف له السنّة، فذكر الأربعة بحسب الترتيب الواقع في الخلافة، فقال: «هم واللَّه الخلفاء الراشدون المهديّون» (28).
فأثار كلامه جدلاً ونزاعاً بين «أهل السنّة»:
قال وريزة الحمصي: دخلتُ على أبي عبداللَّه أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليّ(ع)، فقلت له: يا أبا عبداللَّه، إنّ هذا طعنٌ على طلحة والزبير!
قال: بئسما قلت! وما نحن وحرب القوم وذكرها؟
فقلتُ: أصلحك اللَّه، إنّما ذكرناها حين ربّعتَ بعليٍّ وأوجبتَ له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله!
فقال لي: وما يمنعني من ذلك؟!
قلتُ: حديث ابن عمر.. فقال لي: عمر خير من ابنه، وقد رضي عليّاً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى‏، وعليّ بن أبي طالب قد سمّى‏ نفسه أمير المؤمنين، أفأقول أنا: ليس للمؤمنين بأمير؟! قال: فانصرفتُ عنه‏ (29)!.
________________________________________
(27)انظر الحديث في مسند أحمد، 5/44 و50 ط. دار الفكر ـ بيروت.
(28)طبقات الحنابلة، القاضي إبن أبي يعلى ـ ط. دار المعرفة ـ بيروت (لا.ت) 1/344 ترجمة مسدّد بن مسرهد بن مسربل البصري.
(29)المصدر نفسه، 1/393 ترجمة وريزة بن محمّد الحمصي.

[الصفحة - 128]


ولقد حاول أحمد بن حنبل أن يذكّر بأشياء من حقّ عليّ(ع) الذي غيّبته مدارس ثقافيّة كافحت في هذا السبيل نحو قرنين من الزمن..
قال أحمد بن حنبل: ما لأحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعليّ(ع) (30).
وقال: عليٌّ من أهل بيتٍ لا يقاسُ بهم أحد (31)!
وسُئل يوماً: ما تقول في هذا الحديث الذي يروى‏، أنّ عليّاً قال: «أنا قسيم النار»؟ فقال: وما تُنكرون من ذا؟ أليس روينا أنّ النبيّ(ص) قال لعليّ: «لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»؟.. قالوا: بلى‏..
قال: فأين المؤمن؟.. قالوا: في الجنّة..
قال: فأين الكافر؟.. قالوا: في النار..
قال: فعليٌّ قسيم النار (32).
ويصحّح انحرافاً منهجيّاً وقع فيه أحد «أئمّة» الجرح والتعديل، يحيى‏ بن معين، إذ نسب الشافعي إلى «بدعة» التشيّع، ودليله في ذلك أنّه نظر في كتاب للشافعيّ في قتال أهل البغي، فإذا قد احتجّ فيه من أوّله إلى آخره بعليّ بن أبي طالب!!
فقال له أحمد: عجباً لك! فبمن كان يحتجّ الشافعي في هذا وأوّل من ابتلي به عليّ ابن أبي طالب؟ وهو الذي سنّ قتالهم وأحكامهم، وليس عن النبيّ ولا عن الخلفاء غيره فيه سنّة، فبمن كان يستنّ؟!
فخجل يحيى‏ (33)!
فانظر إلى حجم الإنحراف الفكريّ الذي أصاب الكبار، وحتّى أئمّة الجرح والتعديل! علماً أنّ يحيى‏ بن معين يعدُّ معتدلاً جدّاً قياساً بالجوزجاني ـ وهو أيضاً من أئمّة الجرح والتعديل ـ الذي لم يكن يخفي بغضه لعليّ وأهل البيت(ع)!
لكن يبقى‏ العجب من أحمد بن حنبل كيف مع هذا كلّه بقي يعتمد أحاديث النواصب ويوثّقهم ولا يعدّهم في المبتدعين، وهو يعلم أنّهم منافقون بحكم الحديث الصحيح الذي احتجّ به آنفاً: «لا يبغضك إلاّ منافق»!!
________________________________________
(30)مناقب الإمام أحمد بن حنبل، ص 220. م.س.
(31)المصدر نفسه، ص 219.
(32)طبقات الحنابلة، 1/320 ت/448 ترجمة محمّد بن منصور. م.س.
(33)البيهقي، مناقب الشافعي، 1/451. ط. مكتبة دار التراث ـ القاهرة.

[الصفحة - 129]


مركز دائرة التأثير الثقافيّ‏
هناك دائرة تقع خلف الحجاب المواجه للنور وتقابل مركزه، تسمّى‏ دائرة الظلّ التامّ، تحيط بها على تماس بينهما دائرة أقلّ خضوعاً لتأثير الحجاب، تسمّى‏ دائرة شبه الظلّ.. وفي دائرة شبه الظلّ وقع الكثير من الأعلام وسواد الناس الذين نظروا إلى الخلافة الأُولى‏ نظرة تقديس، فاعتقدوا بتأخير أهل البيت(ع) عن منزلتهم الحقّ، وقدّموا عليهم آخرين بتفاضل موهوم صنعه الواقع التاريخيّ للخلافة لا غير، من دون أن يحملوا في قلوبهم سوءاً وغيظاً وحسداً أو حقداً على أحد من أهل البيت(ع)، بل أظهروا حبّهم والدفاع عنهم بالكلمة أو بالإشارة ولو إلى خاصّة أصحابهم، فلم يقعوا تحت دائرة التأثير التامّ لنظام الغَلَبة، والمنهج الثقافيّ الذي تبنّاه..
فالشافعيّ لا يتحفّظ من المجتمع في إظهار حبّه لأهل البيت(ع)، حتّى يصفوه بـ «الرفض» وليس بالتشيّع فقط!! فأنشد في ذلك شعراً كثيراً يؤكّد ما هو عليه من حبّ، وأنّ ما يقال فيه لا يزيده إلاّ إصراراً عليه:
إن كان حبُّ الوليّ رفضاً فإنّني أرفضُ العبادِ (34)
ويقول:
إذا في مجلسٍ نذكُرْ عليّاً وسبْطَيْهِ وفاطمة الزكيهْ‏
يقال: تجاوزوا يا قوم هذا فهذا من حديث الرافضيّهْ‏
برئتُ إلى‏ المهيمن من أُناسٍ‏ يرونَ الرفضَ حُبَّ الفاطميّهْ‏ (35)
أمّا أبو حنيفة فقد خرج من ولاء الأُمويّين إلى ولاء الثورات العلويّة منذ ثورة زيد الشهيد، وبعده محمّد وإبراهيم ولدا عبداللَّه بن الحسن، حتّى مات على ذلك في سجن أبي جعفر المنصور (36).
وحتّى من كان فيه مداراة وتقيّة، كالحسن البصري، فقد أظهر في متنفّساته ما يبعده عن تلك الدائرة، وكلمته في معاوية هي من أشهر ما قيل فيه: «أربع خصال كنّ في معاوية، لو لم يكن فيه إلاّ واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسيف.. واستخدامه بعده ابنه سكّيراً خمّيراً.. وادّعاؤه زياداً.. وقتله حُجراً وأصحاب حُجر، فيا ويلاً له من حُجر! ويا ويلاً له من حُجر» (37)!!
________________________________________
(34)ديوان الإمام الشافعي، ص 38، ط. دار كرم ـ دمشق. وعجزه في الديوان مضطرب المعنى والوزن ولم يبذل المصحّح جهداً في تقويمه، ففيه: «فإنّ رَفضي إلى العباد»، علماً أنّ مصادر أُخرى‏ روت في صدره «حبّ الوصيّ» بدل «حبّ الوليّ».
(35)ديوان الإمام الشافعي م.س.، ص 92، وانظر له في الديوان أيضاً، ص 58، 74.
(36)الملل والنحل، الشهرستاني، 1/140، تاريخ بغداد، 13/398.
(37)الموفّقيّات، 574 ت/372، وقد سقطت منه الخصلة الرابعة من دون أن يتنبّه محقّقه الدكتور سامي مكّي العاني إلى ذلك رغم أنه أثبت في أوّل الحديث: «أربع خصال كنّ في معاوية...». والحديث بنصّه الكامل مشهور جدّاً، انظر: المنتظم، 5/243، الكامل في التاريخ، 3/487، تهذيب تاريخ دمشق، 2/384.

[الصفحة - 130]


وكان من تقيّته أنّه إذا حدّث عن عليّ(ع) لم يذكر اسمه، بل يرسله فيقول: قال رسول اللَّه(ص)، فقيل له: إنّك تقول: قال رسول اللَّه(ص) وإنّك لم تدركه؟!
فقال للسائل: يا ابن أخي، قد سألتني عن شي‏ء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك؛ إنّي في زمانٍ كما ترى‏، فكلّ شي‏ءٍ سمعتني أقول: قال رسول اللَّه(ص)، فهو عن عليّ بن أبي طالب غير أنّي في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاًف (38)!
وكان الأعمش، وأبو إسحاق السبيعي، والنسائي، والحاكم النيسابوري أظهر حبّاً لأهل البيت(ع) من الحسن البصري، ولعلّهم أشبه بالشافعي من غيره.
وهذا الاتّجاه هو الذي غلب في ما بعد على ثقافة الجمهور من «أهل السنّة والجماعة» وظهر بشكل أكثر وضوحاً وتركيزاً لدى‏ أصحاب الاتّجاه الصوفيّ.
لكنّ الذين وقعوا في دائرة الظلّ التامّ من أهل الأثر العلميّ، بعد عصر الهيمنة الأُمويّة والعبّاسيّة، كانوا أفراداً أصبح لهم بعد ذلك أتباع أخذوا بمناهجهم واقتفوا آثارهم، وأهمّ هؤلاء الأفراد ثمّ الجماعات:
أ ـ ابن حزم: الفارسيّ الأصل، الأُمويّ، الولاء، كان جدّه مولى يزيد بن أبي سفيان الأُمويّ أمير دمشق قبل أخيه معاوية.. الظاهريّ المذهب، القُرطبيّ المولد، المولود سنة 384هـ، والمتوفّى‏ سنة 456ه، الذي قُرِن لسانه بسيف الحجّاج، فقيل: «كان لسانُ ابن حزم وسيفُ الحجّاج شقيقين»! وقيل في لسانه أيضاً: «لم يتأدّب مع الأئمّة في الخطاب، بل فجَّجَ العبارة، وسبَّ وجدَّع، فكان جزاؤه من جنس فعله» (39)!
ب ـ أبو بكر بن العربي: العربيّ الأصل، الأندلسيّ الإشبيليّ المولد، المالكيّ المذهب، المولود سنة 468هـ، والمتوفّى سنة 543هـ، الذي عمل قاضياً بإشبيلية فحُمدت سيرته أوّلاً، ثمّ عُزل لأجل شدّته وسطوته!
ومع ما كان عليه من شدّة وسطوة فقد «تعلّق بأذيال المُلك، ولم يجرِ مجرى‏ العلماء في مجاهرة السلاطين وحزبهم، بل داهن!» وكان منافراً لابن حزم، متحاملاً عليه، سلّط عليه لسانه وقلمه، فممّا قاله فيه ممهّداً بذكر الظاهريّة، فيصفهم بأنّهم «أُمّة سخيفة» وأنّ مبدأهم إنّما هو من سنخ مبدأ «الخوارج» حين قالوا: لا حكم إلاّ للَّه.. لينتقل إلى ابن
________________________________________
(38)تهذيب الكمال، 6/124. م.س.
(39)انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، 18/184 - 186 و199. م.س.

[الصفحة - 131]


حزم، فيقول: «وجدتُ القول بالظاهر قد ملأ به المغربَ سخيفٌ كان من بادية إشبيلية يُعَرف بابن حزم... وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سمّاه (نكت الإسلام) فيه دواهٍ، فجرّدت عليه نواهي! وجاءني آخر برسالة في الاعتقاد (40)، فنقضتها برسالة (الغُرّة) والأمر أفحش من أن يُنقض»(41).
ج ـ ابن تيميّة: غير معروف الأصل، الشاميّ الحرّانيّ المولد، الحنبليّ المذهب، المولود سنة 661هـ، والمتوفى‏ سنة 728هـ، الفقيه المعروف بالحدّة والتطرّف، والذي آخى الشقيقين: سيف الحجّاج، ولسان ابن حزم! والذي شذّ في مسائل كثيرة في الفقه وفي العقيدة، فوصفه كثير من العلماء بالنفاق والضَّلال والزندقة بسبب ذلك‏ (42)! فيما اتّخذه بعض المتأخّرين إماماً في الفقه والفكر والعقيدة.
وقد تقدّم في مباحث هذه الدراسة ذكر الكثير من أقوال الأعلام الثلاثة العائدة إلى هذا المنهج الخاطى‏ء.
د ـ «السلفيّة» و«الوهّابيّة»: إنّ هذا المنهج الخاطى‏ء قد أصبح في ما بعد مذهباً لفرقة، بعد أن كان موقفاً لأفراد.. لقد اتّخذت منه الفرقة الوهّابيّة ـ الحادثة في القرن الثاني عشر الهجريّ على يد محمّد بن عبد الوهّاب النجدي، المولود سنة 1111ه والذي ابتدأ دعوته سنة 1143هـ، وتوفّي سنة 1206هـ ـ اتّخذت منه، مذهباً تدين به في تحديد الرؤية إزاء نظريّة الخلافة ونظام الحكم في الإسلام، وإزاء الموقف من الصحابة ومجمل الاعتقاد بهم، وإزاء التاريخ قراءةً ونقداً وتقويماً.. ذلك حين اتّخذت من تراث ابن تيميّة وكتاب «العواصم من القواصم» لابن العربي مصدراً معرفيّاً أساساً تستلهم منه الفكر والمعتقد والمنهج.
وغير «الوهّابيّة» كثير من دعاة «السلفيّة» أيضاً قد تبنّوا هذا المنهج حين منحوا تلك المصادر نفسها الموقع عينه.
ويبقى‏ الفارق بين الفريقين أكبر من مجرّد الانتساب إلى دعوة محمّد بن عبد الوهّاب أو عدمه، فدعاة «السلفيّة» ما زالوا أقرب إلى‏ تلك المصادر مادّةً وروحاً، وربّما تغافلوا عن بعض صفحاتها المنكرة فلم يردّدوا أصداءها، بل ربّما مسّوا ببعضها مسّاً خفيفاً أو غمزوها غمزاً لطيفاًف (43)، فيما يعدّ هذا في نظر «الوهّابيّة» أمراً منكراً في غاية النكارة.. ولقد جاوز
________________________________________
(40)وهي رسالة «الدرّة في الاعتقاد».
(41)انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، 20/198 و200 و202، وترجمة ابن حزم في: المصدر نفسه، 18/188 - 190.
(42)انظر ترجمته في: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ابن حجر العسقلاني ـ ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت. 1/155، الفتاوى‏ الحديثيّة، ابن حجر الهيثمي ط. البابي الحلبي ـ مصر 1409 هـ/1989م، ص 86.
(43)انظر مثلاً: ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/344 و400، ط. المكتب الإسلامي 1406هـ/1985م.

[الصفحة - 132]


الوهّابيّون الحدّ في التطرّف حتّى كفَّروا كافّة المسلمين ولم يستثنوا أحداً وراء دائرتهم الضيّقة دائرة الظلّ التامّ، واستباحوا الدماء والأعراض والأموال، وجاوزوا في ذلك القولَ في سلسلة من الحروب خاضوها مع المدائن الإسلاميّة المحيطة بهم في الحجاز وجنوبيّ العراق‏ (44).
والاتّجاهان معاً: السلفيّة، ابتداءً من القاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفّى سنة 457هـ، وابن الزاغوني المتوفّى سنة 527هـ، مروراً بابن تيميّة المتوفّى سنة 728هـ، وابن قيّم الجوزيّة المتوفّى سنة 751هـ، وانتهاءً برجالهم المعاصرين.. والوهّابيّة، ابتداءً بمحمّد إبن عبد الوهّاب المتوفّى سنة 1206ه، وانتهاءً برجالهم المعاصرين، امتازوا جميعاً بعقائد مشتركة نسبوها إلى السَلَف مجازفةً، ولم يكن لهم فيها سَلَف صدق، حتّى كثر النقد عليهم في ذلك، فقيل في أوّل رجالهم، أبي يعلى‏: «لقد شانَ أبو يعلى‏ الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار» (45).
قال ذلك فقهاء الحنابلة أنفسهم، وفي ابن الزاغوني قالوا: «إنّ في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه» (46)! وقولهم وقول غيرهم في ابن تيميّة أكثر وأشهر (47)! أمّا محمّد بن عبد الوهّاب فهو الأوفر حظّاً في الطعن والتجريح من فقهاء الحنابلة أنفسهم، وأوّلهم أخوه الفقيه سليمان بن عبد الوهّاب‏ (48)، ومن غيرهم، لأنّه كان مفتقراً إلى الكثير ممّا توفّر عليه سابقوه من مادّة العلم وأسباب الاجتهاد.
كان هذا هو الأثر الأوّل من آثار نظريّة الخلافة ونظام الغَلَبة، وقد أصبح المحور الأساس الذي تتمحور من حوله أكبر فرق المسلمين وأوّلها نشوءاً، ثمّ يتفاوت أتباع هذه الفرقة في ما بينهم في درجة القرب أو البعد من هذا المحور.
الصحيح في معنى‏ السنّة والجماعة
الإسلام لم يقل يوماً: إنّ السنّة هي سنّة الحاكم وإرادته، ولا قال يوماً إنّ الجماعة جماعته ومن دان بالطاعة والولاء له، وحاشا أن يقول ذلك فيتحوّل من رسالة إلهيّة هادية للبشر جميعاً وفي كلّ زمان إلى‏ سلّمٍ يركبه الطامحون للحكم!
سُئل الإمام عليّ(ع): ما السنّة؟ وما البدعة؟ وما الجماعة؟ وما الفِرقة؟
________________________________________
(44)انظر: د. محمّد عوض الخطيب، صفحات من تاريخ الجزيرة العربيّة، ص 167 - 203. ط. دار المعراج ـ بيروت 1415هـ/1995م.
(45)محمّد أبو زهرة، المذاهب الإسلاميّة، ص 324. ط. المطبعة النموذجية ـ القاهرة.
(46)المصدر نفسه.
(47)انظر ترجمته في: الدرر الكامنة، 1/155، الفتاوى الحديثيّة، ص 86. م.س.
(48)راجع: كتابه الصواعق الإلهيّة في الردّ على الوهّابيّة سليمان بن عبد الوهاب ط. حسين حلمي الاستانبولي، وكتابه الآخر فصل الخطاب في الردّ على محمّد بن عبد الوهّاب.

[الصفحة - 133]


فقال(ع): «أمّا السنّة، فسنّة رسول اللَّه(ص).. وأمّا البدعة فما خالفها.. وأمّا الفرقة، فأهل الباطل وإن كثروا.. وأمّا الجماعة، فأهل الحقّ وإن قلّوا» (49). وفي جواب طويل له(ع) عن مثل هذا السؤال أيضاً، قال: «أمّا إذا سألتني فافهم عنّي ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي:
فأمّا أهل الجماعة؛ فأنا ومن اتّبعني وإن قلّوا، وذلك الحقّ عن أمر اللَّه وأمر رسوله‏ (50).. وأمّا أهل الفرقة، فالمخالفون لي ومن اتّبعني، وإن كثروا..
وأمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللَّه لهم ورسوله، وإن قلّوا، وإن قلّوا.. وأمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر اللَّه ولكتابه ورسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى‏ منهم الفوج الأوّل وبقيت أفواج..» (51).
ونقل ابن القيّم عن أبي شامة في «الحوادث والبدع»، قوله: «حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحقّ واتّباعه وإن كان المتمسّك به قليلاً والمخالف له كثيراً» (52).
وعن عبداللَّه بن مسعود: إنّ جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة! الجماعة ما وافق الحقّ وإن كنت وحدك‏ (53)!
وسُئِلَ إسحاق بن راهويه عن السواد الأعظم الذي جاء في الحديث: «إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم». فأجاب قائلاً: «محمّد بن أسلم الطوسي وأصحابه ومن تبعه هو السواد الأعظم» ثمّ فسّر ذلك: «لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشدّ تمسّكاً بأثر النبيّ(ص) من محمّد بن أسلم»(54)! وذكر البيهقي حديث إسحاق بن راهويه هذا، فقال: صدق واللَّه، فإنّ العصر إذا كان فيه عارفٌ بالسنّة داعٍ إليها فهو الحجّة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتّبع سواها ولاّه اللَّه ما تولّى وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً (55)!
فإذا قرأت عن أئمّة أهل البيت(ع) أنّهم قالوا: «نحن حزب اللَّه الغالبون» (56) فإنّما ذلك المعنى أرادوا، فهم الجماعة، وهم أهل السنّة، ومن خالفهم فأُولئك أهل الفرقة والبدعة، ذلك لأنّ هذا هو الحقّ الذي به أمر اللَّه تعالى الذي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم
________________________________________
(49)تُحف العقول عن آل الرسول، إبن شعبة الحرّاني، ص 211. ط. منشورات الشريف الرضي ـ قم.
(50)هذا تعليل لكون الجماعة هو(ع) ومن اتّبعه، فلأنّ ذلك هو الحقّ الذي أمر اللَّه به ورسوله.
(51)كنز العمّال، المتّقي الهندي، 16/184/44216. ط. مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1405هـ/1984م.
(52)النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية، محمد العلوي ص 219 - 220. ط. دار الثقافة للطباعة، قم، 1412هـ/1991م.
(53)المصدر نفسه.
(54)حلية الأولياء، 9/238 و239، سير أعلام النبلاء: 12/196 - 197. م.س.
(55)النصائح الكافية، ص 220. م.س.
(56)مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي 3/343، عند تفسير الآية (76) من سورة الحجر. ط. دار المعرفة ـ بيروت.

[الصفحة - 134]


تطهيراً، واصطفاهم، وبه أمر رسول اللَّه(ص) في قوله: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا» لن تكونوا من أصحاب الفرقة والبدعة، إنّما أنتم الجماعة وأهل السنّة وسبيل المؤمنين، ذينك: «كتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض».
المارقون‏
هم أيضاً من ضحايا الواقع التاريخيّ للخلافة وتقلّباته.. ولم يكن لهم في دور تكوينهم الأوّل مقولة يتميّزون بها إلاّ: «لا حكم إلاّ للَّه» في معارضة التحكيم الذي وقع بين الفريقين المتحاربين في صفّين.. فلمّا تميّزوا من جماعة المسلمين بحكم تطرّفهم المنقطع النظير ابتدأوا يصوغون مقولاتهم ويبنون كيانهم العقيدي، فكان الهيكل العام لهذا الكيان من صياغة الواقع التاريخيّ للخلافة؛ فاعتقدوا بخلافة أبي بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ، واعتقدوا أنّ الخلافة شورى‏ وانتخاب..
لكنّ المبدأ الآخر، وهو أساس لديهم مميّز لهم من سواهم، وهو الاعتقاد بكفر مرتكب الكبيرة، قد ترك أثره على الصياغة الأُولى‏ مع المحافظة على ترتيبها، فبقي الإيمان بترتيب الخلفاء كما هو، لكن قسَّموا حكومة عثمان إلى نصفين فآمنوا بالأوّل وكفروا بالثاني وتبرّأوا من عثمان في السنين الستّ الأخيرة من خلافته، وكذا فعلوا مع خلافة عليّ(ع) فآمنوا بأوّلها وكفروا بآخرها منذ التحكيم، ومن الكبائر عندهم عدم البراءة من عثمان وعليّ في السنين الأخيرة من حكمهما، ومثل هذا الذنب يستحلّون به الدماء والأموال!
ثمّ أحدثوا مقولة جديدة في الخلافة، تقضي بجوازها لكلّ مؤمن قادر على القيام بأعبائها ولا تشترط فيه القرشيّة.
والصحيح أنّ الذي ألجأهم إلى‏ هذا الاعتقاد، هو عدم وجود قرشيّ في رجالهم، مع قلّة عددهم بالنسبة إلى غيرهم، وسلوكهم نهج المواجهة بالسيف، فاحتاجوا لأجل ذلك إلى‏ نظمٍ شديد ودقيق لأمرهم ولجماعتهم، فلو التزموا قاعدة «الأئمّة من قريش» لتبدّدوا وضاع أمرهم قبل أن يجتمعوا على قرشيّ يقوم بأعباء منهجهم.. فهذا الذي دعاهم إلى‏ نقض شرط القرشيّة في الخلافة، وليس هو «التطبيق الأوّل لروح فلسفة الإسلام في هذا المقام» كما صوّره الدكتور محمّد عمارة (57) رغبةً في تدعيم النهج «الديمقراطيّ» في
________________________________________
(57)الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلاميّة، محمد عمارة ص 142. ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت طبعة أولى 1398هـ/1977م.

[الصفحة - 135]


الحكم، والذي كان يركّز عليه بشكل بيّن، ولأجله حظي «المارقون» بعطفه، ونال «المعتزلة» المرتبة الأُولى‏ في اهتمامه.. وإلاّ فلقد جمع الأُستاذ نفسه في مقدّمة الموضع المشار إليه من بحثه المادّةَ الكافية في تحصيل الجواب الصحيح لتمرّد «المارقين» على شرط القرشيّة، إذ وضع جدولاً بأسماء زعماء هذه الفرقة، فأحصى‏ ثمانية عشر زعيماً لهم على الترتيب، ليس فيهم قرشيّ واحد، وقد التفت إلى ذلك فقال: فهم جميعاً ما بين عربيّ غير قرشيّ، وما بين مولى من الموالي اشترك في البيعة له «بإمرة المؤمنين» العرب والموالي على حدٍّ سواء!
والذي ينبغي أن يُلتَفت إليه أنّهم لو وجدوا قرشيّاً يسندون أمرهم إليه لما خفيت عليهم المصلحة في تسويده آنذاك، ولسار إلى‏ البيعة له العرب منهم والموالي على حدٍّ سواء.. ألا ترى‏ أنّ منهم من أجاز البقاء بلا إمام، وقالوا: إنّ إقامة الإمام ليست واجبة بإيجاب الشرع، بل جائزة، وإذا وجبت فإنّما تجب بحكم المصلحة والحاجة؟! هذا قول النجدات منهم‏ (58).
فهل انتزعوا هذا من روح فلسفة الحكم في الإسلام؟ أم أملاه عليهم واقعهم، إذ كانوا قليلين خائفين متفرّقين في البلاد لا يستطيعون أن يجتمعوا على إمام لهم إلاّ حين يجدون في أنفسهم قوّة على القتال، أو يرغمون عليه إرغاماً حين تبدأهم السلطة بالقتال! فذلك هو الذي ألجأهم إلى التهرّب من وجوب نصب الإمام والانتظام في جماعة.
وصريح في هذا قول الإباضيّة: «الإمامة واجبة حفظاً للدين، وإذا بلغ عددهم نصف عدد مخالفيهم وجب عليهم نصب الإمامة الإباضيّة، وإلاّ فأولى‏ الأُمور الكتمان» (59)! فذلك كلّه راجع إلى تقديرهم للمصلحة، لا غير!
مرحلة الانقسامات‏
عاود هؤلاء نشاطهم الحربي بعد انتظام الملك لمعاوية، وكانت لهم في العهد الأمويّ حروب عديدة طاحنة كادت تفني وجودهم، فتضعضع أمرهم بسبب ذلك كثيراً.
وزاد في تشتيت أمرهم وقوع الاختلاف الكثير في ما بينهم، في مسائل كثيرة ألحّت عليهم حين أصبحوا يواجهون مباشرة مشاكل المجتمع المعقّد سياسيّاً وفكريّاً، فاختلفت إجاباتهم عنها ومواقفهم إزاءها فتفرّقوا على ذلك فرقاً، اختلف فيها أصحاب تواريخ الفرق
________________________________________
(58)المذاهب الإسلاميّة، محمد أبو زهرة ص 106. ط. المطبعة النموذجية ـ القاهرة.
(59)علي يحيى معمر، الإباضيّة مذهب إسلاميّ معتدل، ص 25 - 26، الطبعة الثانية. بواسطة د. أحمد جلي، الخوارج والشيعة، ص 97 و98. ط. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، طبعة ثانية 1408هـ/1988م.

[الصفحة - 136]


كثيراً (60)، إنّما بقي يجمعهم تحت عنوان رئيسيّ واحد جملة من عقائد المحكّمة الأُولى؛ كالبراءة من أصحاب الكبائر، وتجويز الإمامة لغير القرشيّ، وأنّ الإمامة بالانتخاب، وإذا زاغ الإمام وجب عزله أو قتله.
أمّا أهمّ هذه الأقسام وأكثرها أثراً في التاريخ، فهي ثلاثة:
1 - الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق الحنفي (من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذّاب) وهو صاحب الأسئلة المعروفة في غريب القرآن التي أجابه عنها ابن عبّاس(ع) (61)، وكان لهؤلاء حروب شديدة مع الأُمويّين في البصرة وبلاد فارس، حتّى فَنوا على يد المهلّب بن أبي صفرة في زمن عبد الملك بن مروان‏ (62).
2 - النجدات: أصحاب نجدة بن عامر الحنفي (من قوم مسيلمة أيضاً) وقد تمكّنوا في عزّ قوّتهم من الاستيلاء على البحرين وحضرموت واليمن والطائف..
وأساس الافتراق بينهم وبين الأزارقة كان خلافهم في «التقيّة» و «القعود عن القتال». فقال نافع: التقيّة لا تحلّ، والقعود عن القتال كفر. فخالفهُ نجدة، وقال: التقيّة جائزة، والقعود عن القتال جائز، والجهاد إذا أمكنه أفضل. فافترقا على ذلك، فسمّي النجدات «العاذريّة» لأنّهم عذروا القاعد عن القتال لعذر. ثمّ قال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام إلاّ إذا اقتضت المصلحة، تمشيّاً مع حالهم في التقيّة التي آمنوا بها (63).
3 - الإباضيّة: وهي الفرقة الباقية اليوم من بين سائر فرقهم الأُخرى. لذا رأينا التفصيل في أخبارها أكثر:
التسمية: نسبة إلى عبداللَّه بن إباض (بكسر الهمزة أو بفتحها) ولم يكونوا في تاريخهم المبكّر يستعملون هذه التسمية بل كانوا يسمّون أنفسهم: «جماعة المسلمين» و«أهل الدعوة» ولم تظهر التسمية بالإباضيّة في مؤلّفاتهم إلاّ بعد ثلاثة قرون تقريباًف (64).
قال الراشدي، وهو محقّق إباضيّ: لكنّ طغيان هذا اللقب عليهم جاء من خصومهم الأمويّين ومن جرى‏ مجراهم.. فارتضوه لأنّهم لم يجدوا عيباً فيه، بعكس كلمة «الخوارج» وإنْ أطلقها ـ أي كلمة الخوارج ـ المؤرّخون الإباضيّون القدامى‏ على أنفسهم في بادى‏ء الأمر، فإنّهم يعنون الخروج على الجور وهو الخروج في سبيل اللَّه، ويرادف الشراء عندهم‏ (65).
________________________________________
(60)انظر: الأشعري، مقالات الإسلاميّين، 1/163 - 191، الطبعة الثانية 1405هـ/1985م، الشهرستاني، الملل والنحل، 1/105 - 124. م.س.
(61)انظر: الإتقان في علوم القرآن السيوطي، 2/56 - 88. ط. المكتبة العصرية ـ بيروت 1409هـ/1988م.
(62)انظر: الكامل في التاريخ، 4/443. م.س.
(63)انظر: الملل والنحل، 1/112. م.س.
(64)مبارك بن عبداللَّه بن حامد الراشدي، الإمام أبو عبيدة التميميّ وفقهه، ص 146 - 147. الطبعة الأولى 1413هـ/1993م. وانظر: د. صابر طعيمة، الإباضيّة عقيدة ومذهباً، ص 46 فقد نقل مثل هذا عن المؤرّخ الإباضي يحيى‏ بن معمر، في كتابه الإباضيّة بين الفرق الإسلاميّة، ص 354.
(65)الراشدي، الإمام أبو عبيدة التميميّ وفقهه، ص 147 - 148.

[الصفحة - 137]


وقال السيابي: هذه التسمية جاءتنا من مخالفينا، فقبلناها غير متبرّمين منها (66).
النشأة والتكوين: ينفي الإباضيّون صحّة نسبتهم إلى ابن إباض، ويعدّونه واحداً من رؤسائهم فقط، أمّا مبادؤهم التي ميّزتهم فقد كانت قبل ابن إباض، فقد أعلنها أوّلاً أبو بلال، مرداس بن حدير، وهو أحد المحكّمة الأُوَل وممّن نجا من أصحاب النهروان، وانفصل عن المارقة في البصرة، قائلاً: «واللَّه إنّ الصبر على هذا ـ يعني الظلم الأمويّ ـ لعظيم.. وإنّ تجريد السيوف وإخافة السبيل لعظيم.. ولكنّنا ننتبذ عنهم، ولا نجرّد سيفاً، ولا نقاتل إلاّ مَن قاتَلنا» (67).
وهذا هو المبدأ الذي ميّز هذه الطائفة من غيرها من المارقة، وهو الذي حفظ لها وجودها وبقاءها.
وقد روي عن أبي بلال اعتقاده هذا قبل انفصاله، فحين بلغه أنّ قريب الأزدي وزحّاف الطائي يخيفان السبيل ويقتلان من صادفهما، قال: «قُريب، لا قرّبه اللَّه! وزحّاف، لا عفا اللَّه عنه! ركباها عشواء مظلمة» (68).
وكان أصحاب مرداس أربعين رجلاً، قتلوا جميعاً قبل ظهور ابن إباض، فيكون ابن إباض هو الرجل الذي جدّد هذه الدعوة، فنسبت إليه.
أمّا مرجعهم في الفقه والأُصول والعقيدة فيعود إلى جابر بن زيد بن أبي الشعثاء الأزدي‏ (69)، وهو تابعيّ، خرّج أحاديث البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، واتّفقوا على توثيقه، وصرّح يحيى‏ بن معين بنسبته إلى الإباضيّة، لكنّ المزّي ذكر رواية تنسب إليه القول بالبراءة منهم؛ قيل له: «إنّ هؤلاء القوم ـ الإباضيّة ـ ينتحلونك. فقال: أبرأ إلى اللَّه منهم» (70)!
أمّا مصدرهم المعتمد في السُّنن والأحكام، فهو مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصريّ، ويسمّونه «الجامع الصحيح» ويعتقدون بصحّة كلّ ما فيه سواء كان مسنداً أم مرسلاً، وهو عندهم أصحّ كتاب بعد القرآن العزيز (71).
وقد ضمّ المسند ألف حديث ونيّف‏ (72)، ومعظم هذا المسند هو من رواية جابر بن زيد عن ابن عبّاس، وفيه أحد عشر حديثاً ومسألة عن عليّ(ع).
________________________________________
(66)عدّون جهلان، الفكر السياسيّ عند الإباضيّة، ص 36. ط. مكتبة الظامري، طبعة ثانية 1411هـ/1991م.
(67)الراشدي، مصدر سابق/589، المبرّد، الكامل 2/202.
(68)المبرّد، الكامل 2/198 - 199.
(69)الراشدي، الإمام أبو عبيدة وفقهه، ص 148، عدّون جهلان، الفكر السياسيّ عند الإباضيّة، ص 32 - 33.
(70)انظر ترجمته في: تهذيب الكمال، 4/436، تهذيب التهذيب، 2/34.
(71)عبداللَّه بن حمد السالمي، الجامع الصحيح ـ المقدّمة، التنبيه الأوّل، ص 2. ط. مكتبة مسقط 1415هـ/1994م.
(72)ينتهي تسلسل أحاديثه برقم 1005، لكنّ كثيراً من الأرقام قد وضع وراءها أكثر من حديث واحد مختلفة سنداً ومتناً، كما في الرقم (788) و(792) و(805) وغيرها.

[الصفحة - 138]


الانتشار: كان لهذا المذهب انتشار مبكّر في عُمان، تأثّراً بجابر بن زيد صاحب المسند الجامع، كما انتقل هذا المذهب من البصرة إلى المغرب العربي بواسطة سلمة بن سعد في سنة 100هـ، في الوقت نفسه الذي انتقلت فيه مقولة الصفريّة ـ إحدى فرق المارقة ـ إلى هناك بواسطة عكرمة مولى ابن عبّاس.
ومن هنا فقد ظهرت لديهم أحاديث عجيبة في فضل البربر وأهل عمان؛ فجبريل يوصي النبيّ(ص) بتقوى‏ اللَّه وبالبربر! وعليّ وابن مسعود يُكثران الوصاية بهم ويفسّران غير آيةٍ من آي القرآن فيهم، كقوله تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة/5: 54] وقوله تعالى: { إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمَّد: 47: 38] فالقوم، في هاتين الآيتين، وفق هذا التفسير، هم البربر!
وقد سئل شيخهم المعاصر عن هذه الأحاديث، فقال: الأحاديث التي وردت في فضائل أهل عمان وفي فضل عمان نفسها أخرجها مسلم في صحيحه! وأمّا التي ذكرها أبو زكريّا في البربر فلا يُعلَم صحّتها من عدمها، أمّا الجامع الصحيح فليس فيه شي‏ء لا في عمان وأهلها، ولا في البربر (73)!
المبادى: المبادى‏ء التي ميّزتهم من سائر طوائف المارقين، هي:
أ ـ استنكارهم الحكم على دار الإسلام كلّها بأنّها دار حرب، وقولهم بأنّها دار توحيد، إلاّ معسكر السلطان فإنّه دار بغي.
ب ـ تحريمهم قتال مخالفيهم وسبيهم في السرّ غيلةً، إلاّ بعد نصب القتال وإقامة الحجّة.
ج ـ الحكم على مخالفيهم من المسلمين بأنّهم كفّار نعمة، لا كفّار في الاعتقاد ولا مشركين.. وقال المعاصرون منهم: إنّ لفظ «كفّار نعمة» يطلقه الإباضيّون حتّى‏ على العصاة منهم، من دون تمييز بين أبناء جماعتهم وبين مخالفيهم.
د ـ إنّهم يعاملون مخالفيهم في القتال معاملة الفئة الباغية، فلا يستحلّون شيئاً من أموالهم غنيمةً(74).
________________________________________
(73)الراشدي، الإمام أبو عبيدة التميميّ وفقهه، ص 335. م.س.
(74)راجع في ذلك كلّه: الملل والنحل، 1/121، المذاهب الإسلاميّة، ص 127.
[الصفحة - 139]
هـ ـ في موقفهم من الإمام عليّ(ع) ومن عثمان اختلفوا كثيراً عن غيرهم، فقالوا: «إنّ ممّا يميّز الإباضيّة: حبّهم لأبي بكر وعمر، وكفّ ألسنتهم عن عثمان وعليّ لما ألمّا به من الفتن وتقلّب الأحوال، وقبولهم عمر بن عبد العزيز، وتركهم ما سواه من بني أُميّة وإعراضهم عنهم وعن بني العبّاس» (75). ونسبوا هذا القول إلى سَلَفهم الأوّل، كأبي عبيدة التميمي وشيخه جابر بن زيد(76).
وقد استنكروا على بني أُميّة شتمهم أمير المؤمنين والسبطين(ع) وعدوّه من بدعهم في الدين، ونقلوا عن أسلافهم أنّهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم لئلاّ يسمعوا هذا الشتم في خطب الأُمويّين‏ (77). وزادوا على ذلك أنّ أصحابهم هم الذين طلبوا من عمر بن عبد العزيز ترك ذلك والنهي عنه، ففعل‏ (78)!
وأجاب السيَّابي عن سؤال في الحسن والحسين(ع)، فقال: «أمّا الحسن والحسين فهما سبطا رسول اللَّه(ص) وريحانتاه، وهو يُحبّهما، ووردت فيهما أحاديث، أمّا الأحداث التي جرت بين الصحابة فكلّهم مجتهد وملتمس للحقّ ـ فيذكر المتقدّمين الذين شهدوا الأحداث فحكموا بما شهدوا، ثمّ يقول ـ : أمّا اليوم فلسنا نحن مثلهم ولا علمنا في ذلك كعلمهم، ولا نقلّد ديننا الرجال، وما كلّفنا اللَّه التنقيب والتفتيش عن عيوب الناس وعن حال من مضى { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة/2: 134].
وما مضى قبلك لو بساعة دعه فليس البحث عنه طاعة» (79)
فهذا أثر واضح للتحرّر نسبيّاً من قيد التقليد، ولو انتفضوا مرّة أُخرى‏ لنسفوا حجاب السَّلَف وبلغوا الأخذ المباشر عن رسول اللَّه(ص) واتّبعوه، وكم أرشَدَنا إلى التمسّك بأهل بيته وموالاتهم!
ولقد جاوز الإباضيّة التقليد الأعمى‏ في عهد مبكّر، كما هو ظاهر جدّاً عند ابن سلام الإباضي المتوفّى بعد سنة 273ه في كتابه «بدء الإسلام وشرائع الدين» (80).
وقال شيخهم المعاصر أحمد الخليلي يصف ما كتبه الإباضيّة في هذا الشأن بأنّه «يتّسم بالأدب والحشمة وتعظيم مقام الإمام عليّ واحترام قرابته من النبيّ(ص) حتّى في مقام العتاب» (81).
________________________________________
(75)أصدق المناهج في تمييز الإباضيّة من الخوارج، سالم السمائلي ص 29 القاهرة 1400هـ/1979م، فصل الخطاب في المسألة والجواب، ص 20 و21 و37.
(76)الفكر السياسيّ عند الإباضيّة، عدون جهلان، ص 76. م.س.
(77)ابن سلاّم الإباضيّ، بدء الإسلام وشرائع الدين، ص 99، الإمام أبو عبيدة وفقهه، ص 90. م.س.
(78)الإمام أبو عبيدة وفقهه: 152. م.س.
(79)فصل الخطاب في المسألة والجواب خلفان السيّابي، ص 20. ط. وزارة التراث القومي والثقافة ـ عُمان 1404ه. فيرنر شفارتس وسالم بن يعقوب.
(80)شارك في تحقيقه: فيرنرشفارتس، والشيخ الإباضيّ سالم بن يعقوب، طبع سنة 1406هـ/1986م.
(81)الفكر السياسيّ عند الإباضيّة، ص 76. م.س.

[الصفحة - 140]


وهذه ظاهرة يجدها الباحث في غالب كتبهم، ولم أجد من شذّ عنها من بين عدّة كتب لهم بحثت فيها بدقّة إلاّ محمّد بن سعيد الأزدي القلهاني، من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، في كتاب «الفِرق الإسلاميّة من خلال الكشف والبيان» (82).
من عقائدهم في الصفات: إنّ أغلب عقائدهم في الصفات مطابق للثابت عن أهل البيت(ع)، وهذه أهم أركانها:
أ ـ تنزيه اللَّه تعالى، بنفي التشبيه والتعطيل والتجسيم، خلافاً للحشويّة، والمجسّمة، والجهميّة المعطّلة.
ب ـ نفي رؤية العباد لربّهم تعالى شأنه، في الدنيا وفي الآخرة، خلافاً للأشعريّة والحشويّة.
ج ـ القول بأنّ صفات اللَّه عين ذاته، وليست بزائدة عليها، خلافاً للأشعريّة والحشويّة (83).
ولأجل هذه العقائد وصفهم بعض المؤرّخين بأنّهم «معتزلة» في العقائد، وقَلَبَ آخرون القول، مع إقذاع في الكلام، فوصفوا المعتزلة بأنّهم «مخانيث الخوارج» (84)!
لكنّ الإباضيّة خالفوا المعتزلة، كما خالفوا أهل البيت(ع)، ووافقوا الحشويّة والأشعريّة في القول بخلق القرآن‏ (85).
الجبريّة
لقد احتاج الأُمويّون، منذ البداية، إلى تسويغ سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي، فسلكوا إلى ذلك طريقاً هو أقبح من معاصيهم كلّها، ذلك حين ذهبوا إلى تأويل بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما هو من قضاء اللَّه تعالى وقدره، وليس من أيدينا، بل حتّى مناصبهم هذه فهي من اللَّه تعالى فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء!! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك! وليكونوا مخوّلين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك.. وبمثل هذا التأويل الفاسد أصبح يتكلّم بعدهم علماء كبار!! يقول ابن العربي في معرض «تأسّفه!» على مصرع الحسين(ع): «ولولا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الأُمّة بأنّه أمر صرفه اللَّه عن أهل البيت... ما أسلموه أبداً» (86)!
________________________________________
(82)طبع في تونس عام 1405هـ/1984م بتحقيق محمّد بن عبد الجليل.
(83)الفكر السياسيّ عند الإباضيّة، ص 68 - 72. م.س.
(84)المصدر نفسه، ص 82. ونسبه إلى ابن تيميّة! والصواب أنه كلام معروف قبل ابن تيميّة (728هـ)بقرون، فقد نقله البغداديّ (429هـ) بنصّه في كتاب رالفرق بين الفِرق: 82.
(85)الفكر السياسيّ عند الإباضيّة، ص 79. م.س.
(86)العواصم من القواصم لابن عربي، بتعليق محبّ الدين الخطيب: 245. ط. دار الجيل ـ بيروت 1407هـ/1987م.

[الصفحة - 141]


والحقّ أنّنا لو تقدّمنا في عمق التاريخ لوجدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق لها على لسان عمر بن الخطّاب، وهو يردّ على ابن عبّاس تذكيره بإرادة رسول اللَّه(ص) في تنصيب عليّ لخلافته، فيقول: وماذا كان، إذا أراد رسول اللَّه شيئاً وأراد اللَّه شيئاً غيره؟!
وفي الحالين كان «نظام الغَلَبة» هو الباعث إلى هذه المقولة!
ولقد حاول معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة، لكنّه اصطدم في أوّل محاولة له بعقلٍ حرّ أفسد عليه حيلته خطب معاوية خطبةً قال فيها: إنّ اللَّه تعالى يقول: { وَإِنْ مِّنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عَنْدَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر/15: 21] فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم؟!
فقال له الأحنف بن قيس: إنّا واللَّه ما نلومك على ما في خزائن اللَّه، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه‏ (87)!
عندئذٍ أخذتْ هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الأُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ واسع في وقت مبكّر جدّاً.
ـ قيل لابن عبّاس: إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل اللَّه تعالى، وأنّ اللَّه أجبرهم على المعاصي!
فقال: لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه، لا تقولوا أجبر اللَّه على المعاصي، ولا تقولوا لم يعلم اللَّه ما العباد عاملون‏ (88)!
ـ ولقد أدرك ابن عبّاس أنّ مصدر هذا الانحراف الفكريّ هو السلطة وأنصارها، فخاطبهم خطاباً عنيفاً، قال فيه: أتأمرون الناسَ بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون؟! وتنهونَ الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون؟! يا أبناء سَلَف المنافقين، وأعوان الظالمين، وخزّان مساجد الفاسقين! هل منكم إلاّ مفترٍ على اللَّه، يجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه علانيةً إليه؟! (89).
ـ واقتحمت هذه العقيدة البصرة، ورقت إلى مجلس الحسن البصري، فزجر أصحابها، وقال: «إنّ اللَّه خلقَ الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغَلَبة، وهو
________________________________________
(87)ربيع الأبرار الزمخشري، 1/683. منشورات الشريف الرضي ـ قم 1410هـ/1989م.
(88)المذاهب الإسلاميّة، ص 173 عن (المنية والأمل) للمرتضى‏.
(89)المذاهب الإسلاميّة، ص 172.

[الصفحة - 142]


القادر على ما أقدرهم عليه، والمالك لما ملّكهم إيّاه، فإن يأتمروا بطاعة اللَّه لم يكن لهم مثبّطاً، بل يزيدهم هدىً إلى هداهم وتقوىً إلى تقواهم، وإن يأتمروا بمعصية اللَّه كان اللَّه قادراً على صرفهم، إن شاء حال بينهم وبين المعصية، فمن بعد إعذار وإنذار» (90).
ورغم تلك المواجهات فقد ترقّى الأمر بهذا المذهب حتّى دان به كبار من أهل العلم ودافعوا عنه حتّى أصبح هو المذهب الغالب في ملّة الإسلام، حتّى‏ انتقل إلى الأشعري فعزّزه ونفخ فيه روحاً جديدة، بعد تعديل لفظيّ أدخله بعنوان «الكسب» (91) وهو مفهوم اعتباريّ ليس له أيّ قيمة حقيقيّة، وإنّما أُريد به التميّز من الجبريّة الخالصة التي طالما سخر منها الأشعري أيّام كان معتزليّاً.
ومنذ زمن عبد الملك بن مروان كان أقطاب هذا المذهب في الشام يروّجون لفكرة جديدة تساهم في تطويره، لكنّها افتضحت حين لم يتقنوا صياغتها، إذ كانوا يقولون: إنّ اللَّه إذا استرعى‏ عبداً رعيّته كتبَ له الحسنات، ولم يكتب عليه السيّئات! لكنّها كانت مقولة هزيلة تردّد حتّى الوليد بن عبد الملك في قبولها (92).
وبقيت هذه المقولة تَتّهم اللَّه تعالى بإكراه العبد على المعاصي، وأنّه تعالى هو الخالق لهذه المعاصي التي تجري على أيدي العباد، ثمّ هو يعذّبهم عليها! بحجّة ساذجة يردّدونها دوماً، مفادها أنّ اللَّه تعالى لا يُعصى مكرَهاً، فهو إذن لا يعصى‏ إلاّ وهو يريد أن تقع هذه المعصية من العاصي، ثمّ هو الذي يخلقها فيه لأنّه { خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات/37: 96] ! هكذا من دون تمييز بين إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة، ولا معرفة صادقة بمعاني هيمنة اللَّه تعالى‏ وقدرته.
المفوّضة «القدريّة»:
إنّ دعوة الأمويّين لتثبيت دعائم الجبريّة كانت السبب المباشر في ظهور الاتّجاه العقيديّ المعاكس الذي أَنكر الجبر، ونادى‏ بحرّية الاختيار الإنسانيّ.. وفي الموطن نفسه الذي نبتت فيه عقيدة الجبر وترعرعت نشطت العقيدة المعاكسة، وإن كان أوّل ظهور لها في العراق على يد التابعيّ معبد الجهني، وعنه أخذها صاحبه غيلان الدمشقيّ..
فكانت هذه العقيدة ردّ فعل صريحاً على القول بالجبر.. ففي أوّل لقاء لمعبد الجهني بالحسن البصريّ في البصرة، قال له: يا أبا سعيد، إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم، ويقولون: إنّما تجري أعمالنا على قَدَر اللَّه!
________________________________________
(90)العقد الفريد، 2/83، ونحوه في المذاهب الإسلاميّة، ص 172 و173 عن المنية والأمل.
(91)اضطربوا في تعريف الكسب كثيراً، والمحصّل أنّ بين قدرة اللَّه المؤثّرة على العبد وبين إيجاد اللَّه لأفعال العبد، هناك قدرة حادثة مقارنة لقدرة اللَّه، وهي الكسب.. وقد اعترف متأخّروهم بأنّ هذا الكلام لا معنى له، إذ ما فائدة وجود قدرة ليس لها أيّ دور إلاّ الاقتران؟ [الشعراني، اليواقيت والجواهر، 1/140] وقد طعن أكثر الناس بنظريّة «الكسب» وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النّظام وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري! وأنشد بعضهم في ذلك: ممّا يقالُ ولا حقيقة تحته‏ معقولة، تدنو إلى الأفهامِ‏الكسبُ عند الأشعريِّ والحالُ عن دَ الهاشمي، وطفرةُ النّظامِ‏ [ابن تيميّة، منهاج السنّة، 1/127].
(92)انظر: استفساره من الزهري عنها، وجواب الزهري في إبطالها، العقد الفريد، 1/46.

[الصفحة - 143]


فقال له الحسن البصري: كذبَ أعداءُ اللَّه‏ (93)!
وثار معبد على الأُمويّين في حركة القرّاء أيّام عبد الملك بن مروان، فأخذه الحجّاج بعد فشل الحركة فعذّبه ثمّ قتله‏ (94).
ومضى‏ غيلان في دمشق يشنّع على الأُمويّين وأنصارهم في استنكار مقولتهم الجبريّة، حتّى‏ أحسّ أنّهم طلبوه، فهرب منهم حتّى زمن عمر بن عبد العزيز، فلمّا رأى‏ منه عدلاً كتب إليه كتاباً يذكّره فيه، ويعظّم عليه مقولة سَلَفه، ممّا جاء فيها، قوله: «هل وجدتَ يا عُمر حاكماً يعيبُ ما يصنع؟ أو يصنع ما يُعيب؟ أو يعذّب على ما قضى؟ أو يقضي ما يُعذِّب عليه؟! أم هل وجدتَ رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة؟ أو يعذّبهم على الطاعة؟! أم هل وجدت عدلاً يحمل الناسَ على الظلم والتظالم؟ وهل وجدتَ صادقاً يحمل الناس على الكذب والتكاذب؟! كفى‏ ببيان هذا بياناً، وبالعمى عنه عمى»(95)!
فدعاه عمر بن عبد العزيز فسأله عن عقيدته ليناظره فيها، وكان عمر جبريّاً، وكان من وراء عمر حاجب له يشير إلى غيلان بالذبح؟ فعلم غيلان أنّ عمر قد عزم على قتله، فأجابه إلى ما أراد، وقال له: «لقد جئتك ضالاً فهديتني، وأعمى‏ فبصّرتني، وجاهلاً فعلّمتني، واللَّه لا أتكلّم في شي‏ء من هذا الأمر» (96)! لكنّه عاد إلى الكلام فيه بعد موت عمر، حتّى قبض عليه هشام بن عبد الملك فقتله بعد مناظرة قصيرة أدارها معه الأوزاعي بدعوة من هشام لتكون ذريعةً إلى القتل الفوريّ‏(97).
والخطأ الذي ارتكبه هؤلاء أنّهم حين قالوا بالإرادة والاختيار فوّضوا كلّ شي‏ءٍ إلى الإنسان ونفوا كلّ أثر لمشيئة اللَّه تعالى وإذنه، ففرّطوا في مشيئة اللَّه في مقابل إفراط الجبريّين الذين عطّلوا أيّ دور وأثر للإنسان في أقواله وأفعاله!
وانتقل هذا المذهب من معبد وغيلان إلى المعتزلة، فبقي ببقائهم، ثمّ اضمحلّ باضمحلالهم.
ـ أمّا ما يتناقله أصحاب الفِرَق وتواريخها من نسبة هذه المقولة إلى النصارى‏ وأنّ معبد الجهني أخذها من رجل نصرانيّ، فهو كلام ليس له قيمة علميّة، ولا يعدو كونه لوناً من ألوان التراشق بالتُّهم بين الخصوم، مع ملاحظة أنّ هذا الفريق كان يواجه تيّار السلطة وأنصارها!
________________________________________
(93)انظر: تطوّر تفسير القرآن، محسن عبد الحميد ص 101. ط. جامعة بغداد 1408هـ/1987م.
(94)البداية والنهاية، 9/43.
(95)المذاهب الإسلاميّة، ص 188. م.س.
(96)مختصر تاريخ دمشق، 20/241 و242. م.س.
(97)راجع: مختصر تاريخ دمشق، 20/244 و245، المذاهب الإسلاميّة، ص 190.

[الصفحة - 144]


ولهذا السبب نفسه تجد كتب الحديث مليئة بالأحاديث التي تؤيّد عقيدة الجبر، وتحذّر من «القدريّة» ومقولتهم في نفي القدر! وتعدّت الأحاديث تسمية القدريّة إلى تسمية غيلان الدمشقي باسمه الصريح ونسبته الدمشقيّة، تدينه وتحذّر منه، وتثني على وهب بن منبّه الذي كان يخاصمه دفاعاً عن عقيدة السلطان‏ (98)!! الحديث يقول: «سيكون في أُمّتي رجلان: أحدهما يقال له وهب، يؤتيه اللَّه الحكم، والآخر يقال له غيلان هو شرّ على أُمّتي من إبليس» (99)!!
بل ولهذا السبب نفسه لُقّب هؤلاء بالقَدَريّة وهم نفاة القَدَر، وهذا اللقب أولى‏ أن يطلق على من أثبت القدر اللازم، وسرّ ذلك أنّ القويّ المتغلّب لمّا علم بالحديث المرويّ في ذكر مجوس هذه الأُمّة وقد سمّاهم «القدريّة» سارع إلى تطويق خصومه به والاحتيال في تسويغه‏ (100)! وسوف تأتي شهادة الإمام عليّ(ع) أنّ القدريّة الذين شبّههم الحديث بالمجوس إنّما هم القائلون بالجبر، والذين سُمّوا جبريّة (101)!
هَديُ الكتاب والسنّة في الفعل والإرادة
ـ عن عليّ(ع)، وهو يردّ شبهة علقت في ذهن أحدهم، قال: «لعلّك تظنّ قضاءً حتماً وقَدَراً لازماً! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم يكن على مسي‏ءٍ لائمة، ولا لمحسن محمَدة.. تلك مقالةُ عَبَدةِ الأوثان وخصماء الرحمن، وقَدَريّة هذه الأُمّة ومجوسها..»! فهو إلى هنا ينقض مقولة الجبريّة ويسمّيهم بالإسم الذي هو أوفق بهم «القَدَريّة» لأنّهم الذين أثبتوا القدر اللازم.. ثمّ يُخبر بأنّ هؤلاء هم المرادون في حديث: «القدريّة مجوس هذه الأُمّة» وليس خصومهم القائلين بالتفويض!
ثمّ يواصل(ع) كلامه قائلاً:
«إنّ اللَّه عزّ وجلّ كلّف تخييراً، ونهى‏ تحذيراً، وأعطى‏ على القليل، ولم يُعصَ مكرَهاً، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنّ الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار» (102)! وهذا ردّ على الفريقين: الجبريّة والمفوّضة معاً.
ـ الإمام جعفر الصادق(ع)، قال: «إنّ الناس في القَدَر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ اللَّه عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا ظَلَمَ اللَّه في حكمه، فهو كافر.. ورجل
________________________________________
(98)الطبقات الكبرى، ابن سعد 5/543، سير أعلام النبلاء، 4/546.
(99)انظر: دلائل النبوّة، البيهقي، 6/496.
(100)انظر: الملل والنحل، ص 49. م.س.
(101)نهج البلاغة، 481 رالحكمة 78، أبو جعفر الصَّدوق، التوحيد، باب 60 ح/28.
(102)أبو جعفر الصدوق رالتوحيد، باب 59 ح/5.

[الصفحة - 145]


يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم، فهذا قد أَوهَنَ اللَّهَ في سلطانه، فهو كافر.. ورجل يزعم أنّ اللَّه كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسنَ حمدَ اللَّه، وإذا أساء استغفر اللَّه، فهذا مسلم بالغ» (103).
الإمام الرضا(ع)، قال: «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه: إنّ اللَّه عزّ وجلّ لم يُطَع بإكراه، ولم يُعْصَ بغلَبة، ولم يُهمل العباد في ملكه، وهو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمرَ العباد بطاعته لم يكن اللَّه عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينَهم وبين ذلك فَعل، وإن لم يَحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه» (104).
وعشرات النصوص في هذا المعنى‏ عن سائر الأئمّة من أهل البيت(ع)، وهم يشرحون العقيدة الصحيحة، ويردّون الانحرافات.. ولقد رأينا مثل هذا المعنى عند ابن عبّاس والحسن البصري كما تقدّم، وعلى هذه العقيدة أتباع أهل البيت(ع)، وأقرب الناس إليهم فيها «السلفيّون»: ابن تيميّة وأتباعه‏ (105).
المرجئة:
المحصّل المشترك في تاريخ المرجئة قليل بالنسبة إلى حجم الاختلاف في تفصيلاته، وإنّما يشقّ البحث طريقه بين الخطوط المتقاطعة والمتقابلة صوب الحقيقة الواحدة أو أقرب النقاط إليها.
ويكاد المحصّل المشترك ينحصر في مصدر التسمية، وفي الأقسام الرئيسيّة ـ دون الفرعيّة ـ للمرجئة والمرجع في تقسيمها، وفي بعض الأعلام المنسوبين إلى هذه الطائفة دون بعض:
أمّا مصدر التسمية بالمرجئة؛ فهو الاشتقاق؛ إمّا من الإرجاء بمعنى‏ التأخير، كما في قوله تعالى: { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } [الأعراف/7: 111 والشعراء/29: 36]أي أمهله وأخّره، وذلك لأنّهم يؤخّرون العمل عن الإيمان، أي يقولون: إنّ الإيمان إنّما هو معرفة بالقلب وتصديق باللسان، ولا يضرّ مع الإيمان ذنب.. أو لأنّهم أرجأوا الحكم في مرتكب الكبيرة إلى اللَّه تعالى، كما في قوله تعالى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ } [التوبة/9: 100].
________________________________________
(103)المصدر نفسه، باب 59 ح/7.
(104)ابن تيميّة، العقيدة الواسطيّة (بشرح محمّد خليل هراس، ص 109)، المذاهب الإسلاميّة، ص 193 - 197.
(105)انظر: الملل والنحل، 1/125، الخطط المقريزيّة، 2/349. م.س.

[الصفحة - 146]


أو هو مشتقّ من الرجاء، بمعنى‏ رجاء الثواب لأهل المعاصي، لقولهم: لا تضرّ مع الإيمان معصية(106).
أمّا أقسام المرجئة، فالرئيسيّة المتّفق عليها تقريباً ثلاثة:
أ ـ مرجئة القدريّة: الذين قالوا بالقَدَر (التفويض) مع الإرجاء.
ب ـ مرجئة الجبريّة: الذين قالوا بالجبر مع الإرجاء.
ج ـ المرجئة الخالصة: الذين لم يخلطوا الإرجاء بالجبر ولا بالتفويض‏ (107).
وقسم رابع ذكره الشهرستاني بعنوان: مرجئة الخوارج. كما ذكر أنّ «غيلان الدمشقي» أحد زعماء الإرجاء، قد جمع خصالاً ثلاثاً: الإرجاء، والقَدَر، والخروج‏ (108).
إذن هذه أقسام يجمعها القول بأنّ الإيمان معرفة بالقلب وتصديق باللسان، ولا يضرّ معه معصية، وأنّ الحكم على المذنبين مُرجأ إلى اللَّه تعالى، وعامّتهم قالوا: إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص..
ثمّ اختلفوا بعد ذلك في عقائد أُخرى‏ على أساسها جرى‏ تقسيمهم المذكور.
وثمّة أصل آخر مذكور، جامع لجميع تلك الأقسام، وهو ما ذكره الشهرستاني من أنّ الإرجاء قد يطلق على من أخّر أمير المؤمنين عليّاً عن مرتبته إلى المرتبة الرابعة (109).
وعلى هذا القول الأخير تكون «المرجئة» التسمية الأسبق لـ «أهل السنّة والجماعة»! وهو بهذا المعنى‏ تعبير تامّ عن الواقع التاريخيّ للخلافة.
لكنّ الذي يثار هنا أنّ هذه التسمية سيكون مصدرها عندئذٍ القائلين بتقديم عليّ(ع)، وهذه التسمية إن لم تظهر في أيّامه، فقد كان بعده أهل بيته وأنصاره مضطهدين سياسيّاً وإعلاميّاً واجتماعيّاً، فهل كان موقعهم ذاك يؤهّلهم لإطلاق هذه التسمية على خصمهم المتنفّذ القاهر حتّى تغلب عليه؟!
ويكفي، في الجواب عن هذا الإيراد، التعريف الذي أورده أبو الخلف الأشعري، فهو مطابق لما قاله الشهرستاني في شمول لقب «المرجئة» للقائلين بتأخير الإمام عليّ، لكن ليس التأخير هذا هو مصدر التسمية، إنّما كان مصدرها «عقيدتهم في تولّي المختلفين جميعاً، وزعمهم أنّ أهل القبلة كلّهم مؤمنون، ورجوا لهم جميعاً المغفرة» (110). إذن رجاؤهم المغفرة للجميع هو مصدر تسميتهم.
________________________________________
(106)الفرق بين الفرق، ص 151، الملل والنحل، 1/125. م.س.
(107)الملل والنحل، 1/125، 127.
(108)الملل والنحل، 1/125. ومن الغريب جدّاً أنّ الأُستاذ محمّد عمارة ينسب هذا القول إلى كتاب «الكافي» للكليني، فيقول: وفي الكافي نصّ هامّ يشهد لهذا التفسير يقول: «وقد تُطلق المرجئة على من أخّر أمير المؤمنين عليّاً عن مرتبته». والنصّ الهامّ هذا كما علم الأُستاذ هو في هامش الكافي (1: 169) وليس في الكافي، والهامش كما لا يخفى‏ على أحد ليس لصاحب الكافي بل هو للمحقّق، وقد أخذه الأخير من كتب الفِرق، فكيف ينسب إلى الكافي؟! ولكن صنع الأستاذ هذا لغرض سيأتي ذكره.
(109)المقالات والفِرق، ص 5 - 6.
(110)أحمد بن حمدان الرازي، أبو حاتم، كتاب الزينة، ص 263 - 266، ملحق بكتاب «الغلوّ والفرق الغالية» للدكتور عبداللَّه سلّوم السامرائي.

[الصفحة - 147]


لكن أحمد بن محمّد الرازي قد نبّه إلى خطأ لم يتنبه له سابقه، فعدّ إرجاع لفظ «المرجئة» إلى الرجاء من الكلام العامّي! لأنّ الرجاء من رجا، يرجو، فهو راجٍ، وأمّا المرجى‏ء، فهو من أرجأ يرجى‏ء فهو مرجى‏ء. فصوّب النسبة إلى التأخير بكلا وجهيه المذكورين، إمّا من قولهم في أصحاب الذنوب: «نرجى‏ء أمرهم إلى اللَّه» وإمّا من تأخيرهم العمل عن الإيمان. قال: ولكن هذا صحيح من حيث اللغة فقط، أمّا من حيث التأويل فالأمر مختلف.
وله هنا نقاش جميل، خلاصته: إنّه إذا لزمهم لقب المرجئة لإرجاء أمرهم إلى اللَّه، فإنّ هذا القول قد قال به قوم من المعتزلة وقوم مالوا إلى التشيّع، فإذن لزم هؤلاء جميعاً اسم الإرجاء.. لكن لا تعرف الأُمّة أحداً يقال له: هذا شيعيّ مرجى‏ء!
أمّا القول بلزوم لقب الإرجاء لقولهم: «الإيمان قول بلا عمل» فهو خطأ، لأنّهم بقولهم هذا قد أسقطوا العمل ولم يؤخّروا رتبته عن الإيمان، وإنّما يقال: أرجأت الشي‏ء: إذا أخّرته، ولا يقال: أرجأته بمعنى أسقطته.
ثمّ ينتهي إلى اختيار أنّ الإرجاء لقب لزم كلّ من فضّل أبا بكر وعمر على عليّ، كما أنّ التشيّع قد لزم كلّ مَن فضّل عليّاً على أبي بكر وعمر.. قال: ويقال: إنّ أوّل ما وُضع اسم الإرجاء وظهر وشاع لمّا افترق أصحاب عليّ بعد الحكمين فصار الناس ثلاث فرق: فرقة مع عليّ سُمّوا «الشيعة» فظهر اسم التشيّع ظهوراً شائعاً، وفرقة خرجت عليه فسمّوا «المارقة» وظهر هذا اللقب عليهم، وفرقة كانوا مع معاوية فسمّوا «المرجئة» وظهر اللقب عليهم وأُعلن إعلاناً.
ثمّ قال: هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتّفقت عليه الأمّة.. فكثيراً ما يقال: مرجى‏ء قدريّ، شيعيّ قدريّ.. لكن لم نرَ أحداً يقال له: هذا مرجى‏ء شيعيّ، أو مرجى‏ء رافضيّ، هذا محال جدّاً.
ويؤكّد اختياره بما رواه من شعر لشاعر قال إنّه مشهور، ومن رواة الحديث اسمه محارب بن دثار، يقول فيه:
يعيبُ عليَّ أقوامٌ شفاهاً بأنْ أُرجي أبا حسنٍ عليّا
وإرجائي أبا حسنٍ صواب‏ على القطرين برّاً أو شقيّا
وليس عليَّ في «الإرجاء» بأسٌ‏ ولا شينٌ ولست أخاف شيّا
________________________________________

[الصفحة - 148]


فهذا يصحّح أنّ الإرجاء هو تأخير عليّ وتقديم أبي بكر (111).
وهذا أجمل وأقوى ما أورده القدامى والمحدثون، وله تأييد في قول أبي خلف الأشعري، وقول الشهرستاني، فهما يتّفقان على أنّ حقيقة الإرجاء الأُولى إنّما هي تأخير رتبة عليّ عن حقّها وتقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه.. فالمرجئة ـ على هذا ـ هم الطائفة التي تبنّت المسار الواقعيّ للخلافة، لتكون لقباً سابقاً «للجماعة» و«أهل السنّة».. وإنّما صحّحنا هذا لأنّه إنّما أُطلق عليهم في زمن الإمام عليّ(ع)، فقد كان آنذاك تكافؤ بين الفريقين من الناحية العسكريّة، وتفوّق نفسيّ لدى أصحاب الإمام الأقربين والأبعدين ليقينهم بأنّهم على الحقّ أوّلاً وآخراً، فقد كان لـ «الشيعة» آنذاك من القوّة ما يمكّنهم من إطلاق مثل هذا الإسم على خصمهم حتّى يُعرف به.
ثمّ لمّا صارت الغلبة لذلك الخصم ظهر الاسم المناسب لاختيار الغالب «الجماعة»! فيما احتلّ الإرجاء موقعاً آخر حين أصبح يعبّر فقط عن الموقف من مرتكب الكبيرة!
وهذا منسجم جدّاً مع قانون أثر الغلبة في اختيار الأسماء وترويجها.
فلمّا ظهر التفسير الثاني للإرجاء، أصبح مقابلاً للوعيد وليس مقابلاً للتشيّع! فأصبح الوعيديّة (المعتزلة) يطلقونه على من خالفهم في الوعيد ولم يقطع بتخليد مرتكب الكبيرة في النار، كما نقله عنهم الشهرستاني، وهذا هو الذي يفسّر لنا نسبة الإرجاء إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، إذ عدّه بعضهم أوّل من تكلّم بالإرجاء وكتب به إلى الأمصار. فهو إن صحّ عنه ذلك يكون قد تكلّم بالإرجاء الأخير في مرتكب الكبيرة، وليس بالإرجاء بمعناه الحقيقيّ الأوّل. وهذا ما اختاره الشيخ أبو زهرة، وفيه تفنيد للرأي الذي يستدلّ من نسبة الحسن إلى الإرجاء على أنّه كان يقول بتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على عليّ(ع) (112)!
ومن الناحية الجامعة للأثرين: السياسيّ والعقيديّ، يتمّ تقسيم المرجئة إلى طائفتين: الأُولى هي طائفة السلطة الأُمويّة، وهي التي عُرفت بالمرجئة الخالصة، وأهل الإرجاء المحض.. والثانية بقيت على الإيمان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستوعبت باقي أقسام المرجئة من جبريّة وقدريّة وغيرهم.
________________________________________
(111)وهو اختيار الدكتور محمّد عمارة.
(112)النصائح الكافية لمن يتولى‏ معاوية م.س. ص 125 عن ابن عبد البرّ.

[الصفحة - 149]


متى ظهر الإرجاء؟
من تمحيص الآراء المتضاربة يتحقّق أنّ أقدم ظهور للإرجاء، بمعناه المشهور في الفصل بين الإيمان والعمل، إنّما كان عند معاوية بن أبي سفيان وأصحابه، ذلك إذا فسّرت أقواله على أساس الإيمان باليوم الآخر، ولم تفسّر بحسب الظاهر الموحي أحياناً والصريح أحياناً أُخرى‏ بالاستخفاف باليوم الآخر وبالحساب!
فبمَ يُفسَّر قوله للأنصار، وقد قالوا له: لقد أخبرنا رسول اللَّه(ص) بما لقينا، فقد قال لنا: «ستلقون بعدي أثَرَة» قال معاوية: بماذا أوصاكم؟ قالوا: قال لنا: «فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض» فقال لهم معاوية: فاصبروا إذن‏ (113)!!
بمَ يفسَّر هذا الكلام إن لم يكن هو الاستخفاف بوعد رسول اللَّه(ص) وباللقاء وبالحساب؟! فلئن عدنا إلى حساب الإيمان، فإنّ معاوية أوّل من أظهر الاعتقاد بأنّ الإيمان لا يضرّ معه ذنب ومعصية، فتمادى‏ في المعاصي غير مكترث بشي‏ء، فلمّا قيل له: حاربتَ من تَعلم! وارتكبتَ ما تعلم!! قال: وثقت بقول اللَّه: { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر/39: 53]!!
والإرجاء الذي قال به معاوية وعمرو بن العاص ومن ناصر الدولة الأُمويّة هو الذي عرّفوه بالإرجاء الخالص أو «المحض» رغم أنّ معاوية وأصحابه كانوا يعتقدون بالجبر أيضاً، لكنّ هنا فريقين يقولان بالإرجاء والجبر معاً، أحدهما فريق السلطة الأُمويّة، والآخر فريق ثائر على السلطة، فعرّفوا هذا بالجبريّ وذلك بالمحض تمييزاً بينهما (114).
إنّما قال هؤلاء بالإرجاء ليسوِّغوا للسلطة عَبَثها بأحكام الدين، ولعبها بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه، واستباحتها لحرمات المؤمنين واستبدادها بحقوقهم، فهم مع ذلك كلّه مؤمنون لا يضرّ بإيمانهم شي‏ء،ولا ينقص من إيمانهم عمل، وليس أحد في هذه الأُمّة بأزيد منهم إيماناً!
وأصبح هذا القول ـ في ظلّ السلطان ـ عقيدةً، يُنظّر لها رجال تبنّوها ودافعوا عنها، كان أبرزهم: يونس بن عون النميريّ، وعبيد المكتئب، وغسّان الكوفيّ، وأبو ثوبان المرجى‏ء، وبشر المَريسي‏(115).
________________________________________
(113)ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/325، محمّد عمارة، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلاميّة، ص 174. م.س.
(114)محمّد عمارة، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلاميّة، ص 174.
(115)انظر: الفرق بين الفرق، ص 151 - 153، الملل والنحل 1/125 - 128.

[الصفحة - 150]


وهؤلاء ـ القائلون بأنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنب، والذين قالوا بإرجاء أمر مرتكب الكبيرة إلى اللَّه تعالى ـ «هؤلاء يتلاقون إلى حدٍّ كبير مع طائفة كبيرة من جمهور العلماء السنيّين، بل إنّه عند التمحيص يتبيّن أنّ آراءَهم هي آراء الجمهور» (116)! «وكانت آراؤهم تتّفق تماماً مع رجال البلاط الأمويّ ومن يلوذ به، بحيث لا يستطيع أحد من الشيعيّين أو الخوارج أن يعيش بينهم، في الوقت الذي تمكّن فيه المسيحيّون وغيرهم من غير المسلمين أن ينالوا الحظوة لديهم ويشغلوا المناصب العالية» (117) وربّما كان أوّلهم سرجون النصرانيّ، كاتب معاوية وأمين سرّه!
الإرجاء الثوريّ (118): لمّا كان ذلك الإرجاء قد صيغ لحماية السلطة والدفع عنها، فمن الطبيعيّ أن يضيق نطاقه ويتّسع وفقاً لمصلحة السلطة، فالسلطة حين تتعامل مع خصومها لا يمكن أن تتعامل معهم وفق عقيدتي الإرجاء والجبر اللّتين أظهرتهما، لأنّ خصومها ـ وفق العقيدة الجبريّة ـ سيكونون معذورين لأنّهم لم يصنعوا شيئاً من الخلاف إلاّ بقضاء وقدر لا يملكون إزاءه خياراً!!
ووفق عقيدة الإرجاء ليس للسلطة أن تقيم عليهم حدّ العاصي الخارج عن الإسلام لأنّ الإيمان لا تضرّ معه معصية!! وهنا ستقع السلطة بالتناقض الفاضح..
هذا التناقض قد خلق لها أعداءً من شركائها في الإرجاء أو في الجبر والإرجاء معاً، حين وقف هؤلاء الشركاء مع عقائدهم لا مع مصلحة السلطة وسخريتها بالناس.
فحصل بسبب ذلك التناقض أن قامت الحروب بين شركاء العقيدة.. فأظهر غيلان الدمشقي عقيدته بفساد بني أُميّة، وقد يكون ذلك بباعث من اعتقاده بالقَدَر، الذي يُلقي عليهم بكامل تبعات أفعالهم، فكان أيّام عمر بن عبد العزيز، وبعد أن أظهر تراجعاً عن القول بالقدر (119)، فبعد إظهاره التراجع عن القَدَر استعان به عمر بن عبد العزيز، فقال له: اجعلني على بيع الخزائن ـ خزائن ملوك بني أُميّة الماضين ـ وردّ المظالم، فكان يبيع تلك الخزائن، وهو ينادي عليها: تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى من خَلَفَ رسول اللَّه(ص) في أُمّته بغير سنّته وسيرته‏ (120)!
أمّا زعيم «المرجئة الجبريّة» الجهم بن صفوان، فقد خاض حرباً على ولاة الأُمويّين فكان داعية الحارث بن سُريج في خراسان سنة 128ه حتّى أُسِر وقُتل‏ (121).
________________________________________
(116)محمّد أبو زهرة، المذاهب الإسلاميّة، ص 199، وانظر: حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، 1/417. ط. مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة 1384هـ/1964م.
(117)حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام 1/417 و418. م.س.
(118)للدكتور محمّد عمارة بحث هامّ في هذا القسم، لكنّ الأدلّة التي اعتمدها لا تعينه على ما أراد لو أُخضعت للتحقيق. انظر: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلاميّة، ص 169 - 172. م.س.
(119)كما تقدّمت قصّته في الصفحات السابقة ضمن بحث المفوّضة.
(120)المذاهب الإسلاميّة، ص 188 و189. م.س.
(121)تاريخ الطبري، 7/330. ط. دار التراث ـ بيروت 1387هـ/1967م.

[الصفحة - 151]


وإذا صحّت نسبة سعيد بن جبير وأبي حنيفة إلى المرجئة، فهما من هذا الصنف الثوريّ، فقد كان سعيد بن جبير في طليعة القرّاء الذين ثاروا على بني أُميّة أيّام عبد الملك، وأبو حنيفة قد أفتى‏ بنصرة زيد الشهيد وجعل خروجه على هشام كخروج رسول اللَّه(ص) على المشركين يوم بدر، ثمّ ناصر محمّداً، النفس الزكيّة، وأخاه إبراهيم على العبّاسيّين.
ومن هؤلاء، أيضاً، الشاعر ثابت قطنة، الذي انتصر هو وجماعة من القرّاء لقوم أسلموا في مدينة السَّغد، ثمّ ألزمهم الوالي الجزية لانكسار صندوق الخراج. إذ كانت الجزية توفّر قدراً هامّاً من وارداته! تماماً كالذي حصل في البصرة أيّام الحجّاج وانتفض لأجله القرّاء هناك.
وقد نظم ثابت قطنة عقيدته شعراً، قال فيه:
نُرجي الأُمورَ إذا كانت مشبّهةً ونصدُق القول في من جارَ أو عندا
المسلمون على الإسلام كلّهمُ‏ والمشركون اشتّوا في دينهم قِددا
ولا أرى‏ أنّ ذنباً بالغ أحداً مِ الناس شركاً إذا ما وحّدوا الصمدا
فهو إلى هنا من المرجئة الذين لا يكفّرون أحداً بذنب، لكنّهم لا يغفرون الجور والعدوان.. لكنّه حين يمضي في قصيدته يقف من عليّ وعثمان موقف أهل الشكّ، فيقول:
أمّا عليٌّ وعثمان فإنّهما عبدان لم يُشركا باللَّه مذ عبدا
وكان بينهما شَغْب وقد شهدا شقّ العصا، وبعين اللَّه ما شهدا
يُجزى‏ عليٌّ وعثمانُ بسعيهما ولستُ أدري بحقّ أيّةً وردا
اللَّهُ يعلمُ ماذا يحضران به‏ وكلّ عبدٍ سيلقى‏ اللَّه منفردا (122)
أعلام نُسِبوا إلى الإرجاء
أ ـ الحسن بن محمّد بن الحنفيّة: عدّه بعضهم أوّل من وضع الإرجاء، وعنه أخذه الناس، ثمّ صاروا بعدُ إلى تلك الأقسام.. لكنّ الإرجاء الذي نسبوه إليه ليس كإرجاء هذه المرجئة التي أخّرت العمل وقالت: إنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية، فهو لم يؤخّر العمل عن الإيمان، لكنّه حكم بأنّ صاحب الكبيرة لا يكفّر، إذ الطاعات ليست من الإيمان حتى‏ يزول الإيمان بزوالها.. وكان يكتب بذلك إلى الأمصار (123).
________________________________________
(122)الأغاني، 14/262، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلاميّة، ص 173.
(123)الملل والنحل، 1/128، الخطط والآثار، 2/350. م.س.

[الصفحة - 152]


ولقد حمّل الأُستاذ محمّد عمارة هذا القدر فوق ما يحتمل وفق منهجه الذي تشخّصَ في ثوابته اقتناص كلّ ما يمكن تسخيره ولو قسراً في مهاجمة أنصار عليّ(ع)! فأراد أن يستفيد منه هذا أنّ الحفيد قد أراد بهذا القول تفضيل أبي بكر وعمر على‏ عليّ والدفاع عن خلافتهما!! وأمّا برهانه الوحيد على هذا التفسير فهو أغرب بكثير من التفسير نفسه، فهو يقول: «وفي الكافي نصّ هامّ يشهد لهذا التفسير، يقول: وقد تطلق المرجئة على من أخّر عليّاً عن مرتبته» (124). قاله بهذا الحماس الظاهر وهو يعلم أنّ هذا الكلام إنّما هو في هامش الكافي، وقد أشار بنفسه إلى هامش الكافي، فهل غاب عنه أنّ هوامش الكافي ليست من الكافي ولا تصحّ نسبتها إليه، وإنّما هي من وضع محقّقه المعاصر الشيخ الغفاري الذي أعدّها باعتماد مصادر أُخرى؟!
أمّا حقيقة القول في نسبة الحسن بن محمّد إلى الإرجاء، وكثير غيره، فقد تقدّمت آنفاً، وسيأتي ذكرها ثانية في هذه الفقرة الآتية..
ب ـ أبو حنيفة: هو الآخر منسوب إلى الإرجاء، لكن ليس هو الإرجاء الأمويّ، لأنّ أبا حنيفة قد أفتى‏ بوجوب محاربة الأمويّين مع زيد الشهيد وأمدّه بالأموال، كما أفتى بوجوب محاربة العبّاسيّين مع محمّد النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم.. إنّما نُسب إليه مثل ما نُسب إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، قال: الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص.. واستنكر الشهرستاني أن يُنسب إلى أبي حنيفة القول بتأخير العمل.
قال الشهرستاني: هناك وجه آخر لنسبته إلى الإرجاء، وهو أنّه كان يخالف القدريّة والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأوّل، وكانوا يُلقِّبون كلّ من خالفهم في القدر مرجئاً (125).. فهذا بعينه منطبق على الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، وعلى آخرين، مثل: سعيد بن جبير، وحمّاد بن أبي سليمان، ومقاتل بن سليمان وغيرهم، لأنّهم لم يكفّروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار(126).
________________________________________
(124)الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلاميّة، ص 168 - 169.
(125)الملل والنحل، 1/127؛ وانظر: محمّد محيي الدين عبد الحميد رتعليق على «مقالات الإسلامييّن» للأشعري، 1/202 و203.
(126)انظر: المذاهب الإسلاميّة، ص 205. م.س.

[الصفحة - 153]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف