البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العصمة بین النفي والإثبات

الباحث :  الأستاذ مصطفي خمیس
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  4
السنة :  السنة الاولى شتاء 1417 هجـ 1996 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2015
عدد زيارات البحث :  4177

العصمة بین النفي والإثبات

الأستاذ مصطفي خمیس (*)

كَثُر الجدلُ والحوار حول قضيةٍ بلغت من الحساسيَّة درجة جعلتها تمسّ شخصية رسول اللَّه محمد(ص)، وهي قضية: «العصمة». وتجاوز بعض الكتاب حدود المعقول والمنقول حين جنح إلى الطعن في هذه القضية، وبخاصة ما يتعلق منها بعصمة رسول اللَّه(ص) في أمور الوحي والعقيدة، وما يتعلق بآيات القرآن الكريم.
وهذه فقرات من نظرية بحثت هذا الموضوع، ولكن بشكل غير متفق عليه وجاء فيها: «إذا قلنا إن الحكم من قبل الناس بخطأ رسول اللَّه(ص) غير جائز، فذلك لا يعني أنه غير جائز إن صدر من اللَّه عز وجل في حق نبيه.. فإن اللَّه يقضي بما يشاء في حقهم، ويوجههم، أو يعتب عليهم، أو يخطّئهم كما يريد».
«ولكن اللَّه عز وجل، وقد علّم نبيه وأدَّبه، له أن يخطئه، وأن يعتب عليه وأن ينسب إليه ما يريد فقد قال له: {تريدون عرض الدنيا واللَّه يريد الآخرة واللَّه عزيز حكيم} (1) .
«وقال له: {يا أيها النبي، لم تحرِّم ما أحلّ اللَّه لك تبتغي مرضاة أزواج} (2) . وقال: {وإذ تقول للذي أنعم اللَّه عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك إتّق اللَّه وتخفي في نفسك ما اللَّه مبديه وتخشى الناس واللَّه أحق أن تخشاه} (3) . وقال: {عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم} (4) ».
وقال: «حتى عندما يخطى‏ء في اجتهاده ـ في علم اللَّه وحكمه ـ إنما يكون خطؤه ذاك بإلهام من اللَّه لحكمة باهرة. ثم إن الوحي ينسخ ذلك الإلهام في الوقت المناسب» (5) . ومثل هذه الأقوال والنظريات تجدها لدى الكثيرين ممَّن لم ينزهوا رسول اللَّه(ص) وكذلك غيره
________________________________________
(*)کاتب من سورية.
(1)سورة الأنفال، الآيتة: 67 .
(2)سورة التحريم، الآية: 1.
(3)سورة الأحزاب، الآية: 37.
(4)سورة التوبة، الآية: 43.
(5)مجلة نهج الإسلام، العدد 26، 1987، بعنوان: الاجتهاد.

[الصفحة - 46]


من الأنبياء والرسل، سواء في أمور الدين والشريعة، أم في أمور الدنيا والحياة الدنيوية. واحتج القائلون بذلك بآيات أخرى، وأولها خطأ آدم عليه السلام في قوله تعالى: {وعصى آدمُ ربَّه فغوى} (6)وغيرها من الآيات.
ومن هنا نجد أنه من الواجب علينا تبرئة الأنبياء والرسل من النواقص والأخطاء التي نسبت إليهم، وتأويل ما جاء بحقهم من آيات بما يليق بمكانتهم وفضلهم عند اللَّه. وقد كثر التساؤل حول هذه الآيات ودلالاتها، وما يستفاد منها في تثبيت عقيدة المسلمين، ونظرتهم إلى شخصية رسول اللَّه(ص) وقدسيَّة الرسالة المعصومة.
ولست أدري لماذا يثير بعض الكتّاب مثل هذه القضايا مركّزين على تخطئة الرسول(ص) في أمور كثيرة تناقض عصمته، وتحطّ من مكانته، وتتعارض مع كثير من الآيات الدالة على عصمته مطلقاً، هل يفعلون ذلك تسويغاً لمواقف بعض الأمراء والملوك والسلاطين، الذين جعلوا سنّتهم حجة كسنة رسول اللَّه(ص)، فإذا جاز للرسول أن يخطى‏ء، وإذا ثبت ذلك، فما المانع من أن يقع مثل ذلك مع من هم دون الرسول رتبة؟
وعند هؤلاء لا بأس بالطّعن في عصمة النبي والكذب عليه إذا كان ذلك يرفع واضعي سياساتهم المعادية لرسول اللَّه(ص)، وللدين الحنيف الذي ركزه النبي وبيّنه، ثم رحل وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها حين قال لهم في غدير خم مرجعه من حجة الوداع: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، ولقد أنبأني اللطيف الخبير أنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» (7) وقال في هذا الموقف المشهود نفسه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (8) .
كان لا بد من إلقاء الضوء، باختصار، على هذا كله، وبقدر توفيق اللَّه عز وجل، للدفاع عن أنبياء اللَّه ورسله، وبخاصة سيدنا ومولانا محمد صلى اللَّه عليه وآله الطيبين الطاهرين.
العصمة
من الدلائل العقلية، والبراهين النقلية، ومن الضرورات الشرعية، أن يكون الرسول أو النبي معصوماً. لأنه إذا عرف عن النبي الكذب أو ارتكاب الذنب، صغيراً كان أم كبيراً،
________________________________________
(6)سورة طه، الآية: 121.
(7)رواه مسلم في صحيحه، 7/122 والحاكم في المستدرك على الصحيحين، 3/109. ورواه الترمذي في سننه، 5/297. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده، 14/367 عن زيد بن أرقم.
(8)رواه الترمذي في سننه، 5/297. ورواه ابن ماجه في مسنده، 1/43 عن البراء بن عازب كما رواه الحاكم في المستدرك، 3/109، وأحمد بن حنبل في مسنده 4/368 عن زيد. وعن البراء بن عازب ص 281.

[الصفحة - 47]


كان ذلك مذمة له ومنقصة، وسبباً في عدم تصديقه في ما يوحى إليه من اللَّه عز وجل، لعدم الاطمئنان إليه أولاً، ولأنه إذا كذب في أمر صغير فإنه يكذب في أمر كبير ثانياً، وهو إضافة إلى ذلك لا يمتنع بحقه أن يرتكب خطيئة أو فاحشة بعد ذلك.
وهذا كله يعتبر قدحاً في الرسالة وطعناً في النبوة، وهو، صلى اللَّه عليه وآله وسلم، الذي عصمه اللَّه بالوحي في قوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى} (9) .
ووصفه بما لم يصف به أحداً من قبل بأنه على خلق عظيم في قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}(10) . والخلق العظيم يعني ترفعه على كل صغيرة وكبيرة، أو ذنب أو هفوة تخل بخلقه العظيم قبل الرسالة أو بعدها. وقد ذكر كافّة أرباب السير أنه، عليه الصلاة والسلام، كان يسمى ب«محمد الأمين» قبل البعثة.
إذاً فقد اختاره اللَّه وهيأه وعظّمه خُلُقاً وَخَلْقاً، وصدقاً وعدلاً، وحفظاً من كل ما يشينه، وحفظه اللَّه من كلّ خطأ أو ذنب، أو هيأ له من لدنه روحاً ملكاً يسدده ويحفظه بأمر اللَّه عز وجل. قال أبو بصير: «سألت أبا عبداللَّه، عليه السلام، عن قول اللَّه تبارك وتعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} قال: خلق من خلق اللَّه عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه يخيره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده».
قال أمير المؤمنين، عليه السلام، في خطبته المعروفة بـ «القاصعة»:
«ولقد قرن اللَّه به، صلى اللَّه عليه وآله وسلم، من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته» يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني الاقتداء به» (11) ، إضافة إلى ما عنده من عزم واستعداد وصبر.
فإذا كان الرسول، أو النبي، يعمل بوحي من اللَّه، وهو سبحانه وتعالى المسدّد لأفعاله وأقواله، فكيف يمكن للَّه، عز وجل، خالق الأفعال، وبارى‏ء كل شي‏ء، أن يخطّى‏ء نبيه أو رسوله بنفسه، ثم بعد ذلك يعتب عليه ويلومه على ما فعل؟!
ولو أن اللَّه، عز وجل، أراد حقاً أن يخطّئه، فإن العدل الإلهي يقتضي أن لا يعتب
________________________________________
(9)سورة النجم، الآية: 4.
(10)سورة القلم، الآية: 4.
(11)راجع على التوالي: الكافي، 1/272 ونهج البلاغة الخطبة رقم 190، 2/911.

[الصفحة - 48]


عليه، لأن اللَّه عادل في حكمه، ولا يمكن أن يفعل المتناقضات، وهو عز وجل لا يأمر بشي‏ء ويعاقب على طاعته فيه، لأن إرادة اللَّه مقضية ومبرمة، وطاعة النبي فيها تلزم ثوابه وليس عقابه أو معاتبته.
فقولهم: «إن اللَّه يخطّى‏ء نبيه ثم يعتب عليه»، يبطله ما قلناه.
ولا يجوز الخطأ على النبي، فكيف يفعل اللَّه ذلك؟! إذ أن النبي ما هو إلا وحي يوحى، قوله من قول اللَّه وفعله بتسديد منه وتوجيه، وهو مطاع بأمر اللَّه، وقد أمر اللَّه بطاعته وجعله حجة على الناس، وقرن طاعته بطاعته، قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه} (12) .
إن خطأ النبي من قِبَلِ اللَّه ممتنع، ولا يمكن أن يقع، لأن اللَّه تعالى لا يخطى‏ء، ولا يجوز أن ينسب إليه الخطأ.
فعندما نقول: «إن اللَّه يخطّى‏ء نبيَّه، ويعتب عليه»، فكأننا نقول: إن اللَّه تبارك وتعالى يخطّى‏ء ذاته ويعاتب نفسه، وهذا قبيح في حق اللَّه سبحانه وتعالى وعلا عما يقول الجاهلون علواً كبيراً. ولا يجوز كذلك القول إن: النبي(ص) «عندما يخطى‏ء في اجتهاده ـ في علم اللَّه وحكمه ـ إنما يكون خطؤه ذاك بإلهام من اللَّه لحكمة باهرة، ثم إن الوحي ينسخ ذلك الإلهام في الوقت المناسب».
فهذا يؤكد أن الخطأ هو إلهام من اللَّه، وكيف يلهم اللَّه الخطأ؟!
وهذا الأمر مناقض لذات اللَّه تعالى وصفاته، ومناقض لعصمة الأنبياء والرسل.
وإن الادّعاء بأن الوحي يأتي فينسخ ذلك الإلهام، تراجع عن الخطأ من الإله الموحي نفسه، وهذا أيضاً لا يصح لأنه يناقض العدل الإلهي، وينسب القبح للَّه وينفي العصمة عن النبي.
وطالما أن القبيح ليس من فعل اللَّه تعالى، فهو تبارك وتعالى لا يلهم القبيح لأنبيائه ورسله. وإذا ألهم الرب عز وجل رسوله أمراً قبيحاً، خطأ، فهو بدوره سيبلغه للأمة عنه تعالى كما نزل، وهو مأمور بالتبليغ فليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وهو أيضاً سيبلغ أحكامه للناس قال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (13) .
________________________________________
(12)سورة النساء، الآية: 80.
(13)سورة النور، الآية: 54.

[الصفحة - 49]


فإذا ما نسخ اللَّه تعالى هذا الأمر الخطأ، والمتصف بالقبح، فيجب على الرسول أن يعلم الناس بذلك. وأن يبين لهم أنه كان خطأ، أو أنه كان مخطئاً بذاته. وأن اللَّه قد نسخ هذا الخطأ بالوحي، أو على الأقلّ قد صحح له خطأه، ثم عاتبه عليه ولامه.
وهذا كله غير جائز لأنه من أسباب الطعن في عصمة النبي، وزعزعة الثقة به.
ويؤدي إلى تكذيب النبي في كثير من الأمور العقائدية والحكمية والفقهية.. لاعتقاد الناس بحصول الخطأ عند النبي في غير ما أقر على نفسه فيه، وتلك الأخطاء ربما يأتي الوحي فينسخها، ويصححها، وربما لا يأتي، فيبقى الخطأ خطأ، وهكذا سيفهم الناس مسألة الرسالة. وهذا كله يؤدي إلى الطعن في عصمة النبي والرسول، واتهامه بالكذب والتدجيل، ويكون السبب المباشر والرئيسي في الإقدام على التمرد عليه وعدم اتباعه. وعدم الإيمان بما جاء به من عند اللَّه، وذهاب الطمأنينة والثقة بكل ما يقوله ويفعله.
يضاف إلى ما قلنا أنه يجب النظر إلى طبيعة الرسالات السماوية، وأنها تأخذ قدسيتها من اللَّه عز وجل، ومن الأنبياء المرسلين لأن قدسيتهم نابعة عن طبيعة تلك الرسالات وعب‏ء المسؤولية التي ألقيت على عواتقهم، فهم صلوات اللَّه عليهم حُجج اللَّه على عباده، شرّفهم عز وجل بالنبوة والرسالة، فوجبت عصمتهم عن الذنوب والأخطاء، ليؤدّوا رسالات ربّهم خير الأداء، وليوفوا بعهد اللَّه خير الوفاء، وصدقهم في كل ما يقولون، سبب هام في تصديق الناس لهم في كل ما يصدر عنهم، لتكون حجة اللَّه على خلقه تامة وبالغة. ولكي يستحقوا بهذه الصفة أن يكونوا خُزّان علم اللَّه ومكمن أسراره المقدسة، يمتثلون أوامر اللَّه وينتهون عن نواهيه، وهم يضاهون الملائكة بهذه الصفات الحميدة، قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً، سبحانه، بل عباد مكرّمون لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون} (14) . وكذلك فإن أنبياء اللَّه ورسله لا يصدر عنهم الذنب، لأنه لو صدر عنهم لكانوا استحقوا الذم في الدنيا، والعقوبة في الآخرة، أكثر من ذم عصاة الأمة وفاسقيها وعقابهم، ذلك لأنهم محجوجون بالوحي من اللَّه عز وجل، وبالإلهام والإيمان به تبارك وتعالى، وهم مشمولون بنعمة النبوة، وكل من كانت نعم اللَّه عليه أكثر، كان صدور الذنب عنه أفحش، وكان عقابه عند اللَّه أعظم. قال تعالى:{يا نساء النبي لستن كأحد من }
________________________________________
(14)سورة الأنبياء، الآية: 27.

[الصفحة - 50]


{ النساء} (15) وقال: {يا نساء النبي، من يأت منكن بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين} (16) .
وهؤلاء ليس لهن فضيلة الأنبياء والرسل، ولا مكانتهم، ولا مهمتهم، بل جعل اللَّه لهن حساباً خاصاً، لأنه قد شملهن بنعمة تزويجهن من النبي، صلى اللَّه عليه وآله وسلم.
وقد هدد، عز وجل، رسوله المكرم سيدنا محمداً(ص) بأشد العقوبات، وهو حبيب اللَّه وصفيه وخيرته من خلقه؛ وذلك فيما لو ادعى على اللَّه أبسط الأمور وأقل كلام لم يقله اللَّه عز وجل، قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين} (17) .
كما أنه لو صدر الذنب عن الأنبياء والمرسلين، لكان ذلك طعناً في عدم قبول شهاداتهم، ومن الواجب أن تكون شهاداتهم مقبولة، فهم الشهداء على الناس يوم القيامة، وقد شهد اللَّه عز وجل بأن سيدنا محمداً، صلى اللَّه عليه وآله وسلم، والأئمة الطاهرين عليهم السلام، شهداء على الكل يوم القيامة وذلك في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (18) .
ولو كان الرسول أو الشهداء معه أيّاً منهم مرتكباً للمعاصي أو مذنباً بما يحرم لما قبل اللَّه شهادته. ولو صدر الذنب أو المعصية من الأنبياء والرسل، لوجب زجرهم عنها، ولما كنا مأمورين بالاقتداء بهم فلا يجوز زجرهم، كذلك لا ينبغي طاعتهم إذا كانوا كذلك، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه ويغفر لكم ذنوبكم} (19) .
فاتباع الرسول اتباع للَّه عز وجل، فهل يصح زجره، أو صدور الذنب عنه، وهو بهذه المكانة العظيمة؟ ولو صدر الذنب عنهم لكانوا ممن توعده اللَّه تعالى بجهنم ونارها وعذابها، وهذا باطل لأنهم أئمة للناس وللمؤمنين خاصة، وهم أئمة هدى يقودون إلى الجنة.
قال تعالى وهو يخاطب خليله ابراهيم عليه السلام: {قال إني جاعلك للناس إماماً، قال: ومن ذريتي؟ قال لا ينال عهدي الظالمين} (20) .
________________________________________
(15)سورة الأحزاب، الآية: 32.
(16)سورة الأحزاب، الآية: 30.
(17)سورة الحاقة، الآيتان: 44 ـ 46.
(18)سورة البقرة، الآية: 143.
(19)سورة آل عمران، الآية: 31.
(20)سورة البقرة، الآية: 124.

[الصفحة - 51]


فلو صدر الذنب عنهم لكان اقتداء الناس بهم يجرهم إلى الذنب وإلى الخطيئة، وهذا غير جائز في حقهم.
كل هذه الأسباب أدت إلى ضرورة عصمة الأنبياء والمرسلين، وهي لطف إلهي اقتضته مصلحة الرسالة، وهي أدلة عقلية على وجوب عدم تخطئة اللَّه تعالى لأنبيائه ورسله، وعدم صدور ذلك منه أو منهم أو من الناس بمعاييرهم البشرية البسيطة، وهي كذلك أدلة واضحة وبراهين جلية، وأن اللَّه عز وجل قد قرر في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن أنبياء اللَّه ورسله معصومون محفوظون، لا يعملون بوحي من أنفسهم بمعزل عن إرادة اللَّه وتوفيقه، فيخطئون تارة ويصيبون أخرى. قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلاَّ وحي يوحى، علّمه شديد القوى} (21) .
وهذا يعني أن النبي(ص) مسدد من اللَّه عز وجل قولاً وفعلاً، وأن قوله وفعله كلاهما بوحي من اللَّه عز وجل. ولما كانت طاعة النبي واجبة كطاعة اللَّه فلا يجوز خطؤه أو تخطئته كما أنه لا يجوز خطأ اللَّه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن اللَّه} (22) .
فلما كانت طاعته واجبة كطاعة اللَّه، وجبت عصمته، فاللَّه تعالى لا يأمر بطاعة من يعصاه أو يفتري عليه.
كذلك فقد أمرنا اللَّه عز وجل بالأخذ عن الرسول(ص) في كل ما جاء به مطلقاً دنيوياً أو أخروياً، عقائدياً، أو اجتماعياً أو اقتصادياً.. قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (23) . فأعطى عز وجل لرسوله حكماً مطلقاً في قبول ما يصدر عنه وأخذه، والانتهاء أيضاً عن كل ما نهى عنه. وهذا الكلام يشمل كل نواحي الحياة. أما قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه} (24)، فهو لعمري دليل قاطع وبرهان ساطع، على أن إرادة الرسول وأفعاله، من إرادة اللَّه عز وجل، وهو عبداللَّه المتفاني في العبودية، يسيّره اللَّه تعالى وفق إرادته، وحسب مشيئته عز وجل، مسدداً خطاه، حافظاً له ومرشداً بأمره تعالى. لقد كثر الجدل بين الفرق الإسلامية والمذاهب الكلامية، حول عصمة الأنبياء والمرسلين، فأقر الجميع بوجوبها، وقد اختلفوا في وقتها، هل هو قبل البعثة أم بعدها؟ كما اختلفوا في كيفيتها، وهل هي عصمة عن الصغائر والكبائر أم عن الكبائر فقط؟
________________________________________
(21)سورة النجم، الآية: 4.
(22)سورة النساء، الآية: 64.
(23)سورة الحشر، الآية: 7.
(24)سورة النساء، الآية: 80.

[الصفحة - 52]


كما أنهم اختلفوا في العصمة، هل هي في ما يتعلق بشؤون الرسالة والتبليغ فقط؟ أم بشؤون الرسالة والتبليغ وشؤون الدنيا وكل ما يتطلبه بناء المجتمع الإسلامي بمختلف أركانه الاجتماعية والاقتصادية والرسالية؟ ولا حاجة بنا في هذه العجالة إلى إيراد كل هذه الأراء وتفنيدها، ولكنه يكفي أن نقول إن الرسول(ص) معصوم مسدد من اللَّه عز وجل بكل ما ذكرناه، قبل الرسالة وبعدها، عن الصغائر والكبائر، في شؤون الرسالة وأمور الدنيا.
وإن كل حديث يناقض قولنا هذا فهو باطل، ويتناقض مع عظمة الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وما وصفه به ربه من الخلق العظيم، وما عرف عنه من سمو الخلق والأمانة والصدق قبل البعثة، وما أوردناه من أدلة في وجوب العصمة. أما ما جاء من آيات بينات في كتاب اللَّه العزيز فلا بد من إلقاء الضوء على بعضها لبيان تنزيه النبي عن النقائص، ومنزلته الرفيعة من ربه، وأنها يمكن تأويلها بما يليق بشرف الرسالة وعظمة المبلغ عنها والمبين لها والمأوّل لأحكامها.
التأويل وتنزيه النبي(ص)
لقد وردت آيات عديدة في القرآن الكريم تذكر الأنبياء والمرسلين، تدل بظاهرها على أن بعضهم ارتكب أخطاء تستوجب العقوبة، وقد أول الكثيرون هذه الآيات بشكلها الظاهري بما لا يليق بمكانة النبوة والرسالة بع وإنَّه من الواجب الأخلاقي والشرعي على كل مفسر، أو متحدث عن أحوال أنبياء اللَّه ورسله، أن يلزم نفسه بتنزيههم صلوات اللَّه عليهم عن كل ما يشينهم أو يطعن في عصمتهم وشرف الرسالة المقدسة التي أوكل اللَّه تعالى أمرها إليهم. فالذي يؤدي رسالة من عظيم، ويبلغ أوامره وتعاليمه إلى البشرية، لا بد أن يكون عظيماً كعظمة تلك الرسالة، وبما يتناسب مع عظمة المرسل: عظيم العظماء وربّ الخلق أجمعين، وأن يكون هذا الرسول على قدر من المسؤولية الملقاة على عاتقه. قال تعالى: {اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته} (25) .
وقد وصف اللَّه، عز وجل، سيدنا محمداً(ص) بصاحب الخلق العظيم، فكيف يمكن أن تجري عليه هذه التأولات الباطلة وهو حبيب اللَّه، وخيرته من خلقه، وخاتم الأنبياء والمرسلين، والمكانة العالية والمقام المحمود له عليه السلام، إذاً يجب أن نقرأ
________________________________________
(25)سورة الأنعام، الآية: 124.

[الصفحة - 53]


آيات اللَّه في حق أنبيائه على أحسن وجه وأليق مقام، ويجب كذلك أن ننفي الذنب عنهم والخطيئة وارتكاب المحذور، وبخاصة في ما يتعلق بسيدنا محمد(ص) إمام الأنبياء وسيد المرسلين.
إن الحديث عن عصمة الأنبياء والمرسلين، والنظر في الآيات النازلة فيهم، والتي تدل بظاهرها على حدوث أخطاء منهم أو ارتكابهم المحذور، هذا الأمر يحتاج إلى مؤلَّف ضخم، واستقصاء كل الآيات الخاصة بذلك.
لكننا هنا سنكتفي ببيت الشاهد، وما اعتبره بعض الكتاب تخطئة للرسول الأعظم محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وركز عليه لتأكيد نظريته في جواز تخطئة اللَّه عز وجل لنبيه ومعاتبته له ثم نسخ ذلك في ما بعد، تزلفاً لأصحاب السلطان، وتأييداً لسياسة الطعن في عصمة النبي(ص) للوصول إلى نفي العصمة كلياً عن الأئمة من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام، إضافة إلى الآية الدالة بظاهرها على عدم عصمة آدم عليه السلام، وأنه غوى، وذلك لشهرتها، وتمسك بعض الكتاب بها. ومن أهم الآيات المتخذة مثالاً توهمه الجاهلون في تخطئة النبي(ص) وقبله آدم عليه السلام الآيات التالية:
1 - قوله تعالى: {وعصى آدمُ ربَّه فغوى‏} [سورة طه، الآية: 121].
2 - قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا واللَّه يريد الآخرة، واللَّه عزيز حكيم. لولا كتاب من اللَّه سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [سورة الأنفال، الآيتان: 67 - 68].
3 - قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرِّم ما أحل اللَّه لك تبتغي مرضاة أزواجك واللَّه غفور رحيم} [سورة التحريم، الآية: 1].
4 - قوله تعالى: {عفا اللَّه عنك لمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [سورة التوبة، الآية: 43].
5 - قوله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم اللَّه عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّقِ اللَّه وتخفي في نفسك ما اللَّه مبديه وتخشى الناس واللَّه أحقُّ أن تخشاه} [سورة الأحزاب، الآية: 37].
________________________________________

[الصفحة - 54]


6 - قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} [سورة الضحى، الآية: 7].
7 - قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ اللَّه ما يلقي الشيطان ثم يحكم اللَّه آياته واللَّه عليم حكيم} [سورة الحج، الآية: 52].
8 - قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} [سورة الضحى، الآية: 2].
9 - قوله تعالى: {ليغفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [سورة الفتح، الآية: 2].
10 - قوله تعالى: {عبس وتولى‏ أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} [سورة الزمر، الآية: 65].
ولا بد من توضيح ما التبس من ظاهر القول، وبيان التأويل بما يناسب تنزيه النبي(ص) وعصمته بما أمكن من الاختصار والتوضيح:
1 - قوله تعالى: { وعصى آدمُ ربَّه فغوى‏}
قالوا: هذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلا قبيحة، وأكده بقوله «فغوى»، والغيُّ ضد الرشد، واستدلوا بها على أن آدم، عليه السلام، قد عصى اللَّه ربه، وأطاع إبليس، وهذا خطأ منه كان سبباً في إخراجه من الجنة. وأن اللَّه قد تعهد تخطئة آدم لحكمة منه من أجل إخراجه من الجنة حتى يعمر الأرض لأن اللَّه قد خلقه لذلك.
في البدء لا بد من معرفة أن معنى كلمة «عصى» تعني خلاف الطاعة، وأن كلمة «لا تقربا» في قوله تعالى: {وقلنا، يا آدم، اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} (26) ، تعني النهي. والنهي الشرعي إما مولوي يجب طاعته في ما يأمر، ويترتب عليه الثواب على الطاعة، والعقاب على المخالفة وهذا شأن أكثر الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة.
وإما أن النهي الشرعي مولوي ينطلق المولى فيه بتوجيه أوامره ونواهيه من موقع
________________________________________
(26)سورة البقرة، الآية: 35.

[الصفحة - 55]


النصح والإرشاد، والعظة والهداية. فيترك اختيار أحد الجانبين من الفعل والترك للمخاطب، كالطبيب عندما يصف الدواء لمريضه، وإن الآيات الواردة في سورة(طه) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي، وتصرح بأن النهي كان إرشادياً لصيانة آدم عما يترتب عليه من الآثار المكروهة، والعواقب غير المحمودة، قال سبحانه: {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} [سورة طه، الآيات: 117 - 119] فإن قوله تعالى: «فلا يخرجنكما فتشقى» صريح في أن أثر امتثال النهي هو البقاء في الجنة ونيل السعادة التي تتمثل في قوله: «إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى» وأن أثر المخالفة هو الخروج من الجنة والتعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع والعري، والظمأ وحر الشمس. كل ذلك يدل على أنه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي الواجب الطاعة، بل كان ينهى بصورة الإرشاد والنصح والهداية، وأنه لو خالفه لترتب عليه الشقاء في الحياة والتعب والنصب فيها (27) ولو اتخذ موقف الناهي الواجب الطاعة المحذّر من عدمها، لاختلف الموقف وطرد من الرحمة كقصة إبليس. ومن هنا يتبين أن آدم عليه السلام كان نزيهاً عما ألصق به من التهم بمخالفة التكليف الإلهي الإلزامي، الواجب الطاعة، الموجب العقوبة في حال العصيان. وأن عصيانه هنا كان عن أمر إرشادي لصيانته عما يترتب على النهي كما أوضحته الآيات السابقة من سورة(طه).
أما كلمة «فغوى» فلها غير مدلول، فهي تعني الخيبة، قال الشاعر:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ‏ومن يغوِ لا يعدم على الغي لائما
أي من حرم من الخير ولم يلقه، لا يحمده الناس ويلومونه.
وفي حديث موسى وآدم: «أغويت الناس» أي خيبتهم. كما أنه يستعمل في معنى الفساد. وبه فُسّر قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} أي فسد عليه عيشه‏ (28) .
يقول العلامة أستاذ جعفر السبحاني: «ولو سلم أن الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد، لكن ليس كل ضلالة معصية، فإن من ضل، في طريق الكسب، أو في طريق التعلم، يصدق عليه أنه غوى، أي ضل، ولكنه لا يلزم المعصية».
«وكان سيدنا العلامة الطباطبائي، رضوان اللَّه عليه، يقول في مجلس بحثه: إن لفظة
________________________________________
(27)كتاب عصمة الأنبياء للأستاذ جعفر السبحاني، ص 94.
(28)لسان العرب، 15/140.

[الصفحة - 56]


«غوى» تعني الحالة التي تعرض للغنم عندما تنفصل عن القطيع، فتبقى حائرة، تنظر يميناً وشمالاً، ولا تشق طريقاً لنفسها، وكان آدم أبو البشر حائراً بعدما خالف نهي ربه وابتلي بما ابتلي، لا يدري كيف يعالج مشكلته، وكيف يتخلص من هذا المأزق الحرج» (29) .
وبعد هذا البيان لا يمكن القبول بالقول: إن آدم قد أخطأ، أو إن اللَّه تعالى قد تعمد تخطئته لحكمة منه. فإذا كان اللَّه عز وجل هو الذي خطّأ آدم، فما ذنبه حتى يعاقبه ويجعله من أهل الغواية على فعلة هو مجبر فيها، أليس هذا من كلام الجبرية، وينافي العدل الإلهي، والعصمة النبوية؟
ويمكن لنا القول: إن اللَّه تعالى خلق آدم وخلق له حواء ليأنس إليها وأسكنهما جنته، وأصدر أوامر ونواهي، وعلمهما الخير والشر في كل ذلك، وجعلهما مخيرين في اختيار الأمر الذي يرغبانه، وبين لهما نتائج كل عمل يقومان به كما في سورة طه، الآيات (117 - 119) السابقة.
غير أن آدم لم يكن ذا عزم على اختيار الأحسن، فتاه بعد أن ترك المندوب، وهو مخير فيه لأنه ليس بواجب، فلو أنه فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم، فلما خالف الأمر ولم يصر إلى ما ندب إليه فقد خاب من حيث أنه لم يحصل على الثواب الذي كان يستحقه بالامتناع عن التناول.
لقد كان ذلك كله بعلم اللَّه عز وجل وباختيار آدم.
ولما كانت الجنة لا تحتاج إلى نبيّ يهدي من فيها لأن كل من فيها مهديون طائعون للَّه، فلا موجب لعصمة آدم في الجنة، وهو ليس مسدداً فيها لضرورات النبوة أو الرسالة، وهذه الضرورة في الأرض وليست في الجنة. ولما أراد اللَّه عز وجل أن يسكن آدم وزوجه وذريته الأرض، جعل ذلك التيه وتلك الغواية سبباً في إهباطه إلى الأرض ليعمرها، وجعل إبليس عدواً له ولذريته من بعده، لأنه هو السبب في إغواء آدم واستحقاقه الإهباط من الجنة، وليجعل عز وجل هذا الأمر بداية للصراع بين الحق والباطل، بين الفضيلة والشر. ولما أسكنه اللَّه الأرض عصمه بالوحي لتكون بداية كل نبي أو رسول بعد آدم عليه السلام.
روى الشيخ الصدوق في أماليه بإسناده إلى أبي الصلت الهروي قال:
«لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الإسلام
________________________________________
(29)عصمة الأنبياء لجعفر السبحاني، ص 101.

[الصفحة - 57]


والديانات، واليهود والنصارى، والمجوس، والصَّابئة، وسائر أهل المقالات، قام إليه علي بن الجهم، فقال: يا ابن رسول اللَّه، أتقول بعصمة الأنبياء؟
قال: بلى.
قال: فما تقول في قول اللَّه عز وجل: «وعصى آدم ربه فغوى»؟
فقال الرضا(ع): ويحك يا علي، اتقِ اللَّه ولا تنسب إلى أنبياء اللَّه الفواحش، ولا تأوّل كتاب اللَّه برأيك، فإن اللَّه عز وجل يقول: {وما يعلم تأويله إلا اللَّه والراسخون في العلم} [آل عمران/7]، وأما قوله عز وجل: {وعصى آدم ربه فغوى} فإن اللَّه عز وجل، خلق آدم حجة في أرضه، وخليفة في بلاده، ولم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة، لا في الأرض، لتتم مقادير أمر اللَّه عز وجل، فلما أهبط إلى الأرض جعله حجة وخليفة، وعصمه اللَّه بقوله: {إن اللَّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض} [آل عمران/33 ـ 34].
2 - قوله تعالى: { ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا واللَّه يريد الآخرة واللَّه عزيز حكيم. لولا كتاب من اللَّه سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم}
قالوا: الآية تدل على عتاب اللَّه تعالى لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وتلومه على استبقاء الأسرى، وأخذ الجزية أو الفداء عوضاً عن قتلهم. واعتبروا ذلك من أدلة خطأ رسول اللَّه(ص).
لكن الحقيقة غير ذلك، وهي أن ظاهر الآية يقتضي توجيه القول والعتب إلى غير النبي(ص) لأنه بعيد جداً عما أراده اللَّه تعالى بقوله: {تريدون عرض الدنيا} وبعيد هذا القول عن خلقه العظيم وصفاته الحميدة، وسلوكه السامي، والرغبة في عرض الحياة الدنيا لا تنسجم مع روحانيته وطهارته وقدسية نفسه، وتقواه وزهده، في كل ما يتعلق بهذه الدنيا الفانية، وهو صلى اللَّه عليه وآله وسلم معصوم بالوحي، ومسدد بأمر اللَّه، فكيف به يريد عرض الدنيا الفانية، ويرغب فيها؟ وهو يعلم أن ما عند اللَّه خير وأبقى، وهو الذي هدى اللَّهُ به الناس، ولولاه لما كان هناك مؤمنون مهديون، فكيف لا يكون هو نفسه مهدياً إلى اختيار الأفضل، ولما فيه نجاته، ومسدداً لما فيه الخير، بعيداً كل البعد عن عرض الدنيا وما يؤدي
________________________________________

[الصفحة - 58]


التمسك به إلى الهلاك وإلى العذاب العظيم. وإن قوله تعالى: {لولا كتاب من اللَّه سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم} لا شك أنه موجه لغيره صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وعلى هذا فالمعاتب غير النبي أيضاً، لأن التهديد هنا لغير النبي ولجملة المسلمين الذين خالفوا أوامره في جلب الأسرى، وهو لم يأمرهم بذلك.
ومن الرجوع إلى أسباب النزول، وقصة السورة وأحداث المعركة، يزول الإشكال، ونعلم أن المعاتب فيها ليس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم، ولم يخطى‏ء في شي‏ء يستحق فيه هذا العتاب والتهديد بالعذاب العظيم. لقد كانت الدولة فتية، وكانت هذه الحرب أول حرب يخوضها رسول اللَّه(ص) مع المسلمين ضد الغطرسة الجاهلية السفيانية والصنمية القرشية، ولم يطلب من أصحابه اصطحاب أسرى من المشركين معهم، فالموقف لا يتطلب ذلك، وكذلك وضع الدولة الإسلامية الفتية التي ما زالت تبنى ركناً ركناً، ولقد أمرهم رسول اللَّه(ص) أن يثخنوا في قتل عدوهم في هذه المعركة الفاصلة التي وقف فيها المسلمون نداً لند مع جيش المشركين في معركة «بدر الكبرى‏» وذلك بعد أن صدر الأمر الإلهي بذلك في قوله تعالى من سورة الأنفال: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} (30) . والأمر هنا للمسلمين كافة ولعموم المحاربين في هذه المعركة. وقد أوضح المفسرون ذلك. قال فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.
أما قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} ففيه وجهان:
الأول: أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى: «فثبتوا» وقيل: بل أمر للمؤمنين. وهذا هو الأصح، لما بينّاه أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة (31) .
وذكر ذلك الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» فقال: «ولقد كان الأمر واضحاً في قوله تعالى:{فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} ، وقد قام النبي(ص) بتبليغه إلى أصحابه، فخالفه بعضهم في ذلك، كما خالفوه في ما بعد، يوم أحد، بتركهم الجبل ونزولهم لجمع الغنائم، مما كان سبباً مباشراً في هزيمتهم.
لقد أسر المسلمون في معركة بدر الكبرى جماعة من المشركين، طمعاً بالفداء والأموال، وهذا هو المعني بقوله تعالى: «تريدون عرض الدنيا»، فأنكر عز وجل عليهم
________________________________________
(30)سورة الأنفال، الآية: 12.
(31)التفسير الكبير لفخر الدين الرازي، 15/135.

[الصفحة - 59]


هذا الأمر، وبين أن الذي أراده اللَّه ورسوله غير ما فعلوه فاستحقوا بذلك هذا اللوم والعتب القاسي، والتهديد بالعذاب العظيم.
أما قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} فقد نسب الأسرى للنبي(ص) لأن الأصحاب أسروهم ليكونوا في يده عليه الصلاة والسلام، فهم أسراه وفي يديه في حقيقة الأمر، وهم كذلك مضافون إليه لأنه قائد الأمة، وقائد جيوشها الأعلى، وإن لم يقم هو نفسه بأسرهم، ولم يأمر بذلك، فقد أضيفوا إليه.
فالعتاب والتهديد هنا ليس للنبي(ص) بل للذين خالفوا أوامره وأسروا بعض المشركين ولم يقتلوهم امتثالاً لأمر النبي(ص).
وقد ذكر فخر الدين الرازي، في كتابه «عصمة الأنبياء»، هذه الآية، مؤيداً القول بعدم عتاب اللَّه تعالى لنبيه(ص)، بل توجيه ذلك كله إلى أصحابه الذين قاموا فعلاً بالأسر، رغم عدم رغبة النبي بذلك. وقد علل ذلك في الشبهة الرابعة من كتابه المذكور (32) ، وقال:
أما قوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا} فهو خطاب جمع، فيصرف ذلك إلى القوم الذين رغبوا في المال.
وأما قوله تعالى: {لولا كتاب من اللَّه سبق} فمعناه لولا ما سبق من تحليل الغنائم لعذبتكم بسبب أخذكم هذا الفداء، وهذا غاية التقريع في تخطئتهم في أخذ الفداء من جهة التدبير.
ولرب قائل يقول: ما بال النبي(ص) لم يأمر بقتل الأسرى، لما صاروا في يده، إن كان أسرهم موجب للمعصية والعتاب؟ ويجيبنا على ذلك الشريف المرتضى في كتاب «تنزيه الأنبياء» فيقول:
«أما الوجه في أنه عليه السلام لم يقتلهم، فظاهر لأنه غير ممتنع أن تكون المصلحة في قتلهم وهم محاربون، وأن يكون القتل أولى من الأسر، فإذا أسروا تغيرت المصلحة، وكان استبقاؤهم أولى»(33) .
وفي الحقيقة إن قتل المشركين في المعركة والإثخان في الجراح والقتل، وعدم اصطحاب الأسرى، أمر مرعب جداً للمشركين المنهزمين في هذه المعركة، ويعطي صورة
________________________________________
(32)عصمة الأنبياء، ص 126.
(33)تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى، ص 113.

[الصفحة - 60]


عن فتك المسلمين بأعداء اللَّه وأعدائهم، وعدم إعطائهم الفرصة للعودة إلى القتال مرة أخرى. أما أسر بعضهم، فإنه يزرع في نفوسهم الأمل بالعيش، وبالعودة مرة أخرى لقتال المسلمين. وهم غير خائفين إذ الوقوع في الأسر يعني حياتهم، وبروز سبب مشجع لهم بالعودة إلى قتال المسلمين. لكن بعد الأسر، تختلف الصورة، فقد أصبحوا في ذمة المسلمين وأصبحوا مجردين من السلاح، وليست الحكمة في قتلهم في هذه الحال، بل الحاجة إلى المال الحاصل من فدائهم أفضل لبناء الدولة الإسلامية.
3 - قوله تعالى: {يا أيُّها النبيَّ، لمَ تحرّم ما أحل اللَّه لكَ تبتغي مرضاة أزواجك واللَّه غفور رحيم}
قالوا: عتاب اللَّه تعالى لنبيه ظاهر في هذه الآية، ولا يكون العتاب إلا عن ذنب كبير أو صغير، وفي هذا تخطئة للنبي(ص) وعتاب له وتوبيخ.
في الحقيقة ليس هناك ما يقتضي عتاباً أو توبيخاً، وكيف يعاتبه ربّه على ما ليس بذنب، لأن تحريم الرجل بعض نسائه لسبب أو لغير سبب هو أمر مباح، وليس فيه ذنب، وهو بالمحصلة ليس داخل في جملة الذنوب، وأكثر ما يقال فيه أنه مباح، والدليل في أنه ليس بالذنب، الطلاق والعتاق، وهما ليسا بأقل من التحريم إذا كان التحريم قبيحاً، وهو ليس كذلك.
وإن قوله تعالى: {لمَ تحرم ما أحل اللَّه لك تبتغي مرضاة أزواجك} قد خرج مخرج التوجع له صلى اللَّه عليه وآله وسلم، من حيث تحمل المشقة في إرضاء زوجاته، وحتى يكون هذا الأمر لهنّ زجراً عن مطالبته بمثل ما حصل له منهما، (حفصة وعائشة) كما يقول القائل لغيره: لمَ قبلت أمر فلان وهو دونك، وآثرت رضاه وهو عبدك؟. فليس في هذا عتاب ذنب، وإنما هو عتاب تشريف، وكذلك في هذه الآية الكريمة، فالعتاب عتاب تشريف، جاء نتيجة حرص رسول اللَّه(ص) على مرضاة أزواجه. وقضية هذه الآية، الواردة في سورة التحريم، معروفة لدى المفسرين. ويذكر هؤلاء، أسباب نزولها، فيقولون إنها تتمثل في موقف حفصة وعائشة، زوجتي الرسول(ص) وإفشائهما سرّه، وتظاهرهما عليه من أجل تحريم مارية القبطية، أو شرب العسل عند زوجته سودة بنت زمعة. فقد أفشت حفصة سره وأخبرت به عائشة، وذلك في قوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه }
________________________________________

[الصفحة - 61]


{ حديثاً، فلما نبأت به وأظهره اللَّه عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا قال: نبأني اللطيف الخبير} (34) .
وقد تظاهرت عليه زوجتاه (حفصة وعائشة) وتوعدهما اللَّه بالعقوبة وبين ما أعد لهما لنصرة نبيه(ص) في قوله تعالى: {إن تتوبا إلى اللَّه فقد صفت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن اللَّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (35) .
وبين لهما عز وجل العقوبة إن لم تتوبا في قوله تعالى: {ضرب اللَّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللَّه شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين}(36) . إذاً فالعتاب هنا ليس عتاب لوم وتقريع، لكنه عتاب تشريف وتوجع له بسبب تحمله المشقة في محاولة إرضاء زوجاته. وقد عاتب اللَّه عز وجل زوجات النبي بعد ذلك لقيامهن (حفصة وعائشة) بإفشاء سر النبي(ص) والتظاهر عليه، ودعاهن إلى التوبة من هذا الذنب، وبين عقوبة ذلك ضارباً المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، وهما زوجتان لنبيين خانتاهما فدخلتا النار.
قال الشريف المرتضى: «لا يمتنع أن يكون قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل اللَّه لك تبتغي مرضاة أزواجك} خرج مخرج التوجع له من حيث تحمل المشقة في إرضاء زوجاته») (37) .
ومن هنا ندرك أن اللَّه لم يعاتب نبيه لخطأ أخطأه أو ذنب ارتكبه بل عتاب تشريف وتوجع له لتحمل المشقة في إرضاء زوجاته، وهو تنبيه لهن من أجل عدم العودة إلى ما فعل بعضهن، كما شرحته الآيات التالية من سورة التحريم.
4 - قوله تعالى: { عفا اللَّه عنك لمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}
قالوا: هذا من قبيل خطأ رسول اللَّه(ص)، إذ أن العفو لا يكون إلا عن الذنب، وأن قوله تعالى: «لم أذنت لهم» ظاهر في العتاب، والعتاب لا يكون إلا عن الخطأ.
إن قوله تعالى: «عفا اللَّه عنك» لا يقتضي وقوع المعصية من الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم، ولا طلب غفران الذنب، أو ترك العقاب، ولا يمتنع أن يكون المقصود به
________________________________________
(34)سورة التحريم، الآية: 4.
(35)سورة التحريم الآية: 5.
(36)سورة التحريم الآية: 11. انظر في ذلك التفسير وأسباب النزول في تفسير الجلالين، ص 745.
(37)تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى، ص 121.

[الصفحة - 62]


التعظيم، والملاطفة في المخاطبة، فقد يقول قائل: أرأيت رحمك اللَّه وغفر لك، لو أنك فعلت كذا وكذا.. وهو بذلك لا يقصد الصفح عن الذنب وترك العقاب عما أذنبه المخاطب أو فعله، بل الغرض من ذلك الإجمال في المخاطبة وتعظيم المخاطب وتوقيره.
أما قوله تعالى: «لمَ أذنت لهم» فظاهره الاستفهام، والمراد به التقرير، واستخراج ذكر علة أذنه لهم، وليس حمل ذلك على العتاب بواجب، وغاية ما يمكن أن يقال في ذلك: إن الآية تدل على أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد ترك الأولى والأفضل، وهذا ليس بذنب ولا خطيئة، لأن الأنبياء يجوز أن يتركوا كثيراً من النوافل، ولا يأثمون أو يخطئون في ذلك، ولو أدوه كله لكان أفضل، لكن يحدد ذلك العزم والطاقة والوقت والمناسبة والظرف.
وقصة الآية أن بعض المنافقين استأذنوا رسول اللَّه، صلى اللَّه عليه وآله وسلم، في عدم الخروج إلى غزوة تبوك فأذن لهم، وهو يعلم أنهم منافقون، ولا حاجة بهم إلى الخروج مع المسلمين المتقين الذين فيهم الكفاية عنهم.
وقد أخبره اللَّه عز وجل أن الأولى ألاَّ يأذن لهم حتى إذا لم يخرجوا ظهر نفاقهم وعرفهم الناس. لأنهم قالوا: {وسيحلفون باللَّه لو استطعنا لخرجنا معكم} (38) فلو لم يأذن لهم لظهر الكاذبون منهم والصادقون، لهذه الغاية فقط كان خروجهم أولى، ولا خير فيهم وفي خروجهم واللَّه ورسوله يعلمان ذلك، ولقد كره اللَّه خروجهم وبين خطورته في قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره اللَّه انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} (39) ، كما بين خطورة خروجهم مع المسلمين بأنهم سيثيرون فتنة ومفسدة للمؤمنين في قوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم واللَّه عليم بالظالمين} (40) .
ولقد علم رسول اللَّه(ص) كل هذه المخاطر من خروجهم فأذن لهم، لكن اللَّه تعالى أخبره أن في عدم الإذن لهم كشف حقيقتهم وبيان الصادق فيهم من الكاذب. والرسول(ص) مميز في الإذن وليس مجبراً كما خاطبه عز وجل في موضع آخر: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم اللَّه إن اللَّه غفور رحيم} (41) علماً بأن الاستئذان هنا للمؤمنين وليس للمنافقين.
________________________________________
(38)سورة التوبة، الآية: 42.
(39)سورة التوبة، الآية: 46.
(40)سورة التوبة، الآية: 47.
(41)سورة النساء، الآية: 62.

[الصفحة - 63]


5 - قوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم اللَّه عليه، وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك، واتقِ اللَّه، وتخفي في نفسك ما اللَّه مبديه، وتخشى النّاس واللَّه أحق أن تخشاه}
قالوا: هذه الآية تدل على خطأ رسول اللَّه(ص) وعتاب اللَّه له، حتى لقد روى ابن جرير عن عائشة أنها قالت: ما نزلت آية أشد على رسول اللَّه من هذه الآية، ولو كتم شيئاً مما أوحي إليه من كتاب اللَّه تعالى، لكتم هذه الآية (42) .
وكأن الراوي عن عائشة، أو عائشة نفسها إن كانت هي التي روت الحديث مقتنع، أو مقتنعة، تماماً بخطأ رسول اللَّه(ص). وأن الراوي ما أراد بهذا الحديث إلا ليخطّى‏ء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم.
ورووا أيضاً أن النبي(ص) رأى زينب بنت جحش بعدما زوجها ربيبه زيداً، فهويها النبي(ص)، ولما حضر زيد لطلاقها، أخفى رسول اللَّه(ص) في نفسه عزمه على نكاحها بعده، لهواه لها، فعاتبه ربه على ذلك، ومما قالوه: إن رسول اللَّه(ص) أبصرها بعدما أنكحها إياه (أي زيد)، فوقعت في نفسه‏ (43) .
قال السيوطي: فزوجها النبي(ص) لزيد، ثم وقع بصره عليها بعد حين، فوقع في نفسه حبها وفي نفس زيد كراهيتها. وقال: {وتخفي في نفسك ما اللَّه مبديه} مظهره من محبتها وأن لو فارقها زيد تزوجتها (44) .
ولست أدري كيف يسوّغ بعض الكتاب لأنفسهم التفوّه بمثل هذه الأحاديث، ونشر مثل هذه الأراجيف في حق سيد المرسلين، وإمام النبيين صلوات اللَّه عليهم أجمعين، وهو النور المرسل، والنبي المبجّل، وحبيب رب العالمين، وأفضل جميع المخلوقات بإجماع كافة المسلمين.
إذ إن المعروف في هذه الآيات وقصتها، أن اللَّه تعالى أراد أن ينسخ عادة جاهلية متمكنة من نفوس الناس، وهي تحريم زوجة الدعيّ، فأوحى اللَّه عز وجل إلى رسوله(ص) أن زيد بن حارثة، وهو دعيّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم، سيأتيه مطلقاً زوجته، ويأمره عز وجل بأن يتزوج منها بعد فراق زيد لها، وكمال عدتها، كأيّة امرأة من المسلمين،
________________________________________
(42)تفسير ابن كثير، 3/491.
(43)تفسير الكشاف للزمخشري، 3/237.
(44)تفسير الجلالين، ص 558.

[الصفحة - 64]


ليكون ذلك ناسخاً لسنة جاهلية متمكنة في النفوس. فلما حضر زيد عازماً على‏ الطلاق، أشفق عليه رسول اللَّه(ص) ورأى أن لا يمسك عن وعظه وإرشاده وتذكيره. فقال له: أمسك عليك زوجك واتق اللَّه فيها، فلما وجد إصرار زيد على الطلاق وأن لا فائدة من استمراريته، أمضاه له رسول اللَّه(ص) لأن زيداً كان يعاني من زينب حيث كانت ترى نفسها أعلى مقاماً ومنزلة منه، وقد استنكفت عنه سابقاً حين خطبها رسول اللَّه(ص) قائلة: «أنا خير منه حسباً». ويبدو أن هذا الأمر كان السبب المباشر في ما بعد لعدم استقرار الحياة الزوجية بينهما.
وقد كان رسول اللَّه(ص) يعلم أن زيداً لا بد أن يطلقها، وأخفى في نفسه أنه مأمور بالزواج منها بعد طلاقها، منفذاً أمر اللَّه في ذلك، ولم يظهره للناس حتى لا يرجف المنافقون ويتقولون عليه الأباطيل، فقد خشي رسول اللَّه(ص) كلام الناس، فأخفى في نفسه أمراً سيبديه اللَّه، في ما بعد، وهو زواجه منها، وهذا أمر لا عيب فيه ولا خطيئة.
أما قوله: {واللَّه أحق أن تخشاه} لا يعني مطلقاً أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يخش اللَّه في هذا الموقف، وإلا لكان ذلك نقضاً لنبوته وطعناً في رسالته، وهتكاً لعصمته. لكن هذا القول هو تأكيد لما في نفس رسول اللَّه(ص) وتقرير لما يكنه من أن اللَّه أحق بالخشية من الناس. وقوله تعالى: «وتخشى الناس» أي تستحي منهم، وتخشى ألسنتهم من أن يقولوا: نكح رسول اللَّه(ص) زوجة ابنه، ويكون ذلك مجالاً للطعن من المنافقين والمرجفين وضعاف النفوس. إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم، المعصوم بالوحي، المسدد بأمر اللَّه، لا يمكن أن يكون أسيراً لهوىً يشغل فكره، أو عرضة لتأثير سحر الفاتنات حتى يهوى ويعشق، فيدمر أسرة مسلمة نتيجة لذلك. وإذا كان جمال زينب بنت جحش قد بلغ هذا المبلغ من السحر الذي صورها فيه الآخرون حتى أن رسول اللَّه لما رآها وقعت في نفسه وهي زوجة محترمة مصونة محصنة. ألم يرها قبل زواجها من زيد فيأسره هذا الجمال؟ وما الذي منعه من الزواج منها حينما كانت بنتاً بكراً، بنضارتها وجمالها، قبل أن يتزوجها زيد؟ علماً بأن زينب هذه هي ابنة عمة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وقريبته، وهو نفسه الذي خطبها لزيد وزوجها منه، وهو نفسه الذي حاورها وتحدث معها طالباً منها قبول الزواج من زيد، فاستنكفت أولاً لأن زيداً أقل مكانة منها. قال
________________________________________

[الصفحة - 65]


مجاهد وقتادة ومقاتل ابن حيان أن الآية: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللَّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللَّه ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً} [الأحزاب/36] نزلت في زينب بنت جحش، رضي اللَّه عنها، حين خطبها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم على مولاه زيد بن حارثة، رضي اللَّه عنه، فامتنعت ثم أجابت.
وفي رواية ابن عباس أنها استنكفت منه، وقالت: «أنا خير منه حسباً» (45) .
وفي هذا بيان بأن رسول اللَّه(ص) قد رآها سابقاً وخطبها لزيد بنفسه. ولم يفاجأ بجمالها بعد زواجها حتى يهواها. ولعله ممَّا يؤسف له ما ادعاه بعض الكتاب في هذه القصة، وأعرضنا عن كثير منه كما أعرض عنه كثير من المفسرين، وأن هؤلاء المدعين لم ينزهوا رسول اللَّه(ص) فأصبح هذا الأمر من المطاعن لديهم في عصمته صلى اللَّه عليه وآله وسلم. وقد توصل الأمر بعالم كبير كالحافظ ابن عساكر الدمشقي، المعروف، أن ألف كتاباً أسماه كتاب «الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين»، وذكر فيه عدداً من القواعد المختصة بزواج وأزواج رسول اللَّه(ص) فقال في فصل: من خصائصه(ص) الزيادة على الأربع إلى التسع:
«ووجب على من له زوجة ورغب في نكاحها أن يطلقها زوجها لقصة زيد» (46) .
أي أن هذه القاعدة تنص على أن من خصائصه(ص): أنه إذا رأى النبي(ص) زوجة أحد المسلمين ورغب بالزواج منها، بعدما أعجبته ووقعت في نفسه، فعلى زوجها واجب شرعي أن يطلقها ليفسح المجال للنبي من أجل زواجه منها، ويستشهد بقصة زيد، لقناعته بصحة ما لُفِّق حولها من حب وغرام وهوى، ـ والعياذ باللَّه ـ وهو بذلك يريد أن يثبت أن زينب وقعت في نفس النبي(ص) فطلقها زيد إكراماً له، وقد نسي ابن عساكر ـ رحمه اللَّه ـ أن النبي(ص) كتم أمر زواجه عن زيد حتى لا يكون ذلك مجالاً للطعن في هذه القضية وذلك في قوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما اللَّه مبديه} فكيف علم زيد بهوى رسول اللَّه لها، والقرآن صريح بذلك؟!
إن زيداً لم يعلم أن رسول اللَّه(ص) مأمور بالزواج من زوجته زينب بعد طلاقها، وكان طلاقه لها عن علم ودراية منه بأنها لن تستمر معه لتعاليها عليه، وكانت ترى أنها أعلى مكانة منه وأعز حسباً، وكان الطلاق عادياً وقع كما يقع لأية امرأة من المسلمين.
________________________________________
(45)تفسير ابن كثير، 3/489.
(46)كتاب «الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لابن عساكر، ص 37.

[الصفحة - 66]


أما قاعدة ابن عساكر فلا قيمة لها، وقد وهم ـ غفر اللَّه له ـ في ذلك ظناً منه أن زيداً علم بمحبة رسول اللَّه لها فطلقها ليتزوجها النبي، وجعل ذلك قاعدة شرعية.
إن ما قيل في هذه القصة لا قيمة له لأنه يخالف ما عليه رسول اللَّه(ص) من العصمة والتنزيه عن العيوب وما وصفه به ربه سبحانه وتعالى في قوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} فسبحان اللَّه عما يصفون وتعالى علواً كبيراً.
6 - قوله تعالى: { ووجدك ضالاً فهدى‏}
قالوا: الضلال ضد الرشد، وهذا يعني أنه، عليه الصلاة والسلام، يصدق عليه الخطأ والذنب قبل الوحي. وطالما أخذنا على أنفسنا أن ننزه النبي قبل الوحي وبعده عن الأخطاء والنواقص والذنوب، فيجب أن نأخذ هذه الآية على أنه تعالى عنى بالضلال، الضلال عن النبوة والوحي فلم يكونا للنبي(ص) قبل البعثة، فهداه اللَّه إلى الوحي والنبوة فقرت عيناه بهما.
ويمكن القول: إنه يعني بقوله: {ووجدك ضالاًّ فهدى} أي مضلولاً عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك. وهذا له نظير في الاستعمال. يقال: فلان ضال في قومه وبين أهله، إذا كان مضلولاً عنه‏ (47) .
ويؤكد المعنى الأول ما أورده فخر الدين الرازي بقوله: «وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها»(48) . ويؤكده قوله تعال: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} (49) .
ولا تعني الآية مطلقاً أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان ضالاً كضلال قومه المشركين أو الملحدين أو الكافرين.
وقد ذكر بعض الباحثين، في هذا المعنى، أنه: «وجدك ضالاً في زمان الصبا في بعض المفاوز». وهذا بعيد ولا دليل عليه.
7 - قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيَّته، فينسخ اللَّه ما يلقي الشيطان، ثم يُحكم اللَّه آياته، واللَّه عليم حكيم}
لقد كثرت الروايات والأقاويل في تفسير هذه الآية، وملخص ما قالوا فيها:
________________________________________
(47)كتاب تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى، ص 106.
(48)عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي، ص 110.
(49)سورة الشورى، الآية: 52.

[الصفحة - 67]


إن رسول اللَّه(ص)، لما اشتد عليه ما ناله وأصحابه، من أذى المشركين وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، تمنى هداهم، فلما أنزل اللَّه سورة النجم قال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. ألكم الذكر وله الأنثى} (50) ، ألقى الشيطان عندها كلمات على لسان النبي(ص) الذي تمنى مقاربتهم وهدايتهم فتلاها عليهم وسمعها المشركون وهي {تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى} فلما سمعت قريش ذلك سرت به، ثم سجد رسول اللَّه(ص) وسجد معه المؤمنون وكذلك المشركون لما سمعوه من ذكر آلهتهم بما أعجبهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد حتى الوليد بن المغيرة كان شيخاً لا يقوى على السجود، فأخذ بيده حفنة من التراب فسجد عليها. وجاء جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم معاتباً له على ذلك، فحزن حزناً شديداً. فأنزل اللَّه تعالى عليه الآية {ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلي قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين اجرموا وکان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم/47] معزياً ومسلياً، جاعلاً هذا الإلقاء من الشيطان حدث مع غيره من الأنبياء والرسل.
وأنت ترى إن في هذا التأويل بعد كبير عن حقيقة الأنبياء والمرسلين وناموس الرسالات السماوية وعصمة الأنبياء والمرسلين، إذ أنهم يقرون في هذا الكلام أن كل نبيٍّ أو رسول قد شاركه الشيطان في كلام ربه وهو لايدري، ثم إن اللَّه يعلمه بذلك فينسخ ما ألقى الشيطان، فيعطون للشيطان قوة فوق قوة اللَّه وفوق قوة الأنبياء، ولم يذكروا قوله عز وجل: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (51) . وقوله تعالى: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (52) .
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره: «تفسير القرآن العظيم» (53) أن كثيراً من المفسرين قد ذكروا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير ممن هاجر إلى الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ثم قال: ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح واللَّه أعلم. ثم ذكر بعض مصادر هذه القصة الخرافية فنقل روايتها عن كل من: ابن أبي حاتم، وابن جرير، والبزار في مسنده، وعن قتادة، وعن ابن شهاب الزهري، وفي تفسير ابن جرير عن الزهري، والحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه «دلائل النبوة»، ومحمد بن إسحاق في السيرة، وعن البغوي في تفسيره. قال ابن كثير: وقد تعرض القاضي عياض
________________________________________
(50)سورة النجم، الآية: 20.
(51)سورة الحجر، الآية: 42.
(52)سورة ص، الآية: 82.
(53)تفسير ابن كثير، 3/299.

[الصفحة - 68]


رحمه اللَّه في كتابه «الشقاء» لهذا وأجاب بما هو حاصله أنها كذلك لثبوتها، وقوله {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} هذا فيه تسلية من اللَّه لرسوله(ص) أي لا يهدينك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
قال ابن كثير: «قال البخاري، قال ابن عباس: «في أمنيته» إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل اللَّه ما يلقي الشيطان {ثم يحكم اللَّه آياته} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} (54) يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد: «إذا تمنى» يعني إذا قال، ويقال أمنيته قراءته..»
وأنت ترى أن كل هذه الروايات وهذه المصادر قد نقلت هذه الخرافة التي اتخذها المستشرقون وأعداء الإسلام سبة للطعن في عصمة رسول اللَّه(ص) وحجة للتهجم على الإسلام ونبيّ الإسلام والنيل منه، وحجتهم في ذلك هذه المصادر المتعددة من كتب المسلمين ورواتهم الذين نقلوا هذه الخرافة الإسرائيلية دون جرح أو تثبت من منافاة هذا القول لشرف النبوة والعصمة التي قررها اللَّه تعالى في حق أنبيائه ورسله سلام اللَّه عليهم أجمعين.
لقد ابتعد هؤلاء المفسرون والرواة كثيراً عن الحقيقة ولم ينزهوا رسول اللَّه(ص) ولا الأنبياء من قبله، لأنهم أساؤوا فهم الآية حين اعتبروا أن الشيطان ألقى في أمنية النبي(ص) أي تحدث بلسانه وتلفظ بكلمات ما أرادهن رسول اللَّه(ص)، أي أن الشيطان تلبسه بهذه الحالة وتكلم بلسانه، ثم جاء الوحي فعاتبه ونسخ ذلك الكلام وأحكم اللَّه آياته.
لكن الحقيقة في ذلك بكل بساطة هي: أن كل نبي، أو رسول، إذا تمنى بقلبه وفكر بعقله لهداية قومه، وسعى إلى ذلك جاهداً، فإن الشيطان يوسوس للناس غير ما يريده الرسول، ويحض الناس على رفض دعوته وإنكار نبوته ومحاربتها، وأن اللَّه عز وجل يمحو من النفوس دعوة الشيطان وينسخها من العقول، ثم يهديهم إلى اتباع الرسول ويثبت دعوته التي هي دعوة اللَّه سبحانه ورسالته المحكمة إلى الناس.
واعلم أن لكل نبي أمنية، وهي هداية قومه أولاً، وهي شغله الشاغل وهدفه السامي قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (55) ، وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن اللَّه عليم بما يصنعون}(56) . وقد فسر ابن فارس الأمنية بمعنى تقدير
________________________________________
(54)المصدر نفسه، 3/229 و230.
(55)سورة يوسف، الآية: 103.
(56)سورة فاطر، الآية: 8.

[الصفحة - 69]


شي‏ء ونفاذ القضاء به‏ (57) .. ولعل في الآيتين السابقتين كفاية لمعرفة أماني الرسل.
وإذا عرفنا ذلك فلا بد من معرفة هل يمكن أن يتحدث الشيطان بلسان النبي أو يوسوس له خلاف الوحي وخلاف العصمة؟ ولا شك أن التحدث بلسان النبي أو الوسوسة طعن في النبوة والعصمة معاً، واللَّه تعالى يؤكد لنا عدم إمكانية ذلك في كتاب العزيز، قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (58) .
وقال عز وجل: {فبعزتك لأغوينَّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (59) .
فإذا كان عباد اللَّه المخلصين ليس للشيطان عليهم سلطان، فكيف بأنبياء اللَّه ورسله وهم صفوة عباده المخلصين؟ ويؤكد لنا القرآن الكريم كذلك فكرة أن الشيطان يوسوس للناس غير ما يريد الرسل، ويسعى إلى حضهم على ترك دعوة الرسول وإنكار نبوته ومحاربتها. قال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} (60) .
ونستخلص أن معنى «إحكام الآيات» هو تثبيت نبوة النبي ورسالته والدلائل والإرشادات التي تؤدي إلى الإيمان واتباع شريعة اللَّه سبحانه وتعالى.
أما «النسخ» فهو إبطال دعوة الشيطان وما يوسوسه في صدور الناس وبيان بطلانه وتثبيت الحق والإيمان، وأن كل ما قيل من حكايات وخرافات وتأويلات، خلاف ما أثبتناه، يعارض القرآن الكريم، لذلك فإننا نضرب به عرض الحائط، خاصة وأنه يتعارض مع عدم سلطان الشيطان على الأنبياء والمرسلين وعباد اللَّه الصالحين كما في آية: «يعدهم ويمنيهم» ومع الآيات التالية الدالة على عصمة النبي وحفظ القرآن الكريم، وحفظ النبي من الشياطين وشرورهم، وعدم تمكن أحد مهما كان من إضافة شي‏ء إلى كلام اللَّه تعالى:
1 - قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (61) .
2 - وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (62) .
3 - وقال تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} (63) .
4 - وقال تعالى:{ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (64) .
________________________________________
(57)مقاييس اللغة، 5/276.
(58)سورة الحجر، الآية: 42.
(59)سورة ص، الآية: 82.
(60)سورة النساء، الآية: 12.
(61)سورة النجم، الآيتان: 3 ـ 4.
(62)سورة الحجر، الآية: 9.
(63)سورة الجن، الآية: 27.
(64)سورة الحاقة، الآيات: 44 ـ 46.

[الصفحة - 70]


فكيف يمكن للشيطان الدخول بوحي اللَّه تعالى، أو أن يصبح وحياً؟ وهذا شي‏ء محال.
وكيف يضيف إلى القرآن ما ليس منه؟ وقد تكفل اللَّه تعالى بحفظه وعصمه عن كل زيادة أو نقصان.
وكيف رصد اللَّه نبيه عن الجن والشياطين وأذاهم؟ ثم يلقي الشيطان بلسان النبي ما يسي‏ء إلى الرسالة ويحرف مسيرتها، وبدلاً من هتك حرمة الشرك والأصنام التي كانوا يعبدونها، تجده يشيد باللاة والعزى ومناة.
وكيف يمكن للشيطان أن يلقي ويزيد ما فيه ذلك الطعن وانحراف الرسالة؟ ولم يترك عز وجل مجالاً لأحد لكي يضيف قولاً أو كلمة، حتى لرسول اللَّه(ص).
وفي هذا التوضيح كفاية ولا حاجة لنقض أقوال المتأولين والقصاصين لأنها تعارض القرآن وسيرة رسول اللَّه(ص) وخلقه وعظمته فلا التفات لها، ونردها على مصادرها ليفعلوا بها ما يشاؤون، فليس محمد بن عبداللَّه نبي اللَّه ورسوله وحبيبه هو الذي يقترب منه الشيطان ويلقي على لسانه كلمات يظنها الناس قرآناً، في حين أن الشيطان يفرق من عمر بن الخطاب، ولو سلك عمر وادياً لسلك الشيطان وادياً آخر»، وهذا مروي في كتب الحديث المعتبرة، فكيف برسول اللَّه(ص)، ونقبل مثل هذه الافتراءات والخرافات والأراجيف؟!
8 - قوله تعالى: { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك} [الانشراح/1ـ3]
قالوا: الوزر هو الذنب، والآية صريحة في الذنب، وقالوا: حمل الوزر على ما كان قبل النبوة أو ترك الصغيرة. وفي الحقيقة أن الوزر في اللغة يعني الثقل، وسميت الذنوب أوزاراً لأنها تثقل حاملها، وكل غم وهم ومسؤولية هو وزر في اللغة والتفسير اللغوي.
وانطلاقاً من تنزيه النبي والرسول عن الذنوب والمعاصي قبل النبوة وبعدها، لما قدمناه في بداية هذا البحث، فإن الوزر الذي وضعه سبحانه وتعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام، هو إزالة الهم والغم مما كان يتحمله من قومه أو دعوته إليهم للإيمان باللَّه ونبذ عبادة الأصنام.
________________________________________

[الصفحة - 71]


وبعد أن بعث سيدنا محمد(ص) إلى قومه وبدأ بالدعوة لاقى من المعارضة والمضايقة والقتل والتشريد لبعض أصحابه، فهمّه ذلك كثيراً وغمه الأمر لوجود المعارضة القوية وضعف أصحابه، فطمأنه اللَّه عز وجل وشرح صدره من بعد هذا الثقل وهذا الوزر الكبير الذي أهمه، ووضع ما كان عنه من هم وغم بأن يعلي كلمته وينشر دعوته ويهدي قومه، وما عليه سوى الدعوة ونشر الإسلام والصبر على ذلك وأن النتيجة هي النصر له ولدعوته العظيمة، وبذلك أزال عنه سبحانه وتعالى ذلك الهم الذي أثقل ظهره، لأن نقض الظهر هو الثقل والحمل كما جاء في معاجم اللغة.
والذي يقوّي ما قلناه الآيات التالية لهذه الآية من سورة «ألم نشرح»، وهي قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} (65) وهذه طمأنينة للرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم وبشارة له بعلو شأنه وانتصار دعوته، وبقاء ذكره سامياً عالياً في السماء والأرض، فكيف لا ينشرح بذلك صدره، ويزول همه وغمه؟ ويؤيده أيضاً قوله تعالى:
{فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً} (66) وهي تحكي حالة النبي(ص) وحالة أصحابه في وقت العسرة وشدة المعارضة، وليس أعسر وأصعب مما كانوا عليه في بدء الدعوة وقبل أن يأذن اللَّه بقتال المشركين، حتى لجأ جبابرة قريش إلى قتل ياسر وزوجته رضوان اللَّه عليهما، وإلى تعذيب بلال الحبشي وغيره، وإلى الضغط الشديد على المسلمين حتى اضطر قسم كبير منهم إلى الهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم وأرواحهم، ووصل بهم الأمر إلى أذية رسول اللَّه(ص) في الطائف وفي مكة، وتعرض الصبيان له، وكذلك الكبار ووصفه بالمجنون والساحر.. وبعد كل هذا العسر وعده اللَّه باليسر والنصر وسيادة دعوته صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإزالة كل هذه الهموم والغموم، وهذا كله يفسر قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} .
وإذا علمت أن السورة مكية، فإن مضمونها هو وعد اللَّه لنبيه وتطمين لقلبه، بأن اللَّه سيظهر دينه وينصره على المشركين. قال الرازي: «إن وعد اللَّه حق، فلما وعده اللَّه بذلك في مكة فقد قوى قلبه وزالت كربته» (67) .
9 - قوله تعالى: { ليغفر اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح/2]
________________________________________
(65)سورة الإنشراح، الآية: 4.
(66)سورة الإنشراح، الآيتان: 5 و6.
(67)عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي، ص 129.

[الصفحة - 72]


قالوا: هذا نص صريح في أن لرسول اللَّه(ص) ذنوباً قبل النبوة وبعدها، وقد غفرها اللَّه له.
وهذا الادعاء هو نقض للنبوة وطعن في العصمة، ولا بد من معرفة الحقيقة من ذلك كله لدى المتكلمين في هذا الباب.
قال الشريف المرتضى: «المغفرة على هذا التأويل هي الأزالة والفسخ والفسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكة وصدهم له عن المسجد الحرام»(68) .
وقد عنى بذلك إضافة ذنوب قومه إليه وغفرانها بعد أن أنعم اللَّه عليه.
وقال فخر الدين الرازي: «المراد ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر».
وقال: «إذا ترك الأولى يسمى ذنباً كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين».
وقال: ليغفر لأجلك وببركتك ما تقدم من ذنبهم في حقك وما تأخر.
وقال: لو كان لك ذنب لغفرته لك‏ (69) .
وقال السيد الطباطبائي: وللمفسرين، في الآية، مذاهب مختلفة أخرى، فمن ذلك قول بعضهم: إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من ذنب أبويه آدم وحواء عليهما السلام ببركته(ص)، والمراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة ذنوب أمته بدعائه.
ومن ذلك: إن القول خارج مخرج التعظيم وحسن الخطاب، والمعنى: غفر اللَّه لك كما في قوله تعالى: «عفا اللَّه عنك» ومن ذلك ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، مغفرة ما تقدم من ذنوب أمته وما تأخر منها بشفاعته(ص) ولا ضير في إضافة ذنوب أمته(ص) إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته.
قال السيد الطباطبائي: من موارد استعمالاته (أي الذنب) هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر على الشي‏ء، ثم قال: وقيام النبي(ص) بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدم على الهجرة وإرادته ذلك، وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفار والمشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملاً منه(ص) ذا تبعة سيئة عند الكفار والمشركين، وما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة... غير أن اللَّه سبحانه
________________________________________
(68)تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى، ص 117.
(69)عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي، ص 130.

[الصفحة - 73]


رزقه(ص) هذا الفتح، وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة، فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه(ص) من الذنب وآمنه منهم‏ (70) .
ويؤيد هذا القول قوله تعالى: {ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك اللَّه نصراً عزيزاً} [الفتح/2 ـ 3].
فقوله تعالى: {ويتم نعمته عليك} أي بإظهارك على عدوك وإعلاء أمرك في الدنيا، وبرفع درجاتك في الآخرة. ثم يهديك صراطاً مستقيماً يؤدي بسالكه إلى الجنة، وينصرك اللَّه نصراً عزيزاً تمتنع به عن كل جبار عنيد ويعز دينك ويظهره على كافة الأديان.
وكل هذه الأقوال وخاصة ما قاله السيد الطباطبائي رحمه اللَّه، تؤكد أن لا ذنب لرسول اللَّه(ص) حتى يغفره اللَّه عز وجل لا قبل النبوة ولا بعدها، لكن ما عنته الآية هو إضافة ذنوب قومه إليه، أو آدم وحواء على قول آخر، وغفرانها ببركته وشفاعته، وهو إزالة التبعة السيئة التي تركها في نفوس المشركين بعد إسلامهم، وسترهم على ذلك بعد أن أنعم اللَّه عليهم برسوله الأعظم محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم. وهذا القول هو الأنسب لقضية الفتح ومناسبة الآيات.
10 - قوله تعالى: {عبس وتولى أن جاء الأعمى} [عبس/1 ـ 2]
قالوا: هذا العبوس والتولي عن الأعمى من قبل النبي(ص) هو من الذنوب الصغيرة، لذلك عاتبه ربه سبحانه وتعالى هذا العتاب الشديد قائلاً له: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} [عبس/3 ـ 4]. إن المتأمل في هذه الآية وما بعدها يدرك بكل وضوح أن الخطاب فيها غير موجه للنبي محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم.
فقد قال تعالى: «عبس وتولى»، والخطاب هنا غير دال على توجهها إلى النبي(ص) بل يدل الخطاب فيها على أنه موجه إلى شخص آخر غير النبي، ولو كان الخطاب للنبي(ص) لقال: عبست وتوليت، إذاً فالآية خبر محض لم يصرح فيها بالمخبر عنه. ولما كان المخبر عنه غير النبي فهو يصح على غيره من المسلمين، وقد أجمعت التفاسير على أن الذي جاء إلى هذا العابس والمتولي هو الأعمى ابن أم مكتوم، وقد وردت روايات تحكي قصة مجيئه إلى الرسول وعنده قوم من كبار مشيخة قريش يحدثهم في شأن الإسلام. فعبس
________________________________________
(70)تفسير الميزان للسيد الطباطبائي، 18/254.

[الصفحة - 74]


الرسول بوجهه لأنه كان حريصاً على دعوة هؤلاء. وهذه الروايات تتناقض مع أخلاق النبي(ص) وعصمته وسيرته بين أصحابه وطبيعة دعوته التي كانت بدايتها بين الفقراء والمستضعفين. وكذلك فهي تصف النبي بالعبوس في وجه من جاءه مسلماً، وليس العبوس من صفاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم مع أعدائه، فضلاً عمن جاءه يريد الإسلام واللَّه تعالى يقول: {وإنك لعلى خلق عظيم} (71) .
والرواية تصفه بأنه يتصدى للأغنياء ومشيخة قريش وصناديدها، ويتلهى عن الفقراء، وهذا أيضاً مناقض لصفات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(72) .
وقوله تعالى: {أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى} (73) ففيه عتاب وتوبيخ أشد من قوله: «عبس وتولى» لأن الاستغناء من الغنى ووفرة المال، والمعنى: إنَّ من كان غنياً تقبل عليه وتلاطفه وتحادثه، وتترك الفقير، وما عليك ألا يزكى، أي ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه.
وأنه لا يجوز أن يقال للنبي: «وما عليك ألا يزكى» فإن هذا إغراءٌ بترك الحرص على إيمان قومه فلا يليق بمن بعث بالدعاء والتنبيه، كما قال الفخر الرازي‏ (74) .
وقد قال أيضاً: لا نسلم أن هذا الخطاب موجه للنبي(ص) لأن هذه رواية أحاد فلا تقبل في هذه المسألة، ثم إنها معارضة بأمور:
1 - أنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي(ص) في قرآن ولا خبر مع الأعداء والمعاندين.
2 - وصفه بأنه تصدى للأغنياء وتلهى عن الفقراء وذلك غير لائق بأخلاقه.
3 - أنه لا يجوز أن يقال للنبي: «وما عليك ألا يزكى» فإن هذا إغراء بترك الحرص على إيمان قومه.
واعلم أن العبوس والتصدي للأغنياء دون الفقراء، والتلهي عمن جاء مسلماً لفقره أو عماه، وقوله تعالى: «وما عليك ألا يزكى» كل ذلك يتعارض مع خلق وصفات رسول اللَّه(ص) ومع صريح القرآن الكريم في الآيات التالية:
1 - قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} (75) .
________________________________________
(71)سورة القلم، الآية: 4.

[الصفحة - 75]


2 - قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (76) .
3 - قوله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (77) .
4 - قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (78) .
قلت: أجمعت التفاسير على أن الأعمى هو عبداللَّه بن أم مكتوم، لكنها اختلفت فيمن خوطب بالسورة ووصفه اللَّه بتلك الصفات فقال بعضهم: هو النبي(ص) وقد تقدم بطلان نسبة ذلك إليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وقيل إن المخاطب هو رجل من بني أمية كان عند النبي فجاءه ابن أم مكتوم فما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى اللَّه قصته‏ (79) . وقيل إن ذلك الرجل هو عثمان بن عفان كان عند النبي(ص) وهو المعني بقولهم: رجل من بني أمية.
11 - قوله تعالى: { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر/65]
قالوا: فلو لم يصح ذلك منه لما خوطب به.
الخطاب، في هذه الآية، ليس للنبي بل لأمته. وإن كان هو المخاطب ظاهراً، لكن المراد أمته، فقد روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال: نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة (80) ، ومثل ذلك قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق/1] فدل قوله تعالى فطلقوهن على أن الخطاب توجه إلى غيره.
إن في علم اللَّه أن النبي(ص) والأنبياء الذين سبقوه أنهم محّضوا الإيمان ولا يمكن أن يصدر الشرك عنهم. ولكن هذا الخطاب فيه تخويف وترهيب للأمة، حتى لا يطمع أحد في اللَّه عز وجل فيتهاون في أحكامه وعبادته، فمهما عظم الإنسان فلن يصل إلى مرتبة سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد(ص)، ورغم هذا فلو بدر منه الشرك أو الذنب، لذهب بكل عمله وكان من الخاسرين. وهذه الآية في حكمها والمراد منها مثل قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (81) ، واللَّه تعالى يعلم أن نبيه(ص) لن يتقول عليه شيئاً من الأقاويل، وإنما المراد بذلك غير النبي، ولبيان خطورة هذا العمل وتنبيه الأمة إليه. وكذلك شبيه قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا اللَّه }
________________________________________
(72)سورة الأنبياء، الآية: 107.
(73)سورة عبس، الآيات: 5 ـ 7.
(74)عصم الأنبياء للرازي، ص 131.
(75)سورة القلم، الآية: 4.
(76)سورة الأنبياء، الآية: 107.
(77)سورة الشعراء، الآية: 215.
(78)سورة الحجر، الآية: 94.
(79)تفسير الميزان للسيد الطباطبائي، 20، الآية 204.
(80)تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى، ص 119.
(81)سورة الحاقة، الآيات: 44 ـ 46.

[الصفحة - 76]


{ لفسدتا} [الأنبياء/22]، وهذا تعليم لنا، لأنه بعلم اللَّه لا يوجد آلهة إلا اللَّه سبحانه وتعالى.
خاتمة
وهكذا وجدنا، في إحدى عشرة آية من كتاب اللَّه، أنها تدل بظاهرها على خطأ النبي(ص) وعتابه، أو احتمال وقوع الذنب أو المعصية منه.
وبينّا ما يجب فيه تنزيه النبي(ص) ورفعه إلى المستوى اللائق بشرف النبوة والرسالة والعصمة، وتأويل الآيات بما يناسب ذلك للحفاظ على خط الرسالة النقي الطاهر،
وعلى شرف النبوة وسمو مكانة النبي(ص) وترفعه عن الصغائر وعن الخطأ وعن المعاتبة، وبذلك لا يكون هناك تعارض بين هذه الآيات الكريمة وبين الآيات الدالة على عصمته صلى اللَّه عليه وآله وسلم كقوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى}
وقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} وقوله تعالى: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر/7] ونخلص من ذلك كله أن سيدنا محمداً صلى اللَّه عليه وآله وسلم معصوم عن الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها، وأنه لا يجوز نسبة الخطأ إليه.
وأن اللَّه تعالى لا يمكن أن يُخطّئه ثم يعاتبه وينسخ ذلك الخطأ، كما توهم الآخرون، وضربوا الأمثلة والشواهد، التي رددناها عليهم، وبيّنا في تفنيدها أن اللَّه عز وجل لا يخطّى‏ء نبيَّه ولا يعاتبه في ذلك.
لأنه وحي يوحى إليه، فقوله قول اللَّه عز وجل، وفعله وتقريره بأمر منه تبارك وتعالى.
وأن ما ينطبق على سيدنا محمد(ص) من العصمة والحفظ والتسديد من اللَّه ينسحب على غيره من إخواته الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، وأن البحث في الآيات التي تصف الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، لأن ناموس النبوة والرسالة عند اللَّه واحد، نتعرض لهم تحتاج إلى بحث خاص، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، والحمد للَّه رب العالمين.
________________________________________

[الصفحة - 77]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف