الباحث : السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
اسم المجلة : تراثنا
العدد : 32
السنة : السنة الثامنة / رجب - ذوالحجة سنة 1413 هـ
تاريخ إضافة البحث : January / 4 / 2015
عدد زيارات البحث : 2290
نقد الحديث
بين الاجتهاد والتقليد
ونظرة جديدة إلى أحاديث عقيدة : " المهدي المنتظر " (1)
السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، محمد بن عبد الله الصادق الأمين ، وعلى الأئمة من آله الطيبين الطاهرين ، وعلى عباد الله الصالحين .
النقد بين الاجتهاد والتقليد :
إن ما يصدره المشتغلون بعلوم الحديث الشريف ، في عصرنا الحاضر ، من دراسات وبحوث وتحقيقات ، وما يقومون به من أعمال وجهود وخدمات ، في
------------------------------------------------
(1) كتب هذا المقال ردا على ما كتبه الأستاذ السائح علي حسين أستاذ كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا ، بمجلة الكلية ، في العدد العاشر الصادر سنة 1993 ، في الصفحات 166 - 213 ، بعنوان " تراثنا وميزان النقد " تعرض فيه لموضوع " المهدي المنتظر " وأحاديثه ، بالنقد ، كما أورد فيه اتهامات للطائفة الشيعية خصوصا ولمن أثبت صحة الحديث عموما . وقد بعثنا نسخة من هذا الرد إلى مجلة كلية الدعوة الإسلامية ، لإعلانها عن الترحيب بمناقشة ما ورد فيها من آراء ، ونقدمه إلى قراء " تراثنا " المحترمين .
(الصفحة 7)
سبيله ، لأمر معجب ويدعو إلى الفخر والزهو ، حيث إن هذا الكنز الغني من " تراثنا " ينشر ، وتعرف من خلاله مصادر فكرنا الخالد ، وروافده الموثوقة ، المتصلة بمعين الوحي الإلهي .
لكن قد يكدر صفو هذا الزهو والإعجاب ما ينشره بعض المتطفلين على علوم الحديث ، من أعمال لا تتسم بالمسؤولية العلمية ، ولا تعتمد موازين الفن فتصبح أعمالهم كعمل (التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) [ النحل 16 : 92 ] أو (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) [ النور 24 : 39 ] ، من قبيل لجوء بعضهم إلى ما يسميه " نقد متن الحديث " على حساب " سند الحديث " . إن " نقد الحديث " عموما :
يعتبر من أهم ما اضطلع به علماء الإسلام ، لتصفية هذا المصدر الثر من كل الشوائب والأكدار . وهو - بشروطه ومقرراته - من بدائع فكر المسلمين ، ومميزات تراثهم وحضارتهم ، ومما يفتخرون به من مناهج البحث والتنقيب العلمي ، على جميع الأمم والحضارات القديمة والحديثة ، سواء الإلهية المرتبطة بالأديان السماوية ، أم البشرية الوضعية المستندة إلى قوانين لأرض .
فقرروا قواعد ، وأسسا ، وموازين ، مضبوطة محكمة صحيحة ، لنقد الحديث - سندا ومتنا - لمعرفة صحيحه من زيفه ، وحقه من باطله ، حتى أصبح " نص " الحديث ، من أوثق ما يعتمد عليه من النصوص القديمة وحتى الحديثة ، اعتمادا على سبل الإثبات المعقولة والمتعارفة . وقد بذل الأسلاف الكرام جهودا مضنية في سبيل تنقية الحديث ، وتنقيحه ، حتى أن الواحد منهم كان ينتخب ما يثبته في كتابه ، بعد التثبت ، من بين عشرات الآلاف من الأحاديث المتوفرة ، وبعد سنوات عديدة من الفحص والتأكد ، والترحال ، فيجمع في كتابه " الجامع " ما يراه حجة بينه وبين الله . فخلفوا كنوزا وذخائر عظيمة من التراث الحديثي المنقح ، والمنقود ، والمنظم ، والمدون ، وألفوا الأصول والمصنفات ، والمسانيد ، والجوامع .
(الصفحة 8)
وجاء الجيل الثاني ، وبذل جهودا مضنية كذلك معتمدا " الطرق " المأمونة والموثوقة ، متكبدا الصعوبات وراكبا الرحلات ، فاستدرك على الأوائل ما فاتهم ، سواء في الجمع ، أم في النظم ، فألفوا المعاجم ، والمستدركات ، والجوامع المتأخرة . ووقف الناس في عصر متأخر على كل تلك الثروة الغالية ، للاستفادة والتزود في مجالات العلم والعمل . وانقسم المتأخرون في التعامل مع الحديث المجموع : فمنهم من استند إلى ما قام به الأقدمون من النقد والاختيار ، واقتنعوا بما توثق منه أولئك من كتب الحديث ومصادره ، ولم يحاولوا إجراء قواعد النقد عليها من جديد ، فأصبحوا ملتزمين بالتقليد لأولئك القدماء في هذا الأمر ، كما التزموا بتقليد الفقهاء الأربعة ، في آرائهم الفقهية ، والأحكام الشرعية ، وحصروا طرق معارفهم الدينية بما توصل إليه الأقدمون ، من دون تجاوز ، أو نقد ! ومنهم من عارض منهج التقليد في المصادر ، وهم طائفة ممن يلتزم بإطلاق سراح الفكر والنظر ليجول ويبدع ، ويقول بفتح باب الجد والاجتهاد في علوم الإسلام كافة . وهؤلاء لا يلتزمون بالتقليد ، حتى في الفقه ومعرفة الأحكام ، ومصادر المعرفة كافة ، ومنها الحديث .
فليست لهم مذاهب فقهية معينة ومحددة يلتزمون بها ، بل يعملون بما يوصل إليه الاجتهاد . وكذلك لا يلتزمون بما يسمى من الكتب " صحيحا " ، بل ينقدون أسانيد كل حديث يصل إلى مسامعهم ، معتمدين طرق النقد المعروفة عند علماء الحديث . ولكل من الفريقين - أهل التقليد ، وأهل الاجتهاد - أدلته وحججه ، ومن اعتمد على دليل معتبر ، فهو معذور ومأجور على قدر جهده .
(الصفحة 9)
لكن الغريب والمؤسف : أنا نجد في عصرنا هذا شرذمة ممن تصدى للحديث الشريف بالنقد ، ولم يسلك مسلكا واضحا محددا في تعامله مع هذا المصدر ، الثر ، الغني ، من مصادر الفكر الإسلامي ، بل هو يتأرجح " بين التقليد والاجتهاد " في نقد الحديث : فتارة يحاول أن يعرض أسانيد ما وصله من الأحاديث على طاولة النقد ، فيشرح عللها ، ويراجع كلمات علماء الرجال في شأن رواتها ، ويحاول المقارنة بين مدلولاتها ، ويوافق على ما يعقله ، ويسميه صحيحا ، ويحكم بالضعف بل الوضع على ما لا يدركه بعقله ، ويميز بين الحديث الصحيح وبين غيره حسب رأيه . وبهذا يساير أهل الاجتهاد !
وتارة أخرى : يلجأ إلى كتب القدماء مما أسموها " الصحاح " ليستشهد بعملهم ، وإيرادهم للحديث على صحة حديث ما ، وبعدم وجود الحديث فيها على تضعيفه ، بل الحكم بوضعه . وبهذا يكون من أهل التقليد ! ومن هؤلاء كاتب مقال " تراثنا وموازين النقد " المنشور في العدد العاشر من مجلة كلية " الدعوة الإسلامية " الليبية " (2) .
(2) لقد وقفت على هذا العدد من المجلة ، فوجدته مشحونا بالبحوث العلمية القيمة نذكر من أمثلتها : بحث " التنوع في أساليب القرآن الكريم " في الصفحات 10 - 34 ، فإنه بحث مبدع في عرض بلاغة القرآن ، ويتبنى الذوق والدقة . بحث " منهج التقارب بين المذاهب الفقهية من أجل الوحدة الإسلامية " فإنه بحث إصلاحي قيم ، يعتمد الهدوء والمتانة في الأسلوب والعرض . لكن مقال " تراثنا وموازين النقد " عكر صفو الجودة والإتقان في المجلة ، حيث إنه مقال : معاد الموضوع ، مكرر في كتب ومجلات سابقة ، كما ستقف على ذلك ضمن عرضنا لما كتب في الموضوع . وهو حاد اللهجة ، وسيئ الأدب في التعبير عما لا يراه . وهو يتسم بالاستفزاز والتحرش ، والسخرية والاستهزاء بآراء الآخرين . ولا يحتوي على شئ جديد ، لا في المادة والفكرة ، ولا في الأسلوب والعرض ، كما سنثبت ذلك في ردنا هذا . فلذلك ، إنا نربأ بتلك المجلة القيمة من أمثال هذا المقال الهابط المستوى ، ونهيب بهيئة التحرير على تقديم الأفضل دائما ، والله الموفق والمعين .
(الصفحة 10)
فقد حاول في مقاله هذا إثبات ضرورة النقد العقلي للحديث ، إضافة إلى النقد السندي ، وقدم لبحثه مسائل فيها من الدعاوي العريضة ما لا يخلو من مناقشات ومناقضات واضحة .
ثم مثل لنتيجة رأيه بما اسمه أحاديث " المهدي المنتظر " الذي " كتبت من أجله آلاف الصحائف ، ورويت مئات الأسانيد ، وأثر في تاريخ أمتنا أبلغ الأثر " كما يقول الكاتب نفسه في مقاله ، ص 181 . وحاول التمهيد لنفي الصحة عن تلك الأحاديث بتكرار ما قاله أحمد أمين المصري من اتهام الشيعة بخلق فكرة المهدي ، ثم تقليد ابن خلدون في إنكار أحاديثه وصحتها ، وتزييف دعوى تواترها . وأهم ما اعتمده في بحثه محاولته النقد العقلي لما نقل من أحاديث في أمور ترتبط بالمهدي من النسب والسيرة في الحكم . باعتبار عدم موافقتها لعقله ، ووضوح فساد ما نقل عنده .
وبالتالي فإنه يركز في المقال على السلبيات الموجودة فيما يرتبط بقضية المهدي من أحاديث وتاريخ ودعاوى بالمهدوية . وقد أوهم في بحثه أنه من أنصار البحث العلمي الرصين ! ويجعل كل ذلك دليلا على ما يؤمن به من إنكار " المهدي المنتظر " ونسبة أحاديثه إلى الوضع ، وتسخيف عقول من يخالف رأيه باعتبارها " العقول المتحجرة " !
(الصفحة 11)
وقد حاولت الرد على ما في هذا المقال من مزاعم واتهامات للمناهج المتبعة في البحث العلمي تحت العناوين التالية :
1 - التأرجح بين الاجتهاد والتقليد في نقد الحديث .
2 - هل أحاديث " المهدي " اختصت بالشيعة ؟
3 - أحاديث " المهدي " بين الصحة والضعف .
4 - أحاديث " المهدي " بين الأصل والتفاصيل .
5 - مسألة " المهدي " بين السلبيات والإيجابيات .
6 - نقد الحديث ، والعقل .
7 - هل مسألة " المهدي " من العقائد ؟
8 - نقاط للتأمل :
* مسألة جمع الحديث وتدوينه .
* مسألة وضع الحديث ، من المتهم به ؟
* مسألة الوحدة الإسلامية ورواية الحديث .
* مسألة غيبة الإمام المنتظر عند الشيعة .
9 - كلمة الختام .
(الصفحة 12)
1 - التأرجح بين الاجتهاد والتقليد في نقد الحديث :
مع أن الكاتب يحاول أن يظهر كمجتهد في نقد الحديث ، ويسعى للتخلص من هيمنة ما يسميه ب " المصادر المشهورة " ويحاول أن يجعل من البخاري ومسلم وابن حنبل - من أئمة المحدثين - " بشرا غير معصومين من الخطأ " [ كما في ص 179 ] . فمع ذلك كله نجده يلاحظ " أمرا مهما " : هو " أن البخاري ومسلما رحمهما الله لم يثبتا حديثا واحدا من الأحاديث التي تبشر بظهور المهدي " [ ص 185 ] . فمن ينعى على الآخرين " الاصرار على أي عمل بشري - مهما كان مؤلفه - بأنه خال عن أي خطأ أو سهو " [ ص 179 ] . فهو ينفي عصمة البخاري ومسلم عن الخطأ . فكيف يحق له أن يستند إلى مجرد عدم إثباتهما لحديث معين في كتابيهما ، ليجعل ذلك دليلا على بطلان ذلك الحديث حتى إذا رواه غيرهما ؟ وصححه ! مع أن البخاري ومسلما - خاصة - لم يلتزما باستيعاب كل الأحاديث الصحيحة في كتابيهما .
بل ، إنما انتخبا ما رأياه لازما وضروريا ، واستوعبه جهدهما وتعلق به غرضهما من الأحاديث .
وقد صرحا بأن ما تركاه من الأحاديث الصحيحة أكثر مما أورداه ! (3) .
(3) أنظر : علوم الحديث ، لابن الصلاح ، ص 19 ، فإنه قال : لم يستوعبا [ أي : الباري ومسلم ] الصحيح في صحيحيهما ، ولا التزما ذلك . طبعة دار الفكر ، تحقيق نور الدين عتر ، ط . الثالثة 1404 ه . وانظر المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 1 / 2 فقد قال : لم يحكما [ أي : البخاري ومسلم ] ولا واحد منهما : أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه . طبعة دار الفكر ، بيروت 1398 ه .
(الصفحة 13)
فكيف يكون عدم وجود حديث في كتابيهما دليلا على عدم صحته ؟ !
مع أن الحديث الصحيح كما أنه موجود في البخاري ومسلم ، فهو كذلك موجود خارجهما ، وفي الكتب المؤلفة بعدهما ، وخاصة فيما استدرك عليهما ، مما فاتهما وهو على شرطهما ، ولم يورداه . ذكر هذا الشيخ عبد المحسن العباد ، وذكر من الكتب الجامعة للصحيح : الموطأ ، وصحيح ابن خزيمة ، وابن حبان ، وجامع الترمذي ، وسنن أي داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومستدرك الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي ، وغيرهم (4) .
إن عملية " نقد الحديث " ليست سهلة ومتاحة لكل من يراجع كتب الرجال ويقلبها فقط ، وإنما هي بحاجة إلى ملكة الاجتهاد في الفن ، وانتخاب منهج رجالي ثابت ، واستيعاب قواعد النقد المتينة . وإذا كان الناقد من أهل الاجتهاد في علم الرجال ، وصح له أن يبدي رأيه في " نقد الحديث " فلا يجوز له أن يعود إلى حضيض التقليد في التزام حديث أورده . على أن دعواه أن البخاري ومسلما " لم يثبتا حديثا يبشر بالمهدي " . دعوى باطلة . فإن البخاري ومسلما أوردا أحاديث ترتبط بخروج المهدي : قال الشيخ عبد المحسن العباد في الفصل الخامس من مقاله : ذكر بعض
(4) الشيخ عبد المحسن العباد ، المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، كتب في مجلة الجامعة ، مقالين حول أحاديث المهدي ، وسيأتي ذكر كلامه فيهما . أنظر : الرقم 5 ، في العدد 45 من المجلة ، والرقم 38 في العدد 46 .
(الصفحة 14)
ما ورد في الصحيحين [ البخاري ومسلم ] من الأحاديث التي لها تعلق بشأن المهدي : فروى البخاري ، في باب نزول عيسى ، عن أبي هريرة : كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، وإمامكم منكم (5) .
وعن مسلم ، في كتاب الإيمان ، عن أبي هريرة ، مثله (6) .
وعن مسلم ، عن جابر : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين (7) .
وقال العباد : وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث ، ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يقال له : " المهدي " . والسنة يفسر بعضها بعضا . وروى مسلم عن جابر وأبي سعيد : يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثيا لا يعده عدا (8) .
وبهذا يعلم مدى بعد " الكاتب " عن المصادر الأصيلة التي اهتم بأمرها ، والتي اعتمد عمل مؤلفيها حجة ، إلى حد الاستدلال بمجرد عدم ذكرهم لرواية دليلا على ضعفها ، بل وضعها ! ! فقد وقع في أشد مما نعاه على الآخرين من دعوى خلو الكتابين من الخطأ ، حيث إنه اعتمد على حجية ما لم يفعلاه ! ونفى صحة حديث بمجرد
----------------------------------------
(5) صحيح البخاري 6 / 358 .
(6) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 193 ، ورواه أحمد في المسند 1 / 336 .
(7) صحيح مسلم 2 / 193 ، وأورده أحمد في المسند 3 / 384 .
(8) صحيح مسلم برقمي 2913 و 2914 في كتاب الفتن ، باب لا تقوم الساعة . . . وأنظر مسند أحمد 3 / 38 و 313 و 317 . ونقل الحديث عن مسلم في التاج الجامع للأصول 5 / 342 . وانظر مقال " نظرة في أحاديث المهدي " في مجلة التمدن الإسلامي ، الصادرة في دمشق .
(الصفحة 15)
دعوى أنهما لم يورداه !
وتبين عدم اطلاعه على المصدرين الأساسيين ، وهو يظهر أنه مطلع عليهما ، بدعواه عدم إثباتهما شيئا مما يرتبط بالمهدي ، مع أنهما أثبتاه وأورداه ! ثم إن في كلامه ما يدل على عدم معرفته بالمصطلحات المعروفة بين أهل فن الحديث ، كما سيأتي في كلامه عن " المتواتر " و " الموضوع " . إن كل هذا ، قد حصل للكاتب على أثر التأرجح بين الاجتهاد والتقليد في أمر " نقد الحديث " .
2 - هل أحاديث المهدي مختصة بالشيعة ؟
ثم إن أحاديث المهدي لم تختص بروايتها طائفة من المسلمين ، بل هي من أكثر الأحاديث اشتراكا بين المسلمين ، كافة . ومن المؤكد أن الأحاديث في المهدي المنتظر المروية بطرق أهل السنة ، والمبشرة بالمهدي لا تقل عن التي روتها الشيعة . لكن الكاتب يحاول - بشتى الطرق والأساليب - أن ينسبها إلى الشيعة ، ويحسبهم - فقط - المسؤولين عنها ، فهو يقول : " وقد تقبل الفكر الشيعي سيلا من الأساطير والأحاديث " الموضوعة " عن طريق الموالي ، وتسرب " بعض " منه إلى بعض محدثي أهل السنة الذين تساهلوا في الرواية من أصحاب الفرق المخالفة " [ ص 185 ] . إن في كلامه :
1 - الحكم على الفكر الشيعي - فقط - بتقبل هذه الأحاديث .
2 - الحكم على من نقلها من محدثي أهل السنة بالتساهل ، وتسرب
(الصفحة 16)
بعض الأحاديث إليهم .
3 - الحكم على الأحاديث كلها بالوضع .
إنها أحكام قاسية ، لا يحق لأحد - له أدنى معرفة بعلوم الحديث - أن يطلقها بكل رخاء ! وسنجيب عن كل واحد من هذه الأحكام بتفصيل ، إلا أنا نحاول أن نظهر ما في كلام الكاتب القصير - هذا - من التهافت الواضح : فإذا كان الشيعة هم المتقبلين لأحاديث المهدي ، وإنما " البعض " منها " تسرب " إلى بعض محدثي أهل السنة ! : فلماذا يقول الكاتب - بعد ثمانية أسطر فقط - : تمكن الإشارة إلى " ضخامة " هذا " الركام " الذي رواه أهل السنة " وحدهم " [ ص 186 ] .
فكيف انقلب " البعض المتسرب " إلى " ركام ضخم " بعد ثمانية أسطر فقط من الكلام الأول ؟ ! وإذا كانت الأحاديث موضوعة ! فلماذا يقول - بعد صفحة واحدة فقط - : أشير إلى أن " الكثير " من هذه الأحاديث مخرج في " الصحاح " - باستثناء البخاري ومسلم ! - كما خرج بعضها الحاكم في المستدرك ، وابن حنبل في مسنده ، بالإضافة إلى سنن الداني ، ونعيم بن حماد ، وغيرها كثير . [ ص 186 ] .
ولا حاجة إلى التعليق على هذا ، بعد وضوح التهافت : بين كون الأحاديث " موضوعة " ، وتسرب " البعض " منها إلى " المتساهلين " من أهل السنة . وبين كون " الكثير " من هذه الأحاديث ، مخرجا في " الصحاح " . لما بين " الموضوعة " وبين " الصحاح " .
(الصفحة 17)
وبين " البعض " المتسرب ، وبين " الكثير " المخرج . من التهافت والتنافي . إن مثل هذه العبارات ، لا يصدر من عارف بمصطلح الحديث ، كما إن مثل تلك الأحكام القاسية لا يصدر ممن يعرف ما يخرج من رأسه ! ويجري به قلمه . على أن الحكم " بالتساهل " على أصحاب " الصحاح " ليس إلا جهلا بتاريخ الحديث وتاريخ المحدثين ، وعدم وقوف على ما عاناه أهل الحديث في سبيل جمعه وضبطه وتدوينه وتحريره . إن من ينزل إلى هذه التخوم الدانية في المعرفة بالمصطلحات الحديثية وبتاريخ الحديث وأهله وقواعده ، لا يحق له أن يقتحم بحر " النقد " الواسع . وسنبين في الفقرات التالية وجوه البطلان في أحكامه القاسية تلك .
3 - أحاديث المهدي بين الصحة والضعف :
إن الكاتب يصف أحاديث المهدي بأنها " موضوعة " ويكر نسبة " الوضع " لها إلى الشيعة ! ولكن من المسلم به عند دارسي علوم الحديث - كافة - أن مثل أحاديث المهدي ، المثبتة في الكتب المعتمدة ومنها الصحاح والمسانيد والسنن ، مما له طرق عديدة وأسانيد متعددة ، إن لم تكن صحيحة ، فهي لا توصف كلها بالوضع ، وإنما يعبر عنها بالضعف ، وقد يكون فيها الموضوع ! والواقع الملموس : أن أسانيد أحاديث المهدي فيها الصحيح المتفق عليه ، وفيها الحسن ، وفيها الضعيف .
(الصفحة 18)
ولم يعبر أحد عنها كلها بالوضع ، ولم يصفها بأنها كلها موضوعة إلا ثلة من المتأخرين ، ممن لا خبرة له بالحديث ومصطلحاته ، وتبعهم الكاتب في التعبير (9) .
فالكاتب قد جانب الإنصاف في أمرين : الأول : أنه وصف الأحاديث بأنها موضوعة ، من دون أن يعرف معنى " الوضع " ولا أن يفرق بينه وبين " الضعف " . وهذا ممن يدعي الاجتهاد في نقد الحديث أمر بعيد ! إلا أن نحمله على اعتماد التقليد في هذه التسمية لمن لا خبرة له في المصطلح كأحمد أمين ، وابن محمود القطري وأضرابهما . الثاني : أنه نقل عن بعض من سبقه الحكم بضعف أحاديث المهدي ، كابن خلدون ، وابن حجر ، وغيرهما .
ولم يشر - لا من قريب ولا بعيد - إلى أن هناك جمعا غفيرا من المحدثين الذين صححوا أحاديث المهدي . أهذا التصرف يصدر ممن يحاول " نقد الحديث " بالطرق العلمية الرصينة ؟ ! وهو إن اكتفى بذكر تخريجها في الصحاح - مع استثناء البخاري ومسلم ! لكنه قال : الداعي لتخريجها - في نظري ! - هو ما ذكره ابن عبد البر كما سبق [ ص 186 ] .
ومراده ما سبق أن نقله عن ابن عبد البر من قوله : " وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في رواية الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما يتشددون في أحاديث الأحكام " [ ص 173 ] .
----------------------------------------
(9) وقد عددهم الشيخ العباد ، وفند مزاعمهم في الرقم 40 من رده على ابن محمود القطري : أولهم رشيد رضا ، وأحمد أمين ، وتبعهم ابن محمود والكاتب .
(الصفحة 19)
ومع أن أحاديث المهدي ، ليست من الرغائب ولا الفضائل ، وإنما هي من أمور الغيب التي لا تعلم إلا من قبل الشارع ، فهي بمنزلة الأحكام في هذه الجهة ، وإن دخلت في العقائد فهي أشد أمرا . إلا أن غرضنا توضيح ما عليه الكاتب من لتطرف تجاه موضوع بحثه حيث ينحاز إلى التضعيف ويحاول أن يهون أمر تخريجه في الصحاح ! إلى هذا الحد . ثم نراه يقول : فضلا عن أنها - يعني أحاديث المهدي - لا يترتب عليها فعل ولا ترك [ ص 186 ] . وهذا مناف لما ذكره سابقا من أن المهدي المنتظر " أثر في تاريخ أمتنا أبلغ الأثر . . . فإنه لا يزال حيا يشغل حيزا كبيرا من تفكير الناس ومعتقداتهم " [ ص 181 ] .
فإذا لم يكن مهما عند المحدثين ، فما بالهم ملأوا من أجله " آلاف الصحائف " ورويت من أجله " مئات الأسانيد " ؟ ! وما للكاتب يشغل ما يقرب من " خمسين " صفحة من مجلة علمية قيمة ليبحث عنه ؟ ! إنه لتهافت بين . ومهما يكن أمر أهميته ، فلماذا يحاول الكاتب أن يهون أمر تصحيح أسانيده ، بينما هو يصر على تضعيفها وينقل تضعيف ابن خلدون لها ، وبعد أن ينقل مقطعا من كلامه حول أحاديث المهدي ، يقول : " وقد تتبع ابن خلدون هذه الأحاديث بالنقد وضعفها حديثا حديثا " [ ص 187 ] . ثم ينسب إلى ابن حجر أنه أحصى الأحاديث المروية في المهدي فوجدها نحو " الخمسين " وقال : إنها لم تثبت صحتها عنده (10) .
-----------------------------------------
(10) نقل الكاتب ذلك في هامش مقاله عن : المهدي والمهدوية لأحمد أمين ، ص 108 ، دار المعارف - مصر ، سلسلة إقرأ .
(الصفحة 20)
أما كان من حق البحث العلمي الرصين ! أن ينقل عن بعض الأعلام الذين صححوا بعض أحاديث المهدي ممن سبق ابن خلدون ، أو عاصره ، أو لحقه ؟ ! نعم ، أشار إلى من رد على مقالة ابن خلدون بقوله : " لكن أنصار القديم لقدمه ثارت ثائرتهم " [ ص 187 ] .
وذكر أن أحمد بن محمد بن الصديق كتب كتابا أسماه " إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون " . وكتب أخوه عبد الله كتابا باسم " المهدي المنتظر " . واكتفى بذكر هذين الأخوين ! فكأن المعركة محتدمة بين ابن خلدون وأنصاره من جهة ، وبين هذين الأخوين فقط ، ولم يذكر بعض أدلتهما على بطلان كلام ابن خلدون ! إن تعبيره عن المصححين لحديث المهدي " بأنصار القديم لقدمه " طعن في جميع المحدثين والعلماء والمحققين من القدماء والمتأخرين والمعاصرين ، بأنهم مقلدة لما هو قديم . وهذا الطعن لا يليق بمن يريد أن يحكم في بحث علمي رصين " موازين النقد " وإنما يناسب " موازين القوى " والأقدر على التهجم والقدح ! (11) .
ثم إن السادة آل الصديق ، الغماريين ، المغاربة ، هم من العلماء الذين يفتخر بهم الإسلام والمسلمون ، وخاصة في المغرب الإسلامي ، وخبرتهم واضطلاعهم بعلوم الحديث الشريف ، مما لا ينكره العوام ، فضلا عن العلماء ، فكيف يذكرون بهذا الشكل ، المنبئ عن التوهين ؟ ! والأفضل أن نذكر هنا أسماء المحدثين والعلماء الذين أثبتوا أحاديث
----------------------------------------------
(11) من الطريف أن العنوان الجانبي المطبوع للمقالة هو " تراثنا وموازين القوى " فلاحظ أسفل الصفحات 167 - 213 وهو خطأ ، إلا أنه الأنسب بما عمله الكاتب !
(الصفحة 21)
المهدي في كتبهم ، ونقل ما ذكروه حولها من النقد (12) استدراكا لما فات الكاتب ، وتكميلا لأطراف البحث (13) .
1 - أخرجها عبد الرزاق (ت 211) في المصنف ، الجزء 11 ، الأحاديث 20769 - 20779 . طبعة حبيب الرحمن الأعظمي ، منشورات المجلس العلمي . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 315 في بعض أحاديثه : إن رجاله رجال الصحيح .
2 - أخرجها ابن ماجة (ت 273) في السنن 2 / 22 - 24 ، الأحاديث 4082 - 4088 . طبعة محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء الكتب ، عيسى البابي . والحديث 4084 إسناده صحيح ، رجاله ثقات ، وقال الحاكم فيه : صحيح على شرط الشيخين - البخاري ومسلم - .
3 - وأخرجها أبو داود (ت 275) في السنن 4 / 106 - 109 ، كتاب المهدي ، الأرقام 4279 - 4290 . طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد - دار إحياء السنة النبوية - مصر .
4 - وأخرجها الترمذي (ت 297) في الجامع الصحيح المسمى بالسنن ، ج 4 ، الأحاديث 2230 - 2232 . طبعة إبراهيم عطوة عوض - شركة مصطفى البابي . قال في اثنين من أحاديثه : حسن صحيح .
-------------------------------------
(12) اعتمدنا في هذا المجال على كتاب " الإمام المهدي عند أهل السنة " تأليف الشيخ مهدي الفقيه ، المطبوع في دار التعارف - بيروت ، طبعة ثانية سنة 1402 ه .
(13) وأما القادحون في الأحاديث فأولهم ابن خلدون ، وقد نقل الكاتب كلامه ، وسيجئ ذكر من قلده في ذلك من المتأخرين من أمثال . محمد رشيد رضا المصري الشامي ، وأحمد أمين المصري ، وابن محمود القطري ، والكاتب !
(الصفحة 22)
5 - وأخرجها الطبراني (ت 360) في المعجم الكبير ، الجزء 10 ، الأحاديث 1213 - 1231 في مسند عبد الله بن مسعود . طبعة حمدي السلفي - طبعة الوطن العربي - بغداد .
6 - وأخرجها الحاكم (ت 405) في المستدرك على الصحيحين 4 / 464 و 4 / 557 . وفي حديث : " . . . إذا رأيتموه فبايعوه ، ولو حبوا على الثلج . فإنه خليفة الله المهدي " قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين . ووافقه الذهبي على ذلك في ذيله .
7 - أخرجها البغوي (ت 510) في مصابيح السنة 1 / 192 . مطبعة محمد علي صبيح - القاهرة . وعد بعضها " من الصحاح " وبعضها " من الحسان " .
8 - ابن تيمية (ت 728) . قال في منهاج السنة 4 / 211 (دار إحياء السنة النبوية) : إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة ، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم [ وأورد بعضها ] وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف أنكروها !
9 - الذهبي (ت 748) في تلخيص المستدرك للحاكم صحح بعض الأحاديث ، في ذيل ذكر الحاكم لها . وقال العباد : أما الذهبي فقد صحح أحاديث كثيرة من أحاديث المهدي في تلخيص المستدرك . ذكر ذلك في الفقرة 19 من مقاله المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة - عدد 45 ، في الرد على ابن محمود القطري المنكر للمهدي .
10 - ابن قيم الجوزية (ت 751) في المنار المنيف في الصحيح والضعيف ، فصل 45 ، ص 129 - 143 ، ح 325 فما بعد .
(الصفحة 23)
تحقيق أحمد عبد الشافي ، ط . دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان 1408 ه .
أورد فيه الأحاديث 326 - 339 وقال : وهذه الأحاديث أربعة أقسام : صحاح ، وحسان ، وغرائب ، وموضوعة .
11 - ابن كثير الشامي (ت 774) في كتابه النهاية 1 / 24 - 32 . تحقيق طه محمد الزيني - دار الكتب الحديثة - مصر . أورد قسما من أحاديث المهدي وصححها .
12 - الهيثمي (ت 807) في مجمع الزوائد 7 / 313 - 318 باب ما جاء في المهدي ، نشر مكتبة القدسي - 1353 ه ، وصحح بعض أحاديثه .
13 - البرزنجي المدني (ت 1103) في كتاب " الإشاعة لأشراط الساعة " ص 87 - 121 ، فصل الحديث عن المهدي ، وصحح كثيرا من الروايات الواردة فيه .
14 - محمد صديق حسن خان القنوجي (ت 1307) في كتاب " الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة " طبع مطبعة المدني - القاهرة . قال في ص 112 - 113 : الأحاديث الواردة فيه - على اختلاف رواياتها - كثيرة جدا ، وتبلغ حد التواتر . وأحاديث المهدي عند الترمذي ، وأبي داود ، وابن ماجة ، والحاكم ، والطبراني ، وأبي يعلى الموصلي ، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة . فتعرض المنكرين لها ليس كما ينبغي .
والحديث يشد بعضه بعضا ، ويتقوى أمره بالشواهد والمتابعات ، وأحاديث المهدي بعضها صحيح ، وبعضها حسن ، وبعضها ضعيف ، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام ، على ممر الأعصار . ونقل عن الشوكاني في " التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والمسيح " قوله : الأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها " خمسون "
(الصفحة 24)
حديثا ، فيها الصحيح ، والحسن ، والضعيف المنجبر ، هي " متواترة " بلا شك ولا شبهة . بل يصدق وصف " التواتر " على ما هو دونها ، على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول .
وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي ، فهي كثيرة - أيضا - لها حكم الرفع ، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك . انتهى المنقول عن الشوكاني . وقال صديق حسن خان في " الإذاعة " : ص 145 ، في رده على ابن خلدون : لا شك أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام ، لما " تواتر " في الأخبار في الباب ، واتفق عليه جمهور الأمة سلفا عن خلف ، إلا من لا يعتد بخلافه . وإنما قال به أهل العلم لورود الأحاديث الجمة في ذلك . فلا معنى للريب في أمر ذلك " الفاطمي الموعود المنتظر " المدلول عليه بالأدلة . بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة ، البالغة حد التواتر . ونقل صديق حسن خان في الإذاعة ، ص 146 ، عن السفاريني الحنبلي في " لوامع الأنوار " قوله : قد روي عمن ذكر من الصحابة ، وغير من ذكر منهم ، بروايات متعددة ، وعن التابعين ومن بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي ، فالايمان بخروج المهدي واجب ، كما هو مقرر عند أهل العلم ، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة . انتهى كلام السفاريني .
15 - العظيم آبادي الهندي (ولد 1273) في عون المعبود شرح سنن أبي داود 11 / 361 ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، نشر محمد عبد المحسن ، المدينة المنورة . قال في ص 361 ، في شرح الحديث 4259 ، في بداية كتاب المهدي :
(الصفحة 25)
اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين . . . وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة . . . وإسناد حديث هؤلاء بين صحيح ، وحسن ، وضعيف . وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها ، فلم يصب ، بل أخطأ .
16 - محمد بن جعفر الكتاني (ت 1345) في نظم المتناثر من الحديث المتواتر ، الطبعة الأولى : الطبعة المولوية بفاس المغرب ، سنة 1328 ، والطبعة الثانية ، دار الكتب السلفية - مصر . في الحديث رقم 298 ، أحاديث خروج المهدي الموعود المنتظر الفاطمي ، ذكر رواية 20 من الصحابة ومخرجيها ، ثم قال : وقد نقل غير واحد عن الحافظ السخاوي : أنها " متواترة " والسخاوي ذكر ذلك في " فتح المغيث " ونقله عن أبي الحسين الآبري .
وفي تأليف لأبي العلاء إدريس من محمد بن إدريس الحسيني العراقي في المهدي هذا : إن أحاديثه متواترة ، أو كادت ، وجزم بالأول [ أي التواتر ] غير واحد من الحفاظ .
وفي شرح الرسالة للشيخ جسوس ما نصه : ورد خبر المهدي في أحاديث ، ذكر السخاوي : إنها وصلت إلى حد التواتر . وفي " شرح المواهب " نقلا عن أبي الحسين الآبري في " مناقب الشافعي " قال : تواترت الأخبار أن المهدي من هذه الأمة . وفي " مغاني الوفا بمعاني الاكتفا " نقل كلام الآبري ونصه : قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمجئ المهدي ، وأنه سيملك سبع سنين ، وأنه يملأ الأرض عدلا . وفي شرح عقيدة السفاريني محمد بن أحمد الحنبلي ما نصه : قد كثرت
(الصفحة 26)
بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي ، وشاع ذلك بين علماء السنة ، حتى عد من معتقداتهم . ثم نقل عبارة السفاريني كما أوردها صديق حسن خان في " الإذاعة " وعقبها بذكر كلام حسن خان في رد ابن خلدون كما نقلناه .
17 - المباركفوري (ت 1353) في تحفة الأحوذي 6 / 484 ، رقم 2331 ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، مطبعة الفجالة ، مصر ، نشر المكتبة السلفية الحديثة .
18 - الشيخ محمد الخضر حسين المصري (ت 1377) في مقال " نظرة في أحاديث المهدي " المنشورة في مجلة " التمدن الإسلامي " التي تصدرها جمعية التمدن الإسلامي - بدمشق - سوريا ، في المجلد 16 ، العددين 35 و 36 ، الصادرين سنة 1370 . فقد رد فيه ردا حاسما على منكري أحاديث المهدي ، ومما قال : اعترف ابن خلدون " بأن بعض الأحاديث خلص من النقد ، إذ قال : فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان ، وكما رأيت : لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل " . قال الخضر حسين : ونحن نقول : متى ثبت حديث واحد من هذه الأحاديث وسلم من النقد كفى في العلم بما تضمنه من ظهور رجل في آخر الزمان . إذ أن مسألة المهدي لم تكن من قبيل العقائد التي لا تثبت إلا بالأدلة القاطعة . والصحابة الذين رويت من طرقهم أحاديث المهدي نحو 27 صحابيا . والواقع أن أحاديث المهدي ، بعد تنقيتها من الموضوع والضعيف . القريب منه ، فإن الباقي منها لا يستطيع العالم الباحث على بصيرة أن يصرف عنها نظره .
(الصفحة 27)
وقال في خلاصة كلامه : إن في أحاديث المهدي ما يعد في الحديث الصحيح ، وبما أني درست علم الحديث ، ووقفت على ما يميز به الطيب من الخبيث ، أراني ملجأ إلى أن أقول - كما قال رجال الحديث من قبلي - : إن قضية المهدي ليس قضية متصنعة .
19 - الشيخ منصور علي ناصف ، في التاج الجامع للأصول 5 / 341 - 344 ، وقال في شرح غاية المأمول في ذيله : الباب السابع في الخليفة المهدي رضي الله عنه : اشتهر بين العلماء - سلفا وخلفا - أنه في آخر الزمان لا بد من ظهور رجل من أهل البيت يسمى " المهدي " وقد روى أحاديث المهدي جماعة من الصحابة ، وخرجها أكابر المحدثين . ولقد أخطأ من ضعف أحاديث المهدي كلها كابن خلدون وغيره .
20 - الشريف أحمد بن محمد بن الصديق أبو الفيض الغماري الحسيني المغربي (ت 1380) في كتابه القيم : إبراز الوهم المكنون في كلام ابن خلدون ، الذي وضعه للرد على شبهات ابن خلدون وترهاته التي لفقها حول أحاديث المهدي المنتظر . طبع الكتاب في مطبعة الترقي في دمشق الشام عام 1347 ه . قال الصديق في مقدمته : ظهور الخليفة الأكبر . . . محمد بن عبد الله المنتظر ، قد تواترت بكونه من أعلام الساعة وأشراطها الأخبار ، وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الآثار ، وشاع ذكره وانتشر خبره بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الدهور والأعصار . فالإيمان بخروجه واجب ، واعتقاد ظهوره - تصديقا لخبر الرسول - محتم لازب . ثم نقل الصديق الأقوال بتواتر حديث المهدي ، عن علماء الأمة ومؤلفاتهم ، منهم : الآبري صاحب مناقب الشافعي ، والسخاوي صاحب فتح المغيث ، والسيوطي في الفوائد المتكاثرة في الأحاديث المتواترة ، وفي
(الصفحة 28)
اختصاره : الأزهار المتناثرة وغيرهما من كتبه ، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ، وغيره من مصنفاته ، والزرقاني في المواهب اللدنية ، وجم غفير من الحفاظ النقاد للحديث ، والمحدثين المتقنين لفنون الأثر . ثم نقل كلمات القنوجي في الإذاعة ، والسفاريني في الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية ، وشرحه المسمى : لوائح الأنوار ، حيث قال : وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي ، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد ذلك من معتقداتهم . وقد روى عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم روايات متعددة ، وعن التابعين من بعدهم ، مما يفيد مجموعه " العلم القطعي " . ثم عقد الصديق فصلا في البحث عن " التواتر " وتعريفه ، واختلاف الناس فيه ، وهو الفصل الأول . ثم ذكر رواة أحاديث المهدي على كثرتهم ، وقال في نهاية الفصل : المراد بالتواتر المعنوي : أن القدر المشترك هو المتواتر . فقال : فكل قضية منها باعتبار إسناده لم يتواتر ، ولكن " القدر المشترك " فيها ، وهو " وجود الخليفة المهدي آخر الزمان " تواتر باعتبار المجموع . ثم تصدى لابن خلدون - الذي أصبح مرجعا للمنكرين - فنقل كلامه المذكور في فصل من مقدمته بعنوان : " أمر الفاطمي ، وما يذهب إليه الناس من شأنه ، وكشف الغطاء عن ذلك " (14) .
حيث قال : إعلم إن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار : أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت ، يؤيد الدين ، ويظهر العدل ، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى بالمهدي .
---------------------------------------------
(14) مقدمة ابن خلدون ، ص 311 ، طبع المكتبة التجارية - مصر .
(الصفحة 29)
ويحتجون في الباب بأحاديث خرجها الأئمة . . . إلى آخر كلامه . . حيث ذكر الأحاديث ونقدها حديثا حديثا ، وضعف أكثرها .
فبدأ الصديق الغماري بنقض كلامه حرفا حرفا ، وكشف الغطاء عن أهدافه كشفا ، وأبرز أوهامه إبرازا ، وناقش تضعيفاته للأحاديث ، وأثبت خطأه في نقده . إلى أن نقل قول ابن خلدون : فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان .
فقال الصديق رادا عليه : إن جميع ما ذكره من الأحاديث " ثمانية وعشرون " حديثا ، لكن الوارد في الباب أضعاف أضعاف ذلك . وها أنا مورد من أخباره ما أكمل به المائة من المرفوعات والموقوفات ، دون المقطوعات ، إذ لو تتبعتها ، خصوصا الوارد عن أهل البيت ، لأتيت منها بعدد كبير ، وقدر غير يسير . ثم أورد الحديث " التاسع والعشرين " إلى " المائة " ، ثم قال في آخر الفصل : ولنقتصر على هذا القدر من الوارد في المهدي ، فإنه لا محالة مبطل لدعوى الطاعن [ ابن خلدون ] . وإلا ، فالأخبار في الباب كثيرة جدا ، ولو جمع منها الوارد عن خصوص أئمة أهل البيت لكان مجلدا حافلا .
يقول الجلالي : ومن هنا فإن اعتماد الناقد على 28 حديثا فقط ، ونقدها ، يعتبر عملا ناقصا ، حتى لو توصل إلى ضعفها جميعا ، لفرض وجود أحاديث كثيرة أخرى لم ينقدها ولم يفحص أسانيدها . فكيف يدعي عدم صحة الأحاديث كلها ، وكيف يطمئن إلى النتيجة المعتمدة على الاستقراء الناقص ؟ ! مع أن ابن خلدون نفسه لم يدع ضعف الأحاديث كلها ، بل اعترف بوجود الصحيح - لو قليلا - فيها ، حيث قال عن أحاديث المهدي التي نقدها :
(الصفحة 30)
وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل . ولنعم ما قال الصديق في رده : وقد عرفت استنقاذنا - بالحق - لها عن نقده - بالباطل - . وأن نقده لم يبق موجها إلا في القليل أو الأقل ، عكس ما قال .
وعلى فرض تسليم دعواه ، وأنه لم يسلم منها إلا القليل أو الأقل منه : فما الشبهة - عنده - في دفع ذلك القليل السالم من النقد ؟ ! وما الاعتذار عن عدم قبول ذلك الأقل الذي اعترف بصحته ؟ !
وأقر بخلاصه من النقد وسلامته ؟ ! إنما هو عناد ظاهر ، واختفاء عن الحق واضح ، وتكبر عن الاذعان لما لم يوافق الهوى والمزاج . فكم رأيناه يحتج بأحاديث أفراد ، ليس لها إلا مخرج واحد ، وفي ذلك المخرج - أيضا - مقال ! نعم ، تلك لا ضرر فيها على الناصبة . وهذه الأحاديث المتواترة [ في المهدي ] ، غير موافقة لأصول مذهب النواصب والخوارج . فلذلك انتقد منها ما وجد له سبيلا ولو في غير محله . . .
يقول الجلالي : والحق أن الشريف أحمد الصديق الغماري قد أحفى القول في إثبات الحق في المسألة والرد على باطل المنكرين للمهدي ، بما لا مزيد عليه ، وأبدى بطولة في العلم والمعرفة بعلوم الحديث ، مع أدب جم وباع طويل وصدر رحب ، بما يجب أن يشكر عليه ، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا . ويا حسرة على الكاتب ، الذي يقول لمثل هذا العالم المخلص : إنه " من أنصار القديم لقدمه " ! 21 - ناصر الدين الألباني الشامي (معاصر) نشر بعنوان " حول المهدي "
(الصفحة 31)
بحثا في حقل " من القراء وإليهم " من مجلة " التمدن الإسلامي " الدمشقية ، في الجزءين 27 و 28 ، الصفحة 642 ، للسنة 22 .
قال فيه : فليعلم أن في خروج المهدي أحاديث كثيرة صحيحة ، قسم كبير منها له أسانيد صحيحة . ثم أورد قسما منها ، ونقل كلام صديق حسن خان في " الإذاعة " وقال بعنوان : " شبهات حول أحاديث المهدي " : إن السيد رشيد رضا وغيره لم يتتبعوا ما ورد في المهدي من الأحاديث حديثا حديثا ، ولا توسعوا في طلب ما لكل حديث منها من الأسانيد . ولو فعلوا ، لوجدوا فيها ما تقوم به " الحجة " حتى في الأمور الغيبية التي يزعم البعض أنها لا تثبت إلا بحديث متواتر . ومما يدلك على ذلك : أن السيد رشيد رجمه الله ادعى أن أسانيدها لا تخلو من شيعي ! مع أن الأمر ليس كذلك على إطلاقه ، فالأحاديث الأربعة التي أوردها ليس فيها رجل معروف بالتشيع . إلى أن يقول الألباني : وخلاصة القول : إن عقيدة خروج المهدي عقيدة ثابتة متواترة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، يجب الإيمان بها ، لأنها من أمور الغيب ، والإيمان بها من صفات المتقين ، كما قال تعالى : * (ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب) * . وإن إنكاره لا يصدر إلا من جاهل أو مكابر .
22 - الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد المدني ، عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية ، بالمدينة المنورة (المعاصر) في محاضرة " عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر " ألقاها في الجامعة المذكورة ، ونشرت في مجلة الجامعة الإسلامية ، العدد الثالث ، من السنة الأولى ، لشهر ذي القعدة سنة 1388 ه .
(الصفحة 32)
وقد احتوت على عناصر عشرة ، هي :
الأول : ذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعددهم - عنده - ستة وعشرون .
الثاني : ذكر أسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث في كتبهم ، وعددهم ثمانية وثلاثون ، منهم : أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والنسائي ، وأحمد ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن أبي شيبة ، وأبو نعيم الأصفهاني ، والطبراني ، والدارقطني ، وأبو يعلى الموصلي ، والبزار ، والخطيب ، وابن عساكر ، والديلمي ، والبيهقي ، وغيرهم من الأئمة المحدثين والعلماء .
الثالث : ذكر الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف ، وهم : أبو خيثمة ، وأبو نعيم ، والسيوطي ، وابن كثير ، وابن حجر المكي الهيتمي ، والمتقي الهندي ، والملا علي القاري ، والشوكاني ، والأمير الصنعاني ، وغيرهم .
الرابع : ذكر الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي .
الخامس : ذكر بعض ما ورد في الصحيحين [ البخاري ومسلم ] من الأحاديث التي تبشر بالمهدي ، ولها تعلق بشأنه .
السادس : ذكر بعض الأحاديث بشأن المهدي .
السابع : ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي . الثامن : ذكر من وقفت عليه ممن حكي عنه إنكار أحاديث المهدي . مع مناقشة كلامه .
التاسع : ذكر ما يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي .
العاشر : كلمة ختامية . وقال في آخر الفصل السابع : وليعلم أن الأحاديث في المهدي قد تلقتها الأمة من أهل السنة والأشاعرة بالقبول . ورد على كلام ابن خلدون مفصلا . وقال في الكلمة الختامية : إن أحاديث المهدي الكثيرة - التي ألف فيها
(الصفحة 33)
المؤلفون وحكى تواترها جماعة ، واعتقد موجبها أهل السنة والجماعة وغيرهم - تدل على حقيقة ثابتة بلا شك من حصول مقتضاها في آخر الزمان . . . وقال : فلا عبرة بقول من قفا ما ليس له به علم فقال:
إن الأحاديث في المهدي لا تصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنها من وضع الشيعة ! وإذن ، فإن أحاديث المهدي على كثرتها وتعدد طرقها وإثباتها في دواوين أهل السنة ، يصعب كثيرا القول بأنه لا حقيقة لمقتضاها ، إلا على جاهل ، أو مكابر ، أو من لم يمعن النظر في طرقها وأسانيدها ، ولم يقف على كلام أهل العلم المعتد بهم فيها . والتصديق بها داخل في الإيمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن من الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم تصديقه فيما أخبر به ، وداخل في الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به ، بقوله : (ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب) .
23 - عبد العزيز بن باز السعودي الوهابي (معاصر) رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، في تعليق له على محاضرة الشيخ عبد المحسن العباد ، التي ذكرناها آنفا ، نشر في مجلة الجامعة نفسها ، العدد 3 ، السنة الأولى 1388 ، في ذيل المحاضرة ذاتها . قال فيه : أمر المهدي معلوم ، والأحاديث فيه مستفيضة ، بل " متواترة " وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها . وهي متواترة تواترا معنويا ، لكثرة طرقها ، واختلاف مخارجها ، وصحابتها ، ورواتها ، وألفاظها ، فهي - بحق - تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق . وقال : وقد رأينا أهل العلم أثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك . والحق أن جمهور أهل العلم ، بل هو الاتفاق : على ثبوت أمر المهدي ،
(الصفحة 34)
وأنه حق ، وأنه سيخرج في آخر الزمان .
وأما من شذ من أهل العلم - في هذا الباب - فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك .
24 - وللشيخ عبد المحسن بن حمد العباد - أيضا - مقال بعنوان " الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي " نشر في مجلة الجامعة الإسلامية ، العددين 45 و 46 ، الأول والثاني من السنة 12 .
رد فيه بحزم وتفصيل على القاضي ابن محمود القطري رئيس المحاكم في دولة قطر ، فيما كتبه في رسالة سماها " لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر " . وهو رد قوي ، ومتين ، ومستوعب لجميع ما عرضه الكاتب وغيره من البحوث ، وأجاب عن اعتراضاته وسلبيات ما نسبه إلى قضية المهدي .
ومن خلال المقاطع التي أوردها العباد نقلا عن كلام ابن محمود يعلم بأن جميع ما ذكره الكاتب مأخوذ من كتاب ابن محمود ، بتحوير قليل في التعبير . ومع أننا أطلنا الموقف مع هذه القائمة لأسماء من صحح أحاديث المهدي ، فإن الذي قصدناه من هذه الإطالة .
1 - أن يطلع القراء الكرام على وجهات نظر المصححين للحديث ، بعد أن اقتصر الكاتب على ذكر المضعفين له .
2 - أن ندل على مدى موضوعية بحث الكاتب ، حيث تعمد إخفاء هذه التصحيحات ، وعدم ذكر شئ منها ، مع أنه يدعو إلى البحث العلمي الرصين ! مع أن إكمال البحث غير ممكن إذا أغفلنا هذه المجموعة من الآراء وخاصة ما في كتب المتأخرين من المعلومات القيمة . " فإن كان " الكاتب " لا يدري " عن هذه المعلومات شيئا " فتلك مصيبة " على علمية البحث ورصانته .
(الصفحة 35)
" وإن كان يدري " بها ، ولكنه تغافل ولم يذكرها في بحثه " فالمصيبة أعظم " على صدق الكاتب وإخلاصه وأمانته .
4 - أحاديث المهدي بين الأصل والتفاصيل :
إن من الواضح لدى أهل العلم : أن أصل أمر ما قد يكون ثابتا ومتيقنا ، لكن تكون خصوصياته مشكوكة ومختلفا فيها . ولا يختلف الأمر في ذلك بين أن يكون من المنقولات أو غيرها . فقد يتفق الناقلون على مجئ زيد - مثلا - لكن يختلفون في مجيئه راكبا ، أو ماشيا . فيتركب كل خبر من عنصرين : " أصل المجئ " و " حالة المجئ " ، والأول يكون متفقا عليه ، والثاني يكون مشكوكا فيه . وإذا ترتب حكم من تكليف أو اعتقاد ، أو أثر على الأصل ، التزم به ، لعدم الخلاف فيه ، وأما الحالة فلا دليل على ثبوتها ، ولا يترتب عليها أحكام الثبوت ، كما أن اختلافها لا يؤثر في ثبوت الأصل . ومثل هذا واقع في كثير من الملتزمات الدينية ، سواء العملية ، أم الاعتقادية .
فالحج مثلا ، واجب شرعي ، ولا خلاف في أصل وجوبه ومهمات أعماله كالإحرام والطواف والسعي ، لكن الخلاف في جزئيات كل ذلك واقع لا محالة ، من دون أن يؤثر في أصل الوجوب . وفي مقام العمل يلتزم العامل بما يترجح عنده من أوجه العمل ، أو يتخير بين الأفعال والوجوه المتعددة .
(الصفحة 36)
ومن المعلوم أن الخلاف الواسع بين الفقهاء في المذاهب المختلفة ، وحتى فقهاء المذهب الواحد ، غير مؤثرة في أحكام أصول الواجبات والمحرمات ، المسلمة ، ولا يسري التشكيك من الجزئيات والتفاصيل ، إلى الكليات والمسلمات .
وكذلك في المعتقدات : فإن من أصول الدين الإسلامي وأسسه الاعتقاد بالمعاد ، وبما فيه من الحساب والميزان والصراط والجنة والنار ، لقيام الأدلة على أن كل ذلك حق لا ريب فيه جاءت ذلك الآيات والأحاديث المتواترة ، حتى أصبح من ضروريات الدين الإسلامي . مع أن الخلاف واسع في تفاصيل كل ذلك ، وليست الجزئيات التي ورد بها بعض الروايات بتلك المثابة من الوضوح والمسلمية والثبوت ، ولكن الخلاف في الجزئيات غير مؤثر في اليقين بالكليات ، والاتفاق عليها إلى حد عدها من الضروريات . وكذلك مسألة المهدي المنتظر ، فإن أصل خبرها يقيني أجمع المسلمون على الالتزام به ، لورود الأخبار المتضافرة به ، أما تفاصيلها وخصوصيات أحوال المهدي وشؤون مجيئه ، ومدة بقائه ، وكيفية حكمه ، وحتى شؤونه الشخصية من نسبه ، واسمه ، وحليته ، وغير ذلك ، فإن كل ذلك ليس بمنزلة الأصل ، ولم ترد به إلا أخبار آحاد ، فيبنى الاعتماد فيها على حجية الأخبار المنقولة تلك ، وهي قابلة للنقد حسب المناهج المختلفة ، إن سندا ، أو متنا ، أو قياسا إلى الأدلة الأخرى ، وبالمقارنة بسائر الأخبار ، والترجيح بينها ، أو عقلا للتأمل في مدلولاتها ومضامينها . وإذا أدى النقد إلى عدم اعتبار شئ من التفاصيل ، فإن ذلك لا يؤثر في ثبوت أصل حديث المهدي ، وخبره المجمع عليه بين المسلمين ، والذي جاءت به الأخبار الصحيحة ، وتواترت به ، وهو " مجئ رجل من أهل بيت الرسول يسمى المهدي ، في آخر الزمان ليجدد الدين ، ويملأ الدنيا عدلا " فهذا
(الصفحة 37)
أمر لم يختلف فيه اثنان من المسلمين ، وهذا الأصل هو المعنى المدعى " تواتره " وثبوته ، من مجموع الأخبار والأحاديث الواردة في باب " المهدي " .
فما ركز الباحث عليه نقده في متن كثير من تفاصيل أحاديث المهدي ، على حساب أصل القضية ، إنما هو تهويل منه للتمهيد إلى إنكار الأصل . وإلا فمهما كانت التفاصيل باطلة أو فاسدة وغير ثابتة ، فإن ذلك لا يمس ثبوت " أصل حديث المهدي " بشئ . ألم يكن من الأفضل أن يفرق الكاتب في سطر واحد بين الأصل وهو : أن وجود إمام باسم المهدي وردت بخروجه في آخر الزمان أخبار وروايات كثيرة ، وكتبت من أجله آلاف الصحائف ، ورويت حوله عشرات الروايات بمئات الأسانيد هو قضية ثابتة ، وعليها اتفاق جمهور المسلمين على اختلاف طوائفهم ، وبين التفاصيل المنقولة حوله ؟ ! فلو كانت تفاصيلها غير قابلة للقبول ، حسب عقل الكاتب ! أو ضعيفة السند ، لم تقم الحجة به ، أو غير متفق عليها حسب المعروف من مذاهب المسلمين ! فهذا هو الذي ينبغي أن يكون منشأ للبحث والجدل ؟ ! أما عرض بعض التفاصيل ، غير المقبولة ، حسب عقل الكاتب ، وجعلها ملاكا للحكم على كل القضية وحتى أصلها الثابت ، بالوضع والبطلان ، وجعل ذلك دليلا للتهجم على أصل الحديث ، فهذا خارج عن مناهج نقد الحديث ، بل خارج عن أبسط قواعد المنطق ، وهو قياس مع أكثر من فارق ! وقد صرح المحدث الصديق الغماري بما قلناه ، وجعل المراد ب " التواتر المعنوي " : القدر المشترك من مجموع الأحاديث ، وقال : كل قضية منها باعتبار إسنادها لم يتواتر ، والقدر المشترك فيها وهو " وجود الخليفة المهدي آخر الزمان " تواتر باعتبار المجموع (15) .
----------------------------------------
(15) إبراز الوهم المكنون ، للصديق ، الفصل الأول .
(الصفحة 38)
وحيث أعرض الكاتب عن هذا الكلام وقد كان متوفرا عنده (16) وحيث إنه لم يفهم هذا الاصطلاح ، أخذ يتساءل مستنكرا : ما هو معنى التواتر ؟ هذه الأحاديث لا تتفق على شئ !
أقول : كيف لا تتفق على شئ ، وقد اتفقت على القدر المشترك وهو " وجود شخص من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يظهر في آخر الزمان ؟ ! أليس هذا المعنى ، قد أجمعت عليه أحاديث المهدي ؟ ! لكن الكاتب بدأ بنقل التفاصيل ، بدءا بالنسب ، ومدة الملك ، ومع من يخرج ، ومتى يخرج ، وإذا وجد الاختلاف الكبير بين كل نص وآخر ، قال : أي معنى متواتر ! محاولا تسفيه " التواتر " بأسئلته ! التي هي في الحقيقة إشكالات واردة على متون خاصة لم يدع أحد تواترها .
وفي النهاية يقول - بسخرية الجهال - : إن المؤمنين بصحة السند فقط ، لا تعنيهم هذه الأسئلة ؟ ! إنه خروج عن حدود الأدب اللازم توافره في من يرتبط بالكتاب ، والقلم ، وليس مقبولا في المحاضرات العلمية . وهو أسلوب استفزازي ، يثير النفوس . فهل العلماء والجهابذة الذين نقلنا أقوالهم بتواتر أحاديث المهدي في " القدر المشترك " منها بالخصوص ، يخاطبون بمثل هذا الكلام السخيف ؟ ! مع أن الأحاديث المشتملة على الشؤون الخاصة ، لم تدخل في دعوى التواتر المعنوي ، حتى يستدل ببطلانها على بطلان أصل القضية !
---------------------------------------------
(16) لاحظ مقال " تراثنا وموازين النقد " ص 186
(الصفحة 39)
5 - مسألة المهدي بين السلبيات والإيجابيات :
لقد حاول الكاتب الايحاء ببطلان أحاديث المهدي المنتظر بطرق شتى : فمن ناحية تضعيف أسانيدها ، تارة . وهذا ما لم يفلح فيه ، لما عرفت من اتفاق الكافة على صحة قسم منها ، بحيث لا يقبل الانكار .
فلجأ إلى النغمة القديمة التي ضرب على وترها المستشرقون الحاقدون على الإسلام المحمدي ، وتبعهم أذنابهم المستغربون من أمثال أحمد أمين المصري ، وهي : اتهام الشيعة بوضع أحاديث المهدي المنتظر .
وسيأتي منا كلام حول تفنيد هذه المزعومة الباطلة . فاعتمد الكاتب على عنصرين هما بيت القصيد في بحثه : الأول : عدم معقولية مجموعة من الأحاديث المنقولة في شأن المهدي ، وهو ما يسميه بالنقد العقلي للحديث . الثاني : استغلال مجموعة من أهل الدنيا والمشعوذين والخلفاء ، لفكرة المهدي المنتظر ، لادعائهم المهدوية ، والتحايل على الناس بذلك ، مما لا تخفى أضراره وأخطاره على الدين والأمة ، ماضيا ، ومستقبلا . وقد ركز في خلال ذلك على سلبيات للقضية .
فنقول :
أما الأمر الثاني : فمما لا ريب فيه أن مسألة المهدي قد استغلت من قبل الكثيرين في طول تاريخنا المديد ، وحتى هذه الأيام . فادعاها بعض المشعوذين ممن يحاول السيطرة على عقول الناس وأفكارهم باستخدام هذا الاسم المقدس الذي يأمل الناس في صاحبه : الهدى
(الصفحة 40)
والخير والعدل .
كما قد ألصقت صفة " المهدي " ببعض الثوار المصلحين ، من قبل أنصارهم تفاؤلا بأن يكون هو الموعود به على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وقد وجد من تسمى باسم " محمد " وتلقب ب " المهدي " تمهيدا لان يدعي المهدوية ، مستغلا رنين هذا الاسم وهذا اللقب ، وقدسيتهما عند المسلمين (17) .
إلا أن هذا الاستغلال ، ليس مدعاة لإنكار أصل قضية المهدي الذي هو من الثوابت عند المسلمين على طول التاريخ . ووجود الخطأ في التطبيق ، أو سوء النوايا في بعض الأحيان ، وتعمد البعض للدجل ، لا تؤدي إلى إنكار الحقيقة الثابتة . وبهذا الصدد أجاب الشيخ محمد الخضر حسين ، فقال : وإذا أساء الناس فهم حديث نبوي ، أو لم يحسنوا تطبيقه على وجهه الصحيح ، حتى وقعت وراء ذلك مفاسد ، فلا ينبغي أن يكون داعيا إلى الشك في صحة الحديث ، والمبادرة إلى إنكاره . فإن النبوة حقيقة واقعة بلا شبهة ، وقد ادعاها أناس كذبا وافتراءا ، وأضلوا بدعواهم كثيرا من الناس ، مثل ما تفعله طائفة القاديانية ، اليوم . فليس من الصواب إنكار الحق من أجل ما لصق به من باطل (18) .
وكذلك الخلافة عن الرسول ، منصب حق ، لكن لا يمكن إنكارها باعتبار استيلاء مجموعة من الجهلة والقتلة والظلمة والفسقة ، على أريكتها وتسمية
-----------------------------------------
(17) كما بدرت بوادر تدل على الاستعداد لذلك ، والجماعة الذين يتبعونه يتميزون بالجهل والغرور ، وهم يلتزمون بتقليده وقد قال شاعرهم : نقلد المهدي في ديننا * ونلثم الخد له واليدين
(18) نظرة في أحاديث المهدي المنشور في مجلة " التمدن الإسلامي " الدمشقية .
(الصفحة 41)
الواحد منهم نفسه " أمير المؤمنين " ! .
وقال ناصر الدين الألباني : إن كثيرا من الأمور الحقة يستغلها من ليس أهلا لها . فالعلم - مثلا - يدعيه بعض الأدعياء ، وهو في الواقع من الجهلاء . فهل يليق بعاقل أن ينكر العلم بسبب هذا الاستغلال ؟ ! فكذلك فلنعالج عقيدة المهدي ، فنؤمن بها كما جاءت في الأحاديث الصحيحة ، ونبعد عنها ما ألصق بها بسبب أحاديث ضعيفة [ أو أعمال أناس جاهلين أو مغرضين ] . وبذلك نكون قد جمعنا بين إثبات ما ورد به الشرع وبين الاذعان لما يعترف به العقل السليم (19) .
وقال العباد : إن وجود متمهدين من المجانين وأشباه المجانين ، يخرجون في بعض الأزمان ، ويحصل بسببهم على المسلمين أضرار كثيرة ، لا يؤثر في التصديق بمن عناه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الصحيحة ، وهو " المهدي الذي يصلي عيسى بن مريم عليه السلام خلفه " . وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب التصديق به ، ويجب القضاء على كل متمهد ، أو غير متمهد يريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم . والواجب قبول الحق ورد الباطل ، لا أن يرد الحق ويكذب بالنصوص ، من أجل أنه ادعى مقتضاها مدعون مبطلون دجالون (20) .
وها هم المسلمون - كافة - يتصدون لكل ادعاء مزيف بالمهدوية من قبل
-------------------------------------------
(19) مقال حول المهدي ، في مجلة التمدن الإسلامي - الدمشقية .
(20) الرد على من أنكر المهدي ، المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة ، العدد 45 .
(الصفحة 42)
الدجالين .
وها هم الشيعة الإمامية ، وهم أكثر الطوائف دعوة ودعاءا للمهدي المنتظر باعتباره إماما لهم ، وينادون باسمه علنا ، يقفون ضد كل دعاوي المهدوية بالباطل ، مثل موقفهم المشرف ضد البابية التي تزعمها " علي محمد الشيرازي " في القرن الماضي . وقد أفتى علماؤهم بوجوب قتله ، فأعدم .
وكذلك هم بالمرصاد لكل من تسول له نفسه مثل تلك الدعوى من المبطلين ! إلا أنهم ، مثل سائر المسلمين ، ينتظرون المهدي الموعود الذي " يملؤها عدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا " ويميزونه بما ثبت عندهم من علامات الظهور ، ووضوح برهان ذلك النور . وأول كل أدلته إجماع المسلمين على قبوله ، واستقبال دعوته والدخول في رايته وحزبه .
وأما الأمر الأول ، أي عدم معقولية ما جاء في أحاديث المهدي : فإنما مثل الكاتب لذلك بعض الأحاديث المشتملة على تفاصيل الحديث عن شؤون المهدي . وسواء كان الكاتب محقا في دعواه عدم المعقولية ، أم كان مبطلا . فإن تلك الأحاديث ، إما هي آحاد جاءت من طريق الأفراد فهي - صحت أو ضعفت - لا تشكل حجة شرعية ، وليست هي معتمد العلماء ، ولا تدخل في البحث عندهم ، لأنها لا تفيد علما ، ولا عملا . وليست هي إلا كسائر الأحاديث الواردة في قصص الأنبياء الماضين ، وأحاديث سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، وأخبار التاريخ وحوادثه ، وغير ذلك من الأمور التي يعتمد اعتبارها والالتزام بها على عرضها ومقارنتها وغربلتها وتمييزها سندا ، ومتنا ، ثم الترجيح بينها ، واختيار الأوفق
(الصفحة 43)
للأدلة منها .
فليس ما عرضه الكاتب في هذا المجال خاصا بأحاديث تتحدث عن المستقبل فقط ، بل أحاديث الماضي - وحتى الحال - تحتاج إلى مثل هذا النقد ، المستلهم أساسا من مزاولات العرف ، وقرائن الحال والمقال . والملاك في الجميع - الماضي والحال والمستقبل - واحد ، وهو كونها جميعا من " الغيب " الذي لا يعلم إلا عن طريق المخبر الصادق ، والعارف .
وبما أنه من المنقول ويعتمد على السماع ، فالملجأ الوحيد هي الأخبار والأحاديث الراوية لذلك ، لا غير . ولكن الأمر بالنسبة إلى المؤمنين بالنصوص الدينية مختلف ، فلو جاء القرآن الكريم ، الذي هو " الوحي المعجز " أو جاء به الحديث الشريف ، الذي هو " وحي غير معجز " فإنهم يؤمنون بذلك اعتمادا على الإيمان بالله والرسول . والسر في ذلك :
أن الله تبارك وتعالى ، وإن كلفنا بالاستمداد من العقل وتحكيمه ، إلا أن ذلك متصور فيما طريقه العقل فقط ، وأما ما لا طريق للعقل في الحكم فيه فإنه تعالى كلفنا باتباع الرسل ، والأخذ منهم ، والاعتماد على ما ينقلونه من أخبار الشرع وغيره ، وأتباعهم فيما يفعلونه والتزام ما يقررونه . فالشرائع السماوية تعتمد على عنصر " التبليغ " ويتقرر الواجب على المسلم عند " البلوغ " . ومهمة الرسل هو إيصال الأحكام والحقائق والمعارف إلى البشر ، وإتمام حجة البلوغ عليهم . أما المؤمنون فهم مكلفون بالتزام ما وصل إليهم وبلغهم من كلام الرسل . قال الله تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا) .
ولما كانت الشريعة الإسلامية تعتمد عنصر النقل والبلوغ ، فقد قرر علماء الدراية والمصطلح ، قواعد محكمة متينة لضبط أمور الرواية والنقل ، وهي قواعد لم تسبقهم الأمم في كل الحضارات إلى ذلك ، سواء في ذلك الإلهية أم
(الصفحة 44)
غيرها .
وقد أصبح النص الإسلامي على أثر ذلك من أحكم النصوص المعتمدة على أسس من العرف والوجدان والعقل ، في تحديد الطرق المأمونة في " توثيق النصوص " . وهذا من فضل الله على هذه الأمة المحمدية ، إذ وفق علماؤهم لبذل الجهود الكريمة لحفظ هذا الدين وهذا التراث ، وصيانة أصوله وفروعه من التحريف والتصحيف ، والحمد لله رب العالمين . ومن هنا ، فإن الحديث الشريف إذا صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وثبت نقله ، وصح طريقه ، وسلم متنه ، وبلغ الإنسان نصه ، فهو ملزم باعتقاد صدقه تصديقا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والتزاما بالقواعد المقررة ، والأصول المقبولة . وإذا كان مضمون الحديث مما لا يعرف إلا من الغيب ، كأمور الماضي وحوادثه ، والمستقبل وتوقعاته ، فإن طريق معرفته ليس إلا النقل والسماع والأخبار . فإن أمكن العقل إدراك ذلك ، بأدلته وأساليبه وأدواته ، كان النقل مؤكدا ، والمنقول مرشدا إلى المعقول . ولو تخالف المنقول مع المعقول ، لزم تأويل المنقول ليوافق ما يقوله العقل ويؤكده ، وإلا ضرب به عرض الجدار ، إلا أن مثل هذا نادر في الأخبار ، لا يعمل به . وأما ما لا يدخل في مجال درك العقل ، وتقف أدواته وأدلته دونه ، فلا معنى للاستناد إلى عدم فهم العقل له للرد عليه وإنكاره . وفي خصوص هذا المورد يجب على المؤمن أن يصدق بما يصله بالطرق المأمونة ، ويستفيد من متنه حسب الموازين المتعارفة بين أهل اللغة ، وبما لا يخالف دليلا آخر من أدلة الشرع المسلمة .
(الصفحة 45)
وأحاديث المهدي المنتظر ، من هذا القبيل : فإنها من أخبار المستقبل الغائبة ، وليست مما للعقل إلى نفيه أو إثباته سبيل ، إذ هو أمر خاص ، والعقل إنما يحكم في الكليات ويدركها ، وليس في الالتزام بما تدل عليه الأحاديث ما يؤدي إلى المحالات العقلية ، أو مخالفة للمسلمات العقلية . بل العقل إنما يذر هذا الأمر في بقعة الإمكان ، وما لم يقع على امتناعه برهان ، وليس على الله بمستبعد أن يدخر لهذه الأمة المؤمنة المجاهدة شخصا " مهديا " يهديهم إلى الفلاح وهو يقول : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) .
وقد صحت الأحاديث والروايات ، بلغ فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا الوعد إلى الأمة ، بأن الله سيبعث في آخر الزمان رجلا من أهل البيت اسمه " المهدي " . فما المانع من تصديقه ؟ ! وأي دليل عقلي يمنعه ؟ ! وأما الجزئيات والتفاصيل ، فقد أكدنا مرارا على أنها ليست بمثابة " الأصل المذكور " في التواتر والثبوت ، وإنما جاءت بها الأخبار الآحاد المتفرقة ، ولم تتم بها الحجة القاطعة ، ولو صح طريقها وسندها . فلو عارضها دليل آخر ، من نقل مقطوع ، أو عقل جازم ولم يمكن تأويلها بما يوافق ذلك ، لزم رفضها ، وعدم الالتزام بها . لكن ذلك لا يعني - إطلاقا - إنكار أصل مسألة المهدي المنتظر ، الثابت بالأخبار الكثيرة ، والمجمع عليه بين طوائف المسلمين . وقد ذكر العباد في رده على بعض منكري المهدي ما نصه : إن خروج المهدي في آخر الزمان من الأمور الغيبية التي يتوقف التصديق بها على ثبوت النص فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ثبتت النصوص في خروج المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان ، وأن
(الصفحة 46)
عيسى بن مريم عليه السلام يصلي خلفه .
والذين قالوا بثبوتها هم العلماء المحققون وجهابذة النقاد من أهل الحديث . والواجب تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخبر به من أخبار ، سواء كانت عن أمور ماضية ، أو مستقبلة ، أو موجودة غائبة عنا (21) .
ومن السلبيات التي يثيرها الكاتب في إطار عدم معقولية أحاديث المهدي أنها تحتوي على معلومات عن دولة المهدي ، فيقول : وفي هذا الصدد أصدر " أحد أعلام الشيعة " . . . كتابا ضخما انتهى من تأليفه سنة 1972 م أسماه " تاريخ ما بعد الظهور " وقال : إنه عالج من منجزات الإمام المهدي على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي وسياسته الزراعية . . . إلى غير ذلك مما يعد أقرب إلى الخيال منه إلى البحث العلمي الرصين [ ص 204 ] .
فمع أننا نؤكد أن ما اعترض عليه هنا يدخل في البحث عن تفاصيل قضية المهدي ، وهي لم تدخل في الالتزام القطعي الذي اتفقت عليه كلمة المسلمين . فإننا نوافقه على سلبية هكذا بحث ، لكن لم ندر من أين اطلع الكاتب على كون الباحث " أحد أعلام الشيعة " حتى يعطيه هذا العنوان الكبير . مع أن الباحث لم يدع لنفسه هذا العنوان ، ولو ادعاه أو ادعي له مقام كهذا ، فإن كتابه " تاريخ ما بعد الظهور " ليس فيه ما يدل على أية " علمية " أو " علمية " بل هو مجرد جمع لأحاديث منقولة ، ومن دون نظر إلى أسانيدها ، ومحاولة لترتيبها حسب نظم معين . وهذا البحث في نفسه ليس جريمة ، إذ لا يستتبع أمرا محرما ، ولا يخالف
---------------------------------------
(21) الرد على من أنكر أحاديث المهدي ، المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة ، العدد 45 ، سنة 1400 ه .
(الصفحة 47)
أصلا أو فرعا ، إلا أن خلو العمل عن الدقة في المقارنة والاستنتاج يبعد الكتاب عن أن تكون له قيمة علمية .
فكيف عرف الكاتب أن مؤلف البحث المذكور هو " أحد أعلام الشيعة " بالذات ؟ ! مع أن الكاتب يعتبر أولئك الأئمة من علماء الحديث وفيهم أربعة من أصحاب الصحاح ، وأحمد بن حنبل ، والحاكم وغيرهم ، يعتبرهم من " المتساهلين من المحدثين من أهل السنة " . فأئمة الحديث من أهل السنة ، يصبحون عنده " متساهلين من أهل السنة " ومؤلف شيعي يصبح عنده " أحد أعلام الشيعة " ! ! ؟ فهل مثل هذه التصرفات تخلو من غرض ؟ ! وهل مثلها يناسب البحث العلمي الرصين ؟ ! وأما لماذا كتب هكذا كتاب ؟ ! ولماذا طبع ونشر ؟ ! فإن هذا من مآسي عصرنا الحاضر الذي تمت فيه تسهيلات الطباعة والنشر ، لمن عنده مال ويسر ، وليس هو أول قارورة كسرت في الإسلام ، ولا ينحصر طبع كل ما هب من الكتابات ببلد ، أو طائفة ، أو في موضوع .
إلا أن المهم الإشارة إلى أن طابع ذلك الكتاب وناشره كمؤلفه ، لم يخضعوا لأية رقابة ، ولم يتحملوا أية مسؤولية ، ولم ينتموا إلى أية مؤسسة رسمية .
لكن الكاتب وهو يعتبر أستاذا في كلية رسمية ، ويلقي هذه المحاضرة - بالذات - من قاعة المحاضرات ، وهو عضو في الهيئة الاستشارية لهذه المجلة ، كيف يسمح لنفسه أو يسمح له بإلقاء هكذا مطالب ، وبنشرها في مجلة علمية رصينة ؟ ! مع أن المحاضرة مليئة بالتهافت العلمي ، ومشحونة بالتطاول على حرمة علماء الحديث من أهل الإسلام كافة ، وتجاوز على حريم التشيع والشيعة
(الصفحة 48)
خاصة بتوجيه التهم الباطلة إليهم بشتى الأشكال ! إن مثل هذه السلبية ، من مثل أستاذ جامعي ، وفي مثل هذه المجلة أقبح من تلك الصادرة من مؤلف لا مسؤول !
وأما إيجابيات مسألة المهدي :
إن فكرة المهدي الموعود ، وبالصورة المشتركة بين الأحاديث ، لها جوانب إيجابية ، تتوافق عليها أدلة العقل والعرف ، والتدبير ، حتى ولو أغفلها مثل عقل الكاتب ! بل تصورها من السلبيات . " فانتظار الفرج " الذي هو تعبير روتيني عن رفض اليأس ، وعدم القنوط من الرحمة الإلهية ، هو أمر جد مهم لمن تحوطه المشاكل ويصبح في مأزق منها ، وتكاد تقضي عليه . وقد عد " انتظار الفرج عبادة " من الأحاديث الواردة بطرق عند الشيعة والسنة ، في غير قضية المهدي الموعود ، " والمهدي " هو تطبيق عملي وعيني لفكرة " الانتظار " للفرج عند الشدة ، وذلك عندما يعم الدنيا الظلم والجور ، ويخيم اليأس على الجميع ، ويخمد صوت العدالة ، فيكون " المهدي " فرجا عاما ، يملأ الدنيا عدلا ، ورحمة ، وخيرا . وقد اضطر الكاتب إلى أن يعترف بهذه الحقيقة ، فهو يقول : شيوع هذه الفكرة وانتشارها بين المظلومين شئ طبيعي ، فهي بؤرة الضوء في ظلام دامس ، وواحة الأمل والأمان في دنيا الإنسان المقهور [ ص 185 ] .
فإذا كان شيئا طبيعيا فهو سنة الله في الخلق .
ولكنه ينسى هذه الحقيقة عندما ينحاز إلى التأكيد على السلبيات ، فيقول : إن الاستسلام للظلم ، إلى أن يخرج مبعوث إلهي ليزيله يعتبر عبثا ، وتخديرا للناس ، انتظارا لأمل لن يتحقق ، ودفعا للشعوب الإسلامية إلى أن ترجو الخلاص بطريق يخالف سنة الله في الكون [ ص 212 - 213 ] .
(الصفحة 49)
ومع وجود التناقض الواضح بين كلاميه هذين ، فالذي يظهر لنا في رده :
أولا : إن الأمل في نفسه مدعاة لعدم الاستسلام ، وإلا لم يسم أملا ، وليس أمر تحققه وعدم تحققه بعد ذلك أمرا مؤثرا في كونه أملا ، وفي كونه مانعا عن اليأس وضد تأثيره . ولذلك قد يكون الأمل خائبا ، وقد لا يخيب بل يتحقق ، وإذا كان الأمل بالله ، وبوعده بالخلاص على يد المهدي الموعود ، فهل يحق لمؤمن أن يقول : إنه لن يتحقق ؟ ! وإذا قطعنا النظر عن الإيمان بالمهدي : فمن أين عرف الكاتب أن هذا الأمل لن يتحقق ، حتى يجزم به ؟ ! أليس هذا رجما بالغيب ، الذي لا يعترف به ؟ ! وهل هذا منطق البحث العلمي الرصين ؟ ! وثانيا : إن أحاديث المهدي ليس فيها ما يدل أو يشير أدنى إشارة إلى أن المسلمين لا نهضة لهم ، ولا عز ، قبل خروج المهدي . وهذا ما ذكره ناصر الدين الألباني ، وأضاف : فإذا وجد في بعض جهلة المسلمين من يفهم ذلك منها ، فطريق معالجة جهله أن يعلم ويفهم ، لا أن ترد الأحاديث الصحيحة بسبب سوء فهمه (22) .
أقول : والكاتب أخذ هذه النغمة من أحمد أمين (23) ومن تبعه .
وقد رد عليه العباد بقوله : خروج المهدي في آخر الزمان متفق مع سنة الله في خلقه ، فإن سنة الله تعالى أن الحق في صراع دائم مع الباطل ، والله تعالى يهيئ لهذا الدين في كل زمان من يقوم بنصرته ، ولا تخلو الأرض - في أي وقت - من قائم لله بحجته ، والمهدي فرد من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ينصر الله به دينه في الزمن الذي يخرج فيه الدجال ، وينزل فيه عيسى
------------------------------------
(22) مجلة التمدن الإسلامي - الدمشقية ، العدد 22 .
(23) ضحى الإسلام ، لأحمد أمين المصري ، 3 / 244 .
(الصفحة 50)
ابن مريم عليه السلام من السماء ، كما صحت الأخبار بذلك عن النبي الذي (لا ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (24) .
وثالثا : أين ومتى كان " انتظار المهدي " سببا للاستسلام ؟ ! وكيف يحق للكاتب أن يدعي هذه السلبية ؟ ! وهؤلاء الشيعة ، وهم من أشد الناس تمسكا بعقيدة المهدي المنتظر ، ويتوقعون ظهوره وخروجه ، بفارغ الصبر وبكل إلحاح ، تصديقا لإخبار النبي الصادق محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وهم مستهدفون من أجل عقيدتهم هذه بشتى أنواع التهم والقذف والتسخيف ، حتى من قبل بعض إخوانهم ، الذين يشاركونهم في الإسلام .
فبالرغم من التزامهم الأكيد والقوي بانتظار المهدي حتى أصبحت ميزة لهم خاصة ، وكأنهم وحدهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخبر بظهور المهدي ووعد به وأمر بانتظاره والائتمام به ! فمع كل ذلك ، ها هم الشيعة اليوم ، يقفون في الصف الأول في كل الحركات الثورية على الظلمة والمعتدين ، وهم يمهدون للمهدي ودولته بكل ما أوتوا من حول وطول ، ويعدون ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل ، يرهبون به عدو الله ، وأعداءهم الكافرين من اليهود والنصارى والحكومات المستسلمة اسما ، والمستعمرة فكرا وعملا . وهم يعتقدون أن ما يقومون به هو " تمهيد " لسلطان المهدي ، وزعزعة للثقة عن قلوب الطغاة والظلمة ، وهم الرافضون لكل أشكال التعنت في الحكم ، ما مضى منه وما هو قائم باسم الإسلام ، ويرفضون كل تعنت وفساد واعوجاج في العقائد والعمل ، ويلتزمون - ما أمكنهم - بتطبيق أحكام الإسلام وتحكيم قوانينه على الأرض .
----------------------------------------
(24) الرد على من أنكر أحاديث المهدي ، مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة ، العدد 45 ، السنة 12 .
(الصفحة 51)
ولقد أصبح الشيعة رمزا لكل ثائر مؤمن متطلع إلى الحق والعدل ، في كل الأرض الإسلامية ، وحتى غير الإسلامية . وأصبحت الحكومات الجائرة ، إسلامية وغيرها ، تتهم كل مطالب بالحرية ، ورافض للظلم والجور ، بأنه شيعي ، أو مرتبط بدولة الشيعة ، أو متعاطف مع الشيعة ، أو يستمد منهم مالا وسلاحا ، وغير ذلك من التهم ، التي لا واقع لها ! فإن في المتحركين من لا يعترف بأن الشيعة من المسلمين ! إن هذا الواقع ، أدل دليل بطلان ما يدعيه الكاتب ، كسلبية لعقيدة المهدي المنتظر ، بأنها تؤدي إلى الاستسلام للظلم . وأما فلسفة الانتظار الذي تبتنى عليه فكرة " المهدي المنتظر " فقد شرحها واحد من كبار علماء الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري ، وهو علي بن الحسين بن موسى ، ابن بابويه ، أبو الحسن ، القمي (ت 329) في مقدمة كتاب " الإمامة والتبصرة من الحيرة " الذي ألفه لمعالجة هذا الأمر بالخصوص ، فإنه ذكر عللا خمسا " للانتظار " هي من إيجابيات " المهدي المنتظر " فلنقرأها : قال : ولكن الله - جل اسمه - جعله أمرا " منتظرا " في كل حين وحالا " مرجوة " عند كل أهل عصر :
1 - لئلا تقسو - بطول أجل يضربه الله - قلوب .
2 - ولا تستبطا - في استعمال سيئة وفاحشة - موعدة عقاب .
3 - وليكون كل عامل على أهبة .
4 - ويكون من وراء أعمال الخيرات أمنية ، ومن وراء أهل الخطايا والسيئات خشية وردعة .
5 - وليدفع الله بعضا ببعض (25) .
--------------------------------------------
(25) الإمامة والتبصرة من الحيرة ، لابن بابويه القمي (ت 329) تحقيق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي ، ص 143 - 144 ، نشر مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - بيروت 1408ه.
(الصفحة 52)
وقد وفقني الله للعثور على ذلك الكتاب وتحقيقه منذ سنوات ، وقد شرحت هذه القطعة من كلامه بما يناسب إيراده هنا ، فقلت : هذه خمس علل ذكرها المؤلف " للغيبة " وهي أسرار " الانتظار " يمكننا أن نقف لشرحها على صفحات كثيرة ، لكننا نشير في هذا المجال إلى مختصر من القول :
الأمر الأول : أشار به إلى " الأمل " الذي تبعثه الغيبة في نفوس المستضعفين ، وأن " الانتظار " لا يزرع في قلوبهم القسوة ، والخمود ، واليأس ، بل : يخلق في نفوسهم : النشاط ، والوثبة ، والبأس . لأنهم بالإيمان بالغيبة لا يجهلون المصير ، كما يتخيل المبطلون ، بل هم على موعد إلهي ، واثقون من التحرر بقيادة حكيمة مدعومة بالنصر الإلهي . والأمر الثاني : يشير به إلى حساب الطواغيت المسيطرين على رقاب الناس ، فإن الغيبة تبعث في أعماقهم رعبا لا يهدأ ، لأنهم لا يعلمون متى يأتي وعد الله بعذابهم ؟ " فإنه آتيهم من حيث لا يشعرون " . إن جهلهم بالمصير ، يربكهم ، ويجعلهم في ريب مما يقومون به من الظلم والفحش ، لأنهم : (يحسبون كل صيحة عليهم) .
والأمر الثالث : - وهو أهم الأمور - : أن الغيبة تجعل الإنسان المؤمن ، العامل في سبيل الله ، في حالة الانذار القصوى ، دائما ، وعلى استعداد تام ، لكي يقوم بدوره في كل حين . يعد الأيام ، بل الساعات ، ليحين الحين ، لكي ينطلق نحو الهدف . إنه لا بد أن يهيئ حاله بكامل العدة من الصلاح ، والسلاح . إن " الانتظار " على هذا يعني عملية استنفار مستمرة لجند حزب الله ، العاملين . فما أعظم ذلك من حكمة !
والأمر الرابع : أن الوعد والوعيد ، والتبشير والإنذار ، لمما اعتادت
(الصفحة 53)
النفوس على الاهتمام بهما ، والاعتماد عليهما في الحياة ، بل إن مبنى الناس في إقدامهم أو إحجامهم ، على الأماني والآمال بما يبشرهم ، أو على أساس الخوف والفزع مما ينذرهم .
لهذا ، فإن " الانتظار " يكون لعامل الخير أمنية يرجوها ويأملها ، فيستمر على عمل الخير . ويكون لعامل الشر خوفا كامنا يتبعه ، ووحشة تلاحقه ، فتردعه عن شره ، وتكفه عن اتباع سريرته الشريرة السيئة ! والأمر الخامس : إشارة إلى سنة الحياة ، في التنازع على البقاء ، وأن تبقى بعض الأمور مجهولة ، كي تستمر عجلة الحياة في السير ، ولا تخمد جمرة الوجود عن الإثارة ، ولكي يبقى للإنسان الخيار في أن يختار الأفضل . ولو كانت الحقائق - كلها - واضحة مكشوفة ، لما كان في اختيار الحق ميزة للمحقين ، ولم يكن ابتعاد الإنسان عن الشر مدعاة للفرح والسرور . كما إن في ذلك إتماما للحجة على المعاندين ، ممن اختاروا طريق الفساد ، والظلم ، والشر ، بينما الأخيار إلى جنبهم - أيضا - يعيشون في هذه الحياة ! ولكن (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) (26) .
إن " إيجابيات الانتظار " هذه التي طرحها القمي في القرن الرابع الهجري ، هي مستلهمة من واقع الحياة ، وسنة الله في خلقه ، وهي منطبقة على كل حالات " الانتظار " التي كانت من قبل ، ومن بعد ، إلى عصرنا الحاضر . وها هم المظلومون في كل بقعة من الأرض ، والمؤمنون في الأرض الإسلامية ، تنطلق جموعهم المصدقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخباره
---------------------------------------
(26) الإمامة والتبصرة من الحيرة ، بتحقيقنا ، المقدمة ، ص 112 - 114 .
(الصفحة 54)
بخروج المهدي ودعوته للتمهيد له ، وكلهم في فوران وتوقع لحكم كلمة الله ، يثورون ضد الحكومات الجائرة ، والحكام الطغاة الفاسدين من الملوك ، والرؤساء والأمراء والوزراء ، وكل دجال لئيم ، يتكئ على أريكة الحكم والقدرة ، بالباطل والزور ، وتزوير اسم الإسلام ! وهم ينتظرون خروج المهدي الموعود ليحقق النصر الإلهي بتمكين المستضعفين في الأرض ، بمنه وكرمه .
6 - نقد الحديث ، والعقل :
يمكن أن يعتبر العمود الفقري في بحث الكاتب هو مسألة نقد الحديث عقليا ، وهو " بيت القصيد " في كلامه الطويل ، وخلاصة ما جاء به : أن اعتماد العلماء إنما هو على منهج نقد الأسانيد ، دون المتون ، وهذا لا يغني البحث عن المتن مطلقا ، لأن المحدثين أنفسهم وضعوا قاعدة مهمة مفادها " صحة السند لا تقتضي صحة المتن " . ثم أكد على لزوم نقد المتن ، وذكر مصادر لذلك ، وذكر ضوابطه التي أنهاها إلى 18 ضابطة . وركز في النهاية على لزوم اعتماد العقل في نقد المتن ، مدعيا إغفالهم له ، فقال : إن إغفال الجانب العقلي ، والاعتماد على صحة السند - فقط - قد يجرد الإسلام من أعظم ما فيه ، وهو عدم مناقضته للعقل السليم والنظر الصحيح .
ثم نقل عن ابن الجوزي قوله : فكل حديث رأيته مخالف المعقول أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع ، فلا تتكلف اعتباره . [ ص 176 ] .
(55)
وذكر : إنه اقتصر على الجانب الفكري الذي صبغ بصبغة دينية ، وكون جانبا من معتقدات الناس يحيطونه بهالة من الاجلال والقداسة ، وأثر في حياتهم أبلغ الأثر .
ثم نقل عن أحمد بن حنبل وابن الجوزي قولهم بعدم الاعتماد على أخبار الملاحم ، وما أخبر عن أمر مستقبل . وطبق كل أفكاره في هذا على " المهدي المنتظر " باعتباره من أخبار الملاحم ، ومن أمور المستقبل ، وبما وجده - حسب عقله الوحيد - من مخالفات في أخبار المهدي ! وأسهب في إيراد الأمثلة ومناقشتها . ولا نريد أن ندخل معه في نقاش الجزئيات ، ولكن نذكر بأمور كلية فقط :
1 - إن الكاتب بدأ بحثه وكأنه مستقل بالتفكير ومجتهد في النقد ، ولكنه يلجأ هنا وهناك ، إلى تقليد هذا أو ذاك ، في إبطال أخبار الملاحم والمستقبليات ، ويبطل على أساس ذلك كل أحاديث هذا الباب بجرة قلم . وهذا عين التأرجح بين الاجتهاد والتقليد في نقد الحديث الذي ذكرنا به في بداية مقالنا هذا .
2 - إن مصب نقده العقلي لأحاديث المهدي إنما هو ذكر التفاصيل ، دون أصل الفكرة ، كما تدل عليه جميع الأمثلة التي ناقشها . وقد عرفت في مقطع سابق أن هناك فرقا واسعا بين الأصل ، والتفاصيل ، في أحاديث المهدي .
3 - وقد ذكرنا أيضا بأن العقل إنما يدرك أحكاما وقضايا عامة وكلية ، ولا دخل له في الأمور والحوادث الخاصة . وقضية المهدي ، الموعود ، ليست إلا أمرا شخصيا وغيبيا مستقبلا ، فلا مجال لدرك العقل له ، لا إثباتا ولا نفيا .
فإقحام العقل وحكمه في أمره ، من قلة المعرفة بالشؤون العقلية ومدى
(الصفحة 56)
فعاليتها :
كما سبق أن ذكرنا بأن ثبوت المهدي وانتظاره وخروجه لا يخالف قضية من قضايا العقل وأحكامه الثابتة ، ولا يخالف أصلا ، ولا فرعا محققا . بل هو من الأمور الخارجية ، المحكومة عقلا بالإمكان الخاص .
فإن اقتضى شئ ثبوته ، والالتزام به ثبت ولزم ، وإلا فلم يقم دليل على امتناعه واستحالته ، حتى يقال : إنه مرفوض عقلا . هذا في أصل قضية المهدي . وأما التفاصيل ، فلو كان شئ منها معارضا لأصل عقلي أو شرعي أو حتى فرع شرعي مجمع عليه ، فهو مرفوض . وإلا ، فإن لم يصح سنده لم يجز نسبته إلى الشارع المقدس ، وإلا فهو خبر عادي ، مثل سائر الأخبار غير الملزمة ، وإذا لم تضر ، لم يمنع مانع من الالتزام بها ، وإن ضرت لزمها حكم الضرر . ثم إن الملاك في رفض العقل لشئ ، أن تتفق العقول - للمجموعة البشرية - على رفضه ، لا عقل شخص واحد ! فما أقدم عليه من الحكم على الأحاديث بالبطلان لمجرد استبعاده الشخصي لها ، واعتباره الخاص بأنها لا تعقل ، فهو استبداد بالعقل ! وإن صدق في دعواه عدم إدراكه لأمر ما من هذا النوع من التفاصيل ، فهو معذور ، لقصوره . ولكون الموضوع في التفاصيل ليس من أركان الدين ولا ضروراته ، فلا يحكم عليه من أجل إنكاره لها بالكفر ، وإن أظهر الكاتب رغبته في أن تكون مكافأته " التكفير من الناس " ! فإنه لا يعطاه ، وإن تمناه !
ثم إن الكاتب حاول أن يجر معه ابن خلدون في دعوى عدم عقلانية أحاديث المهدي ، فبعد أن نقل منه تضعيفه أحاديث المهدي على أساس النقد
(الصفحة 57)
السندي ، نقل عن أحمد أمين : أن ابن خلدون لم يعتمد في تضعيف هذه الأحاديث على السند وحده ، ولكنه وجد المتن مخالفا للعقل ، والظاهر أن مذهبه رفض الأحاديث الكثيرة إذا لم يؤيدها العقل [ ص 186 ] (27) .
أقول : أما ركون الكاتب إلى ابن خلدون ، فيما أنكره من أحاديث المهدي ، إن سندا أو متنا ، وإشكاله عليها عقلا أو غير ذلك ، فلا ينفعه : لأن المفروض رفض التقليد في هذا الموضوع ، وليس ابن خلدون معصوما لا يخطئ . مع ملاحظة أن ابن خلدون لم يتعرض لموضوع عقلانية أحاديث المهدي في تمام الفصل (الثاني والخمسين) من مقدمته ، الذي عقده للبحث عنه ، ولو فرض أن أحمد أمين عرف منه اعتراضه على الأحاديث تلك من ناحية عقلية ، فإن التقليد من العقليات ، أقبح أشكال التقليد ! وأما ابن خلدون ، فإنما تعرض لأحاديث المهدي بالنقد من جهتين :
الأولى : المناقشات السندية ، بتضعيف أسانيد ما أورده منها ، وقد عرفت أنه أورد 28 حديثا فقط ، وحكم بصحة " القليل أو الأقل منها " .
وعلى فرض تضعيفها كلها ، فإنها لا تمثل إلا بعض الأحاديث الواردة في المهدي ، ومن المعلوم أن نقد البعض لا يدل على ما حكم به من ضعف الكل وإبطال أصل القضية ! وقد عرفنا وجه الخلل في مواقف ابن خلدون من أحاديث المهدي سابقا . ولا بد من الإشارة إلى أهم نقطة في هذا المجال وهي : أن تبجح الكاتب بفعل ابن خلدون لا منشأ صحيح له ، سوى الهوى .
فإن ابن خلدون ليس من أهل هذا الميدان ، والحق الرجوع في كل فن
---------------------------------------
(27) نقل الكاتب ذلك عن المهدي والمهدوية لأحمد أمين ، ص 108 .
(الصفحة 58)
إلى أربابه - كما يقول السيد الكتاني - (28) .
لأن فن ابن خلدون وتخصصه هو علم التاريخ ، دون الحديث الشريف ورجاله ، والحديث إنما طريقه النقل ، والخبراء فيه إنما هم المحدثون الذين يقصدون طلبه ، ويتحملون المشاق في سبيل تحصيله ، وهم العارفون بقواعده وأصوله . وقال السيد الصديق الغماري : إن ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مكان ، ولا ضرب له بنصيب ولا سهم في هذا الشان ، ولا استوفى منه بمكيال ولا ميزان . فكيف يعتمد فيه عليه ، ويرجع في تحقيق مسائله إليه ؟ ! (29) .
وقال الشيخ المحدث النقاد أحمد شاكر في بعض تخريجاته لأحاديث مسند أحمد : ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم ، واقتحم قحما لم يكن من رجالها . إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته تهافتا عجيبا ، وغلط أغلاطا واضحة . إن ابن خلدون لم يحسن فهم قول المحدثين ، ولو اطلع على أقوالهم ، وفقهها ما قال شيئا مما قال (30) .
وقال العباد في رده على ابن محمود المقلد لابن خلدون في نقد أحاديث المهدي : إن ابن خلدون مؤرخ ، وليس من رجال الحديث ، فلا يعتد به في التصحيح والتضعيف ، وإنما الاعتماد بذلك بمثل البيهقي ، والعقيلي ، والخطابي ، والذهبي ، وابن تيمية ، وابن القيم ، وغيرهم من أهل الرواية والدراية
-------------------------------------
(28) نظم المتناثر ، للكتاني ، ص 146 ، آخر الحديث 289 .
(29) إبراز الوهم المكنون ، لأحمد الصديق الغماري .
(30) نقله العباد في مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة ، العدد 45 ، رقم 3 من مقال " الرد على من كذب أحاديث المهدي " .
(الصفحة 59)
الذين قالوا بصحة الكثير من أحاديث المهدي (31) .
فكيف يركن الكاتب إلى مثل هذا العمل المهزوز علميا ، في تضعيف أحاديث المهدي ؟ ! والجهة الثانية التي اعتمدها ابن خلدون في نقده لأحاديث المهدي ، هي : قاعدته الاجتماعية المبنية على أن العصبية هي دعامة الانتصار في كل دعوة إلى الدين أو الملك ، ولا تتم بدونها دعوة ، وهي لا توجد عند المهدي ، فهو يقول في نهاية الفصل الذي عقده لذكر المهدي : الحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك : أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه ، حتى يتم أمر الله فيه .
وعصبية الفاطميين ، بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق ، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر ، وهم منتشرون في تلك البلاد ، وغالبون عليها ، وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإماراتهم وآرائهم ، يبلغون آلافا من الكثرة . فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهوره دعوته إلا بأن يكون منهم ، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه ، حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته ، وحمل الناس عليها . وأما على غير هذا الوجه ، مثل أن يدعو ، فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق ، من غير عصبية ولا شوكة ، إلا مجرد نسبة في أهل البيت ، فلا يتم ذلك ، ولا يمكن ! (32) .
وبهذا المنطق يريد أن ينفي ابن خلدون الأحاديث الصحيحة التي وردت ووعدت بالمهدي المنتظر ، ولكنه منطق هزيل أمام الواقع :
-------------------------------------------
(31) مجلة الجامعة الإسلامية ، المدينة المنورة ، العدد 45 .
(32) مقدمة ابن خلدون ، ص 327 - 328 .
(الصفحة 60)
فأولا : حصره الأساس للانتصار على عصبية النسب أمر لا يوافق المنطق الإسلامي الرافض لكل أشكال العصبيات والعنصريات ، والداعي إلى الأخوة الإسلامية .
وثانيا : بطلان دعواه بالنسبة إلى الديانات والحركات الدينية التي قامت على الأرض ولا تزال ، مما لا تعتمد على العصبية ، بل تضادها أحيانا كثيرة ، فهذه ثورة الإسلام التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس معه من قومه إلا القلائل ، وأما الأكثرية فكانوا ضده بل هم من أشد الناس عليه ، ولكنه غلبهم ودحرهم بإذن الله .
وهذه الثورة الإسلامية في إيران ، قادها رجل علوي وهو الإمام الخميني ، من دون أن ينتمي إلى عصبة وشوكة سوى العلقة الربانية التي كانت تربط مقلديه به في الفتوى ، وقد نصره الله على " الشاه " الأعجمي الحسب والنسب ، والذي كان يدعو إلى القومية الفارسية بأقوى الأساليب وبشكل منهجي ومدروس ، لكن الشعب المسلم ، المؤمن ، وقف مع الإمام العلوي ، إلى حد الانتصار .
وثالثا : إن المهدي المنتظر ، له ممهدون ، يمهدون له سلطانه ، ويهيئون له أموره ، وإن لم يكونوا من عصبته ، كما دلت عليه أخبار متفق عليها بين المسلمين ، فلا ينحصر وجه ظهوره في أن يخرج في عصبته من الطالبيين فقط . ورابعا : لو صحت الأحاديث بخروج المهدي ، فالمتبع ما ورد في متونها ، وهي تدل على " ظهور رجل من أهل البيت يدعو إلى الرشد والهدى ، ويحكم كلمة الله على سطح الكرة الأرضية " .
أما أنه " يخرج في الطالبيين " خاصة ، كما يراه ابن خلدون ، فليس حجة ، ولم يتضمنه حديث ، ودليله عليه عليل ، فلا يجب علينا الالتزام برأيه بل هو إن كان مؤمنا بالله والرسول فالواجب عليه ، رفع يده عن نظريته والتزام ما وردت به الأحاديث الصحيحة .
(الصفحة 61)
7 - هل مسألة المهدي ، من العقائد ؟
إن الكاتب أبدى استياءه من بعض شيوخ أهل السنة الذين حشروا الاعتقاد بالمهدي ضمن عقيدة المسلم ، فقال : كان ينبغي استبعاده ، لأن الشيعة يعتبرونه من العقيدة ، لأنه إمام ، والإمام منها .
وإن كان من أشراط الساعة ، فكان عليه أن يتذكر أن أحاديثها من أخبار الآحاد التي لا تثبت بها عقيدة . [ ص 198 ] .
إن الدليلين المذكورين لاستبعاد كون أمر المهدي من العقائد حسب نظرية أهل السنة ، جيدان : فأهل السنة يرون الإمامة من فروع العمل الواجب على الأمة ، لا من أصول الاعتقاد الذي يبتنى عليه الإيمان ، والمهدي على فرض ثبوته وصحة خبره إنما هو خليفة ، لا أكثر . ولكن إذا صحت الأخبار بمعنى المهدي وتكاثرت إلى حد التواتر المفيد للعلم ، فهي خارجة عن الآحاد . وقد عرفت دعوى التواتر من عدة من أعلام الحديث ، فلماذا لا تثبت به العقيدة العلمية ؟ !
وإذا لم يتم التواتر ، لكن صحت الأخبار ، وبرئت أسانيدها من الغلط والسهو ، وفرضنا أنه لا يدخل في العقيدة ، فهل يجوز للمسلم أن يرفضه ، ويحكم بوضعه وبطلانه ؟ ! إن العلماء قرروا في مثل هذا أنه : إذا لم يكن حديث المهدي من العقائد ، فهو ملحق بما يجب الالتزام به لا كمعتقد ، بل باعتبار صدور الخبر الصحيح به كما قال الشيخ محمد الخضر
(الصفحة 62)
حسين : إذا ورد حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يقع في آخر الزمان كذا ، حصل العلم به ووجب الوقوف عنده ، من غير حاجة إلى أن يكثر رواة هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر (33) .
ولا أقل من عد هذه الأحاديث مثل أحاديث العمل التي يلتزم بها العلماء والفقهاء وجميع المسلمين باعتبارها صادرة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حجة معتبرة ، ودليلا شرعيا على مداليلها ، فيجب الالتزام بها على من يعتقد بالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا . أما ردها ونبذها وتسفيه الملتزم بها ، فهذا ما لم يلتزم به مسلم لا قديما ولا حديثا ، إلا من قبل هذه الشرذمة ابن خلدون ومن لف لفه ، بأدلة واهية .
8 - نقاط للتأمل :
1 - جمع الحديث وتدوينه :
يذكر الكاتب مسألة جمع الحديث ، فيقول : من المعلوم أن جمع الحديث بصورة رسمية لم يبدأ إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز في بداية المائة الثانية . [ ص 167 ] . فالملاحظ : أن تاريخ تدوين الحديث وكتابته مسألة طويلة البحوث ، وللكلام فيها مجال كبير ، وقد ألف فيها العلماء القدماء والمتأخرون كتبا ورسائل وبحوثا قيمة ، أقدمهم الخطيب البغدادي في كتاب " تقييد العلم " (34) .
-------------------------------------
(33) نظرة في أحاديث المهدي ، في مجلة التمدن الإسلامي - الدمشقية .
(34) طبعه يوسف العش محققا ، في دمشق ، مع مقدمة ضافية حول الموضوع تعد من أنفس الدراسات في هذا الميدان ، وأعيد طبعه في بيروت .
(الصفحة 63)
وخصص علماء الدراية فصولا مطولة للبحث عنه .
وقد تناولناه بالبحث والتحقيق بصورة مستوعبة في كتاب مفرد باسم " تدوين السنة الشريفة " (35) .
فاقتصار الكاتب على عدة سطور ، واعتبار ما ذكره : " من المعلوم " واعتماده على ذلك في البحث ، نقص يأباه المنهج العلمي . ومع قطع النظر عن ذلك ، فإن الكاتب يعود إلى مسألة جمع الحديث ، ويقول : إن الشيعة كما هو ديدنهم دائما يرجعون كل شئ إلى الإمام علي كرم الله وجهه ، فيروون أن أول كتاب في الحديث ألف في الإسلام كتاب علي عليه السلام . [ ص 169 ] . إن مثل هذا الكلام البادي عليه التهجم والحقد ، تأباه المناهج العلمية في المحاضرات الجامعية ، كما لا تستسيغه الأذواق ! فإذا كان كتاب علي عليه السلام حقيقة ملموسة ، أقر بها كل من الشيعة ، وأهل السنة ، وتناقل خبرها العلماء ، فما المانع من الالتزام به ؟ ! مع أن من الممكن النقض عليه بالصحيفة المنسوبة إلى عبد الله بن عمرو ، المسماة بالصحيفة الصادقة ، وكذلك الصحيفة المنقولة عن أبي هريرة ، المعروفة بصحيفة همام ، وغيرها من الصحف المنقولة عن الصحابة ، والتي ادعوا أنها كتبت في الصدر الأول . فهل يمكن التهجم على أهل السنة بمثل كلام الكاتب في الشيعة ؟ ! لقولهم : إن أول كتاب كتب في الإسلام هي هذه الصحيفة أو تلك ؟ ! 2 - مسألة وضع الحديث : ينقل الكاتب عمن سماهم " مؤرخي الحركة الفكرية في العالم
-----------------------------------------------
(35) طبع هذا الكتاب سنة 1413 في قم ، من منشورات مكتب الإعلام الإسلامي .
(الصفحة 64)
الإسلامي " (36) قولهم :
إن الوضع في الحديث بدأ بشكل متعمد لخدمة أغراض سياسية أيام الفتنة بين علي ومعاوية ، كما استغل الوضع لخدمة أغراض واتجاهات ومناهج اعتقادية . وإن بداية الوضع في الحديث كانت على أيدي الشيعة الذين وضعوا أحاديث كثيرة تفضل عليا وآل البيت على غيرهم من الصحابة . والحماس لآل البيت كلمة حق أريد بها باطل ، فقد تستر بها أعداد كبيرة من الزنادقة ، وضعيفي الدين ، والموتورين من الشعوب التي ذهبت دولها ، تطلعا إلى هدم الإسلام ، وإضعاف السلطة العربية . [ ص 168 - 169 ] . وهذه المسألة - كتلك - ليست من البساطة بحيث يكتفى في تأصيلها ، والبت فيها ، بهذه الكلمات المنقولة عن مجهولين ولو بعنوان " مؤرخي الحركة الفكرية . . .
" ولو أنها دخلت في عقول من ليس من أهل هذا الشأن ، فإن تناقلها لا يخرجها عن الدعوى المحتاجة إلى البينة والبرهان ! ويمكن مناقشتها توا من خلال هذه الكلمات المنقولة نفسها ، فإذا كانت الأغراض السياسية هي وراء وضع الحديث ، واستغل الوضع لخدمة أغراض واتجاهات ومناهج اعتقادية .
فلماذا لا يكون الاتجاه المخالف للشيعة هو الذي بدأ الوضع ؟ ! وإذا كان الحماس لآل البيت كلمة حق أريد بها باطل ، فلماذا لا يكون الحماس للصحابة كلمة حق أريد بها باطل ؟ ! ولماذا لا تكون أعداد كبيرة من الزنادقة وضعيفي الدين والموتورين من
--------------------------------------
(36) من هم هؤلاء مجهولو الهوية ؟ ! والحسب ؟ ! والنسب ؟ ! الذين تعلموا على أيدي ماسينيون اليهودي ، وجولد زيهر ، وفان فلوتن ، وغيرهم من صنائع الصهيونية والصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين ، من أمثال أحمد أمين ، وطه حسين ، وقاسم أمين ، وجرجي زيدان ، ذيول الغرب وأبواقه ! !
(الصفحة 65)
الشعوب التي ذهبت دولها ، وضعوا الأحاديث في فضائل الصحابة ، تطلعا إلى هدم الإسلام ، ليتقربوا بذلك إلى الخلفاء الولاة ، ليتمكنوا من القضاء على هذا الدين بقتل الأتقياء والوعاظ الذين كانوا يحاربون الانحراف عن الدين القويم ، وخاصة العلماء من أهل بيت النبي وصحابته الأبرار ؟ !
والدليل على ذلك ، أن هؤلاء الأتقياء ، وعلماء أهل البيت والصحابة كانوا هم المطاردين طيلة حكم الخلفاء في القرن الأول . حتى أبعد من أبعد ، ونفي من نفي ، وحبس من حبس ، وقتل من قتل حربا ، أو صبرا ! ولماذا لا ينسب وضع الحديث إلى قريش ، التي أسلمت رغما على أنفها ، وخاصة مسلمة الفتح ، الذين لم ينفكوا عن حرب الإسلام حتى آخر لحظة من استسلامهم ، ولما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يألوا جهدا في زعزعة كيان الإسلام بإبعاد أهل البيت ، والصحابة الكرام ، وإيذائهم ، وحبسهم . وفيهم كانت الردة . فلماذا لا ينسب إليهم وضع الحديث بهدف هدم كيان الإسلام ، الذي أفقدهم عزهم وكرامتهم الجاهلية ، فلما لم يجدوا بدا من الاستسلام أخذوا في التخريب السري ، والتسلل إلى مناطق النفوذ والسلطة من خلال التزلف إلى الحكام والسير في ركبهم ؟ ! ولماذا يخص الوضع بالأمم الأخرى الذين دخلوا الإسلام فقط ؟ !
وإذا صح القول بأن الشعوب الأخرى - وليس الشعب العربي - هم الذين قاموا بالوضع للحديث ، ، لأن الإسلام أفقدهم عزهم ودولتهم ، فلماذا يخص الوضع بإيران القديمة ، دون الروم ، واليهود ، والنصارى المتواجدين في الشام وفلسطين وبلاد الروم المغلوبة كذلك ؟ ! ثم إن إيران القديمة التي يؤكد على نسبة الوضع إليها ، لم تكن في
(الصفحة 66)
القرون الأولى شيعية ، بل كانت كلها من أهل السنة ، عدا بعض البلدان الصغيرة !
بينما البلاد العربية كانت مليئة بالشيعة ، وخاصة المدن الكبرى ! بل كانت إيران في زمن الفتنة وما بعدها إلى قرون سبعة " سنية " المذهب ، ولم يدخل التشيع إلى إيران بشكل رسمي إلا بعد القرن السابع .
بينما كان التشيع منتشرا بين العرب وفي البلاد العربية منذ القرون الأولى ! فإلى متى يبقى كتابنا على هذا " التل " من المزاعم الكاذبة يتناقلونها من دون خجل ! ولا يحاولون النزوح عنها رغم " غروب شمس " الاتهامات والعصبية ؟ ! وإلى متى يقصع كل كاتب بجرة من سبقه ، من دون تأمل في المنقولات وأبعادها ؟ !
وقد أوغل الكاتب في ركوب الرأس والإصرار على الخطأ ، حيث صرح : بأن في أحاديث المهدي رواية ما هو كذب لصالح العباسيين [ ص 190 ] لكنه يحاول أن يحسب كل شئ حتى هذا ، على الشيعة ، لقوله :
إن الشيعة وبني العباس يكونون حزبا سياسيا واحدا ، ثم تمزقت الشيعة إلى فرق شتى[ ص 190].
مع أن الشيعة وأئمتهم عليهم السلم كانوا على طرفي نقيض مع بني العباس ، منذ نشأة دولتهم ، بل قبلها ، ومهما يكن فإن أهل السنة هم الذين كانوا - ولا يزالون - يعتقدون بخلافة بني العباس . فمع ذلك كله ، فإن هذه الرواية العباسية - أيضا - لا بد أن تكون من وضع الشيعة ؟ ! إن هذا الافراط في اتهام الشيعة بوضع أحاديث المهدي ينم - بلا ريب - عن عدم موضوعية الكاتب وعن انحراف في مزاجه وقلمه !
(الصفحة 67)
وإلا ، فمن الواضح الذي يعترف به الكاتب نفسه أن في روايات المهدي ، وبطرق أهل السنة ، لا الشيعة ، ما رواه كعب الأحبار " اليهودي الذي انبهر بعلمه الكثيرون . . فقد استغل ثقة الرواة فيه ، وجعل من مسألة المهدي معرضا لمفاخر اليهود . [ ص 195 ] .
مع أن كعبا ليس محسوبا على الشيعة ، إطلاقا ، بل هو من الموثوق بهم عند أهل السنة ، اعتمدوا عليه ، وملأوا كتبهم من مروياته ، وفيها الكثير من الإسرائيليات المكذوبة على الله ورسوله .
فلماذا لا يثير وجود هذا اليهودي المحترف ، وأخباره في كتب أهل السنة ، أن يكون لليهود ، بواسطة كعب هذا ، تأثير على الفكر السني ؟ ! ولكنهم يصرون على أن الفكر الشيعي قد تأثر باليهودية من خلال عبد الله ابن سبأ اليهودي الآخر المحسوب على الشيعة . مع أن الشيعة يتبرأون من ابن سبأ ، وتروي كتب التاريخ والرجال أن الإمام عليا عليه السلام قتله وأحرقه بالنار ، وهو من المنبوذين الملعونين عندهم ، ولا تعتمد له رواية في كتبهم . أما كعب فيتمتع بكل ثقة واحترام عند عامة علماء أهل السنة ! يمجدون به وبعلمه ، ويتناقلون خرافاته الإسرائيلية . فهل هذا منطق العدالة ؟ ! أو هل هذا عدالة الكتاب والقلم ؟ ! وموضوع قابل للإلقاء في محاضرة علمية رصينة ؟ ! ثم إن لنا حديثا آخر في موضوع " وضع الحديث " ونسبته إلى الشيعة ، ذكرناه مفصلا في كتابنا " تدوين السنة الشريفة " (37) فلا نعيده حذرا من الإطالة . وأما رأي علماء السنة في اتهام الشيعة بوضع أحاديث المهدي ، فقد قال
------------------------------------------
(37) انظر : تدوين السنة الشريفة ، ص 497 - 504 .
(الصفحة 68)
الشيخ محمد خضر حسين :
يقول بعض المنكرين لأحاديث المهدي جملة : إن هذه الأحاديث من وضع الشيعة ، لا محالة . ويرد هذا : بأن هذه الأحاديث مروية بأسانيدها ومنها ما تقصينا رجال سنده فوجدناهم عرفوا بالعدالة والضبط ، ولم يتهمه أحد من رجال التعديل والتجريح بتشيع مع شهرة نقدهم للرجال (38) .
وقد رد العباد هذه المزعومة ، فقال : ما قالوه من أن فكرة المهدي نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها ، وأنهم استغلوا أفكار الجمهور . . . وضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وأحكموا أسانيدها ، وأذاعوها من طرق مختلفة وصدقها الجمهور الطيب لبساطته ! فقال العباد : هذا القول يشتمل على تنقيص سلف هذه الأمة ، أوعية لسنة ونقلة الآثار ، والنيل منهم ووصف أفكارهم بالسذاجة ، وأنهم يصدقون بالموضوعات لبساطتهم . ولا شك أنه كلام في غاية الخطورة (39) .
3 - مسألة الوحدة ، ورواية الحديث :
ويلاحظ الكاتب في دراسات المعاصرين من الشيعة الإمامية استدلالهم بأحاديث ثابتة في صحاح أهل السنة . . . ، ولكنها يؤتى بها لاقناعنا نحن ، أو لمجرد الاستئناس ، ويسمونها " مما روته العامة " بينما استنباط الحكم بكون من أحاديثهم لأنها منقولة عن الأئمة المعصومين .
-------------------------------------------
(38) نظرة في أحاديث المهدي ، مجلة التمدن الإسلامي الدمشقية .
(39) مجلة الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة ، العدد 45 .
(الصفحة 69)
بينما نجد أهل السنة حريصين على وحدة الأمة وجمع كلمتها ، فلا يصمون أحدا بالفسق أو الكفر . . . [ ص 169 - 170 ] . إن هذا الكلام يحتوي على أمرين :
الأول : أن الشيعة يستندون في الأحكام على رواياتهم ، ويذكرون روايات العامة للإقناع أو للاستئناس . الثاني : أن أهل السنة لا يصمون أحدا بالفسق أو الكفر والنتيجة التي يوحيها الكاتب بهذا الكلام :
أن أهل السنة هم فقط الحريصون على وحدة الأمة وجمع كلمتها ، ويوحي أن الشيعة بتصرفهم ذلك يقومون بالتفرقة بين الأمة وتشتيت كلمتها ! ولكن : إذا كان الشيعة يذكرون أحاديث العامة ، ولو للاستئناس والإقناع ، فإنهم يحاولون الاقتراب من العامة بهذا القدر . أما أهل السنة فهل يذكرون أحاديث الشيعة ، ولو بنفس الغرض ؟ !
أو إنهم يتغافلون عن آراء الشيعة في الفقه والأحكام ، ويهملون أحاديث أهل البيت وفقههم مطلقا ؟ ! وإذا كان الشيعة يستدلون على الأحكام برواياتهم عن المعصومين ، فذلك لأنهم يرون حجية هذه الروايات باعتبارها سنة مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصح الطرق وأسلمها . أفي هذا عيب وإشكال ، في نظر الكاتب حتى يطرحه بهذا الشكل ، المريب ؟ !
أم إن الإشكال في مراجعة الشيعة لأحاديث العامة ، والاستناد إليها ، للاحتجاج بها على مخالفيهم ، ليقنعوهم ، أو يتأكدوا بدلالاتها على ما وصلوا إليه ؟ ! وليس هذا عمل الشيعة المعاصرين فحسب ، بل قدماء الشيعة قاموا بهذا
(الصفحة 70)
العمل أيضا ، في كتب الفقه المقارن الذي سبقوا إلى إبداعه ، والتأليف فيه ؟ !
فأي الفريقين يبدو أحرص على الوحدة وجمع الكلمة ؟ ! أما أن أهل السنة لا يفسقون أو يكفرون أحدا : فهذا أمر آخر ، وليس هو المطروح في حديثه السابق ، فهل إن الشيعة فسقوا أحدا أو كفروا أحدا حتى يبحث عن تفسيق أهل السنة وتكفيرهم لأحد وعدمه ؟ ! وأما أن أهل السنة يعتمدون على الرواة من الفرق الأخرى ، فإن الشيعة كذلك يعتمدون على الرواة من الفرق المخالفة ، والشرط الأساسي في الراوي عندهم " الوثاقة والسداد " . فإذا كان الراوي " ثقة " وكان " سديد الحديث " قبلت روايته . وكم من راو من العامة ، مذكور في رجال الحديث عند الشيعة ومصرح بوثاقته والاعتماد عليه ؟ ! وحتى من مشاهيرهم وقضاتهم : كحفص بن غياث . وكذا من غيرهم : كابن جريج ، وسفيان ، ومالك ، والزهري ، وغيرهم من أعلام الحديث عند أهل السنة .
ثم قوله : إن أهل السنة لا يصمون أحدا بالفسق والكفر . هل هو صحيح على إطلاقه ؟ !
ولو كان الكاتب يلتزم به عمليا ، لكان أمرا جيدا نكبره عليه ، إلا أن الظاهر منه عدم اطلاعه على ما يصدره قضاة أهل السنة - بين الحين والآخر - من الفتاوى الظالمة ضد الشيعة ، بالتكفير وإهدار الدماء والأعراض ، وأحدثها : فتوى ابن جبرين الوهابي السعودي ، عضو مجلس الافتاء بالمملكة السعودية في الرياض ، التي لم يجف حبرها ، بعد . فأين الكاتب المغربي ، مما يجري في مشرق أرض العرب ؟ ! ومقالة الكاتب هذه - بالذات - " تراثنا وموازين النقد " التي بين أيدينا هو
(الصفحة 71)
نوع آخر من التفسيق ، والاعتداء على كرامة الشيعة ، لما تحتويه من الاتهامات بوضع الحديث ، وتشويه السمعة بالتزام السخافات . فهل هذا نموذج من الحرص على وحدة الأمة وجمع كلمتها ؟ ! وموضوع نقده : " المهدي المنتظر " .
فبدلا من أن يتخذ أداة للقاء والألفة وجمع الكلمة ، بعد أن أجمعت الفرق الإسلامية كلها على روايته ، وقبوله وتصحيح أخباره ، ليكون نقطة تجتمع عندها الكلمة ، وتتفق عليها الآراء ، وتتحطم على صخرتها كل النزاعات والخلافات ! بدلا من كل ذلك ، يحاول الكاتب بكل الأساليب في رده ، وتشويه صورته ، وتنفير الناس عنه .
وبدلا من أن يؤكد على النقاط الإيجابية فيه ، فهو يركز على سلبياته ، وجزئياته المختلف فيها . ويتغافل عن أصلها الثابت ، المسلم ، المتفق عليه . وقبل ذلك ، هل إثارة قضية المهدي المنتظر ، في هذا الوقت بالذات ، وفي خضم الأزمات التي تحيط بالأمة الإسلامية - وأمة العرب بالأخص - فيها دلالة على حرص على الوحدة وجمع الكلمة ؟ ! 4 - الغيبة عند الشيعة : ومما أثاره الكاتب في خلال مقاله ، قوله :
إن فكرة الغيبة والعودة عند الشيعة ، فكرة مشتركة بين اليهود والنصارى وتأثر التفكير الشيعي بهذين المصدرين غير مستبعد ! لانضواء كثيرين من غير العرب وأصحاب الأديان والحضارات السابقة ، تحت لواء التشيع ليثأروا لأنفسهم من سلطة الحكم العربي تحت ستار الغيرة على حقوق آل البيت ، وفي مقدمة هؤلاء عبد الله بن سبأ . [ ص 184 ] .
(الصفحة 72)
إن وجود أمور مشتركة - بين الأديان السماوية أمر لا يمكن إنكاره للباحثين والعلماء .
وأما نسبة تأثر التفكير في مذهب من مذهب آخر ، فأمر يحتاج إلى دليل جازم ، وليس مجرد وجود الفكرة عند المذهبين كافيا للحكم بالتأثير والتأثر . فهل يحق لأحد أن يقول : إن المذهب السني الملتزم بالتكتف في الصلاة ، مأخوذ من فعل المجوس مثلا ، لأن المجوس يفعلون ذلك في عبادتهم أو أمام كبرائهم ؟ ! أو قولهم : " آمين " بعد سورة الحمد في الصلاة مأخوذ من النصارى واليهود ، لأنهم يقولون ذلك ؟ !
أو يقول : إن التفكير السني متأثر بالدين اليهودي والمسيحي ، لأن كثيرين من أصحاب هذه الديانتين من أهل الحضارات السابقة كالروم والأقباط قد انضووا تحت لواء التسنن ، ليثأروا لأنفسهم من سلطة الدين الإسلامي ، تحت ستار الغيرة للصحابة ولعثمان الخليفة المقتول ؟ !
وفي مقدمة هؤلاء كعب الأحبار اليهودي ! إن مثل هذه الأحكام الاعتباطية ، لا تصدر ممن يعرض طرق النقد ، ويتحاكم إلى الإنصاف ، ويريد أن يبني على أسس العقل والمنطق ، ويزن الأحاديث والنقول بموازين النقد العقلي ! فكيف يتقبل الكاتب مثل هذه الترهات ، ويبني عليها في بحث يريد أن يكون " علميا ورصينا " ؟ !
ولو راجع واحدا من كتب الشيعة التي ألفت في موضوع " الغيبة " و " الرجعة " لعرف أن الشيعة لم يعتمدوا في التزامهم بذلك ، لا على اليهود ، ولا النصارى ، ولا كعب الأحبار ، ولا عبد الله بن سبأ . وإنما استندوا فيها إلى أخبار وسنن وروايات ، موصولة الأسانيد إلى الرسول وأهل البيت ، ووافقهم على كثير منها أهل السنة أنفسهم .
(الصفحة 73)
وبحثوا عنها سندا ، ومتنا ، وعقلا ، فلم يجدوا ما يعارضها من كتاب كريم ، أو سنة ثابتة ، أو عقل ، أو عرف . فلم يكن التزامهم بها إلا مثل التزام المسلمين بما ورد في أحاديثهم من أخبار المستقبل ، لا أكثر ولا أقل ! كما يلتزم أهل السنة بأخبار الدجال ، ونزول عيسى ، وبالمهدي المنتظر .
فلماذا لا يتهم الفكر السني بأنه تأثر في هذه الالتزامات باليهود الذين ينتظرون مخلصا ، أو بالنصارى الذين ينتظرون عودة المسيح ؟ !
وإن كان الحديث الوارد عن أهل البيت مما يعتمد عليه الشيعة ، فإن هذا يبتنى على أسسهم وقواعد علم الحديث عندهم ، ومنهجهم في باب " حجية الحديث " بما أدى إليه اجتهادهم . فهل يحق لأحد أن يعترض عليهم في ذلك ، وينسبهم - بمجرد عدم موافقته لهم - إلى اتباع اليهودية والنصرانية ؟ ! إن تعرض الكاتب لمطالب خارجة عن موضوع بحثه وإلى هذا البعد ، وإقحامه لها في بحثه كمسلمات مفروضة من دون استدلال أو إثبات ، يدل على عدم الموضوعية عنده ، وهذا ما لا يتحمله البحث العلمي المحايد . ولا يستسيغه ذوق العلماء الموضوعيين .
9 - كلمة الختام :
وفي الختام نود أن نوجه كلمة إلى المقومين لأبحاث مجلة " كلية الدعوة الإسلامية " وإلى المسؤولين فيها ، وإلى كل من أوتي حظا في حمل القلم ، وخاصة المحققين والمتخصصين في مختلف الشؤون العلمية النقلية والعقلية ،
(الصفحة 74)
وكذلك العلوم والصناعات والفنون :
أن يبذلوا جهودهم لملء الفراغات - التي لا تقل - في حضارتنا وحياتنا ، كل في اختصاصه ، وأن يركزوا على الابداع والابتكار في ما يقدمونه إلى الأمة ، وأن لا يملأوا صفحات المجلات بذكر ما لا أثر حسن له ، فضلا عن أن يذكروا ما له أثر سيئ . وأي شئ أسوأ مما يثير غضب طائفة ، أو يؤلم قلب أخرى ، ما دامت المسألة أمرا لكل جانب عليه دليله وقناعته ؟ ! خصوصا إذا كان " عملا " مستوفى في أكثر من مجال سابق من قديم الزمان ، وحتى العصر الحاضر ! مثل مسألة " المهدي المنتظر " التي تعرض لها الكاتب الأستاد السائح علي حسين . حيث إنه ليس إلا " اجترارا " لما ذكره الشيخ ابن محمود القطري في كتاب " لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر " المطبوع .
فإن جميع ما عرضه الكاتب السائح ، موجود فيه بحذافيره : إن في تهمته للشيعة بوضع أحاديث المهدي . أو ذكر سلبيات المهدي والتركيز عليها . أو اتباع ابن خلدون والتبجح بكلامه وعلمه . أو في ذكر المدعين للمهدوية . وحتى في بعض تصرفاته غير العلمية . وبذلك نؤكد أن بحث " تراثنا وموازين النقد " لا يحتوي على أية نقطة جديدة في هذا المجال ، ولا يتسم بالأصالة ، ولا بما تعارف عليه الأسلاف من أقسام التأليف : فلا اخترع شيئا ، ولا تمم ناقصا ، ولا شرح مستغلقا ، ولا اختصر مطولا ، ولا جمع متفرقا - بل شتت شمل الأمة المجتمع - ، ولا رتب المختلط ، ولا أصلح خطأ .
(الصفحة 75)
بل زاد في طين المشاكل بلة ، وفي طنبور الاختلاف " نغمة جديدة " . فعلى أي أساس تمت الموافقة على نشر هذا البحث ، وكيف تم تقويمه ؟ ! ومع أن الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد المدني ، قد أورد في رده على كتاب ابن محمود القطري ، كل الإجابات الصحيحة الواضحة عن الشبه المذكورة في مجلة الجامعة الإسلامية - بالمدينة المنورة ، في العددين 45 و 46 من السنة الثانية عشرة - بعنوان " الرد على من كذب بأحاديث المهدي " .
إلا أن إغفال الكاتب السائح حسين ، لذكر شئ عن ذلك كي يتمكن القارئ من مراجعته ، ولبعد تاريخ نشره ، حاولنا الإجابة على ما ورد في المقال بصورة مستقلة . ونود أن نذكر الكاتب الأستاذ السائح علي حسين : بأنه ليس الأمر - في هذا العصر - كما يتخيل من انفراده في ساحة الكتابة وميدانها ، فليس له أن يلقي الكلام على عواهنه ، أو أن يكتب ما عن له ! وليس له أن يكتب ما شاء عارضا قلمه يجول على صفحات مجلته . بل ليعلم أن بني عمه لهم أقلام ومجلات . والحمد لله رب العالمين (40) .
------------------------------------------
(40) استغنينا عن ذكر قائمة للمصادر ، بما ذكرناه في الهوامش من تعيين ما يرتبط بها . والحمد لله رب العالمين .
(الصفحة 76)