البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هوامش نقدية دراسة في كتاب «أصول مذهب الشيعة»

الباحث :  السيد محمد الحسيني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  2
السنة :  السنة الاولى صيف 1417هج - 1996 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 24 / 2015
عدد زيارات البحث :  1650
هوامش نقدية
دراسة في كتاب «أصول مذهب الشيعة»
السيد محمد الحسيني‏ (*)
منذ زمن بعيد كان التشيُّع موضوع بحث ودراسة مستمرَّين. وفي الغالب كانت الدوافع مذهبية تمتزج أحياناً بالدافع السياسي، ويتخذ معها البحث إتجاهاً ينسجم وإياها. وفي واقع ـ كهذا ـ يتماهى‏ فيه المذهبي والسياسي لا ينتظر المرء قدرا ـ ولو ضئيلاً ـ من الانصاف أو الموضوعية تجاه موضوع البحث. كانت الأجواء المشحونة بالحدة والتعصُّب كافية لأن تلقي بظلالها بشكل كامل وتام على مسار البحث ونتائجه. والكتب التي عُنِيَت بتاريخ الفرق والمذاهب خير شاهد، ناهيك عن عشرات ـ بل مئات ـ الكتب التي حفلت بالسجال العنيف بين رجال تلك الفرق، وللتشيع في هذه الكتب ـ على اختلافها ـ النصيب الأكبر والحظ الأوفر.
طبعت هذه السمات جلّ الكتابات ـ إن لم نقل جميعها ـ خاصة وهي تخرج عن مراكز أخذت على عاتقها مواجهة التشيع. إنما الجديد هو الاهتمام المتزايد بـ «الشيعة» في مراكز البحوث الأكاديمية التي يفترض في بحوثها المنجزة أن تكون علمية وبعيدة عن روح التعصب والضيق المذهبي.
ومن أوسع ما أنجزته بعض الجامعات، حول التشيع، كتاب «أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية»، من تأليف الدكتور ناصر بن عبداللَّه بن علي القفاري، وهو في الأصل أطروحة نال بها درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة الإمام
________________________________________
(*)کاتب عراقي السلامي

[الصفحة - 261]


محمد بن سعود الإسلامية. وقد طبعت لأول مرة في العام 1993. وقد توفر الباحث القفاري على عدد كبير من المراجع والمصادر الشيعية، وهو أمر يوحي، لأول وهلة، بالدقة والموضوعية كما يشعر القارى‏ء بالمصداقية!
أهداف البحث‏
لم يشأ الباحث إهمال الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الكتابة عن الشيعة والتشيُّع بشكل خاص، فقد سجل ملاحظاته الصريحة في مطلع الرسالة، راسماً بشكل واضح منهجه وطريقته في معالجة موضوع البحث، في محاولة منه لتخفيف العب‏ء عن النقاد والكشف لهم عن الخطوط العامة والتفصيلية لبحثه.
وقد لخّص الباحث مسوِّغات بحثه في عدد من النقاط منها:
1 - قد يكون السبب الرَّئيسي ما يمكن تسميته بالحرب الدفاعية أو الوقائية، إذ يفترض الباحث أن «التَّسنُّن» في خطر، ومصدر هذا الخطر هو «التشيُّع» بما يحمله من فكر مضاد وحركة دؤوبة في الحوار والنشاط الفكري والاجتماعي. يقول في هذا الصَّدد: «.. معظم الفرق التي خرجت عن الجماعة ضعف نشاطها اليوم، وفتر حماسها، وتقلَّص أتباعها، وانكفأت على نفسها، وقلّت منابذتها لأهل السنة. أمَّا طائفة الشيعة فإن هجومها على أهل السنة وتجريحها لرجالهم وطعنها في مذهبهم وسعيها لنشر التشيع بينهم يزداد يوماً بعد يوم. ولعل طائفة الاثني عشرية هي أشد فرق الشيعة في هذا الباب لإضلال العباد، إن لم تكن الفرقة الوحيدة التي تكثر من التطاول على السنة والكيد لها على الدَّوام مما لا تجده عند فرقة أخرى» (1/8).
2 - والأكثر خطورة ـ من وجهة نظر الباحث ـ هو «اهتمام هذه الطائفة بنشر مذهبها والدعوة إليه، وعندها دعاة متفرقون ومنظمون، ولها في كل مكان (غالباً) خلية ونشاط، وتوجّه جل اهتمامها في الدعوة لنحلتها في أوساط أهل السنة. ولا أظن أن طائفة من طوائف البدع تبلغ شأن هذه الطائفة في العمل لنشر معتقدها والاهتمام بذلك. وهي اليوم تسعى‏ جاهدة لنشر (مذهبها) في العالم الإسلامي وتصدير ثورتها وإقامة دولتها الكبرى بمختلف الوسائل. وقد تشيع بسبب الجهود التي يبذلها شيوخ الاثني عشرية الكثير من
________________________________________

[الصفحة - 262]


شباب المسلمين.. ومن يطالع كتاب «عنوان المجد في تاريخ البصرة ونجد» يهوله الأمر حيث يجد قبائل بأكملها قد تشيعت (1/9).
3 - ومن الأسباب، كما يدعي المؤلِّف، ما يمثله التشيع من فرقة خاصة متميزة عن الإسلام، والدليل عنده على ذلك «أن هذه الطائفة بمصادرها في التلقي وكتبها وتراثها تمثل نحلة كبرى حتى‏ أنهم يسمون مسائل اعتقادهم (دين الإمامية) لا مذهب الإمامية وذلك لانفصالها عن دين الإمامية، وبحسبك أن تعرف أن أحد مصادرها في الحديث عن الأئمة يبلغ مئة وعشرة مجلدات، وهو بحار الأنوار لشيخهم المجلسي» (1/8).
وللتذكير فقط نشير إلى المغالطة التي يحاول الباحث، في مطلع كتابه، تمريرها للقارى‏ء وتتمثل في ما سمَّاه «دين الإمامية». وقد ادعى، في هامش الصفحة المشار إليها أعلاه، أنه عنوان لكتاب الشيخ الصدوق، وهو كتاب يعرف أساساً بـ «اعتقادات الصدوق» لأنه عبارة عن أمالي في علم الكلام تعبر عن وجهة نظر الشيخ الصدوق. نعم ورد التعبير بـ «دين الإمامية» في كتاب الشيخ الطوسي، في أثناء وصفه لكتاب الصدوق ومضمونه، وهو لا يعبر إلاّ عما يدين به الإمامية من وجهة نظر أحد مشايخهم وعلمائهم، خاصة وأنه لا يختلف مضموناً عما يؤمن به أي مسلم موحد إلاّ في بعض التفصيلات التي كانت ـ ولا يزال بعضها ـ مثار جدل بين المسلمين مما لا يشكل قدحاً في إسلامهم وإيمانهم باللَّه وكل ما هو ضروري في الإسلام.
وللتذكير فقط أشير إلى المغالطة الأخرى التي ساقها الباحث، في محاولة منه لتضخيم كتاب «بحار الأنوار»، بشكل يوحي للقارى‏ء من خلال العدد الهائل لمجلداته التي تزيد على المئة أنه دخيل على المكتبة الإسلامية وأنه يشتمل على ما لا يعرف. وهذه المغالطة ليست بريئة إطلاقاً؛ إذ يحوي كتاب «البحار» ويضم عشرات بل مئات الكتب وأمهاتها على اختلافها وتنوعها، ومنها الشيعي والسني حتى‏. وقد ضمّ فيه روايات الطبري وروايات الواقدي وابن إسحاق.. كما ضمّ عدداً من روايات التفسير على اختلاف انتماءاتها الشيعية والسنية.
4 - ومن جملة الأسباب عنده أن «هذه الفرقة لها اهتمام دعائي في الدعوة للتقارب مع أهل السنة، وقد أقامت المراكز، وأرسلت الدعاة وأنشأت الجمعيات التي ترفع شعار
________________________________________

[الصفحة - 263]


الوحدة الإسلامية» وأن «هذه الطائفة تكثر من القول بأن مذهبها لا يختلف عن مذهب أهل السنة، وأنها مظلومة ومفترى عليها، ولها اهتمام كبير بالدفاع عن مذهبها..» (1/10).
5 - أما الأكثر أهمية في هذا الصدد فهو «تضخم الخلاف حول حقيقة الاثني عشرية لدى الكتاب المعاصرين، فمن فريق يرى أنهم كفرة وأن غلوهم تجاوز الحدود الإسلامية كما في كتابات الأستاذ محب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير، وابراهيم الجبهان وغيرهم، وفريق آخر يرى أن الاثني عشرية طائفة معتدلة لم تجنح إلى الغلو الذي وقعت فيه الفرق الباطنية، مثل كتابات النشار وسليمان دنيا ومصطفى‏ الشكعة وغيرهم، وفريق ثالث التبس عليه الأمر حتى‏ ذهب يستفتي شيوخ الشيعة الاثني عشرية في ما كتبه عنهم إحسان الهي ظهير ومحب الدين الخطيب. كما تجد ذلك في ما كتبه البهنساوي في «السنة المفترى عليها» (1/11).
وفي هذا الصدد نفسه يبحث تحت عنوان «ظهور اتجاه رافضي عند بعض الكتاب المنتسبين للسنة» في التأثر المزعوم لبعض أقلام أهل السنة بالمنهج الشيعي، ويتهم الدكتور علي سامي النشار تحديداً (3/1205). وقد يكون من الطريف جداً أن نشير إلى بعض التأثيرات الشيعية التي رصدها الباحث القفاري في كتابات النشار، ومنها اتهام النشار أبا سفيان بالزندقة ومؤاخذاته على معاوية ابنه.
هذا الرأي كان يكفي لتصنيف النشار في الاتجاه الشيعي متناسياً خدمات النشار الجليلة! للمذهب الأشعري ولأهل السنة عموماً في كتابه الكيدي «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» الذي خص التشيع بجزئه الثاني.
هذه المسوّغات يجمعها الخوف من التشيع الذي بدأ يتسرب إلى ذهن القارى‏ء السني، فيعرفه عن قرب، بعد اختفاء عدد من الحواجز التقليدية التي سادت على مدى عدد غير قليل من القرون. وهنا تبدو المفارقة، إذ يبدو القفاري أقرب ما يكون إلى منهج المستشرقين في تعاطيهم مع «الشأن الإسلامي» والخوف منه.
________________________________________

[الصفحة - 264]


وصف عام للكتاب‏
يقع الكتاب في ثلاثة مجلدات، وتقرب صفحاته من ألف وأربعمئة صفحة. وهذا العدد الهائل من الصفحات يكفي للإشارة إلى ما بذله الباحث في متابعة موضوع بحثه، وهو بحث في الحقيقة لا يمكن أن تستوعبه هذه الصفحات حتى‏ وإن بدت كثيرة.
وضع الباحث القفاري مقدمة أشرنا إلى بعض مقولاتها التي حدد من خلالها بيان مسوغات اختيار موضوع أطروحته.
وفضلاً عن ذلك حاول أن يذكر قسماً من مصادر دراسته في المقدمة، وهنا يبدو المنهج الانتقائي في التركيز على بعض المصادر. وكمثال على ذلك تركيزه على ما يعرف بكتاب «سليم بن قيس»، مع أنه ينقل في مطاوي بحثه تشكيك علماء الشيعة بنسخ هذا الكتاب كما هي متوفرة الآن، وهذا يعكس الرغبة في الوصول إلى أحكام مسبقة تجاه موضوع البحث.
قسَّم المؤلف بحثه إلى تمهيد وخمسة أبواب.
في التمهيد: تناول التعريف بالشيعة ونشأتها وجذورها التاريخية وفرقها.
في الباب الأول: عدة فصول.
الأول: اعتقادهم في القرآن.
الثاني: اعتقادهم في السنة.
الثالث: اعتقادهم في الإجماع.
في الباب الثاني: عدة فصول.
الأول: اعتقادهم في الألوهية.
الثاني: اعتقادهم في توحيد الربوبية.
ـ الثالث: اعتقادهم في توحيد الأسماء والصفات.
ـ الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه.
في الباب الثالث: أصول الشيعة.
الإمامة، العصمة، التقية، المهدية، الرجعة، الظهور، البداء، الطِّينة.
________________________________________

[الصفحة - 265]


في الباب الرابع: التشيع حاضراً، عدة فصول.
الأول: صلتهم بمصادرهم القديمة.
الثاني: صلتهم بفرقهم القديمة.
الثالث: الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين.
الرابع: دولة الآيات.
في الباب الخامس: الحكم عليهم وأثرهم في العالم الإسلامي‏
ثم الخاتمة والنتائج.
منهج البحث:
كشف الباحث القفاري عن منهج بحثه في مقدمة الكتاب، محاولاً تطمين القارى‏ء تجاه المضامين التي احتواها كتابه، وللتدليل على مصداقية بحثه أكَّد أنه:
1 - ينقل عن كتب الشيعة مباشرة، ولا ينظر في المصادر الناقلة عنهم.
2 - حرص على أن يكون موضوعياً جهد طاقته! وقد فسَّر القفاري الموضوعية هنا بأنها تعني أن ينقل عن كتب الشيعة بأمانة، وأن يختار الكتب المعتمدة عندهم، وأن يعتمد على الروايات الموثقة عندهم..
3 - يعرض لعقائد الشيعة بمنهج نقدي عبر منهج النقد الداخلي للنصوص.
4 - حرص على منهج المقارنة بين المصادر الشيعية نفسها وبينها وبين المصادر السنية أيضاً.
5 - أكد غير مرة أنه يتعامل مع الروايات الشيعية من حيث التصحيح والتضعيف وفقاً للمقاييس الشيعية، فقال: «كل ذلك حتى‏ لا يقال بأننا نتجه إلى بعض رواياتهم الشاذة، وأخبارهم الضعيفة التي لا تعبر عن حقيقة المذهب فتأخذ بها».
6 - وفضلاً عن ذلك، فقد اهتم «بالنقل الحرفي في الغالب رعاية للموضوعية وضرورة الدقة في النقل والعزو».
هكذا رسم الباحث منهجه في البحث، وهو إن إلتزم به يكشف عن منهج علمي
________________________________________

[الصفحة - 266]


رصين واتجاه عقلاني في البحث، ولكن هل التزم الباحث القفاري بما رسمه من نهج، وبما تعهد به للقارى‏ء؟
الجواب يتوقف على قراءة فاحصة للكتاب ومتابعة دؤوبة لمفرداته، خاصة وأن الكتاب ضخم تزيد صفحاته على الألف صفحة. وإن يعسر علينا متابعة الكتاب في كل شاردة وواردة في هذه العجالة، فلا يروق لنا أن نترك القارى‏ء في حيرة تجاه بحث واسع كهذا يوحي بالثقة والمصداقية، فلا بد ـ إذاً ـ من أن نحدد بعض المعالم في الطريق عسى أن تسنح الفرصة لمناقشة الكتاب مناقشة واسعة ومتابعة شاملة.
مشروع ملاحظات‏
لا يمكن تسجيل الملاحظات دفعة واحدة في هذه العجالة، ولكن من الممكن أن تشكل هذه الملاحظات مشروعاً للدراسة والنقد، يمكن تطويرها في وقت آخر، المهم أن نحدد الموقف بشكل عام من الكتاب ومنهج الكتاب ومحاكمته وفقاً لما رسمه الباحث من منهج ولغة ومصادر.. فهل نقل الباحث القفاري عن مصادر الشيعة بأمانة؟ وهل التزم في التصحيح والتضعيف مقاييسهم في قبول الرواية أو طرحها؟ وهل كان موضوعياً تجاه موضوع بحثه؟.. جميع هذه الأسئلة ليست مشروعة وحسب، من حيث معرفة الموقف تجاه طائفة من المسلمين يكتب عن مذهبهم واعتقاداتهم باحث يصنّف ـ على أقل التقادير ـ في الاتجاه المضاد، بل من حيث التعرف على مصداقية البحث ومدى التزام الباحث المنهج العلمي المتعارف في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية التي يفترض أنها أبعد ما تكون عن الدوافع المذهبية والأهداف الضيقة.
ويمكن أن نسجل على البحث عدة ملاحظات هي:
أولاً: من حيث المرجعية الفكرية للباحث يبدو تأثره الكبير بالاتجاه السلفي المتعصب، وتأثره ـ على وجه التحديد ـ بابن تيمية وابن حزم وابن خلدون، والألوسي، والجبهان، والخطيب.. وقد انطلق في معالجته موضوع بحثه من عقليةٍ مستغرقة بإشكالات وشبهات هذه النخبة، وقد أورثه هذا التأثر حدة في المزاج إلى درجة أنه يستعير معها الألفاظ الفاحشة نفسها التي ردّدها ابن حزم في كتابه «الفصل» وليس
________________________________________

[الصفحة - 267]


أقلها تعبيره «النوكي». هذا فضلاً عن النفي المطلق ومصادرة الآخر وتسخيف رأيه.
لقد تركت مرجعيته الفكرية المشار إليها بصماتها واضحة في أساليب بحثه فضلاً عن نتائجه، ولا يخفى‏ أن هذه المرجعية تشكل عقبة كأداء في طريق البحث بلحاظ مالها من تاريخ مشحونٍ بالمواجهة وملي‏ء بالاتهامات التي ليس آخرها التكفير.
ثانياً: ويلاحظ على الباحث أنه يتعاطى، مع موضوع بحثه، بأحكام ومواقف مسبقة وبعضها من قبيل المسلمات عنده لا مجال للحوار ـ حتى‏ ـ فيها، ويمكن أن يلاحظ ذلك في معالجته لقضية عبداللَّه بن سبأ، إذ اعتبرها قضية محسومة في الوقت الذي لا تزال فيه دوائر البحث ـ سنياً وشيعياً ـ تبحث عن حقيقة هذه الشخصية ومدى تأثيرها في الأحداث على فرض وجودها. ومن ذلك موقفه من قضية عصمة الأئمة في الوقت الذي لم يرفض فيه ما يعرف بعصمة الصحابة أو عصمة الأمة كما يقال، هذا علاوة على مناقشاته في الإمامة وترديد الموقف السائد في كتابات ابن تيمية وابن حزم على الخصوص.
ثالثاً: وإذا كان للباحث القفاري الحق في أن ينطلق من مرجعية فكرية يؤمن بها ويعتقد بصحتها، فهل من حقه أن يصادر الآخر بكل الوسائل، بما فيها الباطل والسقيم؟ فها هنا تبدو المفارقة، ففي الوقت الذي يقول فيه القفاري إنّه سيلتزم بمعالجة موضوع التشيع بحيدة وموضوعية نجده يفرط هذه المرة بأهم ما التزمه وتعهد به، هاهنا تغيب المصداقية وتختفي وراء عدد من الأفكار التي ساقها وكأنها مسلمات ولم يكن له عليها شاهد، فلم يجرؤ على الاعتراف بفقدان الدليل والحجة فانبرى يحشد الأدوات حَشْداً.
من ذلك اعتماده على الروايات الضعيفة، إن على المستوى الخاص وأعني به الروايات الخاصة التي نقلتها المصادر الشيعية أم على المستوى الآخر، وأعني به الروايات التي نقلتها المصادر السنية.
فهو لغرض الطعن بالتشيع يستند إلى روايات ضعيفة وفقاً لمقاييس الجرح والتعديل السائدة في المدرسة السنية، ومن ذلك روايات شريك بن عبداللَّه وأبي إسحاق السبيعي ومحمد بن كثير وليث بن أبي سليم وسفيان الثوري وعامر بن شراحيل الشعبي‏ (1).
________________________________________
(1)انظر تراجمهم في «ميزان الاعتدال»، ط بيروت، دار المعرفة، ترجمة شريك ج‏2/270. ضعفه يحيى بن سعيد جداً، وكذلك رأي ابن المبارك والجوزجاني وغيرهم. وترجمة الليث بن أبي سليم في ج‏3/420. قال أحمد: مضطرب الحديث وضعفه النسائي ويحيى. وترجمة السبيعي ج‏3/270 كان مخلطاً، ونقل عن جرير أنه ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي اسحاق و.. وقال ابن حجر، في تهذيب التهذيب، قال في ترجمة سفيان الثوري، قال ابن المبارك: حدث سفيان بحديث فجئته، وهو يدلسه، فلما رآني استحيى: وقال نرويه عنك. 4/102، ط1، 1984. دار الفكر ـ بيروت. وترجمة الشعبي، تهذيب، 5/60.

[الصفحة - 268]


كما يبدو ذلك في حشده الروايات التي استدل بها على الطعن بالشخصية الشيعية البارزة هشام بن الحكم وادعى أنها نصوص صحيحة وفقاً لما التزم به من اعتماد الصحيح وفقاً لمقاييس التصحيح عند الشيعة. غير أنه لم يف بما قطعه على نفسه، فهو حشَّد هذه الروايات إيحاءً منه للقارى‏ء بتصحيح علماء الشيعة لها، وهو بالتَّأكيد حامل التضليل لأن في عداد مصادره ومراجعه أهم مرجع في الجرح والتعديل لمؤلفه السيد الخوئي (معجم رجال الحديث) وكان يفترض أنه رجع إليه وقد أحال إليه في عدد من المسائل. وقد أشار السيد الخوئي إلى ضعف هذه الروايات وأنها بين المرسل والضعيف‏ (2).
رابعاً: وانطلاقاً من المرجعية الفكرية المشار إليها في الملاحظة الأولى، يلاحظ على الباحث لجوءه إلى التشهير والاتهام الصريح تأثراً بمنهج ابن تيمية وابن حزم وآخرين، وقد تطول قائمة الاتهام عنده. فيرسل إرسال المسلمات أن علياً عند أكثر الشيعة إله خالق (1/302303 ) وأنَّهم لا يعنون بالقرآن الكريم انتظاراً منهم لمصحف علي الذي غاب بيد القائم (1/258) وأنهم يتسترون على عقائدهم (1/13) ويزيدون في كتبهم (1/225 - 1/289) وأنهم لا يقيمون لأسانيد الروايات وزناً وإنما صنعوا الأسانيد لتوقي نقد أهل السنة (1/385) وأن رجال كتبهم ما بين الكافر أو من أهل النصارى (1/372) إلى غير ذلك من الاتهامات التي لا تقف عند التأثيرات اليهودية أو الفارسية أو اليونانية في الفكر الشيعي، ارتكازاً على شواهد مصطنعة وروايات باطلة من قبيل روايات الشعبي وغيره أو تنظيرات ابن تيمية أو ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد.
ولا أدري لماذا لا يُتَّهم أهل السنة بالتأثيرات اليهودية، وفي صفوفهم عدد غير قليل من أبناء اليهود ومسلمتهم وقد امتلأت مصنفاتهم من رواياتهم من أمثال كعب الأحبار وعبداللَّه بن سلام ووهب بن منبه وتميم الداري، وما هو موقف الباحث القفاري وغيره من باحثي أهل السنة تجاه بعض الالتقاطات والشواهد التي توحي بالتأثيرات اليهودية في مرتكزات أهل السنة، وقد يكون من أقلها وضوحاً ما اشتهر عندهم من منع كتابة سنة النبي(ص) وكرّسه الخلفاء وخاصة الخليفة عمر بن الخطاب، فماذا لو ردّت
________________________________________
(2)الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث، ط3، 1983، بيروت ج‏19، ص 286 - 289.

[الصفحة - 269]


هذه الأفكار إلى التلمود الذي نص على «أن الأمور التي تروى مشافهة ليس لك الحق في إثباتها بالكتابة» (3).
ولا أدري ما هو موقف الباحث القفاري من أسانيد أهل السنة وفيها ما فيها حتى‏ قال أحمد بن حنبل: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي» (4) وقال ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سمّوا لنار رجالكم» (5).
هذا فضلاً عن المؤاخذات التي وردت على ألسنة علماء الجرح والتعديل في أهم كتب الحديث، بما فيها صحيح البخاري وصحيح مسلم من النقل عن الضعاف أو التدليس أو التقطيع..
أما زيادة الشيعة في كتبهم فتلك مهزلة! كيف استساغ الباحث لنفسه نسبتها إلى الشيعة وهم يفحصون في كتب أسلافهم إلى درجة أنهم يصرحون بمل‏ء أفواههم بالنتائج مهما كانت تجاه هذه النسخة أو تلك ومدى اطمئنانهم إليها أولا، ومن ذلك موقفهم من كتاب سليم بن قيس وبعض ما روي في تفسير القمي وكذلك التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، بل كتاب الاختصاص للشيخ المفيد الخ...
ولم يعبث علماء الشيعة بكتبهم كما عبث أعلام أهل السنة في كتبهم ورواياتهم ودونك ما فعله الطبري وابن كثير في تفسيرهما قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} حيث حذفا قول رسول اللَّه(ص): «ووصييّ وخليفتي فيكم» وأبدلاه بقولهما: «وكذا وكذا»، في الوقت الذي أثبت القول كما هو الطبري نفسه في تاريخه. وكذلك ما فعله ابن هشام في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق. ومن ذلك ما حذفه الطبري وقبله ابن هشام في شأن غزوة بدر وجواب الأصحاب، فكتبا «وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللَّه امض لما أمرك اللَّه فنحن معك». فلماذا حذف الطبري وابن هشام ما قاله الخليفة أبو بكر والخليفة عمر؟! والجواب لدى الواقدي والمقريزي لأن كلامهما كان تخذيلاً... وقد يطول بنا المقام ولسنا بصدده‏(6).
أما تركيب الإسناد والتدليس في أسانيد الشيعة فهل بمقدور الباحث القفاري نفيه
________________________________________
(3)د. ظاظا، حسن، الفكر الديني الإسرائيلي، ص 79.
(4)د. أبو شهبة، محمد، الإسرائيليات والموضوعات، ط مكتبة السنة، ص 85.
(5)المرجع نفسه، ص 23.
(6)انظر: العسكري، مرتضى‏، معالم المدرستين، ط4، 1992، طهران، ج‏1رص‏404 و406 وما بعدها.

[الصفحة - 270]


عن أسانيد أهل السنة وقد صنف علماؤهم العشرات من الكتب لتمييز الموضوع والمرسل والمختلق، وهل يكفي للطعن في الأسانيد، أو كتب الحديث، وجود عدد الروايات، من الضعيفة أو وجود عدد من الضعفاء والكذابين، ويكفيني أن أذكر شاهداً واحداً من ابن كثير، في ترجمة ابن أبي الدنيا القرشي المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة والتي تزيد على مئة مصنف ـ على حد تعبير ابن كثير نفسه ـ فقد ذكر ابن كثير «أنه كان صدوقاً لكن ذكر أنه يروي عن رجل يقال له محمد بن إسحاق البلخي وكان كذاباً يصنع للأعلام إسناداً وللكلام إسناداً، ويروي أحاديث منكرة» (7).
خامساً: أما تعهد القفاري بالتزام الأمانة بالنقل الحرفي فقد نقضه ـ للأسف ـ في غير مورد.
ومن تلك الموارد ما ذكره في الطعن على هشام بن الحكم وأنه من غلمان أبي شكر، فقد ذكر عن رواية ضعيفة ومرسلة من رجال الكشي ولم يصرح بضعفها، ثم قال: «وقد أوعز إليه ـ كما في رجال الكشي ـ بلزوم الصمت حين جدّ المهدي العباسي بتتبع الزنادقة. قال هشام: فكففت عن الكلام حتى‏ مات المهدي» (1/206).
وقد أتى الباحث القفاري بهذا المقطع بعد المقطع الأول مباشرة فيرجع الضمير في «فأوعز إليه» إلى أبي شاكر الديصاني، والأمر ليس كذلك فإن الرواية الموجودة في رجال الكشي أنه سكت عن الكلام بأمر من الإمام، كما أن سكوته لا علاقة له بأمر الزنادقة ولم يرد هذا اللفظ في الرواية وإنما كان السبب هو أن ابن «المقعد» أو «ابن المفضل»، على رواية أخرى‏، كتب للمهدي في صنوف الفرق فبدأ المهدي يتبع أصحابها فأمره الإمام أبو الحسن(ع) بالكف عن المناظرات في علم الكلام كي لا يؤخذ وليس في الرواية ما يدل بل ما يشير إلى أنه سكت بأمر من الديصاني، ولكن أمانة الباحث شاءت أن يركب من الرواية الأولى الضعيفة والمرسلة والتي عدَّت هشام من غلمان أبي شاكر الديصاني ومن رواية أخرى‏ لا علاقة لها إطلاقاً (8).
ومن تلك الموارد ما حاوله إثباتاً للسائد عند أهل السنة من رؤية اللَّه تعالى يوم القيامة، وادعى أن ذلك مذهب أهل البيت، فنقل عن كتاب «التوحيد» للصدوق رواية أبي بصير عن الصادق(ع) «قال: قلت: أخبرني عن اللَّه عز وجل هل يراه المؤمنون يوم
________________________________________
(7)ابن كثير، إسماعيل بن عمرو، البداية والنهاية، ط دار المعارف، ج‏11/71.
(8)انظر: رجال الكشي، ط إيران، مشهد، ص 265 و266.

[الصفحة - 271]


القيامة؟ قال نعم». (22/552). وهنا شاءت أمانة الدكتور القفاري أن يتصرف بالرواية فيذكر صدر الرواية بما ينفع به الاستدلال ويجتزى‏ء به، لأن ذيلها يناقض ذلك تماماً حيث يقول الإمام بعد قوله: «نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم: ألست بربكم قالوا: بلى‏، ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟... حتى‏ يقول الإمام(ع): وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى‏ اللَّه عما يصفه المشبهون والملحدون» (9). فأين هذه الرؤية من مدعاه، ولكنه حاول التصرف بها ليسهل عليه الاستدلال.
ومن تلك الموارد ما ادعاه على الشيخ الأميني، صاحب كتاب «الغدير»، حيث زعم أنه ناقض نفسه بنفي تهمة تحريف القرآن عن الشيعة وإثبات التحريف من جهة أخرى‏؛ حيث ادعى القفاري أن الشيخ الأميني ذكر في كتابه الغدير نص الآية المزعومة وهي: «اليوم أكملت لكم دينكم بإمامته فمن لم يأتم به وممن كان من ولدي؟! من صلبه إلى يوم القيامة فأولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إن إبليس أخرج آدم ـ عليه السلام ـ من الجنة مع كونه صفوة اللَّه بالحسد فلا تحسدوا فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم». ثم قال: «وهي واضحة الافتراء في ركاكة ألفاظها ومعناها، ومع ذلك يزعم هذا الرافضي أن رسول اللَّه قال إنها نزلت في علي، وحاول أن يموه ويخدع القراء فنسب هذا الافتراء لمحمد بن جرير الطبري السني، وهو محمد بن جرير الطبري الرافضي إن صحت النسبة إليه.. فالرجل افترى على اللَّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين». (3/994).
ولا أدري كيف استساغ الدكتور نسبة الافتراء إلى الشيخ الأميني وهو يفتري عليه فأية آية مزعومة هذه؟! والنص في كتاب «الغدير» للأميني أن النبي خطب في الناس وقال في ما قال..: «معاشر الناس، هذا أخي ووصيّي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي. وفي روايته: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه والعن من أنكره واغضب على من جحد حقه. اللهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في عليّ {اليوم أكملت لكم دينكم} بإمامته فمن لم يأتم به...».(10) فلم يدع الأميني أنها آية، بل هي في سياق ما نقل من خطبة للنبي(ص) وهو يجمع بين كلام اللَّه وكلام نفسه مفسراً المراد من كلام اللَّه، وأين هذا مما ادعاه الدكتور القفاري.
________________________________________
(9)الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ط مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ص 117.
(10)الأميني، عبد الحسين، الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت، ط5. 1983، ج‏1، ص 214، 215.

[الصفحة - 272]


سادساً: ويلاحظ على الدكتور القفاري تعسفه في استخلاص النتائج أو في تكريس الشبهات ذائعة الصيت، دونما تحكيم لمنطق العقل أو لجوء إلى موازين التعاليم الإسلامية في قول الحق ولو على الخصم وإنصافه ولو كان مخالفاً، وأجدني مضطراً للإشارة إلى بعض الموارد خشية الإطالة، وإلاّ فموارده التعسفية تكاد لا تنتهي ولا يجمعها جامع.
ومن تلك الموارد حرصه على الطعن بالرواة ونسبتهم إلى الكفر والخروج على الدين لغرض الطعن في أسانيد روايات مذهب أهل البيت(ع)، ومن ذلك إصراره على الطعن بقساوة بالغة على جابر الجعفي، وينسب إلى الشيعة توثيقه بسبب انحرافه وتأويلاته الباطنية. وفي ما ينقل عن الشيعة توثيقهم لجابر ينقل تضعيف علماء أهل السنة (1/166) ويحاول أن يبدي تعجبه تجاه توثيق السيد الخوئي في معجمه الرجالي لجابر الجعفي (1/376).
ولا أعرف سرّ تعجب الدكتور القفاري في وقت يوثق فيه بعض علماء أهل السنة (11) جابر الجعفي، وهم من أجلَّة علماء الجرح والتعديل، ومنهم شعبة الذي وصفه بالصدوق ووكيع الذي قال: «ما شككتم في شي‏ء فلا تشكوا أنّ جابراً الجعفي ثقة»، وقال ابن عبد الحكم: «سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة: لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك». ولكن القفاري، وهو ينقل موقف علماء الجرح والتعديل من جابر، اقتصر على ذكره التضعيف من دون أن يذكر التعديل في حقه، وكان ينبغي له ذكره لأنه دليل على أن أمره في الضعيف غير مشهور أو غير متسالم وإنما تشير إفادات التضعيف إلى أنها ناشئة من كونه شيعياً.
وقد بلغ تعسفه مبلغاً لا يرقى‏ إليه تعسف في محاولته اتهام الشيعة بتحريف القرآن والمبالغة في ذلك ومحاولة التعميم والتهويل من جهة أخرى من دون أن يأخذ بلحاظ الاعتبار منشأ القول بالتحريف الذي مال إليه بعض المحدثين، وهو قول يفتقر أحياناً كثيرة إلى الوضوح، وهو ما اعترف به الدكتور القفاري وسجَّله في بحثه، فذكر أن هؤلاء القائلين بالزيادة أو النقصان في القرآن الكريم نراهم يستشهدون من كتاب اللَّه ويفتتحون كل باب من أبواب كتبهم بآيات من القرآن، إلى درجة أن المجلسي الذي نقل
________________________________________
(11)انظر: ترجمة جابر في ميزان الاعتدال، ج‏1/279.

[الصفحة - 273]


هذه الروايات صرح بأنّ الذي بين الدفتين كلام اللَّه تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان. وهذا ما نقله الدكتور القفاري صريحاً واضحاً، واعتبره إشارة على التناقض فلماذا يحاول بعد كل ذلك التهويل من جهة والتعميم من جهة ثانية، ولماذا لم يجد الدكتور لهؤلاء عذراً يلتمسه لهم أو شبهة يرد مجانبتهم الصواب إليها بدلاً من التكفير، خاصة وأن في كتب أهل السنة الصَّحيحة، وليس المعتبرة فحسب، أيضاً، ما يماثل هذه المقالة.
ومن هذه الروايات‏ (12) ما نقله السيوطي في الاتقان عن الليث بن سعد قال: «أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد.. وأن عمر أتى‏ بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده». والرواية صريحة في أن هذه الآية من الآيات التي سقطت من القرآن وليس فيها ما يدل على أنها نسخت تلاوة، لأن سبب الرد ـ كما في الرواية ـ لعدم توفر القرائن التي تؤكد إدعاء عمر. هذا فضلاً عن الركاكة التي رويت بها آية الرجم والتي رويت بـ «أن الشيخ والشخة إذا زنيا فارجموهما البتة» أو «الشيخ والشَّيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة».
ومن ذلك ما روي في الاتقان للسيوطي عن حميدة بنت أبي يوسف قالت: «قرأ على أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة: إن اللَّه وملائكته يُصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً، وعلى الذين يصلون الصفوف الأوَلْ. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف». والرواية صريحة في أن هذه الآية لم تنسخ تلاوة بل وقع إسقاطها بعد نسخ مصحف عثمان.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أنَّها قالت: «كان في ما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، ثم نسخن ب: خمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه(ص) وهن في ما يقرأ من القرآن». والرواية، أيضاً، واضحة في أن الآية سقطت بعد وفاة رسول اللَّه، وهي تدل على التحريف.
ومن ذلك ما رواه الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: قال: «القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف». وهو رقم لا يبلغ ما بأيدينا من القرآن ثلثه، فأين سقط هذا الباقي.
________________________________________
(12)الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، ط3، بيروت، 1974، ص 202 وما بعدها.

[الصفحة - 274]


ومثل ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده من آية الرجم والآية «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» أو «إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم» وما رواه البخاري في صحيحه مثله حيث قال عمر: «فأخشى‏ إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه..».
وغير ذلك من الروايات التي تناقلتها كتب أهل السنة، فلماذا يكفَّر المجلسي وغيره من الشيعة ولا يكفّر البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل؟
وقد اضطره تعسفه إلى اتهام الشيخ المفيد بالقول بتحريف القرآن في محاولة منه لتعميق مقالة التحريف عند الشيعة، ولغرض تأكيد هذه التهمة قطع الدكتور القفاري أوصال عبارة الشيخ المفيد في كتابه: «أوائل المقالات»، ليبدو ميّالاً إلى القول بالتحريف، مع أنه يصرح بنفي التحريف عنده زيادة ونقصاناً. فبعد أن ذكر ما عليه جماعة من الشيعة من أن القرآن كامل لم ينقص منه كلمة أو آية، بل حذف منه ما كان مثبتاً في مصحف علي(ع) من تفسير وتأويل قال: «وعندي إن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان كلمٍ من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل» وكذلك في دعوى طرد الزيادة فبعد أن ناقشها من جهة العقل قال «.. بل أميل إلى عدمه وسلامة القرآن عنه، ومعي بذلك حديث عن الصادق جعفر بن محمد(ع)» (13).
ومن ذلك هجومه غير المسوَّغ على السيد الخوئي الذي نفى‏ التحريف جملة وتفصيلاً وناقش الشبهات المدعاة بما لا مزيد عليه. ولكن الدكتور يحاول أن يقطع أوصال عبارات السيد الخوئي، محاولاً إغراء القارى‏ء وتضليله وإقناعه بتصنيف السيد الخوئي وعدد من أعلام مذهب أهل البيت في من ادعى التحريف.
وقد لخَّص السيد الخوئي رأيه في دعوى التحريف، بعد مناقشتها من جهات عديدة، بقوله: «ومما ذكرناه: قد تبين للقارى‏ء أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلاّ من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه بحب القول به، والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته» (14).
سابعاً: إنّ المنهج الذي اتبعه الدكتور القفاري أدى به، في موارد كثيرة، إلى
________________________________________
(13)المفيد، محمد بن النعمان، أوائل المقالات، دار المفيد، بيروت، ط2، 1993، ص 81 و82.
(14)الخوئي، البيان، ص 259.

[الصفحة - 275]


الوقوع بالتناقض والتهافت، ولا أدري ما إذا كان القفاري يشعر به أم لا، إنما أعرف فقط أن هذا المنهج أسلمه إلى هذه النتيجة غير المرضية علمياً، فضلاً عن الموقف الشرعي منها.
وأجدني حائراً أمام الحشد الكبير من الشواهد على هذا التناقض، فأيها التمس وأيها أذكر وأسجل. ففي صدد حشد الشواهد على مقالة الشيعة بالتحريف يستشهد الدكتور القفاري بمقاطع من كتابات موسى جار اللَّه في كتابه «الوشيعة» تؤكد مبلغ إهمال الشيعة لكتاب اللَّه وعدم عنايتهم به ثم يحاول الدكتور القفاري أن يحشد بعض النصوص بعد تقطيعها أو إنتزاعها عن سياقها الخاص بها (1/258) ولكن الدكتور القفاري سرعان ما يدين نفسه ويقع في تناقض جد واضح، فبعد أن اعتبر أن النُّصوص المدعاة على تحريف القرآن كانت كافية لإبعاد الشيعة عن الاهتمام بالقرآن الكريم، ينوه في هامش الصفحة المشار إليها نفسها إلى النصوص العديدة التي سجلها أعلام الشيعة والتي أكدت وحثت على تعلم القرآن وحفظه والاهتمام به.
والأكثر طرافة، في هذا الصدد، أنه بعد أن ينقل فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ وهي ليست فتوى ـ يسجل فيها ابن تيمية ذكرياته في غزو ساحل الشام وكان يسكنها الروافض ـ على حد تعبيره ـ فيقول: «.. ومع هذا، فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جواباً مبسوطاً في غزوهم.. وذهبنا إلى ناحيتهم، وحضر عندي جماعة منهم، وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها فلما فتح المسلمون بلدهم، وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا». ولا أريد أن أسجل ملاحظاتي على نص ابن تيمية، إنما أود أن أسجل تعليق الدكتور القفاري على هذا النص قائلاً: «وهذه الفتوى من إمام أهل السنة في وقته تبين أن أهل السنة يتَّبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يكفرون كل من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق بخلاف أهل الأهواء الذين يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه» (3/1264).
فها هو ابن تيمية لا يكفّر الرافضة ـ على حد تعبيره ـ كما يؤكده القفاري، ولا نريد أن نناقش في تلك الاستفادة، فهي ـ وإن لم تصح ـ موضع احترام وإكبار، إنما نناقش
________________________________________

[الصفحة - 276]


في جهة أخرى ونتوقف عندها، تلك هي الفتوى الثانية التي ساقها الدكتور القفاري لتكفير الشيعة، وهي نص لعلم من أعلام أهل السنة وهو ابن كثير، ومن جملة ما ذكره ابن كثير: «.. ومن ظن بالصحابة رضوان اللَّه عليهم ذلك ـ يعني مخالفتهم لأوامر رسول اللَّه(ص) ـ فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول(ص) ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام». ثم يعطف الدكتور القفاري على هذا النص بقوله فيقول: «ومن الثابت عن الرافضة ـ كما مر ـ أنها تدعي أن الرسول(ص) نص على علي، وأن الصحابة ردّوا النص، وارتدوا بسبب ذلك، وهذا ما يقوله المعاصرون وأسلافهم من الروافض» (3/1265).
ففي الوقت الذي يسوق فيه نص ابن تيمية لبيان مدى تسامح أهل السنة مع مخالفيهم وعدم تسرعهم في نسبة الكفر إليهم، يسارع هاهنا إلى تأكيد نص ابن كثير في تكفير الشيعة جميعهم وأن إراقة دمائهم أحل من إراقة المدام؟! فأي تناقض أشد من هذا التناقض، وأي تهافت أوضح وأجلى‏ من هذا التهافت؟!
ثامناً: أما الاستلزامات الكيفية فلا تنتهي عند حد في بحث الدكتور القفاري، فشيوع الكذب على الأئمة(ع) يكفي للدكتور القفاري أن يبرر عدم النقل عنهم وعدم الوثوق بما ورد عنهم في كتب الشيعة (1/347). ولا أدري لماذا لم يسوِّغ ذلك للمسلمين جميعاً التخلي عن حديث رسول اللَّه(ص) وقد كثر عليه الكذب، ولماذا لم يستنتج الدكتور القفاري العكس، ليضي‏ء الجانب الأكثر تماسكاً في القضية، إذ أن كثرة الكذب وبقدر ما وضع حواجز عديدة أمام اليقين فإنه من جهة أخرى‏ دفع الباحثين إلى‏ اتخاذ الحذر الشديد تجاه المصادر العلمية وتمحيصها والتدقيق فيها.
ومن الطريف جداً إكتشاف الدكتور القفاري التأثيرات اليهودية في الفكر الشيعي ـ وخاصة في مبحث عصمة الأئمة ـ من الرقم (12) الذي يعتقد به الشيعة في إمامة الاثني عشر، مستشهداً بآراء ابن تيمية الذي ردّ ذلك إلى الفكر التوراتي (2/675) متناسياً أن هذا الرقم نفسه ورد في حديث (الاثني عشر خليفة) الوارد في مصادر السنة نفسها؟!
________________________________________

[الصفحة - 277]


ومن أروع استدلالات الدكتور القفاري على بطلان فكرة الأئمة الاثني عشر قوله: «وكتاب نهج البلاغة الذي هو أصح كتاب عند الشيعة لا ذكر فيه للأئمة الاثني عشر بأسمائهم وأعيانهم، بل جاء فيه ما ينقض مبدأ حصر الأئمة؛ حيث قال صاحب نهج البلاغة: «.. إنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر.. يقاتل به العدو وتأمن السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى‏ يستريح بر، ويستراح من فاجر»، فلم يحدد الأئمة بعدد معين، فأين تذهب الشيعة، وهي تزعم أنها تصدِّق بكل حرف في النهج؟.
وبغض النظر عن صحة المعلومات التي استقاها القفاري تجاه صحة نهج البلاغة وتصديق الشيعة بكل حرف حرفٍ منه، فلا ندري ما هو وجه دلالة ما ورد في النهج من النص المشار إليه على نفي فكرة الأئمة؟!
ومثل ذلك رأيه في نشوء فكرة الإمامة، حيث عزا ذلك إلى هشام بن الحكم وأنها لم تكن معروفة من ذي قبل، والغريب في الأمر أنه اكتشف ذلك من رواية الكشي التي نصت على أن يحيى‏ بن خالد البرمكي قال لهارون الرشيد: «يا أمير المؤمنين، إني قد استنبطت أمر هشام، فإذا هو يزعم أن للَّه في أرضه إماماً غيرك مفروض الطاعة، قال: سبحان اللَّه! قال: نعم، ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج»، فيظهر أن هارون ـ كما يدل عليه هذا النص ـ فوجى‏ء بهذه المقالة مما يدل على جدتها.
ودلالة النص على جدة فكرة الإمامة غاية في الغرابة، فضلاً عن النفي المطلق الذي مارسه الدكتور القفاري تجاه الحقائق. وهو نفسه نقل حديث أم المؤمنين عائشة عن صحيح البخاري، وقد «ذكروا عند عائشة أن علياً ـ رضي اللَّه عنه ـ كان وصيّاً فقالت: متى‏ أوصى‏ إليه..» وبغض النظر عما نسب إلى أم المؤمنين عائشة فإن النص يشي بقدم فكرة الإمامة وتجذرها في الواقع الإسلامي، وعلاوة على ذلك، فما هو رأي القفاري في حقائق التاريخ، وذاك الصراع العنيف بين السلطات المتعاقبة، ورجال البيت الهاشمي، وتزايد المخاوف السلطوية يوماً بعد يوم منهم!
خاتمة
ما ذكرناه هو عبارة عن مشروع ملاحظات، حاولنا ـ قدر الإمكان ـ اختصارها
________________________________________

[الصفحة - 278]


والإشارة إلى أهم ما يمكن أن نسجله منها، وقد أغفلنا ملاحظات أخرى‏ اعتبرناها من تحصيل الحاصل وفقاً للمنهج الذي التزمه الدكتور القفاري، فقد حدد سلفاً الحرب وأعلنها بوضوح، وإعلان الوضوح يسوغ له أن يحشد كل آليات هذه الحرب وكل وسائلها خاصة الإعلامية، وقد برز ذلك جلياً في عدد من الفقرات إلى درجة يبدو معها البحث كأنه أقرب ما يكون إلى لغة الاعلام السياسي السائد اليوم في أجواء الحرب الاعلامية.
وفضلاً عن ذلك، فقد سادت روح عدوانية واضحة تجاه مذهب أهل البيت ابتداء من اللغة الصارمة والفاحشة أحياناً أخرى‏، ومروراً بالتطاول على رموز هذه المدرسة، وهو تطاول لم يقتصر على علماء مدرسة أهل البيت، بل تجاوز إلى الأئمة من أهل البيت(ع)، وهو هنا يستعير لغة ابن حزم وابن تيمية، إلى درجة أنه يعد الإمام الحسن العسكري في الضعفاء تبعاً لابن جوزي الذي عرف بالتخبط العشوائي. ولست الآن في مقام التعليق على هذه المقالة، لأن ذلك يستدعي فتح ملف الجرح والتعديل عن أهل السنة، وهو ملف واسع وفيه ما فيه إلى درجة معها ضُعِّف فيه عدد من أبرز أعلام أهل السنة، ومنهم الإمام الأعظم أبو حنيفة، إمام المذهب الحنفي‏ (15).
أما انتهاء، فكان ذلك بالفصل الذي عقده الدكتور القفاري تحت عنوان «الحكم عليهم»، والذي حشد فيه أقوال الفقهاء وأعلام أهل السنة للقول بتكفير أتباع مذهب أهل البيت وآثار ذلك على المستويين: الاجتماعي والديني.
________________________________________
(15)الذهبي، ميزان الاعتدال، ج‏4، ص 265، قال في ترجمة أبي حنيفة: ضعفه النسائي من جهة حفظه وابن عدي وآخرون. وترجم له الخطيب في فصلين من تاريخه، واستوفى‏ كلام الفريقين معدليه ومضعفيه. وانظر ترجمته في ج‏10ر ص 403 من تهذيب التهذيب لابن حجر.

[الصفحة - 279]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف