البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ضروريّات الدين والمذهب

الباحث :  الشيخ محمّـد هادي آل راضي
اسم المجلة :  تراثنا
العدد :  83
السنة :  السنة الحادية و العشرون رجب - ذوالحجة 1426 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 16 / 2016
عدد زيارات البحث :  11124
ضروريّات الدين والمذهب
الشيخ محمّـد هادي آل راضي
بسـم الله الرحمن الرحيـم
مقدّمة :
لا إشكال عند جميع المسلمين في أنَّ من أنكر أصلاً من أصول الدين التي بها قوام الإسلام كالإلوهية والتوحيد والرسالة يعدُّ كافراً وذلك لأنّ الإسلام عبارة عن الإقرار بهذه الأصول فإذا أنكرها ـ أو بعضها ـ خرج بذلك عن الإسلام وكان كافراً ، وإنّما الإشكال والخلاف في غير ذلك من المسائل الاعتقادية وغيرها والتي تسمّى بالضروريّات .
وحاصل الخلاف :
إنّ إنكار هذه المسائل هل يوجب الكفر مطلقاً أو إنّه لا يوجب الكفر إلاّ مع العلم والالتفات إلى ثبوت ذلك الشيء في الدين المستلزم لتكذيب الرسالة .وأمّا مع الجهل بثبوت ما أنكره في الدين ـ سواء كان جهلاً مركّباً أم بسيطاً ـ فلا يوجب الكفر .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(94)
ومنه يتضح :
إنّ محلّ الخلاف والنزاع هو منكر الضروري مع عدم التفاته إلى كون إنكاره مستلزماً لإنكار الرسالة ونحوها من أصول الدين ، وأمّا مع الالتفات والعلم فلا خلاف في كونه كافراً .
ويكتسب هذا البحث أهمّيةً خاصةً لعدّة أمور :
أوّلاً : إنّ إنكار هذه الضروريّات وقع موضوعاً لعدد غير قليل من الأحكام الشرعية المهمّة في كلمات الفقهاء والتي ترتبط بالدماء والأعراض والأموال مثل الحكم بالكفر والارتداد وما يترتّب على ذلك من آثار تظهر في باب النكاح والميراث وغيرها ، هذا في إنكار ضروريّات الدين وأمّا إنكار ضروريّات المذهب فهو أيضا مما تترتّب عليه الخروج عن المذهب وما يستلزمه ذلك من أحكام شرعية مثل عدم جواز النيابة في العبادات وعدم صحّة صرف الزكاة ونحو ذلك .
ومن الواضح أنّ هذا البحث يتكفّل تحديد وتنقيح موضوع هذه الأحكام على ضوء أدلّتها .
ثانياً : إنّ هذا البحث لم يذكر في كلمات الفقهاء إلا بشكل متفرّق ومتناثر في أبواب مختلفة فقد تعرّض له الفقهاء في كتاب الطهارة بحث النجاسات وكتاب الحدود بحث ما يتحقّق به الارتداد وهكذا ، بل أهمل كثير من الفقهاء هذا البحث حتّى في تلك الموارد فلم يتعرّضوا له أصلاً كما هو الملاحظ في معظم كتب المتقدّمين من فقهائنا ( قدس ) ، نعم بعضهم ذكر الكافر في مقام تعداد النجاسات إلا أنّه لم يتعرّض إلى تحديد المراد به ، وهل يشمل منكر الضروريّات . وهكذا في كتاب الحدود فقد أهملوا البحث في أنّ إنكار الضروري هل يتحقّق به الارتداد أو لا ؟
ويمكن توجيه عدم تعرّضهم لهذا البحث باكتفائهم بذكر الكفر في هذه الموارد لوضوح دخول إنكار الضروري فيه ولو في الجملة ، إلا أنّه بالرغم من ذلك تبقى بعض الثغرات التي لا تتضح بمجرّد ذلك مثل أنّ إنكار الضروري هل هو سبب مستقلّ للكفر أو باعتبار استلزامه لإنكار الرسالة أو تكذيب القرآن ونحو ذلك وتترتّب على ذلك ثمرات مهمّة ـ كما سيأتي ـ .
ثالثاً : شيوع ظاهرة إنكار بعض الأمور التي قد تعتبر من ضروريّات الدين أو المذهب ممّا يستلزم استئناف هذا البحث وخصوصاً الجانب التطبيقي منه لغرض التمييز بين ما يعتبر من الضروريّات وما لا يعتبر بل التمييز بين ضروريّات الدين وضروريّات المذهب فكثيراً ما يقع الخلط والاشتباه بين هذه الأمور ، فلا بدّ من وضع ضوابط معيّنة مستفادة من الأدلّة لعدِّ الشيء من الضروريّات في الدين أو المذهب مع بيان الفرق بينه وبين عناوين أخرى قد تتداخل معه مثل المجمع عليه والمعلوم ثبوته في الشريعة وغير ذلك .
رابعاً : حالة عدم الوضوح والاشتباه في هذه المسألة فهناك إفراط من جانب حيث عدّت بعض الأمور المعلومة ـ أو المجمع عليها ـ من ضروريّات الدين أو المذهب وكأنّه يكفي في كون الشيء ضروريّاً ثبوته بالأدلّة أو الاتفاق عليه مع أنّ الميزان في كون الشيء ضروريّاً لا ينطبق على ذلك ـ كما سيأتي ـ وفي المقابل يوجد تفريط في جانب آخر من جهة إنكار ضرورة بعض الأمور التي لا ينبغي الشكّ في كونها كذلك .
الإسلام والإيمان في النصوص الشرعية
هنـاك عنوانيـن متداوليـن في النصوص الشرعيـة وفي كلمات الفقهاء لا بدّ من توضيحهما وبيان الفرق بينهما حتّى لا تختلط الأمور في هذا البحث وهما الإسلام والإيمان .
أمّا الإسلام فهو يطلق ويراد به أحد معنيين :
المعنى الأوّل :
الإقرار الظاهري بالشهادتين فقط وإن لم يقترن بالتصديق والإذعان القلبي ، وهو المراد ظاهراً بقوله تعالى : ( قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا )(1) وهو المعبّر عنه في بعض الكلمات بالإسلام الظاهري ، وتترتّب عليه جملة من الآثار الدنيوية مثل حقن الدم والمال وجواز النكاح واستحقاق الميراث وغيرها من الأحكام المترتّبة في أدلّتها على مجرّد النطق بالشهادتين من دون لزوم التفتيش عن الباطن وأنّه هل يعتقد ويؤمن واقعاً بما قاله وأقرَّ به أو لا ، بل تترتّب هذه الآثار حتّى مع فرض عدم الاعتقاد كما إذا علمنا أنّه اقرَّ بالشهادتين خوفاً من القتل .
نعم يعتبر في الإسلام بهذا المعنى في مرحلة البقاء أن لا يصدر منه ما ينافي الإقرار بالشهادتين وما يعدُّ بمثابة الإنكار لهما وإلاّ كان خارجاً عن الإسلام .
وما يوجب الخروج عن الإسلام بعد الإقرار به أمور منها :
الإنكار الصريح لأحد الأصلين ( التوحيد ، النبوّة ) أو لكليهما .
الإنكار الثابت بالملازمة لذلك كما إذا أنكر ما يعلم أنّه من الدين وأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء به .
الإنكار الفعلي كسبِّ الله سبحانه أو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا إلقاء المصحف في القاذورات ونحو ذلك مما يعدُّ استخفافاً واستهانةً بالأصلين .
وهل يعدُّ منها إنكار ضروري من ضروريات الدين وإن لم يكن عالماً بأنّه من الدين كما إذا كان جاهلاً أو صاحب شبهة ؟ وهذا هو موضوع هذا البحث .
ومنه يتّضح :
إنّ ما يضادّ الإسلام بهذا المعنى هو الكفر بالمعنى المعروف له أي عدم الإسلام الثابت للمشركين ولأصحاب الديانات الأخرى وللمرتدّ من المسلمين .
وهذا المعنى هو المراد غالباً من الإسلام في الروايات مثل صحيحة فضيل بن يسار عن أبي عبـد الله(عليه السلام) : « الإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء »(2) .
ومثل صحيحة حمران عن أبي جعفر(عليه السلام) حيث ورد فيها : « والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح . . . »(3) وغير ذلك من الروايات .
ومنه يظهر أنّ الإسلام بهذا المعنى يدخل فيه كلّ الفرق الإسلامية ممّن يُظهِر الشهادتين إذا لم يصدر منه ما ينافي الإقرار بهما ، وكذا يدخل فيه المنافقون وهم الذين يظهرون الإقرار بالشهادتين ويخفون الكفر .
المعنى الثاني :
الإسلام الواقعي وهو التصديق والإيمان القلبي بالأصول الأساسية للإسلام بما فيها الإمامة والولاية مع إظهار ذلك ، ولعلّه المراد بقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ )(4) ، ويترتّب على ذلك جميع الآثار الدنيوية للإسلام بالمعنى الأوّل مضافاً إلى آثار أُخرويَة مثل صحّة الأعمال واستحقاق الثواب عليها وعدم الخلود في النار ونحو ذلك .
فالمعتبر في الإسلام الواقعي ـ مضافاً إلى الإقرار بالشهادتين ـ أمران :
1 ـ التصديق والإذعان القلبي فلا يكفي مجرّد الإقرار باللسان .
2 ـ الاعتقاد بالأصول الأساسية للإسلام كالإمامة والعدل فلا يكفي الاعتقاد بالتوحيد والنبوّة فقط .
ومنه يظهر :
إنّ الأصول الخمسة المعروفة كلّها أصول دين وأصول للإسلام الواقعي ويطلب من كلّ مكلّف الاعتقاد بها جميعاً وأنّ الاعتقاد ببعضها فقط لا يصيّر المكلّف مسلماً واقعياً .
نعم يجري على الألسنة التفريق بين الأصول الخمسة بجعل بعضها أصول دين كالتوحيد والنبوّة وبعضها أصول مذهب كالإمامة والعدل إلاّ أنّ هذا ناظر إلى الإسلام بالمعنى الأوّل حيث لا يعتبر فيه أزيد من الإقرار بالتوحيد والنبوّة ـ كما تقدّم ـ فيصحّ أن يقال إنّ أصول الإسلام الظاهري ـ الذي تترتّب عليه الآثار الدنيوية السابقة ـ هي عبارة عن التوحيد والنبوة دون الإمامة والعدل .
إلاّ أنّ هذا بلحاظ مرحلة الظاهر وكيفية التعامل الدنيوي مع الآخرين ; وأمّا الإسلام الواقعي ، الإسلام الذي يريد الله سبحانه وتعالى من عباده التديّن به ، الإسلام الذي بشَّر به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وبلّغه إلى الناس ـ فهو شيء آخر وليست أصوله وركائزه التوحيد والنبوّة فقط بل الإمامة والعدل وسائر ما يطلب منّا الإيمان والاعتقاد به فهي كلّها أصول لهذا الدين .
وقد عرفت سابقاً أن الإسلام الظاهري لا يعتبر فيه الإذعان والتصديق القلبي بل يكفي فيه مجرّد الإقرار بالشهادتين لساناً ، ومن الواضح أنّ هذا لا يمكن أن يكون هو الدين الذي جاء به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من عند الله سبحانه وتعالى وليس هو الإسلام في قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ )(5) .
وأمّا الإيمان فهو يطلق على معان عديدة مذكورة في الكتب ذات الاختصاص إلاّ أنّ المهمّ منها معنيان :
الأوّل :
التصديق والإذعان القلبي الجوانحي في قبال التصديق الظاهري والإقرار اللساني ، ولعلّه المراد بقوله تعالى : ( وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )(6) وقد عرفت أنّ الإيمان بهذا المعنى ليس شرطاً في الإسلام الظاهري نعم هو شرط في الإسلام الواقعي .
الثاني :
التصديق القلبي بالأصول الأساسية مع الإقرار اللساني ، وهو بهذا المعنى يرادف الإسلام الواقعي .
وقد أطلق الإيمان وأريد به هذا المعنى في كثير من الروايات مثل ما دلّ على أنّ الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان كموثّقة سماعة قال : « قلت لأبي عبـد الله(عليه السلام) : أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان ؟
فقال : إنّ الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان .
فقلت : فصفهما لي .
فقال : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس .
والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام وما ظهر من العمل به .
والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ، إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصـفة »(7) .
وعن فضيل بن يسار ، عن أبي عبـد الله(عليه السلام) ، قال : « الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان »(8) .
وعن حمران بن أعين ، عن أبي جعفر(عليه السلام) ، قال : « سمعته يقول : الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطاعة لله ، والتسليم لأمره .
والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فخرجوا بذلك من الكفر وأُضيفوا إلى الإيمان .
والإسلام لا يشرك الإيمان والإيمان يشرك الإسلام وهما في القول والفعل يجتمعان ، كما صارت الكعبة في المسجد والمسجد ليس في الكعبة وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان .
وقد قال الله عزّ وجلّ : ( قَالَتِ الاَْعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ) ; فقول الله عزّ وجلّ أصـدق القول .
قلت : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك ؟
فقال : لا ، هما يجريان في ذلك مجرى واحد ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزّ وجلّ .
قلت : أليس الله عزّ وجلّ يقول : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )(9) وزعمت أنّهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ مع المؤمن ؟ !
قال : أليس قد قال الله عزّ وجلّ : ( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً )(10) ؟ ! فالمؤمنون هم الّذين يضاعف الله عزّ وجلّ لهم حسناتهم لكلّ حسنة سبعون ضعفاً ; فهذا فضل المؤمن ، ويزيده الله في حسناته على قدر صحّة إيمانه أضعافاً كثيرةً ، ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير .
قلت : أرأيت من دخل في الإسلام أليس هو داخلاً في الإيمان ؟ !
فقال : لا ، ولكنّه قد أُضيف إلى الإيمان وخرج من الكفر وسأضرب لك مثلاً تعقل به فضل الإيمان على الإسلام : أرأيت لو بصرت رجلاً في المسجـد أكنت تشهد أنّك رأيته في الكعبة ؟
قلت : لا يجوز لي ذلك .
قال : فلو بصرت رجلاً في الكعبة أكنت شاهداً أنّه قد دخل المسجد الحرام ؟
قلت : نعم .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : إنّه لا يصل إلى دخول الكعبة حتّى يدخل المسجد .
فقال : قد أصـبت وأحسـنت .
ثمّ قال : كذلك الإيمان والإسلام »(11) .
وعن فضيل بن يسار ، قال : « سمعت أبا عبـد الله(عليه السلام) يقول : إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام ، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء والإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان »(12) .
وعن أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفر(عليه السلام) ، قال : « قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام) : من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّـداً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤمناً ؟ قال : فأين فرائض الله ؟
قال : وسمعته يقول : كان علي(عليه السلام) يقول : لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام .
قال : وقلت لأبي جعفر(عليه السلام) : إنّ عندنا قوماً يقولون : إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّـداً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مؤمن .
قال : فلمَ يضربون الحدود ، ولمَ تقطع أيديهم ؟ ! وما خلق الله عزّ وجلّ خلقا أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وأنّ جوار الله للمؤمنين وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين . ثمّ قال : فمابال من جحد الفرائض كان كافراً ؟ »(13) .
وغيرها مما ظاهره أن النسبة هي العموم المطلق وأنَّ الإيمان هو الإسلام مع زيادة الاعتقاد والتصديق القلبي .
ومثل ما دلَّ على أنّ الثواب على الإيمان لا على الإسلام كمعتبرة القاسم الصيرفي قال : « سمعت أبا عبـد الله(عليه السلام) يقول : الاسلام يحقن به الدم ، وتؤدّى به الأمانة ، وتستحلّ به الفروج ، والثواب على الايمان »(14)لوضوح أنَّ الثواب لا يترتّب على مجرّد التصديق الباطني من دون الإقرار الظاهري ولعلّ قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(15) إشارة إلى ذلك .
ثمّ إنّه يظهر من جميع ما تقدّم أنّ الكفر في النصوص قد يطلق ويراد به عدم الإسلام بالمعنى الأوّل فيشمل أصحاب الديانات الأخرى والمشركين والمرتدّين عن الإسلام .
وقد يطلق ويراد به عدم الإسلام بالمعنى الثاني فيشمل كلّ من لم يعتقد بالعقائد الحقّة والأصول الخمسة وإن كان معدوداً من الفرق الإسلامية ، وقد استعمل في كلا المعنيين في النصوص الشرعية كثيراً .
والمعنى الأول للكفر هو المراد في هذا البحث فيقع الكلام في أنّ منكر ضروري الدين هل يحكم بكفره وخروجه عن الإسلام أو لا ؟
ثم إنّ هذا البحث يقع في فصول :
الفصل الأوّل
معنى الضروري في كلمات فقهائنا
لا يخفى أنّ هذا العنوان لم يرد في شيء من الأدلّة ـ كما سيظهر من خلال البحث ـ ، كما أنّه لم يرد في كلمات المتقدّمين من الفقهاء .
نعم ورد في كلمات المتأخّرين منهم كالمحقّق والعلاّمة(16)والشهيدين(17) ومن تأخّر عنهم(18) .
قال المحقّق العاملي في مفتاح الكرامة : « ويدخل في الكافر كلّ من أنكر ضروريّاً من ضروريّات الدين قال في التحرير : الكافر كلّ من جحد ما يعلم من الدين ضرورة سواء كانوا حربيّين أو أهل كتاب أو مرتدّين وكذا النواصب والغلاة والخوارج ومثله في الشرايع ونهاية الأحكام والإرشاد والذكرى والتذكرة والروض والروضة والحاشية الميسية وغيرها »(19) . ومنه يظهر صحة ما تقدّم من عدم ذكر هذه المسألة في كلمات الفقهاء المتقدّمين وإلاّ لتعرّض لذلك في مفتاح الكرامة كما جرت عادته في كتابه من استقصاء كلمات وآراء جميع الفقهاء الذين يمكن معرفة آرائهم . مضافاً إلى أنّنا راجعنا ما أمكن مراجعته من كتب فقهائنا القدماء فلم نجد لهذه المسألة ذكراً فيها .
وقال المحقّق في الشرايع : « الكافر وضابطه من خرج عن الإسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوراج والغلاة »(20) .
والكلام يقع تارةً في تحديد معنى الضروري بلحاظ كلمات الفقهاء المتعرّضين لذلك وأخرى بلحاظ الروايات الواردة في المقام .
أمّا كلمات الفقهاء فالذي يظهر من مجموعها أمور :
الأمر الأوّل :
إنّ المراد بالضروري ما يكون ثبوته ضروريّاً بحيث لا يحتاج إلى إقامة دليل وبرهان عليه ، فالشيء إنّما يكون ضروريّاً إذا كان ثبوته في الدين واضحاً وبيّناً على نحو لا يشعر الإنسان أنّه بحاجة إلى إقامة دليل لإثباته مثل أصل وجوب الصلاة والصيام .
الأمر الثاني :
أنّ وصول الشيء إلى حدّ الضرورة بهذا المعنى لا يكون دفعة واحدة فإنّ كل ما ينسب إلى الدين لا بدّ في البداية أن يدلَّ دليل على ثبوته ، ولولا ذلك الدليل لما امكننا معرفة ثبوت ذلك بشيء في الدين ، وفي هذه المرحلة ( مرحلة أصل الثبوت ) لا يتميّز الضروري عن غيره بمعنى أنّ الجميع يحتاج ثبوته في الدين إلى دليل وبرهان ، وإنّما يفترق الضروري عن غيره في المراحل اللاحقة فتكتسب بعض الأمور الدينية صفة الضرورة لأسباب عديدة منها :
اهتمام الشارع به اهتماماً كبيراً يظهر من خلال التأكيد عليه .
قيام الأدلّة الواضحة عليه ( القرآن ، السنّة ) من جهة السند والدلالة .
دلالة الأدلّة على كون الشيء من ركائز الدين وشعائره وأنّ المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا اعترف به وأقرَّ به .
اتفاق الأدلّة وعدم وجود المعارض .
اتفاق آراء العلماء وعدم وجود مخالف .
اتساع دائرة نشر المعارف الدينية والترويج لها بمختلف الوسائل وشيوعها بين المسلمين . . . . الخ .
وهذه الأمور كلاًّ أو بعضاً توجب ارتكاز الثبوت في أذهان المسلمين بحيث يصير الشيء ضروري الثبوت عندهم ولا يحتاج إثبات كونه من الدين إلى أي برهان ودليل وإن لم يكن كذلك سابقاً .
وهذا ما يفسّر لنا ظاهرة أنّ بعض الأمور الضرورية في زمان الأئمة(عليهم السلام)لم تكن كذلك في زمان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ زمانه زمان بيان هذه المعارف وتعليمها للمسلمين ومن هذه المرحلة لا تصل هذه المعارف غالباً إلى حدّ الضرورة .
نعم بمرور الزمان وتقادم العهد تترسّخ بعض هذه المعارف في أذهان المتشرّعة لأسباب عديدة حتى تصل إلى ذلك الحدّ ، وهذا يكون عادة في زمان الأئمة(عليهم السلام) ، بل يمكن فرض أنّ بعض الضروريّات في هذا الزمان قد لا تكون كذلك في زمان الأئمة(عليهم السلام) ، فضلاً عن زمان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك إذا لاحظنا أمرين :
1 ـ كون بيان الأحكام تدريجيّاً .
2 ـ التقيّة والخوف من بيان بعض المعارف ونشرها .
ثمّ إنّه يظهر مما تقدّم أنّ عكس الأسباب السابقة يمكن أن يكون مؤشّراً على عدم الضرورة فإجمال الأدلّة وإبهامها وتضارب النصوص والأقوال قد تكون علامة على عدم كون الشيء ضروريّاً ومن هذا القبيل مسألة الجبر ومسألة التجسيم وغيرها .
ويتضّح ممّا تقدم :
إنّه يمكن فرض التأثير معكوساً بمعنى أنّ مضىّ الزمان وتقادم الوقت كما يمكن أن يؤثّر في بعض الأمور الدينيّة ويجعلها من الضروريّات فيما إذا اقترن ببعض العوامل السابقة كذلك يمكن فرض أنّ مضيّ الزمان قد يؤثّر في سلب صفة الضرورة عن بعض الأمور الدينية التي عدّت من الضروريّات وهذا يتّبع الظروف السياسية والاجتماعية وغيرها التي تحدث في ذلك الزمان ممّا يؤثّر في انحسار الترويج والتبليغ لتلك المعارف الدينية بل قد يوجب الظرف الخاصّ إنكار بعض المعارف أو إهمالها وعدم ذكرها في الكتب والمحافل وهذا يؤثّر بطبيعة الحال في أصل ضرورة الشيء وبداهته فيصبح الأمر الضروري محتاجاً إلى إثبات وبرهان بل قد يؤدّي في بعض الأحيان إلى التشكيك في أصل ثبوته وإنكاره ، وهذا الأمر طبيعي جدّاً فإنّه في ظلّ تلك الظروف التي يمنع فيها من نشر المعارف الإسلامية إلاّ بالمقدار الذي تسمح به السلطة الحاكمة ـ وهي لا تسمح عادة إلا بما ينسجم مع أفكارها وعقائدها ويصبّ في تحقيق أغراضها الخاصّة ـ في ظلّ ذلك ينشأ جيل من المسلمين يتلقّى معلوماته الدينية من السلطة ولا يتحرّك إلاّ في دائرة المسموح به من قبلها ممّا يلقي ظلالاً من الغموض وعدم الوضوح بالنسبة إلى كثير من الأمور الدينية ويحقّق بالتالي جميع أو بعض ما قلناه .
ولذا ذكر الشيخ الأنصاري(قدس سره) : « إمكان منع أنّ الولاية من ضروريّات الدين مطلقاً إذ لا يستفاد ذلك من تلك الأخبار الدالّة على أنّه بني الإسلام على خمس(21) ولا يلزم من أهمّيتها في نظر الشارع صيرورتها ضرورية فربّما يتحقّق في الأهمّ من دواعي الاستتار وموانع الانتشار ما لا يتحقّق في غيره »(22) فوصول الشيء إلى حدّ الضرورة لا يرتبط بأهمّيته عند الشارع ولا بقيام الدليل عليه بل بوصوله إلى درجة من وضوح ثبوته في الشريعة بنظر عامّة المسلمين بحيث يشعرون أنّهم ليسوا بحاجة إلى الاستدلال على إثباته وكونه من الدين .
الأمر الثالث :
إنّ ضروريّات الدين أو المذهب ليست على مستوى واحد من البداهة والوضوح وضرورة الثبوت بل هي تختلف في ذلك فإنّ بعض المصاديق قد يكون على درجة عالية من البداهة والضرورة مثل أصل وجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر في حين أنّ بعضاً آخر منها لا يكون كذلك وإن كان ضروريّاً مثل المعراج ونفي الحيّز والحدّ عنه سبحانه وتعالى ونحو ذلك ، وهذا الأمر ممّا ينبغي الالتفات إليه عندما يراد إثبات صفة الضرورة لشيء أو سلبها عنه فلا ينبغي المسارعة إلى إنكار ضرورة شيء لمجرّد مقايسته إلى بعض الضروريّات الواضحة ورؤية عدم كونه في نفس المستوى من البداهة .
الأمر الرابع :
إنّ مفهوم ( الضروري ) لا يساوق مفهوم ( المعلوم ) ولا ( المجمع عليه ) فإنّ المعلوم والمجمع عليه قد لا يكون ضروريّاً مثلاً حرمة الغيبة وحرمة الزواج بالمرأة في العدة ووجوب الوفاء بالشرط في العقود ـ ونحو ذلك ـ قد تكون معلومة بل مورد اتفاق العلماء إلاّ أنّها لا تكون ضروريةً بمجرّد ذلك بل تبقى بحاجة إلى إثبات واستدلال .
إلاّ أنّ الكلام يقع في أنّ النسبة بينهما هل هي العموم المطلق أم من وجه ؟ وبعبارة أخرى هل يمكن افتراض الضروري غير معلوم ولو عند البعض ولا مجمعاً عليه ؟ فإن أمكن ذلك كانت النسبة عموماً من وجه وإلاّ كانت عموماً مطلقاً .
والصحيح :
إنّه لابدّ من تحديد معنى الضروري حتى يمكن الجواب عن السؤال . وفي المقام احتمالات :
1 ـ إنّ المراد به : ضروري الثبوت عند الجميع .
2 ـ إنّ المراد به : ضروري الثبوت عند المعظم وعامّة المسلمين .
3 ـ إنّ المراد به : ضروري الثبوت عند طائفة خاصّة من المسلمين .
ومن الواضح أنّ الضروري على الاحتمال الأوّل يلازم المعلوم والمجمع عليه إذ لا يمكن اِفتراض أن يكون الشيء ضروريّاً بهذا المعنى ولا يكون معلوماً أو متّفقاً عليه ، بخلافه على الاحتمالين الآخرين حيث يمكن فرض الانفكاك فإنّ كونه ضروري الثبوت عند المعظم أو عند طائفة خاصّة لا ينافي عدم كونه معلوماً عند بعض الناس لشبهة أو نحوها .
والظاهر :
إنّ أصحّ الاحتمالات هو الثاني وذلك لأنَّ العلماء اتفقوا على إمكان إنكار الضروري لعدم العلم به بل لاعتقاد عدم الثبوت لشبهة ونحوها مع بقائه على صفة الضرورة ، واختلفوا في أنّ هذا الإنكار مع عدم العلم هل يوجب الكفر أم لا ، بل ستعرف أنّ هذا هو عمدة البحث في المقام .
وكذا افترضوا الجهل به نتيجة البعد عن مراكز المعرفة والعلم أو لكونه حديث العهد بالإسلام بل يمكن فرض ذلك في بعض المكلّفين أوائل بلوغهم وهكذا وكلّ ذلك يدلّ بوضوح أنّ الضروري عند العلماء لا يساوق المعلوم عند الجميع وأنّه قد لا يكون معلوماً لدى بعض الناس من دون أن يؤثّر ذلك في ضروريّته .
وهذا وإن كان لا يثبت إلا عدم إرادة الاحتمال الأوّل ويبقى الأمر مردّداً بين الاحتمالين الثاني والثالث إلا أنّ الاتفاق على عدم كفر منكر الضروري بالمعنى الثالث يوجب بطلان هذا الاحتمال ولذا لا يحكم بكفر منكر ضروريّات المذهب مع أنّها واصلة إلى حدّ الضرورة في ذلك المذهب .
وبعبارة أخرى :
إنَّ كون الشيء ضروريّاً ليس من الصفات الواقعية الثابتة للشيء في حدّ نفسه وبقطع النظر عن أي شيء آخر وإنّما هي صفة تنشأ من وضوح ثبوت ذلك الشيء في الشريعة وعدم شعور الإنسان بالحاجة إلى الاستدلال على ثبوته بأدّلة ، ومن الواضح أنّ هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرة الناس إلى ذلك الشيء ووضوحه وشيوع ثبوته شرعاً عندهم فكلّ ما يكون كذلك يكون ضروريّاً واقعاً وإن كان المنكر لا يراه ضروريّاً بل قد ينكر أصل ثبوته في الشريعة ; إذاً لا معنى لتوصيف حكم من الأحكام بأنّه ضروري إلا إذا فرض كونه بنظر الناس واصلاً إلى حدّ من الوضوح والشيوع بحيث لا يحتاج إلى إقامة أدلّة على ثبوته ولذا لا معنى لتقسيم الأحكام ـ بقطع النظر عن وضوح الحكم عند الناس وعدم الاحتياج لإثباته إلى الاستدلال ـ إلى أحكام ضرورية وغير ضرورية وإنّما يصحّ هذا التقسيم بلحاظ ما ذكرناه من كيفيّة ثبوتها عندهم فبعض الأحكام تصل إلى حدّ الضرورة حسب نظر الناس وبعضها لا يصل إلى هذا الحدّ .
وبناءً على هذا نطرح هذا السؤال : هل يكفي في كون الشيء ضروريّاً كونه كذلك بنظر طائفة خاصّة من المسلمين أو لابدّ أن يكون كذلك بنظر عامّة المسلمين ؟
ويكتسب هذا الأمر أهميّةً إذا لاحظنا الواقع الخارجي لطوائف المسلمين حيث ترى بعض الطوائف ثبوت أمور معيّنة ووصولها إلى حدّ الضرورة في حين أنّ باقي الطوائف تخالفها في أصل ثبوت تلك الأمور أو في ضرورتها ، وحينئذ إذا أنكر الإنسان ذلك الأمر مع علمه بكونه ضروريّاً عند تلك الطائفة فهل يحكم عليه بالكفر ؟
من الواضح أنّه بناءً على الأوّل ـ أي أنّ كون الشيء ضروريّاً يكفي فيه أن يكون كذلك بنظر طائفة خاصّة وإن لم يكن كذلك بنظر ـ عامّة المسلمين ـ يتعيّن الحكم بكفر هذا المنكر وخروجه عن الإسلام لأنّه أنكر أمراً ضروريّاً مع علمه بذلك بخلافه على الثاني .
ولا يخفى عدم إمكان الالتزام بالأول لوضوح بطلان لازمه وهو تكفير سائر طوائف المسلمين الّذين ينكرون بعض ما هو ضروري الثبوت عند طائفة خاصة ، ولذا اتفقت كلمات علمائنا(رضي الله عنه)(23) على أنّ إنكار بعض ضروريّات المذهب لا يوجب الخروج عن الإسلام مع أنّه بناءً على الأوّل ينبغي الحكم بكفر المنكر لذلك .
وهذا دليل واضح على صحّة الفرض الثاني وأنّ الضروري الذي يكون إنكاره موجباً للكفر هو ما يكون كذلك عند عامّة المسلمين لا عند طائفة منهم .
وعليه فالظاهر من كلمات الفقهاء أنّ النسبة بينهما عموم من وجه .
ومنه يظهرُ :
إنّه لا بدّ من إضافة قيد إلى التعريف السابق للضروري فيقال هو : ( ما يكون ضروري الثبوت عند عامّة الناس ) بحيث يعرف ذلك ـ في الظروف الاعتيادية ـ كلّ من عايش الدين وتلبّس به وإن لم يكن من أهل الاختصاص في علوم الشريعة . وأمّا إذا كان ضروري الثبوت عند طائفة خاصّة فلا يعدُّ من ضروريّات الدين بل من ضروريّات المذهب إذا كان ضروريّاً عند عامّة أهل ذلك المذهب. ولعلَّ منه وجوب الخمس في فاضل المؤنة وإباحة الزواج المنقطع ونحو ذلك فإنّها وإنْ كانت ضرورية الثبوت بمعنى عدم الحاجة إلى إقامة دليل عليها إلاّ أنّها ليست من ضروريّات الدين التي تترتّب عليها الأحكام الآتية .
والحاصل :
إنّ الضروريّات هي الأمور الواضحة الثبوت في الدين أو المذهب عند عامّة أهل ذلك الدين أو المذهب بحيث يعرف ذلك الإنسان العادي المنتمي إلى ذلك الدين أو المذهب فضلاً عن المتخصّص في علوم الشريعة فالضروريّات متقوّمة بأمرين :
1 ـ أن تكون ضرورية الثبوت بالمعنى المتقدّم .
2 ـ أن تكون كذلك عند عامّة الناس لا عند طبقة خاصّة منهم .
الأمر الخامس :
الظاهر عدم الفرق في الضروريّات بين الأحكام الفرعية وبين الأمور الاعتقادية فإنّ كلاًّ منهما إذا وصل إلى حدّ الضرورة بالمعنى المتقدّم دخل في محلّ البحث .
نعم بعض المسائل الاعتقادية معتبرة في الإسلام بحيث يكون عدم الإقرار بها مطلقاً موجباً للكفر مثل التوحيد والرسالة وهي خارجة عن محلّ الكلام إذ لا إشكال في كون منكرها كافراً سواء كان عالماً أم جاهلاً وسواء أنكرها لشبهة أم لا . وهكذا مسألة المعاد بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الإقرار به معتبر في الإسلام وأنّها من المسائل التي يجب تحصيل الاعتقاد والإذعان بها وجوباً مطلقاً لا معلّقاً على حصول العلم والمعرفة .
نعم بناءً على الرأي الآخر ـ الذي يرى أنّها ليست معتبرة في حقيقة الإسلام ـ يدخل المعاد في الضروريات ويشمله البحث الآتي .
ويظهر من جميع ما تقدّم :
إنّ الضروري له معنى واحد سواء أريد به ضروري الدين أو ضروري المذهب وان كانا يختلفان في دائرة الثبوت فالأوّل دائرته الدين ويراد به الأمور الدينية الثابتة عند عامة المسلمين ، في حين أنّ الثاني دائرته المذهب ويراد به الأمور التي تعتبر من مختصاته مثل حلّية المتعة ووجوب الخمس في فاضل المؤونة ونحو ذلك .
كما أنّهما يختلفان بلحاظ الآثار الشرعية المترتّبة على إنكار الضروري كما سيأتي .
معنى الضروري بلحاظ الروايات :
قد عرفت أنّ عنوان ( الضروري ) لم يرد فيها أصلاً ، نعم ورد عنوان ( الفرائض ) و( الكبائر ) وأن من جحدها كان كافراً ، وتعرّضت بعض الروايات إلى ذكر بعض المصاديق مثل الصوم والحجّ وسيأتي مفصّلاً استعراض هذه الروايات .
والظاهر :
إنّ ما يستفاد من هذه الروايات في مقام تحديد معنى ( الضروري ) ـ الذي يحكم بكفر منكرهـ لا يختلف عمّا استفيد سابقاً من كلمات الفقهاء إذ لا يبعد أنّ ذكر ( الفرائض ) و( الكبائر ) في تلك الروايات إنّما هو باعتبارها من مصاديق مفهوم ( الضروري ) لأنّ المراد بالفرائض الواجبات الإلهية العبادية التي فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده مثل الحجّ والصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك ومن الواضح أنّ نظر الروايات إلى أصل ثبوت هذه الفرائض في مقام الحكم بكفر منكرها ولا شكّ أنّ أصل ثبوتها ـ وبقطع النظر عن تفاصيلها ـ من الأمور الضرورية التي لا تحتاج إلى إقامة دليل .
وهكذا الحال في الكبائر فإنّها عبارة عن المحرّمات التي نصّ وتوعّد عليها في الكتاب الكريم أو السّنة القطعية ولا يبعد أنّ ذلك يستوجب وصولها إلى حدّ الضرورة في الغالب بحيث يكون إنكار أصل حرمتها إنكاراً لضروري من ضروريات الدّين مثل حرمة شرب الخمر والزنا وقتل المسلم ونحو ذلك .
نعم بعض هذه الأخبار مطلقة بمعنى أنّها تدلّ على كفر الجاحد لكلّ ما ثبت في الدين وإن لم يكن من الضروريّات مثل رواية عبـد الرحيم القصير حيث ورد فيها : « ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال أن يقول للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ودان بذلك . . . »(24) فإنّ مقتضى إطلاقها أنّ إنكار حلّية كلّ حلال وحرمة كلّ حرام يوجب الكفر وإن لم يكن ضرورياً وسيأتي التعرّض إلى هذه الرواية في الفصل الثالث وسيظهر لك عدم صحة الرواية سنداً ودلالة .
الفصل الثاني
أقسام منكر الضروري
ويمكن تقسيمه إلى أقسام رئيسية :
الأوّل : منكر الضروري مع علمه بثبوته في الدّين أو المذهب .
الثاني : منكر الضروري مع جهله بذلك جهلاً بسيطاً .
الثالث : منكر الضروري مع اعتقاده أنّه ليس من الدّين لشبهة ونحوها ( الجاهل المركّب ) .
الرابع : منكر الضروري مع اشتباه حاله عندنا من حيث أنّه عالم بثبوت ما أنكره في الدّين أو جاهل بذلك .
أمّا القسم الأوّل فهو خارج عن محلّ النزاع والبحث جزماً للاتفاق على كفره لرجوع إنكاره ـ مع فرض علمه بثبوت ما أنكره في الدّين ـ إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يوجب الكفر بلا خلاف .
وأمّا القسم الثاني والثالث فهو داخل في محلّ النزاع فهل يحكم بكفر المنكر في هذين القسمين أو لا يحكم بكفره أو يفصّل فيحكم بكفر المنكر في القسم الثالث دون المنكر في القسم الثاني ؟ وسيتّضح الجواب عن ذلك من خلال البحث .
وأمّا القسم الرابع فلا بحث فيه إذا قلنا بكفر المنكر في القسمين الثاني والثالث فضلاً عن الأوّل لأنّه لا يخرج عن أحد هذه الأقسام .
وأمّا إذا قلنا بعدم كفر المنكر في القسمين الثاني والثالث أو قلنا بالتفصيل بينهما فيقع البحث في هذا القسم في أنّه هل يمكن فرض الجهل في حقه أو لا ؟ فإن أمكن ذلك فلا موجب للحكم بكفره إذ لم يثبت ما يوجب كفره وهو الإنكار مع العلم أو مع الجهل الموجب للكفر والمفروض أنّه يتشهّد الشهادتين ويقرُّ بالأصول الأساسية للدّين ، ومثاله الواضح حديث العهد بالإسلام ومن يعيش بعيداً عن بلاد الإسلام .
وإن لم يمكن ذلك في حقّه بحيث يحصل لنا الاطمئنان بحسب العادة بكونه عالماً فلا يبعد الحكم بكفره حينئذ ،ومثاله المسلم الذي نشأ من صغره في بيئة إسلامية فإنّ العادة قاضية في مثله بعدم خفاء أساسيّات الدين وضرورياته عليه ، فإنكاره ـ مع فرض عدم الشبهة ـ يكون لا محالة إنكاراً مع العلم ، مستلزماً لتكذيب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومثله من ينكر بعض ضروريّات المذهب إذا كان من أهل المذهب ويعيش معهم فإنَّ إنكاره ـ مع عدم الشبهة ـ يستلزم التكذيب وبالتالي الكفر لظهور حاله في علمه بأنّ ما أنكره ممّا ثبت من الدين وهو يوجب الكفر لا محالة .
الفصل الثالث
الأقوال في المسألة
القول الأوّل :
ما نسب إلى المشهور من الحكم بكفر منكر ضروري الدّين وإن كان جاهلاً بثبوته في الدّين بل وإن كان معتقداً عدم ثبوته لشبهة ونحوها .
ومعنى هذا القول :
إنّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر كإنكار التوحيد والنبوّة من أصول الدّين حيث أنّ إنكارهما يوجب الكفر مطلقاً ولا يختصّ بصورة العلم .
ومن الواضح :
إنّ كونه سبباً مستقلاًّ لا يصحّ إلاّ بافتراض أخذه قيداً في حقيقة الإسلام حتّى يكون إنكاره مطلقاً إنكاراً للإسلام وكفراً به كما هو الحال في التوحيد والنبوّة .
نعم يفترق عنهما في أنّ اعتبارهما في الإسلام ممّا لا شكّ فيه بل حقيقة الإسلام عبارة عن الإقرار والاعتراف بهما بخلاف الضروري فإنّ اعتباره في حقيقة الإسلام يحتاج إلى دليل وتعبّد من الشارع ، ومن هنا يحتاج هذا القول إلى إقامة أدلّة وبراهين عليه .
قال في مفتاح الكرامة : « وهنا كلام في أنّ جحود الضروري كفر في نفسه أو يكشف عن إنكار النبوّة مثلاً ؟ ظاهرهم الأوّل »(25) والاستظهار المذكور ينشأ من أمور :
1 ـ إطلاق كلامهم في كفر منكر الضروري الشامل لصورة عدم العلم والاطلاع .
2 ـ ذكرهم منكر الضروري معطوفاً على من خرج عن الإسلام قال في الشرايع : « الكافر وضابطه من خرج عن الإسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدّين ضرورة »(26) وظاهره المغايرة وأنَّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر وليس لرجوعه إلى إنكار الرسالة وإلاّ لدخل في عنوان من خرج عن الإسلام ، ونحو ذلك عبارات التحرير ونهاية الأحكام والإرشاد والذكرى والروضة والبيان وغيرها .
3 ـ تمثيلهم له بالخوارج ـ كما في الشرايع وغيرها ـ مع أنّهم لا يعلمون بأنّ ما أنكروه من الدّين بل الظاهر أنّ أكثرهم يعتقد أنّه ليس من الدّين .
ثمّ إنّ هذا القول يمكن أن يفسّر بتفسيرين :
التفسير الأوّل : إنّ إنكار الأمور الضرورية في حدّ نفسه يوجب الكفر مطلقاً أي وإن كان المنكر لا يعلم كونها كذلك عند أهل الدّين كما إذا كان حديث العهد بالإسلام .
وهذا التعميم بالإضافة إلى التعميم السابق لحالة العلم بثبوت ذلك الشيء في الشريعة وحالة الجهل بذلك ـ جهلاً بسيطاً أو مركّباً ـ يعني أنّ إنكار الضروري كإنكار التوحيد والرسالة حيث لا إشكال في خروج المنكر لهما عن حدّ الإسلام سواء كان عالماً بثبوتها أم كان جاهلاً جهلاً بسيطاً أو معتقداً بخلافهما وسواء كان عالماً بكونها من الأمور الواضحة عند المسلمين أم لا .
وبعبارة أخرى :
إنّ منكر الرسالة مثلاً يحكم بخروجه عن الإسلام من دون أن ينظر إلى حاله من حيث كونه عالماً أم جاهلاً أنكر لشبهة أم لا . . . الخ . وهكذا الحال في منكر الضروري بناء على هذا التفسير ، وهذا القول بهذا التفسير نسميه بالسببية المطلقة لان انكر الضروري يكون ـ بناء عليه ـ سبباً للكفر مطلقاً .
التفسير الثاني : إنّ إنكار الأمور الضرورية في حدّ نفسه يوجب الكفر في حالات العلم بثبوتها والجهل البسيط والجهل المركب لكن مع تقييد ذلك بما إذا كان المنكر يعلم بكونها ضرورية عند أهل الدّين وعامّة المسلمين ونسمي هذا التفسير بالسببية المقيدة ، وبهذا القيد يختلف المقام عن أصل التوحيد والرسالة .
ويظهر الفرق العملي بين التفسيرين في حديث العهد بالإسلام وفي المسلم الذي يعيش في بلاد بعيدة عن العالم الإسلامي فإنّ مثل هذا إذا أنكر بعض الضروريّات يكون إنكاره عادةً مقروناً بعدم إطلاعه على كون ذلك الشيء ضرورياً عند المسلمين وحينئذ على التفسير الأول يحكم بكفره بخلافه على الثاني .
والظاهر :
إنّ ما ذهب إليه المشهور هو التفسير الثاني لا الأوّل وذلك لقرائن منها :
إنّ المعروف بين المحقّقين عدم كفر المنكر للضروري إذا كان حديث العهد بالإسلام ، أو كان بعيداً عن دار الإسلام(27) .
عدم وجود أي دليل يصحّ الاستدلال به على هذا الرأي ، كما سيتّضح من خلال استعراض أدّلة هذا القول .
ظهور كلمات بعض الفقهاء في هذا التفسير مثل العلاّمة في القواعد حيث قال في كتاب الحدود : « وهو ـ الارتداد ـ يحصل إمّا بالفعل . . . وإمّا بالقول كاللفظ الدال بصريحه على جحد ما علم ثبوته من دين الإسلام ضرورة أو على اعتقاد ما يحرم اعتقاده بالضرورة من دين محمّـد(صلى الله عليه وآله وسلم)سواء كان القول عناداً أو اعتقاداً أو استهزاءً »(28) فإنّ الجمع بين كون الارتداد هو القول الدال على جحد ما علم ثبوته من دين الإسلام ضرورة مع تعميمه ـ كما في ذيل العبارة ـ لما إذا كان ذلك القول اعتقاداً ، لا يمكن إلا بإرادة هذا التفسير في صورة الاعتقاد فيراد من قوله : ( جحد ما علم ثبوته ) ما علم في الجملة ومن قبل الغير لا ما علم من قبل نفس الجاحد لأنّه مع علمه بثبوت ما جحده في الدّين يستحيل أن يعتقد عدم ثبوته .
ومثل الفاضل الهندي في كشف اللثام فإنَّه قال : « . .والمجسّمة وكلّ من أنكر ضروريّاً من ضروريّات الدين مع علمه بأنّه من ضروريّاته . . . »(29)فإنّ هذا التعبير قد يفهم منه التفسير الثاني أي أنّ إنكار الضروري إنّما يوجب الكفر مع علم المنكر بأنّه ضروري عند عامّة المسلمين وإن لم يكن كذلك عنده في قبال ما إذا أنكر ما يكون كذلك مع عدم علمه بأنَّه من ضروريّات الدين .
واحتمال أن يكون إشارة إلى القول الثالث ـ الآتي ـ فهو بعيد جدّاً إذ لا يشترط في الحكم بالكفر بناء عليه أن يعلم بأنّ ما أنكره من ضروريّات الدين بل يكفي علمه بأنّه من الدين وإن كان عالماً بعدم كونه ضروريّاً عند المسلمين .
والحاصل :
إنّ ظاهر هذه العبارات ونحوها من عبارات الفقهاء هو أنّ كلّ أمر يعلم جماعة المسلمين ثبوته في الدّين ـ بحيث يصبح ثبوته في الدّين معلوماً لديهم ـ فإنكاره يعتبر كفراً وارتداداً مع علم المنكر بذلك وإن كان يعتقد عدم ثبوته لشبهة ونحوها .
ويؤيّد ذلك قراءة الفعل ( يعلم ) في قولهم : « وجحد ما يعلم من الدّين ضرورة » ـ كما في الشرايع وغيرها ـ مبنيّاً للمجهول حيث يشير ذلك إلى كون المناط في الحكم بالكفر هو معلومية كون الشيء من ضروريّات الدين سواء كان كذلك عند المنكر أم لا كما إذا كان شاكّاً أو معتقداً بالعدم .
ويتلخّص من جميع ما تقدّم :
إنّ المشهور يرى أنّ إنكار ما هو ضروري عند عامّة المسلمين يوجب الكفر والخروج من الإسلام إمّا مطلقاً وهو التفسير الأوّل لقول المشهور الذي عبّرنا عنه بالسببيّة المطلقة وإمّا مقيّداً بالعلم والاطلاع على كونه ضروريّاً عندهم وهو التفسير الثاني الذي عبّرنا عنه بالسببيّة المقيّدة .
ولا فرق في الحكم بالكفر على كلا التفسيرين بين حالة علم المنكر بثبوت ذلك في الدين وبين حالة جهله بذلك جهلاً بسيطاً وبين حالة جهله بذلك جهلاً مركّباً كأصحاب الشبهة والمعتقدين بالخلاف .
وقد أشار الشيخ صاحب الجواهر إلى ذلك حين فسّر قول المشهور بما ذكر في التفسير الثاني فإنّه قال بعد كلام له : « فالحاصل أنّه متى كان الحكم المنكَر في حدّ ذاته ضرورياً من ضروريّات الدّين ثبت الكفر بإنكاره ممّن اطّلع على ضرورته عند أهل الدّين »(30) .
ثمّ إنّ الأمور الثلاثة المتقدّمة التي استظهر منها ذهاب المشهور إلى القول الأوّل تنسجم مع التفسير الثاني أيضاً بل هو الظاهر منها .
أمّا الأوّل :
فلأنّ إطلاق كلامهم محمول على المنكر الذي يعيش الإسلام ويتلبّس به ويعاشر المسلمين ومن الواضح إنّه يفترض في مثله الإطلاع على أساسيّات الدين وضروريّاته عند المسلمين فإذا أنكر ذلك كان كافراً لتحقّق المناط السابق فيه وإن لم يعتقد بكونه كذلك . والحكم بكفر مثل هذا المنكر لا يعني السببية المطلقه وذهاب المشهور إلى القول الأوّل .
وأمّا الثاني :
فلأنّ المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه محفوظة على فرض إرادة السببية المقيدة أيضاًـ التفسير الثاني ـ لأنّ إنكار الضروري ـ مع الاطلاع على كونه ضروريّاً عند أهل الدين ـ سبب مستقلّ للكفر وليس راجعاً إلى إنكار الرسالة حتى لا يظهر فرق بينهما .
وأمّا الثالث :
فلأنّ التمثيل بالخوارج ينسجم مع افتراض السببية المقيّدة أيضاً لإمكان افتراض أنّهم يعلمون أنّ ما أنكروه يعدّ عند المسلمين من ضروريّات الدّين وإن كانوا لا يرونه كذلك .
نعم هو لا ينسجم مع الأمارية ( القول الثالث الآتي ) كما لا يخفى .
أدلّة القول الأوّل :
هذا وقد استدلّ للقول المشهور بأمور :
الدليل الأوّل :
إنّ الحكم بكفر منكر الضروري لو لم يكن على نحو السببيّة لزم إلغاء خصوصيّة العنوان ( الضروري ) إذ لا فرق حينئذ بينه وبين كلّ ما كان من الدين وإن لم يكن ضروريّاً فإنّ إنكاره مع العلم يوجب الكفر أيضاً لاستلزامه إنكار الرسالة ، بل يجري ذلك حتّى في الموضوعات الخارجية التي أخبر بها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله : « استرضعت من بني سعد » مثلاً فإنّه مع العلم بذلك يكون المنكر كافراً لرجوعه إلى تكذيب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه فلا خصوصيّة للضروري بناء على الأمارية والطريقيّة .
وفـيــه :
أوّلاً : ما عرفت من أنّ عنوان الضروري لم يرد في شيء من الأدلّة وإنّما ورد في كلمات الفقهاء المتأخّرين ومن المحتمل أنّ خصوصية العنوان باعتبار ملازمته للعلم بأنّه من الدين ولو بحكم العادة والغلبة فإنّ أساسيّات الدين وركائزه تكون معلومة الثبوت عادةً بحيث يكون افتراض الجهل وعدم الإطلاع فيها نادراً جدّاً كما في حديث العهد بالإسلام أو البعيد عن البلاد الإسلامية وقد استثناها الفقهاء ولم يحكموا بكفر المنكر في هذه الموارد .
ثانياً : إنّ ما ذكر وحده لا يكفي لإثبات القول المشهور بالتفسير الأوّل لإمكان الالتزام بالسببيّة المقيّدة بالمعنى السابق مع المحافظة على خصوصيّة العنوان فيحكم بكفر منكر الضروري فقط مع افتراض إطلاعه على كونه ضروريّاً عند عامّة المسلمين ، فيختصّ الحكم بالكفر بإنكار الضروري ولو مع عدم العلم ولا يشمل إنكار سائر ما ثبت في الدين إلا مع العلم .
الدليل الثاني :
إنّ هذا القول هو مقتضى التمثيل لمنكر الضروري بالخوارج والنواصب وأمثالهم حيث أنّ الحكم بكفرهم لا يمكن أن يكون لأجل كشفه عن تكذيب الرسالة لأنّا نعلم أنّ هؤلاء يؤمنون بالرسول والرسالة فلابدّ أن يكون الحكم بكفرهم مبنيّاً على القول الأوّل .
وفـيــه :
إنّ التمثيل المذكور لم يرد في الروايات أصلاً وإنّما ورد في كلمات بعض الفقهاء ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يكون حجّة في مقام الاستدلال لأنّه لا يزيد على ذهاب بعض الفقهاء إلى السببيّة المطلقة وهو ليس حجّة كما لا يخفى .
نعم ورد في بعض الروايات ما يشير إلى الحكم بكفرهم مثل معتبرة الفضيل قال : « دخلت على أبي جعفر(عليه السلام) وعنده رجل فلمّا قعدت قام الرجل فخرج فقال لي : يا فضيل ما هذا عندك ؟ قلت : وما هو ؟ قال : حرورىّ قلت : كافر ؟ قال : إي والله مشرك »(31) .ونحوها غيرها ، إلا أن ذلك لا يصلح دليلاً على التفسير الأوّل إذ يمكن أن يفسّر على أساس السببيّة المقيّدة باعتبار إنكارهم ما هو ضروري عند عامّة المسلمين من لزوم ولاية أهل البيت(عليهم السلام)بالمعنى الأعم من دون أن يرجع ذلك إلى تكذيب الرسالة وسيأتي مزيد توضيح لذلك .
الدليل الثالث :
الروايات وهي على طوائف :
الطائفة الأولى من الروايات :
ما دلَّ على أنّ إنكار مطلق الشيء الثابت ـ ولو كان أمراً تكوينيّاً ـ يوجب الكفر مع اتخاذه ديناً مثل صحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : « سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركاً قال : « فقال : من قال للنواة : إنّها حصاة ، وللحصاة : إنّها نواة ، ثمّ دان به »(32) ومفادها أنّ التديّن بغير الواقع والالتزام به شرك .
وفـيــه :
أوّلاً : إنّها مطلقة تشمل الضروري وغيره بل موردها غير الضروري ولا يمكن الالتزام بذلك .
ثانياً : إنّ الظاهر منها حرمة التشريع أي التديّن بشيء مع عدم العلم بثبوته في الدين ، أو مع العلم بعدم ثبوته ، ولا شكّ في حرمة ذلك إلاّ أنّه لا يوجب الكفر والشرك وعليه فلابدّ من حملها على التوسعة في معنى الشرك وأنّه ذو مراتب وأنّ التشريع هو أدنى مراتبه نضير ما ورد في المرائي من أنّه مشرك . وبعبارة أخرى أنّ إطلاق الشرك في المقام باعتبار أنّه أشرك مع الله غيره في مقام ينفرد به سبحانه وتعالى وهو مقام التشريع فلا يراد به الشرك الموجب للكفر .
الطائفة الثانية من الروايات :
ما دلّ على كفر من جحد الفرائض أو مطلق الحكم الشرعي مثل : صحيحة الكناني عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : « قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام) : من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّـداً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤمناً ؟ قال : فأين فرائض الله ؟ قال : وسمعته يقول : كان علي(عليه السلام) يقول : لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام . قال : وقلت لأبي جعفر(عليه السلام) : إنّ عندنا قوماً يقولون : إذا شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّـداً(صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله فهو مؤمن ، قال : فلم يُضربون الحدود ولم تقطع أيديهم ؟ . . . . . : ثم قال : فما بال من جحد الفرائض كان كافراً ؟ »(33) .
وهي ظاهرة في كفر من جحد الفرائض الإلهيّة وأنّ الالتزام والتديّن بها أُخذ في الإيمان الذي يراد به الإسلام في هذه الرواية بقرينة الحكم بكفر من جحد الفرائض في ذيلها ، بل ظاهر الذيل أنّ كفر جاحد الفرائض أمر مسلّم ومفروغ عنه .
والفرائض في الرواية يراد بها ما كان مثل الصلاة والصوم والحجّ ممّا يساوق افتراض كونها من الضروريّات لأنّها أضيفت إلى الله أي ما فرضها الله سبحانه في كتابه في مقابل ما فرضه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يذكر في الكتاب كما هو ظاهر رواية داود الرقي الآتية ، ومن الواضح أنّ هذا يساوق كونه ضروريّاً ومقتضى الإطلاق أنّه كذلك سواء كان عالماً أم جاهلاً أم مشتبهاً وهذا يلازم القول بالسببيّة .
كما أنّه قد يدّعى الظاهر صحّة الرواية سنداً وإن كان فيها ( محمّـد بن الفضيل ) لأنّه ثقة سواء أريد به محمّـد بن القاسم بن الفضيل الثقة ـ كما احتمله صاحب جامع الرواة ـ أو أريد به محمّـد بن الفضيل الأزدي الصيرفي الموثّق برواية صفوان بن يحيى والبزنطي عنه بسند صحيح(34) وكذا عدّه الشيخ المفيد من الفقهاء الأعلام الّذين يؤخذ منهم الحلال والحرام ولا يطعن عليهم بشيء . . . إلى آخر ما ذكره(35) .
ومثل رواية عبـد الرحيم القصير حيث ورد فيها قوله(عليه السلام) : « فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي ـ أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزّ وجلّ عنها ـ كان خارجاً من الإيمان ساقطاً منه اسم الإيمان وثابتاً عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ، ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال أن يقول للحلال : هذا حرام وللحرام هذا حلال ودان بذلك ، فعندها يكون خارجاً من الإسلام والإيمان داخلاً في الكفر »(36) .
وهي صريحة في كفر من يجحد الحلال أو الحرام ويدين به فتشمل محل الكلام بالإطلاق بل هو القدر المتيقّن منها .
نعم الظاهر عدم تماميّة الرواية سنداً ـ وإن عبّر بعضهم عنها بالصحيحة ـ وذلك لأنّ عبـد الرحيم القصير مشترك بين شخصين أحدهما عبـد الرحيم بن روح القصير الأسدي والآخر عبد الرحيم بن عتيك القصير ، والثاني لم تثبت وثاقته والأوّل يمكن توثيقه باعتبار رواية ابن أبي عمير عنه بطريق صحيح فقد ورد ذلك في تفسير علي بن إبراهيم القمّي في تفسير قوله تعالى : ( ن والقلم ) ، وهو وإن ورد بعنوان ( عبد الرحيم القصير )(37)إلا أنّ الظاهر أنّ المراد به الأوّل لانصراف الإطلاق إليه لكونه المعروف في كتب الرجال وفي الروايات دون الثاني
فإن قلت : إذا كان الأمر كذلك فليحمل في روايتنا على عبد الرحيم ابن روح الثقة لأنّه ورد فيها بهذا العنوان أيضاً ( عبد الرحيم القصير ) .
قلت : توجد في خصوص هذه الرواية قرينة تمنع من ذلك وهي أنّ نفس الشيخ الكليني ـ الذي روى هذه الرواية بسنده عن عبد الرحيم القصير ـ روى رواية أخرى في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى بنفس السند السابق(38) مع التصريح بأنّ عبد الرحيم فيها هو ابن عتيك القصير ، وكلّ من الروايتين مكاتبة عن طريق عبد الملك بن أعين ، ولذا من القريب جدّاً أن تكونا رواية واحدة ورد فيها سؤالان أو أكثر ثمّ قطعت وأدرج كلّ منهما في بابه المختصّ به .
وهذه القرينة إن لم نستظهر منها كون المراد بعبد الرحيم في روايتنا هذه ابن عتيك فلا أقلّ من الإجمال على نحو يمنع من حمله على عبد الرحيم بن روح الموثّق .
هذا مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية النظر إلى التشريع المحرّم وذلك بقرينة قوله : « إلا الجحود والاستحلال » وقوله : « ودان بذلك » فإنّ هذه التعابير ظاهرة في اتخاذ الشيء ديناً مثلاً الحرام شرعاً إذا أنكر حرمته وقال : إنّه حلال واتخذ حلّيته ديناً حينئذ يكون كافراً ، ومن الواضح أنّ هذا غير محلّ الكلام الذي هو إنكار الضروري من دون فرض التديّن بذلك .
ولا يبعد أنّ الرواية ناظرة إلى صورة العلم بثبوت الحرام أو الحلال شرعاً ومعه يكون إنكاره مع التديّن بضدّه موجباً للكفر بلا كلام .
ومثل رواية داود بن كثير الرقّي قال : « قلت لأبي عبد الله(عليه السلام) : سُنن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كفرائض الله عزّ وجلّ فقال : إنّ الله عزّ وجلّ فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً . . . »(39) .
والاستدلال بها هو نفس ما تقدّم في صحيحة الكناني لاتحادهما في المضمون .
نعم هناك كلام في صحّة الرواية سنداً للاختلاف في وثاقة داود بن كثير حيث ضعّفه النجاشي وابن الغضائري في حين وثّقه الشيخان المفيد والطوسي وغيرهما ، والأصحّ قبول روايته وعليه فالرواية معتبرة .
هذه عمدة روايات الطائفة الثانية وقد عرفت تماميّة بعضها سنداً فلا مجال للمناقشة فيها من هذه الجهة .
نعم نوقش في دلالتها بأنّ موضوع الحكم بالكفر فيها هو الجحود وهو عبارة عن الإنكار مع العلم بالحال ، ولا كلام في الحكم بالكفر حينئذ لأنّ إنكار أىَّ حكم شرعي مع العلم بثبوته في الشريعة يستلزم تكذيب الرسالة والرسول وهو موجب للكفر جزماً إلا أنّه خارج عن محلّ الكلام إذ عرفت أنّ الكلام في كفر منكر الضروري مع فرض عدم العلم بثبوته شرعاً .
ويدلّ على اختصاص الجحود بصورة العلم بالحال أمور :
الأمر الأوّل : كلّمات أهل اللغة :
قال ابن فارس : « ومن هذا الباب الجحود وهو ضدّ الإقرار ولا يكون إلا مع علم الجاحد به أنّه صحيح »(40) .
وقال في الصحاح : « الجحود الإنكار مع العلم »(41) .
وقال في القاموس : « جحده حقّه وبحقّه ـ كمنعه ـ جحداً وجحوداً أنكره مع علمه »(42) .
وقال الراغب : « الجحود نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه »(43) .
الأمر الثاني : قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ )(44)حيث تدلّ على أنّ الجحود يكون مع اليقين والعلم .
ونظيره قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )(45) .
الأمر الثالث : بعض الروايات مثل رواية أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله(عليه السلام)قلت له : « أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزّ وجلّ ؟ قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه . . . ـ إلى أن قال ـ وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرَّ عنده . . . »(46) .
أقول : الظاهر عدم اختصاص الجحود بصورة العلم بالحال ، وما استدلّ به لذلك غير تامّ :
أمّا الأمر الأوّل :
فلأنّ بعضاً آخر من اللغويّين فسّر الجحود بمطلق الإنكار قال في تاج العروس(47) ، وقال في لسان العرب : « الجحود نقيض الإقرار كالإنكار والمعرفة »(48) ثمّ نقل عن الجوهري في الصحاح ما تقدّم .
ومنه يظهر أنّ هناك خلافاً في معنى الجحود .
وقال في كتاب العين : « الجحود ضدّ الإقرار كالإنكار والمعرفة »(49) .
ويفهم من ذلك أنّ الجحود كالإنكار ، ومن الواضح أنّ الإنكار لا يختصّ بصورة العلم بثبوت ما ينكره ولذا يقال :
فلان أنكر الدَيْن سواء كان عالماً به أم لا .
وعليه فلا يمكن الركون إلى ما تقدّم نقله عن بعض اللغويّين .
وأمّا الأمر الثاني :
فلأنّ الآية الشريفة ليس فيها دلالة على الاختصاص غاية الأمر أنّها تدلّ على استعمال الجحود في موارد العلم بالحال ، وهو لا يعني عدم صحّة استعماله في غيرها ، ولذا استدلّ بها المتكلّمون وغيرهم على إمكان اجتماع الجحود والإنكار مع العلم واليقين ممّا يفهم منه عدم الملازمة بينهما وإنّ اجتماعهما يحتاج إلى دليل وهو الآية الشريفة .
والحاصل :
إنّ مفاد الآية الشريفة هو الحكاية عن قوم فرعون بأنّهم جحدوا بالآيات مع كونهم على يقين منها وليس في ذلك أي دلالة أو إشارة إلى الاختصاص المذكور وهكذا الحال في الآية الثانية .
وأمّا الأمر الثالث ففيه :
أولاً : ضعف سند الرواية .
ثانياً : إنّها على عكس المقصود أدلَّ ; لأنّ الجحود قُسِّمَ في الرواية إلى قسمين أشير إلى الأوّل منهما بقوله : « فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة وهو قول من يقول : لا ربَّ ولا جنّة ولا نار » وهو ظاهر في عدم الاختصاص للإطلاق مضافاً إلى أنّ كفر المنكر للربوبيّة لا يشترط فيه العلم كما هو واضح .
والحاصل أنّ الأدلّة المذكورة لا تدلّ على الاختصاص ، بل قد يستدلّ على عدم الاختصاص ببعض الروايات :
مثل صحيحة محمّـد بن مسلم قال : « كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)جالساً على يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال : يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شكّ في الله ؟ فقال : كافر يا أبا محمّـد قال : فشكّ في رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كافر ، قال : ثمّ التفت إلى زرارة فقال : إنّما يكفر إذا جحد »(50) فإنّها ظاهرة في إطلاق الجاحد على المنكر مع كونه شاكّاً وليس على يقين .
ونحوها رواية زرارة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : « لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا »(51) .
فإنّ المراد بالجهل فيها ـ ظاهراً ـ هو الجهل البسيط أي الشكّ ولذا افترض فيها إمكان التوقّف وعدم الإنكار وهو غير متحقّق مع الجهل المركّب ، ومفاد الرواية حينئذ هو أنّ الشاكّ إنمّا يكفر إذا جحد ، وهو نفس مفادّ الرواية السابقة حيث أطلق فيها الجحود على الإنكار مع فرض الشكّ وعدم العلم .
نعم ما ذكرناه من عدم الاختصاص لا يعني تماميّة الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار على القول المشهور وذلك لأنّ مفادها هو كفر من جحد الفرائض وضروريّات الدين ، وعرفت أنّ الجحود لا يختصّ بصورة العلم بالحال بل يشمل غيره .
إلا أنّ الكلام يقع في ذلك الغير الذي يشمله عنوان الجحود فهل هو عبارة الشكّ والجهل البسيط أو يشمل صورة وجود الشبهة والجهل المركّب ؟
وصحّة الاستدلال المذكور مبنيّة على الشمول للجهل المركّب حيث يثبت بهذه الطائفة من الأخبار كفر كلّ منكر لضروريّات الدين سواء كان عالماً أم جاهلاً جهلاً بسيطاً أم مشتبهاً ومعتقداً بالعدم ممّا يستلزم السببيّة المنسوبة إلى المشهور .
وأمّا إذا قلنا بعدم الشمول لحالة الجهل المركّب واختصاص استعمال الجحود بصورتي العلم والشكّ البسيط فلا دلالة للأخبار المذكور على السببيّة بالمعنى الذي يقول به المشهور إذ لا تدلّ حينئذ على كفر المنكر إذا كان صاحب شبهة ومعتقداً عدم ثبوت ما أنكره في الشريعة .
نعم تدلّ على كفر المنكر إذا كان عالماً أو شاكّاً ، ومن الواضح أنّ هذا لا يلازم قول المشهور القائل بسببيّة إنكار الضروري للكفر مطلقاً ، بل الظاهر أنّ صورة الإنكار مع الشبهة هي من الصور المهمّة التي وقع فيها الخلاف والتي التزم المشهور فيها بالكفر أيضاً .
قد يقال بالثاني ـ عدم الشمول ـ فإنّ بعض اللغويّين وإن فسَّر الجحود بمطلق الإنكار إلا أنّه معارض بكلمات آخرين منهم ، وهي ظاهرة في التقييد بصورة العلم ـ كما تقدّم ـ وعليه فلا يمكن الاستناد إلى كلماتهم لإثبات الشمول والإطلاق .
كما أنّ الروايات لا تدلّ على ذلك فإنّ بعضها وإن كان يدلّ على عدم الاختصاص بصورة العلم مثل صحيحة محمّـد بن مسلم ورواية زرارة المتقدّمتين إلا أنّ غاية ما تدلاّن عليه هو إطلاق الجحود على الإنكار في صورة الشكّ والجهل البسيط دون الجهل المركّب ـ كما تقدّم ـ .
وعليه فلم يثبت إطلاق الجحود على مطلق الإنكار حتّى يستدلّ بروايات هذه الطائفة على القول المنسوب إلى المشهور .
إلا أنّه ـ اي عدم الشمول ـ غير تامّ وذلك لتفسير الجحود في كلمات غير واحد من اللغويّين بالإنكار ـ كما تقدّم ـ وهو يشمل صورة وجود الشبهة .
وأمّا دعوى معارضة ذلك بكلمات جماعة آخرين منهم ـ ودعواهم الاختصاص بصورة العلم ـ فيرد عليها أنّ هذه الدعوى الثانية قد ثبت عدم صحّتها بصحيحة محمّـد بن مسلم ورواية زرارة المتقدّمتين حيث أطلق الجحود فيهما على الإنكار مع الشكّ وعدم العلم ، وهذا يثبت عدم الاختصاص إمّا بلحاظ المعنى اللغوي أو على الأقلّ بلحاظ الاستعمالات الواردة في كلمات أهل البيت(عليهم السلام) والروايات ، وإذا ثبت عدم الاختصاص أمكن الرجوع إلى كلمات من فسّر الجحود بالإنكار من اللغويّين ولا معارض له كما عرفت .
وأمّا الروايات فغاية ما تدلّ عليه هو إطلاق الجحود على الإنكار مع الجهل البسيط والشكّ وليس فيها دلالة على الاختصاص بذلك كما هو واضح .
بل قد يقال : إن قوله(عليه السلام) في صحيحة محمّـد بن مسلم : « إنّما يكفر إذا جحد » ظاهرة في الشمول لصورة الإنكار مع وجود الشبهة ( الجهل المركّب ) وذلك لأنّ المستفاد منها أنّ الشكّ النفسي إذا لم يصاحب الإنكار والجحود ، لا يترتّب عليه الكفر وإنّما يترتّب عليه إذا قارنه الجحود ، ومن الواضح أنّ الموجب للكفر في أصلي التوحيد والنبوّة ـ وهما موضوع الصحيحة ـ هو مطلق الإنكار والجحود ولو كان مع الجهل المركّب واعتقاد العدم لشبهة ونحوها وهذا يستلزم أن يراد بالجحود في الرواية هو مطلق الإنكار ولو كان عن شبهة .
والحاصل :
إنّ الجحود يدور أمره بين الاختصاص ، بصورة العلم وبين عدم الاختصاص وعلى الثاني فلا موجب لإخراج صورة وجود الشبهة منه إذ لا دليل على ذلك لا من كلمات اللغويّين ولا من الروايات ، وقد عرفت أنّ المتعيّن هو الثاني للروايات الدالّة على عدم الاختصاص .
نعم سيأتي عدم صحّة الاستدلال بهذه الروايات على القول الأوّل وصحّة الاستدلال بها على القول الثاني الآتي وهو التفسير الثاني لقول المشهور :
الطائفة الثالثة من الروايات :
ما دلّ على كفر من ارتكب الكبيرة بزعم أنّها حلال مثل : صحيحة عبد الله بن سنان قال : « سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام ؟ وإن عُذّب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدّة وانقطاع ؟ فقال : من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفاً أنّه أذنب ومات عليه أخرجه ذلك من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل »(52) .
وهي تدلّ على أنّ مرتكب الكبيرة إذا ادّعى أنّها حلال وأنكر حرمتها يكون خارجاً عن الإسلام ، ومقتضى إطلاقها أنّه يكون كافراً سواء كان عالماً بالحرمة أم جاهلاً بها جهلاً بسيطاً ( شاكّاً ) أم جاهلاً به جهلاً مركّباً . وهذا يلازم القول الأوّل .
ومثلها رواية مسعدة بن صدقة قال : « سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول : الكبائر . . . فقيل له : أرأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها أتخرجه من الإيمان ؟ وإن عُذب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين أو له انقطاع ؟ قال : يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال ولذلك يعذّب أشدّ العذاب »(53) .
اعترض على الاستدلال بها بعدّة اعتراضات :
الاعتراض الأوّل :
ما يفهم من كلام المحقّق الهمداني(قدس سره) وحاصله : إنّ موضوع الحكم بالكفر من هذه الروايات هو الكبيرة وهي أعمّ من الضروري ومقتضى ذلك الحكم بكفر كلّ من ارتكب كبيرة وزعم أنّها حلال سواء كانت من الضروريّات أم لا ، فتشمل الجاهل القاصر كحديث العهد بالإسلام والمجتهدين المخطئين ومقلّديهم ، فإنّهم قد يرون حلّية ما هو حرام واقعاً اشتباهاً وخطأً ، ومن الواضح عدم إمكان الالتزام بكفر هؤلاء .
وعليه فلا بدّ من تقييد هذه الروايات بالعلم بحرمة الشيء شرعاً حتّى يرجع إلى إنكار الرسالة المستلزم للكفر جزماً(54) .
ويلاحظ عليه :
أوّلاً : إنّ عنوان الكبيرة يراد به ما توعّد الله سبحانه وتعالى عليه بالنّار في الكتاب أو السنّة القطعيّة مثل قتل النفس المحترمة وعقوق الوالدين وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنة ونحو ذلك كما ذكر في الروايات ، والظاهر أنّ أصل حرمة هذه الأمور يعتبر من ضروريّات الدين لأنّها معلومة من الدين بالضرورة ، وموضوع الحكم بالكفر في هذه الطائفة هو إنكار أصل حرمة الكبائر لا إنكار تفاصيلها مع الاعتراف بأصل الحرمة حتّى يقال بأنّها أعمّ من الضروريّات .
ثانياً : أنّ مقتضى إطلاق هذه الروايات هو الحكم بكفر كلّ من استحلَّ حراماً . ولابدّ من الأخذ بهذا الإطلاق إلا في الموارد التي نقطع فيها بعدم كفر المستحلّ فنرفع اليد عن الإطلاق بهذا المقدار لا أكثر ، ومورد القطع هو المستحلّ من دون فرض ضرورة ولا علم ولا تقصير أي الجاهل القاصر إذا استحلّ حراماً عاديّاً لا يدخل في الضروريّات ، وأمّا ما عداه فيبقى مشمولاً للروايات الدالّة على كفره ومنه منكر الضروري .
الاعتراض الثاني :
ما ذكره المحقّق الخوئي(قدس سره) وحاصله : إنّ المراد بالكفر في هذه الروايات ليس هو المقابل للإسلام والذي تترتّب عليه الآثار الشرعيّة المعروفة ، بل المراد به العصيان في مقابل الطاعة كما أُشير إلى ذلك في صحيحة حمران بن أعين قال : « سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) قال : إمّا آخذٌ فهو
شاكر وإمّا تارك فهو كافر »(55) فإنّه أطلق الكافر فيها على التارك والعاصي ، وعليه فلا تدلّ الروايات على كفر المستحل حتى يستدلّ بها في المقام(56) .
ويلاحظ عليه :
أوّلاً : إنّ الموجود في الروايات المتقدّمة هو عنوان الخروج عن الإسلام لا عنوان الكفر ، ومن الواضح أنّ هذا العنوان لا يقبل الحمل على ما ذكره خصوصاً مع تصريح الروايات بأنّه يعذب أشدّ العذاب ، وهو ظاهر في كونه كعذاب المشركين حتى يحصل به الجواب عن السؤال المتعلّق بالعذاب .
ثانياً : إنّنا وإن سلّمنا استعمال الكفر بمعنى العصيان والتمرّد إلا أنّ ذلك يحتاج إلى القرينة ، ومع عدمها فالظاهر من عنوان الكفر هو معناه المعروف المقابل للإسلام .
ويؤيّد ذلك حكم نفس الروايات بالخروج عن الإيمان على مرتكب الكبيرة مع اعترافه بها وأنّه مذنب وجعلته مقابلاً للأوّل وهو ظاهر في أنّ الحكم على الأوّل ليس بمجرّد العصيان والتمرّد ، فلاحظ .
الاعتراض الثالث :
ما ذكره استاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) وحاصله : إنّ الروايات مختصّة بالمستحلّ الذي تنجّزت عليه الحرمة بالعلم أو غيره من المنجزات ، وذلك بقرينة العقاب ولفظة الارتكاب الذي لا يصحّ مع عدم التنجيز فلا تشمل الروايات من أنكر الضروري لشبهة أوجبت غفلته عنه مع إيمانه بالرسالة ، وعليه لا يصحّ الاستدلال بها على القول المشهور(57) .
ويؤيدّ ذلك قوله(عليه السلام) في صحيحة ابن سنان : « وان كان معترفاً أنّه أذنب . . . » المختصّ بصورة العلم بأنّ ما ارتكبه كبيرة ، فإن جعل هذا في مقابل قوله(عليه السلام) : « من ارتكب كبيرة فزعم أنّها حلال . . . » قد يجعل قرينة على أنّ المقسم لكلّ من القسمين هو ارتكاب الكبيرة مع العلم بكونها كذلك ، ويفترق القسمان في زعم أنّها حلال وعدمه .
الاعتراض الرابع :
دعوى منافاة هذه الروايات لما دلّ على كفاية الشهادتين في الحكم بالإسلام ظاهراً مع ترتّب جميع آثاره من حرمة النفس والمال وجواز المناكحة وغير ذلك(58) ، وجه المنافاة أنّ تلك الروايات تدلّ على اعتبار شيء آخر في الإسلام غير الشهادتين وهو الإقرار بالفرائض أو الضروريّات وأنّ منكر ذلك كمنكر إحدى الشهادتين يحكم بكفره مطلقاً في حين أنّ هذه الأدلّة تدلّ على عدم اعتبار ذلك وكفاية الشهادتين في الإسلام .
وأجيب عن ذلك ـ كما عن الشيخ الأنصاري ـ بما مفاده : إنّ الأدلّة الدالّة على كفاية الشهادتين ناظرة الى مرحلة حدوث الإسلام بمعنى أنّ من ينكر الشهادتين إذا أراد الدخول في الإسلام تكفيه الشهادتان ولا يعتبر أزيد من ذلك ، وأمّا هذه الروايات فهي ناظرة إلى مرحلة البقاء والخروج عن الإسلام بمعنى أنّ المسلم إذا أنكر ضروريّاً من ضروريّات الدين يكون بذلك خارجاً عن الإسلام ، ولا منافاة بينهما وذلك باعتبار أنّ الشهادتين بالنسبة إلى الداخل في الإسلام تعتبر شهادة إجماليّة بتصديق الرسول والالتزام بجميع ما جاء به في الشريعة وإن لم يعرف تفاصيل ذلك ، وحينئذ يكون الشخص مسلماً ، وهذا لا ينافي ما تدلّ عليه هذه الروايات من أنَّ إنكار بعض ما في الشريعة يوجب الخروج عن الإسلام على أساس أنّ ذلك يعتبر نقضاً للشهادة الإجمالية ومنافياً لتصديق الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع ما جاء به إجمالاً »(59) .
وقد يقال :
إنَّ هذا الكلام إن كان مرجعه إلى اعتبار الإقرار بالضروريّات وعدم إنكارها في الإسلام في مرحلة البقاء دون الحدوث فهو تحكّم لا دليل عليه ، فإنّ الخروج عن الإسلام لابدّ أن يرجع إلى الإخلال بشيء ممّا يعتبر فيه وإلاّ فلا يعدّ خروجاً عنه .
وبعبارة أخرى :
إنّ الإسلام يقابل الكفر تقابل الملكة والعدم ، ومعناه أنّ الكفر هو عدم تلك الملكة أي الإسلام لا عدم شيء آخر لا يعتبر في الملكة أساساً .
وإن كان مرجعه إلى كفاية الإيمان الإجمالي بالرسالة في تحقّق الإسلام ، فهو وإن كان يوجب خروج المنكر للضروري عن الإسلام إلا أنّ ذلك مخصوص بصورة العلم بكون ما أنكره ثابتاً في الشريعة أو احتمال ذلك ، فإنّ الإنكار في هذه الحالة ينافي الإيمان الإجمالي المذكور وبالتالي يوجب الكفر والخروج عن الإسلام بل لا يختصّ ذلك بالضروري فإنّ إنكار أي حكم من أحكام الشريعة في هذه الحالة يوجب الكفر .
وأمّا مع فرض كون الإنكار ناشئاً من الشبهة الموجبة للغفلة فهو لا يوجب الكفر لعدم منافاته مع الإيمان الإجمالي بالرسالة .
وهذا معناه أنّ كفر منكر الضروري إنّما هو من حيث إنكار الرسالة والتصديق الإجمالي بها والمفروض أنّ المشهور لا يقول بذلك .
إلا أنّ الظاهر أنّ مراد الشيخ الأنصاري كفاية الإيمان الإجمالي بالرسالة في تحقّق الإسلام وأنَّ كلّ ما ينافي ذلك يعدُّ خروجاً عن الإسلام ، ولا شكّ أنّ إنكار الضروري أو غيره مع العلم بثبوته في الشريعة ـ بل مع احتمال ذلك ـ ينافي الإيمان الإجمالي ، إلاّ أنّ هذه المنافاة لا تختصّ بذلك بمعنـى أنّه إذا دلّت الأدلّـة علـى كفر منكر الضـروري مطلقاً حتّى مع الشبهة ـ وهو المفروض في المقام ـ كان معنى ذلك أنّ هذا الإنكار ينافي الإيمان الإجمالي ويوجب زواله نضير ما إذا فرض دلالة الأدلّة على كفر منكر المعاد مطلقاً فإنّ الالتزام بكفره إنّما هو باعتبار كشفه عن زوال ذلك الإيمان الإجمالي بالرسالة الذي اكتفينا به في الإسلام .
نعـم إذا دلّت الأدلّـة علـى كفـره فـي صـورة العلـم فقـط كان الإنكـار ـ لشبهة ونحوها ـ غير مناف للإيمان الإجمالي فلا يوجب الخروج عن الإسلام .
والحاصل :
إنّ الأمر تابع لكيفيّة دلالة الأدلّة والمفروض أنّها تدلّ على كفره مطلقاً أي تدلّ على أنّ إنكار الضروري حتّى لشبهة ينافي الإيمان الإجمالي وهذا بخلاف غير الضروري ممّا ثبت في الشريعة حيث لم يدلّ دليل على كفر منكره مطلقاً .
ثمّ إنّ هذا الاعتراض لا يختصّ بهذه الطائفة بل يجري في الطائفة الثانية أيضاً والجواب هو الجواب .
الاعتراض الخامس :
إنّ الروايات ظاهرة في دخل الارتكاب الفعلي للحرام في الحكم بالكفر فإنّ موضوع الحكم فيها « من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال » فلا يمكن الاستدلال بها على كفر منكر حرمة الكبيرة من دون ارتكابها الذي هو داخل في محلّ الكلام قطعاً بل هو المتيقّن منه .
وفيه :
إنّ المستفاد من الروايات هو أنّ مناط الحكم بالكفر هو زعم كون الحرام حلالاً وأنّ ارتكاب الكبيرة مع عدم الزعم المذكور يوجب الخروج من الإيمان كما ذكرته الروايات نفسها .
وأمّا الخروج عن الإسلام فالظاهر من الروايات أنّه يترتّب على ما زاد على الارتكاب الموجب للخروج من الإيمان وهو الزعم المذكور .
هذا وقد تبيّن ممّا تقدّم عدم صحّة الاستدلال بهذه الطائفة أيضاً على القول المنسوب إلى المشهور وذلك لتماميّة الاعتراض الثالث على الأقلّ .
الطائفة الرابعة من الروايات :
ما دلّ على كفر منكر بعض الأحكام الضرورية بالخصوص .
مثل صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى(عليه السلام) قال : « إنّ الله عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام وذلك قوله عزّ وجلّ : ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )قال : قلت فمن لم يحجّ منّا فقد كفر ؟ قال : لا ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر »(60) .
ومثل صحيحة بريد العجلي قال : « سئل أبو جعفر(عليه السلام) عن رجل شهد عليه شهود أنّه أفطر في شهر رمضان ثلاثة أيام ؟ قال : يسأل هل عليك في إفطارك إثم ، فإن قال لا ، فإنَّ على الإمام أن يقتله وإن قال نعم فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً »(61) .
وهي ظاهرة في كفر منكر وجوب الحج والصوم مطلقاً .
وفيه :
إنّ الموجود في هذه الروايات ليس هو الحكم بكفر منكر الضروريّات حتّى يؤخذ بإطلاقه ، بل الموجود الحكم بكفر منكر خصوص فريضة الحجّ والصوم وما يشبههما في الوضوح والاشتهار ، ومن البعيد جدّاً افتراض عدم العلم بأصل وجوبهما في حقّ المسلم الذي يعيش في البلاد الإسلامية ـ كما هو مورد الرواية ـ وهذا معناه أنّ الإنكار اقترن بالعلم بثبوت ما أنكره في الشريعة وهو يستلزم الكفر بلا خلاف كما تقدّم .
هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا عدم الاختصاص بصورة العلم فالروايات المذكورة لا يثبت بها السببيّة المطلقة المنسوبة إلى المشهور وذلك لاحتمال السببيّة المقيدّة أي أنّ الحكم بالكفر من جهة إنكار ما يعلم أنّه ضروري عند عامّة المسلمين ـ كما هو الحال في الحجّ والصوم ـ وإن لم يكن كذلك عند المنكر لشبهة ونحوها .
ويظهر ممّا تقدّم أنّ كلّ الروايات التي استدلّ بها على القول الأوّل أي السببيّة المستقلّة المطلقة ليست تامّة .
القول الثاني في المسألة :
وهو التفسير الثاني المتقدّم للقول الأوّل وحاصله أنّ منكر الضروري يعدُّ كافراً ـ وإن كان جاهلاً بثبوت ما أنكره في الدين ـ لكن يشترط في ذلك أن يكون عالماً بكونه من ضروريّات الدين عند عامّة المسلمين وإن لم يكن كذلك عنده .
وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا القول في تضاعيف الحديث عن القول الأوّل وعرفت احتمال أن المشهور ـ الذي نسب إليه القول الأوّل ـ يريد هذا القول بل تقدّم أنّه ظاهر كلام بعض الفقهاء مثل العلاّمة وصاحب كشف اللثام ، هذا ويمكن الاستدلال عليه بأمور :
الدليل الأوّل :
الروايات الدالّة على كفر بعض الطوائف كالخوارج والنواصب بتقريب أنّ الحكم بكفر هؤلاء ليس على أساس رجوع اعتقادهم إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول قطعاً وذلك لوضوح أنّهم يعتقدون بهما ولم يدخلهم شكّ فيهما ، كما أنّه ليس لأجل إنكار ما هو ضروري عند طائفة من المسلمين وذلك لأنّ هذا المناط موجود في كثير من طوائف المسلمين فإنّهم ينكرون بعض الضروريّات الثابتة عند الإماميّة مثلاً من دون أن يخرجهم ذلك عن الإسلام ، فيتعيّن أن يكون الحكم بكفرهم لأجل إنكار ما هو ضروري عند عامّة المسلمين مع فرض علمهم بكونه كذلك ، والأمر الضروري هنا هو استحلال قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن معه من المسلمين وحكمهم بكفرهم ، حيث يرى عامّة المسلمين أنّ حرمة قتلهم وعدم كفرهم من الأمور المسلّمة التي لا تحتاج إلى إقامة برهان ودليل .
وهذا ما ينكره الخوارج والنواصب بل الظاهر أنّ المسلمين يرون ضرورة ما هو أكثر من ذلك كولايته بالمعنى الأعمّ ومحبّته ممّا يتنافى مع استحلال قتله والحكم بكفره .
وهذا الدليل يتوقّف على وجود روايات تامّة سنداً ودلالةً تدلّ على كفر هذه الطوائف ، وما يمكن ذكره في المقام هو :
1 ـ رواية الفضيل قال : « دخلت على أبي جعفر(عليه السلام) وعنده
رجل فلمّا قعدت قام الرجل فخرج فقال لي : يا فضيل ما هذا
عندك ؟ قلت : وما هو ؟ قال : حرورىّ ، قلت : كافر قال : إي والله
مشرك »(62) .
وهي تامّة سنداً فإنّ الضمير في ( عنه ) المصدّر به السند يعود إلى ابن أبي عمير الموجود في سند الرواية قبلها ومعناه أنّ الشيخ الكليني يرويها عن ، علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الخطّاب بن مسلمة وأبان ، عن الفضيل والظاهر أنّ كلّ رجال السند ثقات ، والمراد بأبان في السند أبان بن عثمان ; لأنّ أبان عند الإطلاق يراد به ابن عثمان هذا أو ابن تغلب ، والمتعيّن هو الأول ; لأنّ أبان بن تغلب لا يروي عن الفضيل عادة بل الذي يروي عنه هو أبان بن عثمان كما يظهر من ملاحظة الروايات ، وبناء عليه يكون المراد بالفضيل هو ابن يسار الثقة ; لأنّ أبان بن عثمان يروي عنه بهذا العنوان كثيراً ، بل لا يبعد انصراف الفضيل في هذه الطبقة إلى ابن يسار ; لأنّه المعروف وصاحب كتاب رواه عنه جماعة وعدّه الشيخ المفيد في رسالته العددية من فقهاء الإسلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام(63) .
وعليه فالظاهر اعتبار الرواية سنداً .
وأمّا دلالتها على كفر الخوارج فباعتبار أنّ الحروريّة فرقة من الخوارج تنسب إلى حروراء قرية قرب الكوفة كان أوّل اجتماعهم بها . وظاهر الرواية أنّ قول الإمام(عليه السلام) : « إي والله مشرك » تقرير لقول الفضيل : « كافر » فإنّ الفضيل بعد أن عرف مذهب الرجل وأنّه خارجي حكم عليه بالكفر والإمام(عليه السلام) أقرّه على ذلك وأضاف أنّه مشرك أي أنّ كفره مجامع للشرك . ويؤيّد ذلك ما ذكره العلامة المجلسي في مرآة العقول من أنّ الموجود في بعض النسخ « ومشرك » بالواو وقال إنّه الأظهر(64) .
2 ـ معتبرة أبي مسروق قال : « سألني أبو عبد الله(عليه السلام) عن أهل البصرة فقال لي : ما هم ؟ قلت : مرجئة وقدرية وحروريّة فقال : لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء »(65) .
3 ـ الروايات الدالة على كفر من أنكر عليّاً(عليه السلام) مثل معتبرة الفضيل ابن يسار عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : « إنّ الله عزّ وجلّ نصب عليّاً(عليه السلام) علماً بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمناً ومن أنكره كان كافراً ومن جهله كان ضالاًّ . . . »(66) .
ونحوها معتبرة موسى بن بكر ورواية إبراهيم بن أبي بكر ورواية أبي حمزة وغيرها(67) .
4 ـ الروايات الدالّة على كفر المفوّضة الّذين يدّعون أنّ الله سبحانه وتعالى فوّض أمر الخلق والرزق والإحياء والإماتة ـ ونحو ذلك ـ إلى أحد من عباده ، فعن الرضا(عليه السلام) ـ في حديث ـ قال : « من زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها ، فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه ، فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك » (68) .
فإنّ الحكم بكفر هؤلاء إنّما هو لأجل إنكارهم ما هو من ضروريات الدين بنظر عامّة المسلمين وهو اختصاص هذه الأمور بالله سبحانه وتعالى وإلا فهم يعترفون بالأصول الأساسية للدين من التوحيد والنبوّة والمعاد وغيرها .
كما أنّه لا مانع من شمول هذه الروايات لصورة وجود الشبهة لأنّها في المقام ليست حالة نادرة فلاحظ .
5 ـ الروايات الواردة بمضمون أنّ حبّهم إيمان وبغضهم كفر وهي مستفيضة جمع قسماً منها العلاّمة المجلسي في البحار تحت عنوان ( ذمّ مبغضهم وأنّه كافر حلال الدم . . . )(69) .
والظاهر أنّ المراد بالكفر في هذه الروايات ما يقابل الإسلام لا ما يقابل الإيمان وذلك :
أوّلاً : لوضوح خروج المبغض لهم عن الإيمان فإنّ كون الإيمان متقوّم بحبهم وولائهم من الواضحات .
ثانياً : إنّ نفس التعبير عن حبّهم بأنّه إيمان يستلزم انتفاء الإيمان بمجرّد انتفاء هذا الحبّ وإن لم يكن هناك بغض لهم وهذا يناسب أن يكون الثابت مع البغض شيئاً آخر غير ما ثبت بمجرّد انتفاء الحبّ وهو الكفر .
ثالثاً : التعبير بالكفر فإنّه ظاهر في إرادة ما يقابل الإسلام .
وعليه فتدلّ الروايات المذكورة على اشتراط عدم بغضهم في الإسلام .
6 ـ الأحاديث الواردة في الخوارج وأنّهم يمرقون من الدين كمروق السهم(70) فإنّ الظاهر من الدين الإسلام ، وإرادة المروق عن الطاعة بعيد جداً .
نعم السند غير تامّ ظاهراً .
7 ـ ما دلَّ من الروايات على نجاسة بعض هذه الفرق مثل النواصب فيستكشف من ذلك كفرهم لأنَّ المسلم ليس نجساً بالاتفاق .
وفيه :
إنّ صحّة هذا الاستدلال ـ إذا تمّت هذه الروايات سنداً ودلالةً ـ موقوف على ثبوت الملازمة بين انتحال الإسلام وبين الطهارة ، بمعنى أنّ كلّ مسلم طاهر حتى يتمسّك بذلك لإثبات انتفاء الإسلام عند قيام دليل على انتفاء الطهارة ، والظاهر عدم وجود دليل يدلّ على هذه الملازمة .
هذا مضافاً إلى أنّ خروج الناصبي مثلاً عن هذه الكبرى كما يحتمل أن يكون من باب التخصّص والخروج الموضوعي كذلك يحتمل أن يكون من باب التخصيص والخروج من الحكم ولا معين للأوّل .
الدليل الثاني :
روايات الطائفة الثانية المتقدّمة وخصوصاً صحيحة الكناني فإنّ قوله(عليه السلام)فيها : « فما بال من جحد الفرائض كان كافراً »(71) . ظاهر من المفروغية عن كفر جاحد الفرائض ، والظاهر من الفرائض ما كان مثل الصوم والصلاة والحجّ والزكاة ممّا فرضه الله سبحانه وتعالى بشكل واضح في الكتاب الكريم ـ كما تقدّم ـ ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين العالم والجاهل والبسيط والمركّب فكلّ من أنكر فريضة من فرائض الله فهو كافر حتّى إذا كان ذلك لشبهة .
وحينئذ يقال إنّ هذه الروايات لم يرد فيها عنوان الضروري وإنّما الوارد فيها عنوان الفرائض ، ومن الواضح أنّ هذا العنوان أخصّ مطلقاً من عنوان الضروري .
وعليه :
فالروايات إنّما تدلّ على كفر منكر الضروري إذا كان من قبيل الفرائض ولا دلالة فيها على كفر منكر الضروري ولو لم يكن من هذا القبيل ، وهذا معناه أنّ هذه الروايات تكون دليلاً على هذا التفسير للقول الأوّل لأنّ الفرائض بالتفسير السابق ممّا يعلم كلّ أحد أنّها ضرورية عند عامّة المسلمين ، ولا يمكن فرض شخص ينكر الصلاة أو الحجّ مثلاً مع عدم علمه بكونه ضرورياً عند المسلمين ، وحينئذ هذا الإنكار يكون موجباً للكفر مطلقاً . وأمّا إنكار ما هو ضروري مع عدم الإطلاع على كونه كذلك عند عامّة المسلمين فهذه الروايات لا تدلّ على كفره .
نعم هذا الاستدلال يتوقّف على :
1 ـ عدم اختصاص الروايات بصورة العلم وإلا لكانت دليلاً على القول الثاني وهو أنّ الحكم بكفر منكر الضروري إنّما هو فيما إذا علم بثبوته في الدين لا مطلقاً .
2 ـ شمول الروايات لحالة وجود الشبهة أي الجهل المركّب حتّى تكون دليلاً على كفر منكر الضروري مطلقاً أي حتّى مع الشبهة إذا كان عالماً بكونه ضروريّاً عند عامّة المسلمين وهو عبارة عن التفسير الثاني للقول الأوّل .
أقول :
أمّا الأمر الأول فقد تقدّم الكلام فيه وعرفت عدم الاختصاص فراجع .
وأمّا الأمر الثاني فهو مقتضى الإطلاق في هذه الروايات ، فكلّ من جحد فريضة من فرائض الله يكون كافراً وإن كان ذلك منه لشبهة ونحوها ، وقد عرفت أنّ التعبير بالجحود لا يصلح قرينة على عدم الإطلاق فراجع .
الدليل الثالث :
روايات الطائفة الرابعة المتقدّمة الدالّة على كفر منكر وجوب الحجّ والصوم ، وقد يقال باختصاصها بصورة العلم بثبوت هذه الأمور في الشريعة ولذا تخرج عن صلاحيّة الاستدلال بها في المقام إذ الكلام ليس في كفر المنكر مع العلم للاتفاق على كفره بل في المنكر مع الشكّ والشبهة . وجه الاختصاص استبعاد افتراض عدم العلم بوجوب الحجّ والصوم في حقّ المسلم الذي يعيش في البلاد الإسلامية ـ كما هو مورد الرواية ـ فالروايات تتحدّث عن مسلم ينكر وجوب الحجّ والصوم مع علمه بثبوته في الشريعة وهو يوجب الكفر بالاتفاق .
وفيه :
إنّ ما ذكر وإن كان تاماً إلا أنّه لا يوجب الاختصاص المذكور إذ يمكن فرض وجود من ينكر وجوب الحجّ والصوم لشبهة ـ وإن كان نادراً ـ .
نعم لو كانت الروايات ناظرة إلى أصل تشريع وجوبهما لصحّ ما ذكر لصعوبة افتراض عدم العلم بذلك بالنسبة للإنسان المسلم إلا أنّه لا موجب لذلك بل الروايات تشمل صورة الاعتراف بأصل التشريع مع إنكار وجوبهما بعد ذلك ـ لشبهة ونحوها ـ بلحاظ مقطع زماني معيّن أو بلحاظ طائفة معيّنة فإنّه يصدق في مثل هذه الحالة قوله ( ليس هذا هكذا ) وكذا انكار ترتّب الإثم على تركهما .
وإذا تمّ الإطلاق في هذه الروايات ودلّت على كفر كلّ من ينكر وجوب الحجّ أو الصوم ـ حتّى مع عدم العلم بالوجوب ـ أمكن الاستدلال بها في المقام لوضوح أنّ التارك لهما وإن فرض كونه منكراً لوجوبهما إلا أنّه لا إشكال في اطلاعه على كون وجوبهما من الضروريّات عند عامّة المسلمين ، وهذا معناه أنّ هذه الروايات تدلّ على الكفر في هذه الحالة لا أكثر .
ثم إنَّه قد يقال إنَّ الروايات المستفيضة دلّت على أن الولاية من الأركان وإنَّها ممّا بني عليها الإسلام فتدخل في الضروريّات التي أخذ عدم إنكارها في الإسلام فلماذا لا تحكمون على منكرها بالكفر ؟
والجواب :
أوّلاً : إنّ الضروري الذي يكون إنكاره موجباً للكفر ـ بناء على القول الثاني ـ هو ما يكون كذلك عند عامّة المسلمين والولاية ليست كذلك وإنّما هي ضرورية عند طائفة معيّنة فهي من ضروريّات المذهب .
ثانياً : لا ملازمة بين أهمّية شيء شرعاً وبين صيرورته ضروريّاً كما تقدّم توضيح ذلك سابقاً .
ثالثاً : إنّه توجد في مقابل هذه الروايات ما يدلّ على الاكتفاء بالشهادتين في الحكم بالإسلام(72) ممّا يعني أنّ إنكار الولاية لا يوجب الكفر وقد جمع المشهور بينهما بحمل هذه الأخبار على الإسلام الظاهري وحمل تلك المستفيضة على الإسلام الواقعي .
هذه هي أهمّ الأدلّة التي يستدلّ بها على صحّة هذا القول وقد عرفت أنّ الشيخ صاحب الجواهر(قدس سره) فسَّر كلام المشهور بهذا التفسير ونفى إرادتهم القول الأوّل وعرفت الاستدلال على ذلك وسيأتي ما له صلة بذلك .
القول الثالث في المسألة :
وهو الذي اختاره جماعة من المتأخّرين منهم المقدّس الأردبيلي وصاحب الذخيرة وكاشف اللثام والمحقّق الخونساري والمحقّق القمّي وغيرهم ـ على ما نسب إليهم ـ وهو المشهور بين الأعلام المعاصرين .
وحاصله :
إنَّ إنكار الضروري لا يوجب الكفر إلاّ مع العلم بثبوته شرعاً وأنَّه إنما يوجب الكفر على أساس استلزام ذلك الإنكار مع العلم لإنكار الرسالة وتكذيب الرسول لأنّ من يعلم ثبوت شيء في الدين وإنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلّغه فإنكاره له والحال هذه يستلزم إنكار الرسالة إذ لا يمكن الجمع بين التصديق بالرسالة وبين الإنكار المذكور . ولا شكّ في أنّ إنكار الرسالة وتكذيب الرسول يستلزم الكفر بالاتفاق .
والحاصل أنّ إنكار الضروري ليس له أي خصوصية وإنّما هو مجرّد طريق وأمارة على إنكار الأصل الثاني من أصول الدين ، وهو إنَّما يكون كذلك فيما إذا كان مقروناً بالعلم بثبوت ما أنكره في الدين .
وأمّا إذا لم يكن مقروناً بالعلم كما في حالات الجهل البسيط أو المركّب فإنكار ما هو ضروري لا يوجب الكفر لأنّه لا يستلزم إنكار الرسالة وتكذيب الرسول في هذه الحالات إذ يمكن افتراض الجمع بين التصديق بالرسالة والرسول مع إنكار ما هو ضروري من ضروريات الدين في حالات الجهل بثبوت ذلك في الدين أو الاعتقاد ـ لشبهة ونحوها ـ بعدم ثبوته فيه .
ومنه يظهر أنّ لازم هذا القول عدم الحكم بالكفر في هاتين الحالتين :
1 ـ إنكار الضروري مع الجهل البسيط بثبوته في الدين كما في حديث العهد بالإسلام أو من يعيش في بلاد بعيدة عن بلاد الإسلام أو بعض المكلّفين في أوائل بلوغهم .
2 ـ إنكار الضروري مع الجهل المركّب أي مع اعتقاد عدم ثبوته في الدين كما في أصحاب الشبهة .
وفي هاتين الحالتين لا يحكم بالكفر من دون فرق بين علم المنكر بكون ما أنكره من ضروريّات الدين عند عامّة المسلمين وبين عدم علمه بذلك ، فمن ينكر وجوب الصوم مثلاً لشبهة لا يحكم بكفره حتّى مع علمه أنّه من ضروريّات الدين عند عامّة المسلمين وهذه نقطة خلاف رئيسية بحسب النتيجة بين هذا القول وبين القول الثاني حيث يحكم بالكفر في هذه الحالة بناء على القول الثاني .
بل الظاهر أنّ هذه الحالة ـ الإنكار لشبهة مع العلم بكونه ضروريّاً ـ هي الحالة الوحيدة التي يظهر فيها الخلاف بين القولين وذلك للاتفاق على عدم الكفر فيما عداها مثل حالة الإنكار لشبهة مع عدم العلم بكونه ضروريّاً عند عامّة المسلمين وكذا حالات الإنكار مع الجهل البسيط فإنّ مقتضى الالتزام بمضمون القول الثاني هو عدم الحكم بالكفر في هذه الحالات لعدم العلم بكون ما أنكره من ضروريّات الدين ، وهو ـ عدم العلم ـ متحقّق في حالة الإنكار لشبهة بالفرض وفي حالة الجهل البسيط باعتبار أنّ الجهل البسيط بثبوت ذلك الشيء في الدين يستلزم الجهل بكونه ضروريّاً عند أصحاب ذلك الدين عادة كما هو واضح في حديث العهد بالإسلام والبعيد عن دار الإسلام .
هذا وقد استدل لهذا القول بـ :
الدليل الأوّل :
إنَّه يكفي لثبوت هذا القول عدم وجود ما يدلّ على السببية في المقام بمعنى أنّ الالتزام بهذا القول لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه لأنّه يرجع إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول ولا شكّ في ثبوت الكفر حينئذ .
نعم لا بدّ من إبطال الأدلّة التي استدلّ بها على القول الأوّل ـ السببية ـ وقد تقدّمت الإشارة إلى المناقشة في تلك الأدلّة وقد تبيّن عدم نهوضها لإثبات القول الأوّل وأنّها تنسجم مع افتراض صحّة هذا القول ـ الأمارية ـ .
أقول :
ظهر ممّا تقدّم أنّ ما ذكر يتمّ في الدليلين الأوّل والثاني حيث لا يمكن الاستدلال بهما على القول الأوّل .
وأمّا الدليل الثالث ـ الروايات ـ فقد عرفت أنها عبارة عن أربع طوائف وأنّ الطائفة الأولى والثالثة منها غير تامّة دلالةً .
وأمّا الطائفتان الثانية والرابعة فيمكن الاستدلال بهما على القول الثاني وإن كان لا يصحّ الاستدلال بهما على القول الأوّل .
وحينئذ :
إن كان المقصود عدم تمامية هذه الروايات لإثبات القول الأوّل فهو صحيح وتامّ ، وإن كان المقصود عدم تماميّتها لإثبات القول الثاني فهو غير صحيح ، ومن الواضح أنّ إثبات هذا القول ـ الأمارية ـ بالدليل الأوّل المذكور يتوقّف على إبطال ما يدلّ على القول الأوّل والقول الثاني وإلاّ فسوف يثبت بذلك الدليل القول الثاني وهو ينافي الأمارية .
الدليل الثاني :
النصوص الكثيرة الدالّة على كفاية الشهادتين في الدخول في الإسلام(73) ممّا يعني أنَّ الإسلام وعدم الكفر لا يتوقّف على أكثر من الإقرار بالتوحيد والنبوّة وأنَّ الخروج عن الإسلام لا يكون إلا بإنكار أحد هذين الأصلين أو كليهما ، وحينئذ فإنكار الضروري إن كان راجعاً إلى إنكار ذلك فهو يوجب الكفر كما في حالة العلم بثبوت ما أنكره في الدين وإلاّ فهو لا يوجب الكفر لما عرفت من دلالة هذه النصوص على كفاية الإقرار بالشهادتين في الإسلام .
أقول :
تقدّم سابقاً الإشارة إلى هذا الدليل وإلى مناقشته وحاصل ما يمكن أن يقال في ردّه هو أنّ هذه النصوص تشير إلى كفاية الإيمان الإجمالي بالتوحيد والرسالة في تحقّق الإسلام وأنَّ كلّ ما ينافي ذلك يعدُّ خروجاً عن الإسلام ، ولا شكّ أنَّ إنكار الضروري مع العلم بكونه من الدين ينافي الإيمان الإجمالي بالرسالة ولا يجتمع مع التصديق بها ولذا فهو يوجب الكفر .
وهذه المنافاة واضحة وليست بحاجة إلى دليل .
إلا أنّ هذا لا يعني اختصاص المنافاة بذلك وإنّما هو تابع للدليل فلو فرض قيام الدليل على أنّ إنكار الضروري يوجب الكفر مطلقاً ـ أي حتّى مع الشبهة وعدم العلم ـ فلا بدّ حينئذ من الالتزام بعدم الاختصاص وأنَّ الإنكار في هذه الحالة أيضاً ينافي الإيمان الإجمالي المعتبر في الإسلام المستفاد من هذه النصوص ويوجب زواله ولو كان ذلك من باب التوسعة والتعبّد الشرعي ، وهذا نضير ما يلتزم به في مسألة المعاد من أنّ إنكاره يوجب الكفر حتّى مع كونه ناشئاً من وجود الشبهة لقيام الدليل على ذلك مع أنَّ الإنكار المذكور مع الشبهة لا ينافي الإيمان الإجمالي بالتوحيد والنبوّة بل يجتمع معه ظاهراً ، فكما لم يعتبر الالتزام بالكفر في هذه ـ الحالة مع قيام الدليل عليه ـ منافياً لنصوص كفاية الإقرار بالشهادتين في الإسلام فكذلك في المقام مع فرض قيام الدليل على كفر منكر الضروري حتّى مع الشبهة .
والحاصل :
إنَّ تمامية هذا الدليل منوطة بابطال الأدلّة التي يستدلّ بها على القولين الأوّل والثاني ـ كما هو الحال في الدليل الأوّل ـ وأمّا مع تمامية تلك الأدلّة كلاًّ أو بعضاً فلا بدّ من الجمع بينها وبين النصوص المتقدّمة بافتراض أنَّ إنكار الضروري لشبهة مطلقاً أو مع العلم بكونه ضروريّاً ـ حسب اختلاف الأدلّة ـ ينافي الإيمان الإجمالي بالرسالة ويوجب زواله كما هو الحال مع إنكار المعاد لشبهة .
هذا وقد عرفت سابقاً تمامية بعض الأدلّة على القول الثاني فراجع .
بل يمكن أن يُقال أنَّ غاية ما يثبت بفرض وجود الشبهة هو أنّ المنكر يعتقد حقيقةً بالنبوّة لأنّه يرى أنّ ما أنكره ليس من الدين لأجل الشبهة فإنكاره والحال هذه لا يرجع إلى إنكار النبوّة بل هو معترف بها حقيقة وواقعاً ، إلاّ أنّ الظاهر من الأدلّة وكلمات الأصحاب أنّ الكفر ليس منوطاً بعدم الاعتقاد بالدين واقعاً حتّى يقال إنّ المنكر مع الشبهة يعتقد به واقعاً بل منوط بإظهار عدم الاعتقاد فعلاً أو قولاً فكلّ من أظهر ذلك حكم بكفره وإن كان معتقداً واقعاً ، ويدلّ على ذلك حكمهم بالكفر في جملة من الموارد مثل :
1 ـ من أظهر إنكار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عناداً وكان معتقداً بنبوته(صلى الله عليه وآله وسلم) في جنانه ومثّلوا له بفرعون(74) .
2 ـ من هتك حرمة الإسلام بفعل كإلقاء المصحف في القاذورات ونحو ذلك ممّا يدلّ على الاستخفاف والاستهزاء صريحاً . فإنَّ ظاهرهم الحكم بكفره وإن صدر منه ذلك عناداً(75) وغير ذلك من الموارد . وعليه فلا غرابة من الحكم بالكفر في المقام وإن أحرزنا اعتقاده واقعاً بالنبوّة ونفس الكلام يقال في الحكم بالإسلام على شخص فإنّه يدور مدار الإقرار الظاهري بالشهادتين ولا يفتّش عن باطنه وأنّه هل يعتقد بما أقرَّ به حقيقة أو لا .
بل يحكم بإسلامه حتّى مع قيام القرائن على أنّ إسلامه لمجرّد حقن دمه ودفع القتل عنه وليس نابعاً عن اعتقاد وإيمان(76) .
إذاً كلّ من الحكم بالإسلام والحكم بالكفر يناط بالظاهر المعلن عنه لا بالواقع ونفس الأمر وعليه فإذا دلّت الأدلّة على أنّ منكر الضروري يحكم بكفره التزمنا بذلك حتّى مع كون إنكاره عن شبهة .
الدليل الثالث :
إنّ الفقهاء لا يحكمون بكفر المنكر للضروري إذا كان حديث العهد بالإسلام أو كان يعيش في بلاد بعيدة عن دار الإسلام ، وهذا لا يتمّ إلاّ على أساس القول الثالث ـ الأمارية ـ لعدم كون الإنكار المذكور مستلزماً لإنكار الرسالة وتكذيب الرسول ولذا لا يكون موجباً للكفر ، وأمّا على القول الأوّل فلا بدّ من الحكم بكفره لإنكاره الضروري من الدين .
وهذا دليل على صحّة هذا القول وبطلان القول الأوّل .
وفيه :
إنّ ما يثبت بهذا الدليل هو بطلان القول الأوّل ، وأمّا بطلان القول الثاني فلا ، بل من يلتزم بهذا القول يلتزم أيضاً بعدم كفر المنكر للضروري في الحالات المذكورة من دون منافاة بينهما وذلك باعتبار عدم العلم بكونه ضروريّاً المفترض في هذه الحالات فإنّ حديث العهد بالإسلام وكذا بعيد الدار كما لا يعلم بثبوت ما أنكره في الدين ويجهل به جهلاً بسيطاً كذلك لا يعلم بكونه ضروريّاً عند عامّة المسلمين عادة ولأجل ذلك لا يحكم بكفره .
والحاصل :
إنّ الحكم بعدم كفر هؤلاء وإن كان مسلّماً ومتّفقاً عليه بينهم ظاهراً إلاّ أنّه ينسجم مع القول الثاني كما ينسجم مع الأمارية فلا يصحّ جعله دليلاً عليها .
نعم لو كان الأمر المتّفق عليه والمسلَّم به هو عدم الحكم بكفر منكر الضروري في صورة وجود الشبهة ـ الجهل المركّب ـ حتّى مع العلم بكونه ضروريّاً ، لصحّ ما ذكر من كونه دليلاً على بطلان القول الأوّل والثاني وعلى صحّة القول الثالث لأنّ مقتضى الالتزام بالقول الأوّل أو الثاني الحكم بالكفر في هذه الحالة لا عدم الكفر .
إلا أنّ الظاهر عدم كون ذلك أمراً متّفقاً عليه حيث ذهب جماعة من المحقّقين إلى الحكم بالكفر في هذه الحالة .
نعم نسب(77) إلى الأكثر استثناء صورة وجود الشبهة من الحكم بالكفر في المقام ، لكن لم يتّضح لنا صحّة هذه النسبة مع احتمال أن تكون الصورة المستثناة هي صورة وجود الشبهة مع عدم العلم بكون الشيء ضروريّاً لا مطلقاً فلاحظ .
الدليل الرابع :
دعوى أنّ سيرة الأئمّة(عليهم السلام) وأصحابهم والشيعة قديماً وحديثاً على مخالطة أتباع الفرق الإسلامية الذين هم ما بين مشبّهة ومجسّمة ومفوّضة ومجبّرة وقائل بإمكان رؤية الله تعالى في الآخرة أو في الدنيا أيضاً وغير ذلك ممّا ثبت عندنا بطريق الضرورة من الدين انتفاؤها فيه تعالى عن ذلك .
وفيه :
ما تقدّم في الدليل الثالث من أنّ ما يثبت به هو بطلان القول الأوّل دون الثاني وذلك لأنّ انتفاء هذه الأمور عن الله سبحانه وتعالى لم تصل إلى حدّ الضرورة بنظر معظم المسلمين بل التزم كثير منهم بثبوت هذه الأمور كلاًّ أو بعضاً له سبحانه وتعالى .
نعم قد تكون هذه الأمور واصلة إلى حدّ الضرورة عند بعض المسلمين إلاّ أنّ هذا لا يكفي للحكم بالكفر على القول الثاني كما تقدّم .
وهذا هو الذي يفسّر لنا ذهاب الأصحاب إلى طهارة هذه الفرق كالمفوّضة والمجسّمة والمجبّرة مع أنّهم لا يقولون بالقول الثالث ممّا يعني ويؤيّد ما تقدّم من أنّ الأصحاب وإنْ نُسبَ إليهم القول الأوّل إلاّ أنّ الصحيح هو أنّهم يقولون بالقول الثاني وإلاّ فمن الصعب جدّاً الجمع بين القول الأوّل وبين الالتزام بطهارة هؤلاء وأمثالهم ممّن يصدق عليه أنّه منكر لما هو من ضروريّات الدين .
هذه هي عمدة أدلّة القول الثالث ، وقد تبيّن عدم تماميّتها ، بل يمكن أن يقال أنّه توجد في هذا القول ثغرات وإشكالات لا بدّ من حلّها والجواب عليها حتّى يُدّعى صحّة هذا القول ، يمكن أن نذكر منها :
أوّلاً : إنَّ هذا القول يستلزم إلغاء خصوصية عنوان الضروري بالمرّة إذ لا فرق حينئذ بينه وبين أي أمر آخر من أمور الدين في أنّ إنكاره مع العلم بكونه من الدين يستلزم إنكار الرسالة وتكذيب الرسول وبالتالي يوجب الكفر . إذاً فلماذا هذا الإصرار من قبل الفقهاء على ذكر هذا العنوان ؟ ولماذا ذكروا منكر الضروري معطوفاً على من خرج عن الإسلام كما في عبارات المحقّق والعلاّمة وغيرهم مع أنّه على القول بالأمارية يدخل منكر الضروري في المعطوف عليه ؟
هذا ويستفاد من كلمات المحقّق الأشتياني(78) إنّ الوجه في إفراد الضروري بالذكر في كلمات الفقهاء هو كونه طريقاً لإحراز علم المنكر بثبوته في الدين باعتبار التلازم العادي بين كون الشيء ضروريّاً وبين العلم بثبوته في الدين ، وهذا بخلاف غير الضروري فإنّ الحكم بكفر منكره لا بدّ فيه من إحراز علم المنكر بكونه من الدين من القرائن الخارجية التي لا نحتاج إليها في الحكم بكفر منكر الضروري لأنّ نفس افتراض الضرورة يستلزم افتراض العلم المذكور .
وفيه :
إنّ هذا وإن كان ممكناً إلا أنّ حمل كلمات الفقهاء عليه لا يخلو من صعوبة وذلك لأنّ اللازم حينئذ استثناء صورة الشبهة لوضوح عدم الملازمة فيها في حين لا يوجد هذا الاستثناء في كلمات كثير منهم .
ثانياً : كيف يمكن تفسير الحكم بكفر بعض الفرق المنسوبة إلى الإسلام مثل الخوارج والنواصب وغيرهم مع أنّه من الواضح جدّاً عدم إمكان إرجاع إنكارهم ـ لما أنكروه ـ إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول بل هم يقرّون بالرسالة كما يقرّون بالتوحيد ومع ذلك يحكم بكفرهم ؟
والحاصل :
إنَّه بعد فرض الحكم بكفر هؤلاء وخروجهم عن الإسلام وبعد وضوح إقرارهم بالشهادتين وعدم إنكارهم للرسالة ، يقع السؤال التالي :
ما هو الشيء الذي أنكروه أو اعتقدوا به الذي أوجب خروجهم عن الإسلام ؟
طبعاً ليس هو إلاّ بغض الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وتكفيره ونحو ذلك لأنّ هذا هو الشيء الوحيد الذي يميّزهم عن سائر المسلمين .
وحينئذِ نسأل هل حكم بكفرهم لأجل أن عقيدتهم هذه تلازم إنكار الرسالة وتكذيب الرسول ؟ وهل يمكن إرجاع إنكارهم لحقّ أمير المؤمنين(عليه السلام)إلى إنكار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبه ؟
ويتعيّن الجواب بالنفي لوضوح عدم إنكارهم الرسالة وإقرارهم بالشهادتين وعليه فلا بدّ من الالتزام ـ في مقام تعليل الحكم بكفرهم ـ بإرجاعه إلى إنكار ما هو ضروري عند المسلمين وهو لزوم محبّة أمير المؤمنين(عليه السلام)وولايته بالمعنى الأعمّ ، ومن الواضح أنّ هذا ينافي القول بالأمارية لأنّه يعني أنَّ إنكار الضروري سبب مستقل للحكم بالكفر من دون إرجاعه إلى إنكار النبوّة وتكذيب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) .
وهذا هو الذي فهمه العلماء الأعلام حيث ذكروا أنّ الخوارج والنواصب كمثالين لمن يكفر بإنكار ما هو ضروري من ضروريّات الدين بل صرّح بعضهم بذلك مثل العلاّمة فإنّه قال : « وكذا الخوارج لإنكارهم ما علم ثبوته من الدين ضرورة »(79) وكذا المحقّق السبزواري حيث قال : « واعلم أنّ الطريق إلى إثبات نجاسة الخوارج والغلاة أنّهم كفّار لإنكار الخوارج ما هو من ضروريّات الدين »(80) .
ويتلخّص من جميع ما تقدّم عدم تمامية القول الثالث لضعف أدلّته مع ورود بعض الإشكالات عليه .
القول الرابع في المسألة :
وهو ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(قدس سره) قال في كتاب الطهارة بعد كلام له في المسألة : « فالأقوى التفصيل بين القاصر وغيره في الأحكام العملية الضرورية دون العقائد تمسّكاً في عدم كفر منكر الحكم العملي الضروري بعدم الدليل على سببيّته للكفر مع فرض عدم التكليف بالتديّن بذلك الحكم ولا بالعمل بمقتضاه لأنّه المفروض ويبعد أن لا يحرم على الشخص شرب الخمر ويكفر بترك التديّن بحرمته . . . وأمّا الحكم بكفر منكر العقائد الضرورية فلعلّه الأقوى للإطلاقات المتقدّمة » ثمّ قال بعد ذلك : « . . . وأمّا لو قلنا بالثاني وهو كون الإنكار للضرورة قولاً أو عملاً سبباً مستقلاًّ فهل يستثنى صورة الشبهة ؟ وجهان ممّا تقدّم من إطلاق كلماتهم من كفر منكر الضروري وخصوص الخوارج والنواصب وكذا النصوص المتقدّمة ومن أنّ القاصر غير مكلّف بالتديّن بذلك المجهول فالتديّن بالنسبة إليه ما عدا ذلك »(81) .
والمستفاد من هذا الكلام هو التفصيل بين القاصر والمقصِّر في خصوص ما إذا كان المنكر ( بالفتح ) من الأحكام العملية الضرورية كحرمة شرب الخمر أو وجوب الصلاة ونحو ذلك فيلتزم بكفر المنكر المقصّر فيها دون القاصر وأمّا إذا كان المنكر ( بالفتح ) من المسائل الاعتقادية الضرورية مثل المعاد وكون النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء ونحو ذلك ممّا يطلب فيه الاعتقاد ـ دون العمل ـ فيلتزم فيها بكفر المنكر حتّى لو كان قاصراً .
والذي يظهر من مجموع كلامه الاعتراف بإطلاق الأدلّة والفتاوى وإنّ مقتضى الإطلاق هو الالتزام بكفر المنكر للضروري مطلقاً ( القول الأوّل ) من دون فرق بين القاصر والمقصّر .
نعم إذا كان المنكر ( بالفتح ) من الأحكام العملية فالالتزام بكفر المنكر القاصر فيها يواجه إشكالاً حاصله أنّه كيف يمكن الحكم بكفره والحال أنّه لقصوره ليس مكلّفاً فيها بالتديّن ولا بالعمل بمقتضاه .
أمّا الأوّل فلأنّ التديّن إنّما يطلب شرعاً في المسائل الاعتقادية دون العملية التي يطلب فيها العلم أوّلاً وبالذات .
وأمّا الثاني فلأنّ المفروض جهل المكلّف بذلك الحكم من غير تقصير ومن الواضح أنّ الحكم مع الجهل به ليس له محرّكية ولا باعثية .
والحاصل :
إنّ الجاهل بحرمة شرب الخمر مثلاً عن قصور كيف يحكم بكفره إذا أنكر هذا الحكم والحال أنّه غير مكلّف بالتديّن به ولا بالعمل على طبقه ؟
ومنه يظهر الفرق بينه وبين المقصّر فإنّه لمكان تقصيره يكون مكلّفاً بالعمل بمقتضى الحكم ويعاقب على تركه فلا مانع من الحكم بكفره إذا أنكر هذا الحكم الضروري عملاً بإطلاق الأدلّة .
ونلاحظ على هذا القول :
إنّ ربط الحكم بكفر المنكر بما إذا كان مكلّفاً بالتديّن بما أنكره ـ أو بالعمل على طبقه ـ غير واضح ولم يستدلّ عليه بدليل ، والذي يفهم من الادلّة هو ربط الحكم بالكفر بإنكار مسلّمات الشريعة الإسلامية سواء كانت من العقائد أو من الأحكام العملية مع علمه بكونها كذلك سواء كان مكلّفاً بالتديّن بها أو العمل على طبقها ـ كما إذا كان عالماً بثبوتها ـ أم لم يكن كذلك كما إذا كان جاهلاً قاصراً حسب ما ذكره .
والحاصل :
إنّه بعد الاعتراف بوجود أدلّة تدلّ على سببية إنكار الضروري للكفر مطلقاً فلا موجب لرفع اليد عن هذا الإطلاق إلاّ بدليل واضح يكون مُقَيِّداً لذلك الإطلاق ، ولم يذكر صاحب هذا القول أي دليل يصلح للتقييد سوى استبعاد الحكم بكفر المنكر للضروري مع عدم كونه مكلّفاً بالتديّن به ولا بالعمل على طبقه . ومن الواضح أنّ هذا مجرّد استبعاد لا يصحّ لأجله رفع اليد عن الإطلاق المذكور بعد الاعتراف به . ولعلّه لذلك اعترف صاحب هذا القول في نهاية كلامه بأنَّ المسألة مشكلة .
ونلاحظ أيضاً أنّ الشيخ الأنصاري ـ صاحب هذا القول ـ اختار في رسائله القول الثالث صريحاً حيث قال في تنبيهات الانسداد في بحث اعتبار الظنّ في أصول الدين : « وأمّا التديّن بسائر الضروريّات ففي اشتراطه أو كفاية عدم إنكارها أو عدم اشتراطه أيضاً فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدين وجوه أقواها الأخير ثمّ الأوسط »(82) .
هذا مع أنّه يمكن النقض عليه بالقاصر المنكر لبعض أصول الدين كالنبوّة مثلاً حيث لا إشكال في الحكم عليه بالكفر مع عدم كونه مكلّفاً بشيء لفرض جهله وقد اعترف بذلك في كلامه حيث ذكر : « إنّ القاصر المنكر للنبوّة لا إشكال في كفره ونجاسته وإن فرضناه قاصراً إذ لا منافاة بين الكفر والنجاسة وبين عدم المؤاخذة »(83) ومن الواضح أنّ عدم المؤاخذة يلازم عدم التكليف الفعلي كما هو الحال في الأحكام الفرعية الشرعية .
وكان اللازم بناء على هذا أن يفصل بين القاصر والمقصّر فيما إذا كان المنكر ( بالفتح ) من العقائد أيضاً .
نتائج القول المختار :
تبيّن ممّا تقدّم أنَّ أقرب الأقوال الى الصحّة هو القول الثاني ويترتّب على ذلك عدة أمور :
1 ـ إنّ منكر الضروري لشبهة ( الجاهل المركّب ) يحكم عليه بالكفر إذا كان عالماً بكون ما أنكره أمراً ضروريّاً عند عامّة المسلمين ، وبهذا يختلف عن القول الثالث حيث لا يحكم عليه بالكفر .
2 ـ إنّ منكر الضروري لشبهة لا يحكم عليه بالكفر إذا لم يكن عالماً بكون ما أنكره ضروريّاً عند عامّة المسلمين ، وبهذا يفترق عن القول الأوّل حيث يحكم عليه بالكفر .
3 ـ إنّ منكر الضروري إذا كان جاهلاً بثبوت ما أنكره في الدين جهلاً بسيطاً كحديث العهد بالإسلام ومن يعيش في بلاد بعيدة عن دار الإسلام وبعض المكلّفين ـ أوائل بلوغهم ـ لا يحكم بكفره لعدم علمه عادة بكون ما أنكره أمراً ضروريّاً عند المسلمين .
نعم لو فرض ولو فرضاً بعيداً أنّه كان يعلم بضرورة ما أنكره عند المسلمين فلا يبعد الحكم بكفره حينئذ .
بل لعلّ الحكم بكفره أولى من الحكم بكفر صاحب الشبهة في الفرض الأوّل ، وذلك لأنّ صاحب الشبهة لا يحتمل ثبوت ما أنكره في الدين بخلاف الجاهل البسيط فإنّه يحتمل ذلك .
وبهذا يفترق هذا القول عن القول الأوّل حيث إنّ لازمه هو الحكم بكفر المنكر في هذا الفرض .
هذه هي النتائج المترتّبة على اختيار القول الثاني ، ويظهر منها :
إنّ الخروج عن الإسلام لا يدور مدار إنكار الضروي فقط ولذا لا يحكم بالكفر في الفرضين الثاني والثالث ، بل هناك أمر آخر لا بدّ من فرضه حتّى يحكم بكفر المنكر للضروري وهو إطلاع المنكر على أنّ ما أنكره ضروري من ضروريّات الدين عند عامّة المسلمين فمتى ما علم المنكر ذلك حكم عليه بالكفر سواء كان عالماً بثبوت ذلك في الدين أم كان جاهلاً بذلك أم معقتداً عدم ثبوته ، ومتى لم يعلم المنكر بذلك لا يحكم بكفره سواء كان إنكاره عن جهل بإنّه من الدين أم عن شبهة واعتقاد بعدم الثبوت .
نعم إذا كان عالماً بثبوته فلا شكّ في أنَّ إنكاره له يوجب الكفر لاستلزام ذلك تكذيب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وإنكار الرسالة كما تقدّم .
نعم الحكم عليه بالكفر متوقّف على إثبات علمه بأنَّ ما أنكره يعدُّ من ضروريّات الدين عند المسلمين ، ويمكن إثبات ذلك بما يلي :
1 ـ إقراره بذلك .
2 ـ القرائن الواضحة الدالّة على ذلك ومنها كون المنكر يعيش بين المسلمين بحيث يمتنع عادة أن لا يعلم بكون ما أنكره من ضروريّات الدين .
والحاصل :
إنَّ كلّ شيء يراه المسلمون ثابتاً في الدين بشكل واضح بحيث لا يحتاج إلى إثبات بحسب نظرهم ـ سواء كان من الأمور الاعتقادية أو من الأحكام الشرعية ـ فإنكاره مع العلم بكونه كذلك عند المسلمين يوجب الكفر وإن كان المنكر لا يعتقد بثبوته في الدين ، ولا بوصوله إلى حدّ الضرورة ، ولعلّ السرّ في ذلك مراعاة أمرين :
أحدهما : إنّ الدين خارجاً هو عبارة عن مجموعة الأمور الثابتة في ذلك الدين ثبوتاً ضروريّاً ، والإنتماء إلى الدين يناط بالاعتقاد بهذه الأمور أو عدم إنكارها على الأقل ، ومع عدم ذلك يعتبر الشخص أجنبيَّاً عن ذلك الدين لأنّ إنكاره هذا يستلزم إنكار ذلك الدين في الحقيقة ، قال صاحب الجواهر : « فدعوى أنَّ إنكار الضروري يثبت الكفر إنْ استلزم إنكار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً فمتى علم أنّ ذلك كان لشبهة ـ وإلا فاعتقاده
بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً ثابت ـ لم يحكم بكفره لا شاهد عليها بل هي مخالفة
لظاهر الأصحاب وكأنّ منشأها عدم وضوح دليل الكفر
بدونها على مدّعيها ، وقد عرفت أنّ ذلك الإنكار المستلزم في نفسه
لإنكار ذلك الدين وإن لم يكن كذلك عند المنكر بدليل تسالم الأصحاب
على ثبوت الكفر به »(84) .
وقال قبل ذلك في مقام تعليل الحكم بكفر المنكر للضروري حتى إذا كان لشبهة « لإنّ إنكاره ذلك الضروري بمنزلة قوله : إنَّ هذا الدين ليس بحقّ فلا يجدي اعتقاده حقيقة »(85) .
ثانيهما : احترام عقائد المسلمين والأمور المسلّمة عندهم وعدم التعرّض لها بالإنكار وإلزام كل من ينتمي إلى الإسلام بذلك وإن كان غير مؤمن بها ممّا يترتّب عليه بقاء هذه المسلّمات مصونة عن التلاعب والتشويش ممّا يحفظ لها قدسيتها في نفوس المسلمين .
ضروريّات المذهب
ما تقدّم كلّه كان في منكر ضروريّات الدين وأمَّا منكر ضروري من ضروريّات المذهب فهل هو كمنكر ضروريّات الدين ؟
لا إشكال ولا خلاف في عدم الفرق بينهما من حيث ترتّب الكفر على هذا الإنكار فيما إذا فرض كون المنكر عالماً بثبوت ما أنكره في الدين وذلك لرجوع إنكاره مع العلم إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل حتّى غير الضروري بكون إنكاره مع العلم موجباً للكفر لنفس ما تقدّم ، ومن هنـا قلنـا سابقاً إنّ القـول الثالث الذي لا يحكـم بكفر منكـر الضروري ـ إلا إذا رجع إلى إنكار النبوّة ـ يستلزم إلغاء خصوصية عنوان الضروري فالإنكار مع العلم يوجب الكفر ومع عدمه لا يوجب الكفر من دون فرق بين ضروري الدين والمذهب وبين غير الضروري .
وأمَّا في موارد الشبهة فالظاهر وجود فرق بين الأمرين لأنّ الأدلّة المتقدّمة لا تدلّ إلاّ على كفر منكر ضروري الدين فقط ، بل عرفت أنّ عنوان الضروري لم يرد في شي من الأدلّة وإنَّما الوارد فيها عنوان ( الفرائض ) وعنوان ( الكبائر ) وبعض العناوين الجزئية مثل ( الصلاة ) و( العدم ) فالأدلّة تدلّ على أنَّ إنكار هذه الأمور يوجب الخروج عن الإسلام ولا تدلّ على أزيد من ذلك ، ومن الواضح أنَّ هذه الأمور من ضروريات الدين لا من ضروريّات المذهب .
والحاصل :
إنّه لا دليل على كفر منكر ضروري من ضروريّات المذهب إذا كان إنكاره عن شبهة بل مع عدم العلم مطلقاً .
وهل يحكم عليه بالخروج عن المذهب ؟ أمّا مع العلم فلا إشكال في خروجه عن الدين كما تقدّم .
وأمَّا مع عدم العلم قد يقال إنَّ هذا يختلف باختلاف ما ينكره من ضروريّات المذهب ، فإن كان ما ينكره الإمامة ونحوها فلا يبعد الحكم عليه بذلك .
وأمَّا إذا كان مثل وجوب الخمس في فاضل المؤنة أو إباحة المتعة ونحو ذلك فلا دليل على أنَّ الإنكار حينئذ يوجب الخروج عن المذهب .
وقد يستدلّ لذلك بأنّ المستفاد من الأدلّة أنَّ الإمامة والولاية هي من أصول المذهب المعبّر عنه بالإيمان في بعض الروايات فيخرج الإنسان عن الإيمان بإنكاره هذا الأصل بل بعدم الاعتقاد به وإن كان قاصراً . ويكون حال الولاية بالنسبة إلى المذهب حال التوحيد والنبوة بالنسبة إلى الإسلام فكما لا يكون الإنسان مسلماً إلاّ إذا اعتقد بهذين الأصلين كذلك لا يكون مؤمناً بالمعنى الأخصّ أي إماميّاً إثنا عشريّاً إلاّ إذا اعتقد بولاية الأئمّة(عليهم السلام)وإمامتهم .
ويمكن الاستدلال على ذلك بـ :
1 ـ رواية سفيان بن السمط قال : « سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما ؟ فلم يجبه ثمّ سأله فلم يجبه ثمّ التقيا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل ، فقال له أبو عبد الله(عليه السلام) : كأنّه قد أزف منك رحيل قال : نعم قال : فالقني في البيت فلقيه فسأله عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما ؟ فقال : الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس : شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنَّ محمّـداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان فهذا الإسلام وقال : الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقرَّ بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماً وكان ضالاًّ »(86) .
وهي ظاهرة في أنّه يخرج عن الإيمان بعدم معرفة الإمامة فضلاً عن إنكارها وأنّه يكون مسلماً لا مؤمناً .
2 ـ معتبرة عمرو بن حريث وفيها أنّه عرض على الإمام الصادق(عليه السلام)دينه قائلاً : « أدين الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمّـداً عبده ورسوله . . .والولاية لعلي أمير المؤمنين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية للحسن والحسين والولاية لعلي بن الحسين والولاية لمحمّـد بن علي ولك من بعده . . . فقال له الإمام(عليه السلام) : يا عمرو هذا والله دين الله ودين آبائي الذي أدين الله به في السرّ والعلانية »(87) .
3 ـ الروايات الدالّة على أنّ الولاية ممّا بُني عليه الإسلام وأركانه وأنَّها من حدود الإيمان وهي روايات كثيرة ومعظمها صحيح السند وقد ذكر جملة منها الشيخ الكليني في الكافي تحت عنوان ( باب دعائم الإسلام ) والمراد بالإسلام في هذه النصوص هو المعنى الثاني أي الواقعي منه وهو المراد بالإيمان بالمعنى الأخصّ والذي نعبّر عنه بالمذهب .
4 ـ حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليةً » وقد رواه الفريقان بطرقهم وفيه دلالة على أنّ لكلّ زمان إماماً لا بدّ من معرفته ومتابعته وإنْ مَنْ لم يعرف إمام زمانه مات على الكفر والضلال لا على الإسلام .
5 ـ رواية ابن أُذينة عن أحدهما ( عليهما السلام ) أنَّه قال : « لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والأئمّة كلّهم وإمام زمانه ويردُّ إليه ويسلّم له »(88) .
6 ـ رواية أبي سلمة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : « سمعته يقول : نحن الذين فرض الله طاعتنا ، لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يُعْذَر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً ومن أنكرنا كان كافراً ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاًّ حتّى يرجع إلى الهدى . . . »(89) .
7 ـ ما دلَّ على أنَّ حبّهم إيمان وبغضهم كفر وهو روايات عديدة واردة بهذا المضمون وقد ذكر العلاّمة المجلسي في مرآة العقول أنّ المراد بحبّهم اعتقاد إمامتهم وببغضهم إنكارها وذكر أنَّ هذا المعنى للحبّ والبغض هو المستعمل في الأخبار كثيراً(90) .
والحاصل :
إنَّ المستفاد من هذه الروايات وغيرها هو أنَّ الإمامة من أصول الإيمان بالمعنى الأخصّ فيعتبر الإعتقاد بها وكلّ من أنكرها أو لم يعتقد بها لا يكون مؤمناً .
وأمَّا ضروريّات المذهب الأخرى فلا يكون إنكارها موجباً للخروج عن المذهب لأنّ كونها كذلك يتوقّف على أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ :
أحدهما : أنْ تكون من أصول المذهب بمعنى أنَّها تعتبر في الإيمان بالمعنى الأخصّ فيكون الاعتقاد بها شرطاً في صيرورة الإنسان مؤمناً وإماميّاً .
ثانيهما : أن تكون من الأمور التي اعتبر إنكارها خروجاً عن المذهب وإن لم تكن من أصوله كما هو الحال في ضروريّات الدين كما تقدم .
وكلّ من الأمرين غير تامّ أمّا الأوّل فلوضوح أنّ مثل إباحة المتعة ونحوها ليست من أصول المذهب وأمّا الثاني فلعدم الدليل عليه .
مصادر البحث
1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ إيضاح الفرائد في شرح الرسائل ، السيّد محمّـد الحسيني التنكابني .
3 ـ بحر الفوائد ، المحقّق الأشتياني ، منشورات آية الله المرعشي النجفي ، قم ، الطبعة حجرية .
4 ـ بحوث في شرح العروة الوثقى ، السيد الشهيد محمّـد باقر الصدر ، مجتمع الشهيد الصدر العلمي ، قم ، الطبعة الثانية .
5 ـ بلغة الفقيه ، السيّد محمّـد بحر العلوم ، طبعة مكتبة الصادق(عليه السلام) ، طهران ، الطبعة الرابعة .
6 ـ تاج العروس ، محب الدين أبي الفيض السيّد محمّـد مرتضى الحسيني الحنفي ، مكتبة الحياة ، بيروت .
7 ـ تحرير الأحكام ، العلاّمة الحلي ، الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي ، مؤسّسة الإمام الصادق(عليه السلام) ، قم ، الطبعة الأولى .
8 ـ تذكرة الفقهاء ، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي ، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) ، قم ، الطبعة الأولى .
9 ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى ، للسيّد الخوئي ، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي ، قم .
10 ـ جامع المقاصد ، المحقّق الكركي ، علي بن الحسن ، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) ، قم ، الطبعة الأولى .
11 ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، محمّـد حسن النجفي ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة السابعة .
12 ـ ذخيرة المعاد ، ملاّ محمّـد باقر السبزواري ، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) ، قم ، الطبعة حجرية .
13 ـ ذكرى الشيعة ، الشهيد الأوّل ، محمّـد بن جمال الدين مكي العاملي ، طبع وتحقيق مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) ، الطبعة الأولى .
14 ـ الرسالة العددية ، الشيخ المفيد ، أبو عبد الله محمّـد بن محمّـد بن النعمان العكبري ، المؤتمر العالمي في ذكرى ألفية الشيخ المفيد ، قم ، الطبعة الأولى .
15 ـ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، الشهيد الثاني ، زين الدين الجبعي العاملي ، دار العالم الاسلامي ، بيروت .
16 ـ سفينة البحار ، الشيخ عباس القمّي ، طبعة دار الأُسوة للطباعة والنشر ، قم ، الطبعة الأولى .
17 ـ شرايع الإسلام ، المحقّق الحلّي ، نجم الدين جعفر بن الحسن ، طبعة النجف الأشرف .
18 ـ الصحاح ، إسماعيل بن حماد الجوهري ، دار العلم للملايين ، بيروت ( الطبعة الثالثة ) .
19 ـ العين ، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي ، منشورات دار الهجرة ، قم ، الطبعة الأولى .
20 ـ فرائد الأُصول ، الشيخ الأنصاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي .
21 ـ القاموس المحيط ، مجد الدين محمّـد بن يعقوب الفيروزآبادي .
22 ـ قواعد الأحكام ، العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهر ، المطبوع ضمن سلسلة الينابيع الفقهية .
23 ـ الكافي ، الشيخ الكليني ، أبي جعفر محمّـد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثالثة .
24 ـ كتاب الطهارة ، للشيخ الأنصاري(قدس سره) ، حجري ، طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) .
25 ـ كتاب الطهارة ، للسيد الخوئي ، طبعة صدر ، قم ، الطبعة الثالثة .
26 ـ كشف الغطاء ، الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، الطبعة الأولى .
27 ـ كشف اللثام عن قواعد الأحكام ، فاضل الهندي بهاء الدين محمّـد بن الحسن الاصفهاني ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ، قم ، حجرية .
28 ـ لسان العرب ، أبو الفضل جمال الدين محمّـد بن مكرم ابن منظور ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى .
29 ـ مباني تكملة المنهاج ، السيّد الخوئي ، طبعة دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت .
30 ـ مجمع الفائدة والبرهان ، المحقّق الاردبيلي ، أحمد الاردبيلي ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، الطبعة الأولى .
31 ـ مصباح الفقيه ، آقا رضا الهمداني ، المؤسّسة الجعفرية ، قم ، الطبعة الأولى .
32 ـ مرآة العقول ، العلاّمة المجلسي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، الطبعة الثانية .
33 ـ معجم رجال الحديث ، للسيّد الخوئي ، مركز نشر الثقافة الإسلامية ، قم ، الطبعة الخامسة .
34 ـ معجم مقاييس اللغة ، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، تحقيق عبد السلام محمّـد هارون .
35 ـ مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة ، السيّد محمّـد جواد الحسيني العاملي ، الطبعة الحديثة .
36 ـ المفردات في غريب القرآن ، أبو القاسم بن محمّـد الراغب الاصفهاني .
37 ـ من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق ، محمّـد بن علي بن الحسين ابن بابويه ، دار صعب ودار التعارف للمطبوعات ، بيروت .
38 ـ وسائل الشيعة ، محمّـد بن الحسين الحرّ العاملي ، طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) ، قم ، الطبعة الأولى .
(1) سورة الحجرات 49 : 14 .
(2) الكافي 2 / 26 ح 3 .
(3) الكافي 2 / 26 ح 5 .
(4) سورة آل عمران 3 : 19 .
(5) سورة آل عمران 3 : 19 .
(6) الحجرات 49 : 14 .
(7) الكافي 2 / 25 .
(8) الكافي 2 / 25 .
(9) سورة الانعام 6 : 160 .
(10) سورة البقرة 2 : 245 .
(11) الكافي 2 / 26 .
(12) الكافي 2 / 25 .
(13) الكافي 2 / 33 .
(14) الكافي 2 / 24 ح 1 .
(15) سورة النمل 27 : 14 .
(16) تحرير الأحكام 1/158.
(17) ذكرى الشيعة 1 / 115 ، شرح اللمعة 1 / 49 .
(18) جامع المقاصد 1 / 364 و404 ، مجمع الفائدة والبرهان 7 / 524 .
(19) مفتاح الكرامة 1 / 245 .
(20) شرايع الإسلام 1 / 53 .
(21) إشارة إلى الروايات التي تعدّ الولاية من الخمس التي بني عليها الإسلام بل من أهمّها الكافي 2 / 18 باب دعائم الإسلام .
(22) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري(قدس سره) : 353 .
(23) بُلغة الفقيه 4 / 196 ، كتاب الطهارة للسيّد الخوئي 2 / 86 .
(24) الكافي 27 / 2 ح 1 .
(25) مفتاح الكرامة 1 / 246 .
(26) شرايع الإسلام 1 / 53 .
(27) مصباح الفقيه 7 / 275 ، جواهر الكلام 6 / 46 .
(28) القواعد 23 / 435 .
(29) كشف اللثام 1 / 48 .
(30) جواهر الكلام 6 / 49 .
(31) الكافي 2 / 387 ح 14 .
(32) الكافي 2 / 397 ح 1 .
(33) الكافي 2 / 33 ح 2 .
(34) الفقيه 3 / 31 ح 29 ، الكافي ج 1 باب العرش والكرسي ح 6 .
(35) الرسالة العددية ( الرد على أهل العدد والرؤية ) : 25 ـ 31 .
(36) الكافي 2 / 27 ح 1 .
(37) الموجود في التفسير المطبوع ( عبدالرحمن القصير ) والظاهر أنّه اشتباه بقرينة سائر الروايات وهو الموجود في الطبعة القديمة وكذا في البرهان كما ذكر ذلك السيّد الخوئي(قدس سره) في معجم الرجال 11 / 12 .
(38) إنّ السند في كلّ من الروايتين : ( علي بن إبراهيم عن العبّاس بن معروف عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن حمّاد بن عثمان عن عبد الرحيم القصير ) وصرّح في سند الثانية بأنّه ابن عتيك ، الكافي 1 / 100 ح 1 .
(39) الكافي 2 / 383 ح 1 .
(40) معجم مقاييس اللغة 1 / 426 .
(41) الصحاح 2 / 451 .
(42) القاموس 1 / 398 .
(43) معجم مفردات الفاظ القرآن : 86 .
(44) النمل 27: 14.
(45) البقرة 2 : 89 .
(46) الكافي 2 / 389 ح 1 .
(47) تاج العروس 2 / 312 .
(48) لسان العرب 3 / 106 .
(49) كتاب العين 3 / 72 .
(50) الكافي 2 / 399 ح 3 .
(51) الكافي 2 / 388 ح 19 .
(52) الكافي 2 / 285 ح 23 .
(53) الكافي 2 / 280 ح 10 .
(54) مصباح الفقيه 7 / 279 .
(55) الكافي 2 / 384 ح 4 .
(56) التنقيح 3 / 58 .
(57) بحوث في شرح العروة الوثقى 3 / 295 .
(58) الكافي 2 / 26 ح 3 و5 وغيرهما .
(59) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري(قدس سره) : 355 ، ( حجرية ) .
(60) وسائل الشيعة 11 / 16 ح 14128 .
(61) وسائل الشيعة 10 / 248 ح 13334 .
(62) الكافي 2 / 387 ح 14 .
(63) الرسالة العددية ( أو الردّ على أهل العدد والرؤية ) : 9 / 25 .
(64) مرآة العقول 11 / 121 .
(65) الكافي 2 / 287 ح 13 .
(66) الكافي 2 / 388 ح 20 .
(67) الكافي 2 / 388 وما بعدها ح 16 ـ ح 18 ـ ح 21 .
(68) وسائل الشيعة 28 / 340 .
(69) البحار 27 / 218 .
(70) سفينة البحار 8 / 60 .
(71) الكافي 2 / 33 ح 2 .
(72) الكافي 2 / 26 ح 3 و5 .
(73) الكافي 2 / 25 .
(74) جواهر الكلام 6 / 48 .
(75) كشف الغطاء 4 / 183 .
(76) مباني تكملة المنهاج : 1 / 333 .
(77) إيضاح الفرائد في شرح الرسائل : 625 .
(78) بحر الفوائد 1 / 284 .
(79) تذكرة الفقهاء 1 / 68 .
(80) ذخيرة المعاد : 152 .
(81) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري(قدس سره) : 356 ـ 357 .
(82) فرائد الأصول 1 / 280 .
(83) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري(قدس سره) : 356 .
(84) جواهر الكلام 6 / 48 .
(85) جواهر الكلام 6 / 48 .
(86) الكافي 2 / 24 ح 4 والظاهر صحّة الحديث فإنّ سفيان بن السمط وإن لم يوثّق في كلماتهم إلاّ أنّ ابن أبي عُمير روى عنه بسند صحيح .
(87) الكافي 2 / 23 ح 14 .
(88) الكافي 1 / 180 ح 2 .
(89) الكافي 1 / 187 ح 11 .
(90) مرآة العقول 2 / 333 .
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف